Darebhar

Share to Social Media

أوقف سالم محرك سيارته وسط الحقول الخضراء الجميلة وشرد ذهنه في جمالها وعاد يتذكر شريطاً من الأحداث مر أمام عينيه كأنه صار حيناً.

كان سالم شاب ثلاثيني حينما أنهى دراسته الجامعية وحصل على أعلى درجاتها وكان يملؤه الطموح حينها بحياة مستقرة يجمع فيها من طيبها، بين وظيفة مرموقة وزوجة ومال لكنه لم يكن ليدرك ما كانت تخبأ له الأيام.
"سالم، ما رأيك أن نبحث لك عن زوجة؟" قال صديقه فهيم الذي رافقه طيلة سنوات ابتعاثه ودراسته.
"ولكنني عاطل عن العمل ولم أفكر بعد فيما أفعله، هل أحاول العودة إلى بلدي أم أبحث عن وظيفة، إني لا أنفك أفكر ليلاً نهاراً" أجابه سالم بكل صدق و حيرة.
"تعالى يا عشيري سأعرفك على شاب خلوق و صادق و له أخت على قدر عالٍ من الأخلاق و العلم، فلتتقرب منه أولا حتى تتعرف عليه ثم تفكر بشأن أخته لاحقا، ما رأيك؟"
هز سالم رأسه موافقاً على مضض و أنطلق الصديقان يطويان شوارع المدينة الصغيرة المزدحمة بجميع أنواع وسائل النقل حتى وصلا محلاً صغيراً على تلة عالية، يقدم خدمات الإنترنت وطباعة الأبحاث والمشاريع الجامعية، سلم فهيم على صاحب المحل وعرفه على سالم، جلسا عنده قليلاً ثم انصرفا.
مرت الأيام والشباب على لقاء يومي يتسامرون ليلاً ويفتحون جميع المواضيع حتى صار ارتباطهم وثيقاً حتى أن راميش لم يتردد في دعوتهم على تناول الغداء في منزله في أحد الأيام مغرياً إياهم بأن أمه بارعة جداً في طبخ وتجهيز عدد من الأطباق فقبل الشابان بكل سرور.
كان يوماً لا ينسى في حياة سالم فهو يومها رأى أخت راميش وأعجب بها كانت الأخت تغدو وتروح تضيفهم بأشهى الأطباق وأكواب الشاي الدافئة التي دغدغت معدة سالم ومشاعره معا.

كارينا فتاة على قدر بسيط من الجمال ذات شعر أسود كثيف وطويل وبشرة سمراء، ملامحها ليست جذابة أو جميلة كما كان سالم يتمنى طوال حياته أن تكون زوجته، لكنها في المقابل على قدر عالً من الأخلاق وهادئة جدا -كهدوء البحر أيام الصيف الجميلة- تصغره ببضع سنوات.
كانت يومها تقوم على خدمة وضيافة أصدقاء أخيها راميش بكل صدر رحب، فالعائلة الصغيرة على قدر كبير من التفاهم، ويساعد بعضها بعضاً.
في طريق عودتهم قال سالم لفهيم "لقد قبلت العرض يا صديقي، على أن تفاتح أنت راميش في الموضوع، فمتى يمكنك أن تصطحبني لنفاتحه؟"
قال فهيم: متى شئت يا صديقي فأنت أخي الذي أتمنى له سعادة الكون بأكمله.
في اليوم الموالي ذهب الصديقان كعادتهما، ومنذ وصولهما وفهيم لا يكاد ينقطع عن الضحك "ما يضحكك يا رجل؟ ما حل بك! إنها علامات الجنون" قال راميش ممازحاً فهيم الذي لا يكاد ينقطع عن الضحك في حين بدأ التوتر يظهر جلياً على وجه سالم وراميش في إستغراب شديد بين هذا الوجه وذاك.
أخيراً كف فهيم عن الضحك و قال لراميش "أريد أن أخبرك بشيء مهم يا صديقي"
هنا بدا وجه سالم أكثر وجوماً.
