خلف شجرة التوت العتيّة راقبها من كثب بعد أن جاء بها السائق إلى الجامعة، انطبق العقربان على الثانية بعد الظهر، لترصف جسدها الطازج على الجدار، بصرها يسقط بين الفينة والأخرى على يدِّها المخنوقة بساعة أهديت إليها حينما اطفأت إحدى شمعاتها دون أن تعي إنها الساعة التي نُزعت من يدِّ أمها حينما ذهب جثمانها للغسل .
كعادتها تصل البيت، لا شيء يدين غيابها فهي المجدة ، تلك شائعة تريد خدشها ، الثانية بعد الظهر كان وقت الندم الذي عاد به إلى البيت، رمى ظنه السيء في حاوية النفايات وراح يمشط شعرها بأنامله التي أحرقها لهيب الحروب، إلى ذراعيه يذوب وجعها وهي تستنشق الأمومة الغائبة مبكرًا، لذلك رفض أن يكوي عيونها وقلبها بباب يؤصد على امرأة وسرير، خشى على جسدها الطري أن يكتسحه البرد حينما تمسي وحيدة كجثة تلسعها رطوبة القبر .
الصباح جعله ريشة تسمو في نسائم الارتياح بعد أن نزع الظنون من فؤاده والشائعات عن اسمها ، نسرٌ متأهب للانطلاق ونجمتان تلمعان على جبل كتفيه ، وسائق ينتظر خروجه ، على أنغام فيروز استهل صباحه المصحوب برشفة شاي وسيجارة حتى قطع الهاتف نزهته بأن هنادي علقت على لوحة المشاغبات والطائشات .
صمت يهيمن على المكان أدى إلى سقوط السمّاعة حتى عاد به إلى شجرة التوت ثانية كذئب يتربص بطريدة نزلت من صلبه، العاشرة صباحًا هي الساعة الملعونة التي جاءت بسيارة أخذت ثوبها من الدم ، لتنزل امرأة تكسوها عباءة سوداء، جسدها المتموج ، عيناها المحدقتان في الوجوه ينذر بالرذائل ، على أنفاس السجائر التي احتشدت عند فمه راح يراقبها بدقة حتى فاض الشك حينما أبصر في المساحيق الفاتنة ، أمسك اليقين وهو يرى الإغراء يسيل من جسدها يحاكي المارة ، حتى الصبيان تركوا أشياءهم اليسرة وفتنوا بذلك العطر النابض بالبغي .
هنادي بعنق كبرج تدقق في الأفق ، تمسك بخيط الأمن بعد أن أثقل كتفها بكف شيطانة خنقت أصابعها الآثمة بأختام ثمينة وها هي تسوق ضحيتها البلهاء إلى الموت .
أرغم النسر أن يطير عن كتفيه ، أخمد النجمتين ومضى يتتبع السيارة، بزيِّ الشقي وهيئة المراهق تغمس دور المتعطش لأنثى عشرينية ، اقتحم حارة شعبية ، ضاع في درابينها الملتوية والضيّقة التي تشقها ساقية تحمل مياه آسنة، اختزل ضجة الذباب ولاذ خلف نظارة سوداء لم تجدِ نفعًا في تضليل الناس عن عاره المدلل .
هنادي منصاعة ومثقلة بكف المومس التي نفخت أذنها طول الطريق ، خلف الحاوية الفائضة ببقايا الأطعمة والأكياس وشجار القطط اختفى يبصر بتعب السنين الذي هُدر حتى شاخت قسوة شربها من سوح المعارك دفعته إلى باب أكله الصدأ، لا أقفال تحكم الفجور ، فوق العشب المتعفن بعبوات النبيذ الفارغة قطع خطواته، قشور فاكهة ونفايات السمر والسجائر تملأ الحديقة التي أحرقت العذارى ، يجب أن تضرمها نار العدالة ، هكذا حاور نفسه في بضع دقائق استعارها من عزرائيل الذي رافقه منذ الصباح .
إلى إحدى الغرف الملوثة تقوده مومس مغرية ، بحفاوة غلقت الأبواب وراحت تعد له لقمة دسمة من مطبخها المزدحم بلحم رخيص فهو جائع إلى حد الانتقام ، دسَّ يده في جيبه وأخرج رصاصة سيلتهمها جسد ترعرع على لحم كتفه الذي طرد النسر والنجمتين ورضي بعار سيلاحقه عبر السنوات .
على قدم ترتعش استدار بظهره إلى الباب وراح يبصر في نافذة ستحجب ضوء الشمس ، صوت الخلاخل وروائح الإغراء تصل إلى مصرع الجريمة ، بعينين غائرتين ترميان شررًا دار وجهه، ليرى هنادي كغيمة اعتصرت قواها في القفار بعد أن رمتها إحدى رفيقات الدرب في مستنقع الفجور .
حرارة الأبوة تذيبه وتردُّ به إلى الوراء، ليصرخ:
ما الذي كان ينقصك حتى ترتادي هذه الأماكن العفنة ؟ ما كنت امرئ سوءٍ وما كانت أمك بغيًا .رصاصة واحدة اختبأت في راسها الذي رقد على ذراع رفض كل النساء لأجلها، مسح دموعه لكن هل سيمحو عارًا لوث اسمه الذي نزعه أمام عرش السلطان .