يا إلهي! طفلٌ آخر تخلّت عنه أمه، يا للعار!
البعض يجعلونك تشعر أن الحب شيطانٌ جائع، إنهم يمارسون الرذيلة باسمه؛ فينجبون الأطفال ثم يقدمونهم قربانًا للحب برميهم في الطرقات. اندثرت الإنسانية بين البشر، تعال إلى حضن أمك حبيبي، هكذا نادت العجوز تمازيغت على الطفل الذي وجدته مُلْقَى تحت شجرةٍ ميلاء في الغابة القريبة من بيتها، نسيت أمر الحطب والاحتطاب وحملته ثم عادت به إلى البيت.
تمازيغت والذي يعني (الحُرَّة) هي إمرأة ستينية، متوسطة الطول، محنية الظهر، بيدها عصا تتوكأ عليها على الدوام، شعرها لم يبيض كبقية العجائز، بل مال ناحية الاحمرار، لديها عينان كابيتان، وصوت أجش ومخيف، لم يُعرف لها أم ولا أب منذ صغرها، وجدتها عجوز تدعى تينهينان ذات ليلة مطيرة في ركن من أركان المعبد فحملتها وذهبت بها إلى القرية وتحمّلت مسؤولية تربيتها والاعتناء بها. عانت تمازيغت منذ صغرها وتحملت الكثير من اللعن والشتم من أهل القرية، نفر عنها الأطفال وكرهها الكبار حيث كانوا ينادونها ببنتِ الخطيئة، فكانت تركض نحو بيت العجوز تينهينان والدموع تملأ مقلتاها فتحتضنها مربيتها وأمها التي عرفتها منذ نعومة أظافرها، وتطبطب عليها حتى تهدأ وتنام.
يومًا بعد يوم بدأت تمازيغت تكبر شيئًا فشيئًا في منزل العجوز، لم يكن لديها رفاق، أصبحت لا تخرج كثيرًا من المنزل منصاعةً لأوامر مربيتها فقد علمتها القراءة والكتابة والكثير من الأمور عن السحر، فلدى العجوز الكثير من الكتب التي تحوي أسرار السحر والسحرة، كما أنها تملك بومة تسمى العقاب، وكثرت الأقاويل أن تلك البومة هو زوجها حيث ألقت عليه لعنة وحولته إلى طائر يلبي طلباتها.
تعلمت تمازيغت كيفية صب اللعنات وإزالتها، بإمكانها أن تلعنك وتحولك إلى جندب صغير أو ذبابة. كانت تينهينان مصرًًة أن تُعلِّم تمازيغت كل خبايا السحر حتى تدرأ عن نفسها شر البشرية.
دحمس الليل ونام جميع أهالي القرية وفجأة سُمِع صوت صراخ يهز أركان القرية، صراخ مُدَوٍٍّ يخالطه ألم حاد، إنه صراخ تمازيغت، أرجوكِ لا تموتي، لا أملك أحدًا في هذا العالم البائس سواك، لا تتركيني. تجمع أهل القرية أمام منزل العجوز تينهينان والتي فارقت الحياة وتركت تمازيغت تقاسي وحدها.
عاد كل فرد من أهل القرية إلى بيته وأكمل نومه بينما تركوا تمازيغت تعاني وحدها، كانت تئن من الألم، لم تنم ليلتها ولم تكن تدري ماذا ستفعل بعد أن ماتت أمها تينهينان.
انطوى الظلام وأشرقت الشمس واستيقظت تمازيغت من غفوتها بالقرب من جثة تينهينان على أصوات السب واللعن من أهالي القرية، كانت الحجارة تتراشق عليها من كل الاتجاهات، اخرجي من القرية أيتها الساحرة، اللعنة عليك، لا نريدك هنا بعد اليوم أيتها المشعوذة، كانت تمازيغت تصرخ مع محاولات يائسة لصد الحجارة عنها والتي أصابت رأسها، ثمة حجر صادف عينها اليسرى ففقأها ونزفت دمًا بغزارة، صرخت تمازيغت بكل ما تحمل من وصبٍ وشجى، صرخت فاهتزت القرية بأكملها واستلقى أهلها أرضًا من الرعب، سهجت الرياح ونزلت الأهاليل فركض أهل القرية يحتمون داخل بيوتهم من غضب تمازيغت والطبيعة. بخطوات فاترة وعين واحدة خرجت تمازيغت من البيت ومعها كتب السحر وعصا كانت تخص تينهينان، وقفت بعيدًا عن القرية ونظرت إلى ساكنيها بعينين كابيتين مرددة بعض الطلاسم فاتحة ذراعيها ورافعة رأسها إلى السماء وكأنها تستحضر شيطانًا، مع آخر كلمة خرجت منها؛ حلّق تنِّيْنٌ ضخمٌ فوق القرية وبدأ ينفث نيرانه في بيوتها، كانت تمازيغت تنظر إليهم والذعر يتملكهم ويملأ أعينهم فتضحك بأعلى صوتها مسبّبة زلزالًا في القرية.