"أنت تعرف سالم منذ شهرين وأنا أعرفه منذ ما يزيد عن عشر سنوات، وأنت تعرف أيضا أنه غريب عن البلد وهو وحيد، خلوق وعلى دين فما يكون رأيك إذا تقدم لخطبة أختك؟ وإن لم توافق، أرجو أن لا يفسد هذا الأمر علاقتنا أو يـؤثر عليها في شيء".
تتالت التعابير على وجه راميش، كل منها لبرهة من الوقت دهشة، فرحاً، ابتسامة عريضة علت وجهه قبل أن يستدرك قائلاً "تبّاً لكما أيها الصعلوكان، كيف تجرؤان على سؤالي؟"
هنا إصفر وجه سالم كأوراق الخريف المتناثرة على الأرض اليائسة من أحضان الأغصان الشامخة قبل أن يسترسل راميش كلامه "طبعا لن أجد أحسن منك يا صديقي العزيز".
مضت الأيام ببطء شديد وسالم يحاول أن يقوم ببعض التحضيرات للعرس بمساعدة فهيم وراميش وبعض الأصدقاء فسالم غريب في البلد وكان يستأجر منزلاً صغيراً طوال سنواته التي قضاها بمومباي، ساعده أصدقاؤه في تنظيفه وترتيبه وجلب بعض الهدايا له مما كان ينقصه حتى يصبح المنزل لائقاً بعروس، كما أن والد كارينا وعده بمساعدته حتى يجد وظيفة تساعده على إعالة نفسه وزوجته مستقبلاً.
انقضى شهر كامل من التحضيرات، كارينا من جهتها وسالم من جهته يحاول أن يرتب تارة وينزل إلى السوق طورا لاقتناء بعض الملابس الجديدة وبعض الهدايا لكارينا.

في الهند عادات وتقاليد في الزواج ولهم طقوسهم المليئة بسحر وعبق الشرق في الحفلات، فهم يعتمدون الولائم كمقياس لنجاح الحفل، وكلما كانت الوليمة أكبر وكثرت فيها الأصناف كان الحفل ناجحاً وطال حديث الناس عنه أياما.
قام أهل كارينا وأصدقاء سالم بترتيب تفاصيل الحفل -حتى الدقيقة منها- فسهروا على إعداد الأصناف الشهية من الأطباق والحلويات بجميع أنواعها التقليدية والعصرية وجهزوا مكان الحفل و نثروا الورود بكل أرجاء المكان.
سالم كان مرتبكا جداً وفهيم يهتم بالمدعوين وبدأ الحفل بإطلالة كارينا بالبنجاب الأحمر الجميل الذي تتمناه كل الصبايا كنجمة جميلة تلألأت لتنعش وقت الغروب بضوئها الخافت والجميل، تغيرت ملامحها قليلاً مع الزينة فبدت أكثر إشراقاً وبدت عيناها تلمعان من الفرح -فكارينا أعجبت جداً بسالم منذ رأته ووافقت عليه دون تفكير حتى مع اعتراض أمها الخفيف عليه- سالم أكثر وسامة، عيناه واسعتان وشعره أسود حريري وجماله عربي فاحش، فللعرب جمال لم يهبه الله لأحد غيرهم فكان كافياً لكارينا أنه عربي تتمنى كل بنت من صديقاتها أن تنال وفرة من حظ كارينا الذي سيجمعها مع شاب عربي وسيم تحت سقف واحد.
انهمك الجميع في لهوٍ ورقص وصخب لساعات طويلة حتى بدا على العروسين الإنهاك أخر الحفل بعد أن أوصلهما الأهل والأصدقاء مع التمنيات لهما بحياة سعيدة ثم عاد كل أدراجه.
دخلت كارينا بيت سالم على استحياء بخطوات ثقيلة ثم جعلت تنظر حولها تكتشف المكان.
قال سالم: إن البيت على بساطته صار جميلاً جداً بمجرد دخولك كأنك نجمة متلألئة أضاءت سماء حالكة".
إحمرت وجنتا كارينا كإحمرار حبات الرمان بحرارة سبتمبر، قال سالم ملاطفاً إياها: ما رأيك بشرب كوب من الشاي الدافئ حتى نسترخي قليلاً من عناء اليوم؟ قالت كارينا أنا سأعده ...
قال سالم: بل أنا من سأعده استريحي حبيبتي.
أعد سالم الشاي وجلس يتسامر مع كارينا يتجاذبان أطراف الحديث حول الحفل وروعته وحول مساندة راميش وفهيم لسالم وحول الصخب والمدعوين ثم فجأة نظرت كارينا إلى سالم وقالت له على مضض: أريد أن أخبرك شيء مهم جداً أرجو أن تتفهمني وقال سالم أن بزوغ الفجر قد اقترب ويجب أن ننال قسطاً من الراحة فاليوم كان متعباً جداً، وقام من مكانه، مسكت كارينا يده استغرب سالم وجلس وقال: قولي ياعزيزتي كلي آذان صاغية قالت كارينا: أنا لا أعرف من أين أبدأ؟ ولكن أنت تعلم جيداً أن أبي لم يكن ليتركني طول فترة خطوبتنا لأجل التحدث إليك منفردة.
أراد سالم أن يتكلم فأشارت إليه بيدها بأدب أن ينتظر قليلاً ثم استدركت قائلة: أريد أن تعلم أولاً قبل أن أتكلم أنه لم يكن ذنبي.
هنا ازداد قلق سالم وقال ماذا هناك أخبريني؟ قالت كارينا وقد تغيرت نبرة صوتها: لقد كنت متزوجة قبلك وانفصلت بعد أسبوع واحد.
إتسع بؤبؤ عيني سالم حتى كاد البياض يختفي من شدة الدهشة، لقد نزل عليه كلامها كالصاعقة حتى أنه من شدة الذهول لم ينطق لدقائق.
قالت كارينا حاولت كثيراً إقناع أبي إخبارك الحقيقة ولكنه كان يثور في كل مرة وقرر أن يخبرك بنصفها فقط ولم يكن باليد حيلة، اغرورقت عيني سالم بالدموع ونطق أخيراً: وراميش لم يخبرني وهو صديقي وقال أن كارينا مرت بتجربة خطوبة فاشلة، هل خدعتموني لأنني عربي؟ لأنني لست من جنسكم؟ لأنني لست من بلدكم؟
قامت كارينا لتتكلم لكن سالم تركها وغادر المنزل لا يعلم أين تأخذه قدماه وظل يجوب الشوارع فارغة إلى أن أطلت الشمس بأشعتها الجميلة لتعلن بداية يوم جديد من حياته، يوم أكثر أسى وتعقيدا من سابقيه.

تسلل سالم إلى داخل البيت بهدوء بعد أن أنهكه السهر والتعب، رمى بجسده المنهك على الأريكة قبالت خيوط من أشعة الشمس تسللت إلى الغرفة متناثرة محاولة تلطيف الأجواء المفعمة بالحزن والإحباط، أغمض سالم عينيه، لم يكن نائماً لكنه أطلق العنان لمشاعره وتركها تخوض وتلعب في داخله.
لم أكن محظوظاً يوماً قال سالم في نفسه لماذا قاموا بخداعي؟ كيف لأحد أن يكتم حقيقة مصيرية كهذه؟ لقد بدوت مغفلاً جداً! إنها ضريبة طيبتي المفرطة، كم طعنة تلقيت أيها القلب ولاتزال تقاوم وتنبض! أما آن لك أن ترتاح وتضمد جراحك وتنعم بالحب؟ أم أن الحب كثير عليك فقررت أن تظل جريحاً طول حياتك؟
صوت كارينا قطع حبل أفكاره وهي تقول له: صباح الخير، كيف حالك؟ لماذا تركتني وحيدة خفت كثيراً في غيابك، لم أعتد أن أظل وحيدة بالمنزل.
فتح عينيه يحدق بها وجد في عيونها نظرة توسل نالت إشفاقه وقال لها: لماذا لم تغيري ملابسك؟ قالت: لأني لست على يقين أنك ستتركني ببيتك وإذا قررت أن تعيدني لأهلي فإنني أريد أن أعود على نفس الحال الذي جئت عليه.