احترقت القرية بالكامل واختفت أنقاضها تحت الأرض؛ فبدت وكأنها أرضٌ عفراء.
ربطت تمازيغت عينها اليسرى بقطعةِ قماش بعد أن سيطرت على الدم باستخدام بعض الأعشاب التي كانت تخص مربيتها تينهينان، سلكت طريق الغابة في طريقها إلى اللامعلوم منتشية بفرحةِ ثأرها من أهلِ القرية الذين ضايقوها منذ صغرها إلى أن أصبحت يافعة، وفي الوقت نفسه الوجع ينهشها بسبب فراق أمها ومربيتها العجوز تينهينان. على كتفها الأيمن كانت تحمل حقيبة صغيرة بداخلها كتب السحر وقليل من الأعشاب العلاجية وبعض من ملابسها، وفي كتفها الأيسر كان يجلس العقاب والذي رافقها بعد احتراق القرية وموت زوجته تينهينان وبيدها كانت تحمل عصاها. توقفت عن المشي فجأة بعد أن تناهى إلى مسمعها صوت بكاء طفلٌ صغير، تتبّعت مصدر الصوت فوجدته ملفوفًا بأوراق الشجر فأسرعت تحمله وسارت به وهو في حضنها.
من اليوم لن يتعرّض طفل بريء لمثلِ الظلم الذي تعرضت له، لن يُقاسي أي صغير ما قاسيته، من هذه اللحظة أنا الأمان لكل من ليس له ملجأ، من اليوم أيها العقاب ستكون أنت عينيّ اللتين تخبراني عن مكان الأطفال الذين تلفظهم الحياة، وستخبرني كذلك عن مكان كل اثنين تُسوّل لهما نفساهما ممارسة الرذيلة فينجبا أطفالًا أبرياء يكون مصيرهم كمصير هذا الصغير، سأوقف هذا الأمر بنفسي، من الآن فصاعدًا لن يخرج طفل من رحمِ الظلم.
توشّح الليل بالسوادِ فطفقت تمازيغت تبحث عن مكان تتوارى فيه هي والصغير وبومتها. توقفت وسط الغابة والقت تعويذة على البومة، اذهب وابحث لنا عن بيت يأوينا، اذهب أيها العقاب.
حلّق العقاب كي يبحث عن مكان يكون منزلًا وملجأً لهم، وفي الوقتِ نفسه فتحت تمازيغت كتابًا يحوي صفحة تبدو وكأنها خارطة، بدأ العقاب يحلق فوق الغابة بينما تمازيغت كانت تنظر في الكتاب متتبعة خطواته، إنه كهف، هكذا قالت ثم طقطقت بأصابعها مشيرة للعقاب أن توقف هنا، نقل لها كل تفاصيل الطريق المؤدي إلى الكهف ثم عاد مسرعًا.
وصلت تمازيغت ومعها بومتها والصغير إلى الكهف الذي كان بيتًا للعناكب والخفافيش، أغمضت عينيها ورددت بعض الكلمات وحركت يديها في الهواء داخل الكهف فبدا الأمر وكأنها قامت بتجديد أثاث المنزل، أصبح الكهف بيتهم من هذه اللحظة.
مرت الأيام والشهور والسنون وكبرت تمازيغت وكبر الطفل فعلمته كل شيء مثلما علمتها العجوز تينهينان، تارة يذهب للغابة في شكله البشري، وتارة تحوله تمازيغت إلى غراب فيحلق مع العقاب للبحث عن أبرياء تم إلقاؤهم في الطرقات فكانت تأتي بهم إلى كهفها بترديد بعض التعاويذ، إمتلأ الكهف بالأطفال الذين تخلت عنهم أمهاتهم وقررت تمازيغت أن تجعلهم ينتقمون مِمّن تخلوا عنهم، اتخذت القرار، في ليلة اكتمال القمر ستحوّل كل الأطفال إلى طائر هورنبيل ذي المنقار الحاد وستتنقم للأطفال من أهاليهم، حتمًا سيدفعون الثمن، سأذيقهم ما أذاقنيه أهل تلك القرية البائسة، سآخذ من كل منهم عينه اليسرى، سأخبر المجتمع بأفعالهم فينبذونهم ويلفظونهم خارج مجتمعاتهم، سأنتقم.
في الليلةِ التي تسبق ليلة اكتمال القمر ذهبت تمازيغت إلى الغابة كي تحتطب وتحضر بعض الأعشاب من أجل تحضير الوصفة والتي عن طريقها ستحول كل الأطفال إلى طائر هورنبيل، وبينما هي تجمع الحطب سمعت صوت طفل يخرج من بين الأشجار فركضت ناحيته وحملته، يا إلهي! طفل آخر تخلت عنه أمه يا للعار.
هشششش، لا تحزن يا صغيري، لا تحزن، اقترب الموعد، اقترب الموعد، غدًا ستنتقم لنفسك بنفسك.