أمسك سالم يديها بين يده ونظر في عينيها المتلألأة بالدموع و قال لها: ألن تعدي لنا كوباً من الشاي بالمذاق الذي كنا نشربه عندكم؟
طار قلبها بين ضلوعها فرحا وقالت له بكل سرور: ما رأيك أن تغير ملابسك وتتحمم فيما أعد وجبة الإفطار.
اصطحبها سالم إلى المطبخ ليريها أماكن الإبريق والفناجين وقال لها: المطبخ أقل شأناً هنا...قاطعته كارينا ولكنه أكثر راحة لي وأنا سعيدة بوجودي هنا، معك في مكان واحد، وانهمكت تعد الإفطار ببنجابها الأحمر اللامع.

مر أسبوع على زواج سالم وكارينا بين ذهول وحزن تارةً يعتريه هذا الشعور وتارةً ذاك، لكنه في نفس الوقت يحافظ على هدوئه حتى لا يجرحها، التي انهمكت بدورها منذ وصولها إلى المنزل في تغيير كل شيء، فهي لا تلبث تجلس بمكان واحد، غيرت كل شيء واعترف سالم في نفسه أنها أضفت لمسة جميلة على كل شيء حولها.
لم يجرؤ أحد من أهل كارينا على زيارتها كمن ألقى بطوبة في النهر وترك تيار المياه يتكفل بتحريكها إلى مستقرها، كذلك فعل الأب بابنته وفيما كان سالم غارقاً في أفكاره سمع طرقاً خفيفاً للباب، فتح فإذا به أمام صديقه فهيم يأخذه بين أحضانه قائلاً: يا رجل، لو أني علمت أن الزواج سيلهيك عني ما كنت لأشجعك أبدا.
ضحك سالم وقال: يا رجل، ولو أني علمت أني سأهون عليك أسبوعاً لا تحتسي معي كوب شاي ما كنت صاحبتك فكل يوم يمر يخيب ظني فيك وانفجرا ضاحكين.
دعا سالم فهيم للدخول لاحتساء الشاي معاً لكن فهيم اعتذر قائلاً: إنني على عجلة من أمري لكني جئتك لأمر مهم، أن والدة كارينا تريد لقائها لكنها أبت إلا أن تستأذنك أولاً.
"هى على الرحب والسعة متى شاءت" قال سالم
جلس سالم في زاوية غرفة الجلوس يتأمل ويفكر في الأحداث -متسارعة النسق- التي داهمت حياته في فترة قصيرة وهو يتساءل في حيرة كيف لوالد كارينا أن يلقي بابنته في موقف كهذا تواجه مصيرها لحالها؟ ماذا لو لم امتلك أعصابي؟ ماذا لو كنت إنساناً شرساً ما كانت ستواجه؟ هي صادقة ولكن مخطط والدها حقير فالكذب عندي أشد شراً من القتل! هي أساسا لم تكن جميلة أو جذابة أو فيها من السحر ما يجعلني أتشبث بها فلماذا أقبل على نفسي أن يستغلني والدها؟ قاطعته كارينا بقدومها قائلة: خيل إلي كأنك تكلم أحداً، هل من خطب؟
قال سالم: نعم، كان هذا فهيم أرسلته أمك لتستأذننا في القدوم لزيارتنا.
نظرت كارينا إلى سالم في صمت دقيقة ثم قالت: أمي عارضت بشدة أبي في تصرفاته وسياسته طوال حياتها وفي هذه المرة وقفت له وقفة حازمة وأبت إلا أن تخبرك بنفسها لكنه توعدها أشد الوعيد!
أشار إليها سالم بسبابته أن تسكت وقال: هل تتوقعين أن أمنعك من أمك!

جهزت كارينا نفسها وتعطرت في انتظار أمها وبعد أقل من ساعة من قدوم فهيم كانت الأم عند الباب، فتح لها سالم و استقبلها بنفسه، كانت تنظر إليه نظرة يملؤها مزيج من الخوف والحزن والتساؤل، قال سالم: تفضلي خالة حللت أهلاً وسهلاً.
دخلت أم كارينا، رحب بها سالم وقال: تفضلي أرجوك بالجلوس خالة، ولكن أين راميش لم أره منذ الحفل؟
قالت الخالة راما: لقد انشغلنا به قليلاً فأنت لا تعلم يا بني ما حل به!
"خيراً خالة" قال سالم.
قالت الخالة راما: وقع من على دراجته النارية بينما كنا في طريق العودة إلى البيت، بعد أن أوصلناكم إلى هنا، وكسر ذراعه الأيمن وهو من شدة الألم لا يقوى حتى على الخروج، ولكننا يا بني حتى لا نزعجكما طلبنا من فهيم التكتم على هذا الأمر.
في هذه الأثناء أطلت كارينا على أمها في أبهى حللها، قامت الأم واحتضنتها وعيناها ملئى بالدموع.
تأثر سالم و اقترح قائلاً: خالة، ما رأيك أن تتناولي معنا اليوم طعام الغداء؟ أما أنا فسأغادر قليلاً حتى تجلسان سوياً على راحتكما.
قالت الخالة راما: حسناً يا بني، لن أرفض عرضك لأنني اشتقت كثيراً لكارينا فالأسبوع بدونها بالبيت مر كأنه عام!
خرج سالم من البيت وانهالت الأم على ابنتها بوابل من الأسئلة: ماذا حدث؟ ما كانت ردة فعل سالم؟ هل تعرضت للأذى؟
جلست كارينا مع أمها تحدثها عن تفاصيل أول أيامها مع سالم وعن موقفه الرجولي معها وكيف تعامل معها بكل أدب ولطف وظلتا تتجاذبان أطراف الحديث، ثم اقترحت الأم على كارينا مساعدتها في إعداد الغداء، كانت كارينا في وقت سابق سمعت سالم يقول أن أحب الأصناف الهندية إليه البرياني، فأرادت أن تفاجئه.
أنهت كارينا الغداء واتصلت على سالم تطلب منه المجيء، جلس ثلاثتهم إلى الطاولة تناولوا الطعام وسط إطراء سالم على براعة كارينا في الطبخ ثم جلسوا لبضع وقت يحتسون الشاي، وبعد كوب الشاي استأذنت الأم للمغادرة ودعها سالم وكارينا وعند الباب وقفت لبرهة ثم أخرجت لفافة من الروبيات ووضعتها تحت مزهرية على الطاولة عند الباب وغادرت.
لم تعلم الخالة راما أنها أضرمت النار في بركان نائم فجعلته يهتز ويرمي بحممه على كل شيء أمامه، جن جنون سالم على كارينا بعد مغادرة أمها وقال لها: هل تعتقد أمك أنني أتسول؟ أم أنها تظن أنها ستشتري ذمتي؟ هل تكفر عن غدركم لي بنقودها السخيفة؟ إنكم أغبى وأوقح مما توقعت! فلتعلمي أنني قبلت بك شفقة عليك لا غير! و لم أتصور يوماً أنني سأكتفي بمضاجعة بواقي غيري، لما أتيت لخطبتك قال والدك أنك بكر وأنك كنت فقط مخطوبة ولم تخرجي قط مع خطيبك السابق على انفراد، لكني صدمت بحقيقة أمر من الحنظل! و لم أرد أن أجرحك ولا أن أخدش كرامتك والآن أمك تهينني في عقر داري! لولا حيائي من بياض شعرها لبصقت في وجهها عجوز عديمة الحياء!.
همت كارينا بالإقتراب منه لتتكلم لكنه دفعها قائلا " البرنسيسه لا تستطيع العيش مع فقير ؟ عودي أدراجك و عيشي في بذخ والدك الغشاش.
خرج سالم يطوي شوارع بومباي طيا إلى أن استقر في مقهى قديم جداً كان يزوره دائماً مع أبناء جاليته الذين كانوا معه بنفس الجامعة جلس سالم ورحب به النادل ترحاباً شديداً.