عادت إلى بيتها ومعها الطفل فوضعته بالقرب من أقاربه في الخذلان، فقد خذلتهم الحياة وكذلك أهاليهم.
ذهبت مرة أخرى للغابة وجمعت كل ما تحتاج إليه ثم عادت لبيتها مرة أخرى. ناموا يا صغاري، ناموا.
بدأت بتحضير وصفتها السحرية في قدرٍ كبير مليء بالماء والكثير من الأعشاب، كانت تُلْقِي بعض الطلاسم الغير مفهومة ومعها بعض الكلمات المفهومة.
(من أجل الصغار المظلومين الذين لفظتهم الحياة، من أجل ألا يتكرر هذا الأمر مرةً أخرى، لن يكون هناك أطفال في الأزقة أو الغابات أو في المعابد أو المساجد، سأنتقم لهم، سأنتقم لهم، سأنتقم لهم.)
خلدت للنوم بعد أن أتمّت إعداد وصفتها السحرية.
تنفس الصبح واستيقظت تمازيغت بينما الصغار لا يزالون نائمون، ألقت تعويذة على العقاب ثم أمرته أن يمر فوق رؤوس الأطفال ويأخذ من كلِ طفلٍ شعرة من رأسه ويحلّق بعيدًا كي يتعرف على أهاليهم فردًا فردا. نفذ العقاب كلام سيدته وفعل مثلما أمرته وفتحت هي الكتاب وبدأت تنظر في الخارطة وتراقبه وكلما وجد أمًا أو أبًا من أهالي الأطفال كان يتوقف ويرمي شعرة رأس الطفل في بيتهم، هكذا عرفت تمازيغت مسكن كل واحد من أهالي هؤلاء الأبرياء. أنجز العقاب مهمته ثم عاد إلى الكهف مع اقتراب موعد الغروب ووجد أن تمازيغت بدأت تجهز الأطفال من أجل إلقاء التعويذة عليهم وتحويلهم إلى طيور هورنبيل.
أغلقت تمازيغت باب الكهف بعدةِ صخور وأغمضت عينيها وبدأت بترديد الطلاسم وشيئًا فشيئًا بدأ الأطفال في التحول إلى طيور هورنبيل، اليوم ستنتقمون يا صغاري، ألقت عليهم تعويذة أخرى وأخبرتهم بمكان تواجد من تخلوا عنهم ثم أمرتهم بالتحليق.
طلبت تمازيغت من بومتها أن يقوم لها بأمر هام؛ فحلق بعيدًا عنها منصاعًا لأوامرها، بينما حملت هي كل أمتعتها وغادرت الكهف.
هجوم منظم من طيور هورنبيل على كل القرى حول الغابة، صاحَب الهجوم أصوات عالية، "نحن أبناء الخطيئة، نحن من أنجبتمونا ثم تخليتم عنا، نحن مَنْ خرجنا مِن رحم الظلم والتهمتنا الغابات، نحن مخرجات نزوة عشق شيطانية عابرة، نحن أبناءكم وأتينا لننتقم."
عم الصراخ كل القرى وتلونت جدرانها بالأحمر، كانت الدماء تتطاير في كل مكان، انتهى الهجوم وحلقت الطيور بعيدًا نحو الغابة.
الجميع سمع بالأمر، كل قرية فيها ما يقارب أربعة أو خمسة فقدوا عينهم اليسرى، والكل بات يعلم السبب، كل من فقد عينه اليسرى بات منبوذًا في قريته، أصبح الأمر وصمة عار بالنسبة لهم، تم طردهم من قراهم ونفوهم نحو الغابة، تجمع كل المنبوذين وسط الغابة وكأنهم مسيّرين، اصطفوا خلف بعض ثم عبروا الغابة إلى أن وصلوا قرية خالية من السكان مشيدة المباني، لقد أمرت تمازيغت العقاب سابقًا بأن يحيي القرية التي تربّت فيها وأحرقتها قبل عدة سنوات بأهلها الظلمة، ها هي المنازل كما كانت في السابق وكأنها لم تُحرق. تجمع المنبوذين أصحاب العين الواحدة في القرية ووقفت تمازيغت والعقاب وحلق فوقهم سرب من طيور هورنبيل ثم فتحت تمازيغت ذراعيها ورفعت رأسها إلى السماء ورددت بعض التعاويذ ومع آخر كلمة خرجت منها حلّق التنين الضخم فوق القرية للمرة الثانية وبدأ ينفث نيرانه في بيوتها وسط علو صراخ المنبوذين، وأمام ناظر تمازيغت والعقاب والغراب وطيور هورنبيل الذين رددوا مع بعضهم: إنهم يستحقون، إنهم يستحقون، إنهم يستحقون، ثم صرخت تمازيغت بأعلى صوتها مسبّبة زلزالًا إلتهم القرية بأكملها وعادت أرضًا عفراء كما كانت.