كان سالم طوال الليل يشعل السيجارة من أختها قبل أن يطفئها وهو يفكر فيما عساه يفعل، هل يواصل مع كارينا؟ هي ليست جميلة ولا يوجد أي شيء يحفزه لمسامحتها، ولكنه بنفس الوقت يعتقد أنه من الظلم أن يحاسبها على أخطاء غيرها.
ظل سالم يجوب شوارع بومباي المزدحمة طوال الليل إلى أن أشرقت الشمس، هو لا يعرف إلى أين تأخذه قدماه، لكنه توصل في ليله الطويل الذي لم ينقطع فيه عن التفكير إلى شبه قرار ألا وهو أنه يجب عليه أن يجد عملاً قبل أن يعود إلى البيت.
كارينا لم تكن أحسن حالاً منه فهي قضت ليلتها في صدمة من كلام سالم، أذهبت الدهشة دموعها فلم تستطع أن تذرف حتى واحدة منها، تفكر في طريقته في الكلام، فكلامه صحيح ومقبول ولكن طريقة طرحه خلفت خدشاً في كرامتها وفي نفسها وما إن أطلت أشعة الشمس حتى قامت هي لتنام فهي أيضاً لا تريد أن تراه هذا اليوم.
بحث سالم عن شغل أوصله إلى مطعم قبالة محطة قطارات بومباي، المكان الأكثر ازدحاما في كل المدينة، فمن هنا تمر آلاف الوجوه يومياً، منها من يعاود المرور ومنها من لا يعود أبداً.
كان صاحب المطعم يعلق على باب المطعم إعلاناً عن حاجة المطعم إلى نادل يعمل لاثنتي عشر ساعة يوميا، فكر سالم قليلاً قبل أن يدخل ليعرض خدماته مقابل بعض الروبيات التي ستؤمن حاجات بيته وزوجته.
خرج سالم من المطعم بعد أن إتفق مع صاحبه على كل التفاصيل وعاد أدراجه ليأخذ قسطا من الراحة.

في اليوم الموالي قام سالم باكراً، أعد لنفسه فنجاناً من القهوة احتساه مع سيجارة في شرفة المنزل ثم بدل ملابسه، كانت كارينا نائمة، انحنى عليها وطبع قبلة على خدها وقال لها: أنا سأغادر، كان النعاس يغلب كارينا فلم تجبه وانطلق سالم في طريقه إلى عمله الجديد يجوب شوارع بومباي ويتفكر في آيات الله -سبحانه- في خلق هذه الألوان والأجناس من الناس.
سالم حاصل على شهادة الدكتوراة في الدراسات التجارية لكنه ليس صاحب حظ وفير في تحصيل وظيفة تليق به فمنذ وصوله إلى هذه البلد وهو بين هذه الوظيفة وتلك وكلها لم تكن تغني من فقر ولكنه قرر أن لا يستسلم حتى ينال مبتغاه من تحصيل علمي وحياة كريمة.
بدأ سالم شغله وصار يغادر المنزل في الصباح الباكر ليعود عصراً منهكا من الوقوف طوال اليوم والركض بين هذه الطاولة وتلك وبين المطبخ وفناء المطعم وعند عودته يجلس قليلاً مع زوجته ويتناول طعام الغداء، ثم يخرج ثانية ليبحث عن دوام مسائي فهو قرر في النهاية أن لا يستسلم وأن لا يترك أحداً يساعده وخصوصاً عائلة كارينا فالحقد يملأ قلبه عليهم.

مرت الأيام و حياة سالم بين عمل لساعات طويلة من الوقوف والتعب وحياة زوجية لم تخلو من بعض المشاكل والمناوشات يملؤها البرود وصار التقاء سالم بفهيم قليلاً جداً في حين انقطع لقاؤه براميش لكنه كان مرتاح البال لأنه استطاع أن يؤمن كل ما يحتاجه وكارينا تسهر على راحته وتدير البيت جيداً.
قام سالم في هذا اليوم كعادته أعد القهوة لنفسه احتساها وخرج إلى عمله وبعد ساعات من العمل قدم شلة من الشباب جلسوا على طاولة عند ناصية الشارع، توجه سالم نحوهم بقائمة الطعام قال أحدهم: سالم؟ زاد وزنك فتغير شكلك، كدت لا أتعرف عليك يا رجل.
كانت الشلة من أصدقاء سالم لكنهم تفرقوا بعد أن أنهى جميعهم درجة الماجستير، كلهم عرب من جنسيات مختلفة خليجيين ومغاربة وشاميين.
قال الثاني: ماذا تفعل هنا؟ جلس سالم إلى أصدقائه ثم جلب لهم ما طلبوا واستأذن صاحب المطعم في الجلوس معهم على أن يعوض الوقت في نهاية اليوم.
انضم سالم إلى أصحابه يتبادلون أخبارهم وأخبار أصدقائهم من الشباب الذين كانوا معهم بالجامعة وأخبرهم سالم أنه تزوج حديثاً. قال أحدهم أن له صديقاً له قال منذ أيام أن مديره يبحث عن سكرتير له واقترح على سالم أن يتقدم للوظيفة لأنها أكثر راحة من الوقوف طوال النهار في المطعم.

عاد سالم متأخراً، على غير عادته، وجد كارينا في انتظاره على أحر من الجمر قالت له: أنت لا ترد على جوالك، خفت أن يكون حصل لك مكروه.
طمأنها سالم واستأذن منها ليتحمم ويغير ملابسه وفي الأثناء قامت هي لتضع الطعام وتجهز سفرة العشاء.
جلس الزوجان يتناولان العشاء في هدوء وبدأ سالم يسرد لها تفاصيل يومه وهي تتعجب من الصدفة التي جمعته بأصدقائه بعد انقطاع لاحظ سالم في الأثناء أن كارينا ليست على ما يرام، فقال لها: ما رأيك أن نخرج غداً بعد المقابلة مع مدير الشركة الجديدة للتنزه قليلاً في حديقة فيروز شاه، وافقت كارينا بكل سرور.
هذا اليوم جميل جداً في حياة سالم لأنه قابل مدير الشركة وتم تعيينه سكرتيراً له مع راتب عالٍ مقارنة بما كان يناله من عمله الشاق في المطعم، وبعد المقابلة مر سالم على المطعم ليعتذر من صاحبه ويعلمه بانتهاء خدمته، استاء صاحب المطعم كثيراً لأن سالم شاب خلوق وصبور وتركه الشغل يعتبر خسارة للمطعم فهو يراعي كل الزبائن ويتعامل بأسلوب راقي وليس محتالاً كغيره، لكنه تمنى له حظاً وفيراً وصرف له مستحقاته.
أطل سالم على كارينا وطلب منها أن تجهز نفسها للخروج في نزهة، تنزه الزوجان بين الزهور كفراشات جميلة حديثة العهد بعبق الزهور.
هذا اليوم مميز أيضاً لكارينا كما هو الحال لسالم، هذه أول مرة تسير فيها كارينا مع سالم مشبكي الأيادي فعلاقتهما لا تكاد تتعدى الواجبات الزوجية، هي تهتم به و ببيتها وهو ينفق عليها وعلى البيت، حتى اللحظات الحميمة تمر بينهما مرور الكرام في عددها القليل والمحتشم، الكلام مفقود عن لحظات متعة بينها هو لا يحبها وبات يرفض في داخله أن يحبها ليس فقط بسبب جمالها المتواضع، ولكن أيضاً بسبب خداعهم له، ولكنه في نفس الوقت لا يعرف ما يشعر به.
كان يتمنى أن يقع في غرام إمراة جميلة شقراء ثم يتزوجها لكن كارينا لم تستطع أن تحرك أحاسيسه وهو يقول حبيبتي مجاملة.
الخالة راما قتلها الفضول لتعرف تفاصيل حياة ابنتها مع زوجها لكن هدوء كارينا وتحفظها على أسرار حياتها لم يشبع فضول امها.
مرت أشهر على زواجهما، هي ازدادت تعلقا به وحباً له، وهو ضل كل شيء على حاله وفي داخله صوت يقول له دائماً هذه المرأة ليست الكائن الذي سيشعرك بالسعادة، هي من سيشعرك بالحزن العميق الذي لن تجد منه متنفساً.

صار سالم كل ما ازداد نجاحاً في عمله، زاد جفاؤه لكارينا وكأنه أحس نفسه في المكان والزمان الخطأ، بينما تهتم هي بكل تفاصيله وتقف وقفة حازمة مع نفسها ومن حولها حتى توفر له البيئة الملائمة للنجاح.
في إحدى الليالي كان يتسامران معا وهي تدلك أصابع قدميه قال لها سالم ممازحاً: لم تتركي لغيرك من النساء شيء يفعلنه معي.
قالت كارينا ساخرة: هل تفكر في الزواج بثانية؟ كيف علمت أني أريد أحداً يساعدني في أشغال المنزل!.
بعد أن غرق سالم في الضحك لثواني قال لها: لا يا كارينا، لا أقصد هذا، أقصد إذا متي و دفنتك لن تستطيع امرأة أخرى أن تأخذ مكانك بحياتي، فأنت المرأة التي دللتني وأبدعت في ذلك.
تسمرت كارينا في مكانها دقيقة وهي تفكر بكلام سالم ولكنها ردت عليه بكل استهزاء: ألم تعلم أني أتعمد ذلك حتى أجعلك تحتار فيما تختار.
هدوء بيت سالم والجو اللطيف الذي يملأ حياته ساعده في الارتقاء بعمله وصار الذراع الأيمن للمدير فصار يشارك في كل شيء، والمدير يستشيره في أمور كثيرة لذكائه وأمانته وتضاعف حجم مكافأته حتى صار رصيده في البنك مبلغاً محترماً وكان سالم مساءاً يساعد المدير في بعض الأعمال العالقة التي لا يتمكن من إنجازها طوال يوم العمل ويشربان كوبا من الشاي معاً قبل أن يعود سالم أدراجه.

مرت الأيام بسرعة وسالم وكارينا على أحسن الأحوال من الاستقرار، أهل كارينا يزورونها تارةً وهي تزورهم تارةً أخرى وسالم لم يعد يلتقي بأصدقائه إلا نادراً نظراً لالتزامه بعمله وفي وقت تالي بالساعات الإضافية مع المدير وكارينا بدورها تخلت عن كل صداقاتها وصارت تقضي وقتها بين أعمال البيت والمطالعة وتخرج أحيانا للتسوق و إذا أحس سالم بضيقها يدعوها ليخرجا معاً للتنزه أو لأحد المطاعم.
خرجت كارينا لزيارة أمها قليلاً ثم التوجه إلى السوق لتشتري بعض الزينة للبيت وهدية لسالم فاليوم عيد زواجهما وكارينا حريصة على أن تجعل هذه المناسبة ذكرى سعيدة ولا تنسى في حياتهما، كانت كارينا جهزت في وقت مضى قائمة المشتريات وبعد مشاوير طويلة في السوق عادت مع أمها لترتاح قليلاً ببيت أهلها قبل أن تعود إلى منزلها وتبدأ في تجهيز الحفلة الصغيرة التي ستجمعها بسالم مساءاً، لكنها سقطت مغشياً عليها عند الباب عندما همت بالمغادرة، ارتعبت الخالة راما وصرخت مستنجدة بجارتها، إتصلت الخالة راما بالإسعاف للقدوم واصطحبت ابنتها إلى المستشفى وفي الطريق تذكرت أنها لم تبلغ سالم بما حصل لزوجته فإتصلت عليه.
وصل سالم والممرضة بصدد أخذ عينة من دم كارينا للفحص، مسك يدها وشد عليها متسائلاً: ماذا حدث؟، أجابت الطبيبة قبل أن تتكلم كارينا "زوجتك حامل سيدي، وسنتأكد فور حصولنا على نتيجة فحص الدم"
قال سالم: شكراً سيدتي الجميلة على هذا الخبر المذهل.
بعد انتهاء فترة الملاحظة سمحت الطبيبة لسالم باصطحاب زوجته مسدية لهم بعض النصائح لمتابعة الحمل.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.