كان على قيصر الواقف على مفرق الطرق بلباسه الفاخر الملطخ بالدماء والأتربة وممسكًا بلجام جواده الأسود ذي الشعر المموج أن يتذكر أول مرور له على ذلك المفرق الموحش وكأن سَمومه قد أقسمت عند مروره لأول مرة أن تجوب صدره مرة أخرى، وكان ذلك القسم بعد مسيرة عشرة أيام من غار العقرب الذي مكث فيه ليلتين في حيرة من أمره منتظرًا أحد عوام قومه يحمل له أخبارًا غيرت مسار حياته رأسًا على عقب.
رفع قيصر عينيه عن زواله الذي كان تحت الأقدام متخبط الأفكار والمشاعر وكأنه هاجر بوادٍ غير ذي زرع أو يونس في ظلمة بطن حوته، مضيقًا عينيه عاقدًا ما بين حاجبيه متقيًا حرارة الشمس المحرقة التي ما كان يحمي وجهه من أشعتها الغليظة سوى لحيته السوداء الكثيفة المليئة بالغبار، ثم نظر إلى دوامة الريح بالقرب من المفرق وشرد بها كأنها الدنيا حينما عصفته كما تفعل دوامة الريح بالغبار.
أغلق عينيه عن الصحراء الشاسعة أمامه والأربعة طرق الممهدة للسير متذكرًا أول مرور له على هذا المكان الموحش وكأنه بات مرتعًا للوحوش والأشباح، في نفس حيرته الأولى كأنه قد قُدر له أو لُعن في كل مرور له على ذلك المفرق أن يكون على تلك الحال من الضياع.
تذكر وجهه الشاحب وتشتته وملابسه الأنيقة وجواده الأبيض عندما مر لأول مرة على المفرق قادمًا من الطريق الجنوبية مجتازًا الطريق الشرقية ببضعة أمتار متجهًا ناحية الشمال ثم سحب لجام جواده فتوقف، وضع يده اليسرى على سيفه ذي النصل المستقيم وفكر قليلًا ثم سحب اللجام من اليمين ليدير ناصية الجواد إلى الخلف ليدخل في الطريق الشرقية باتجاه بحر فارس.
انتصفت الليلة العاشرة بعدما مر بأحداث لم يتخيلها تمر به يومًا وعلى الرغم من إرهاقه الشديد لم يفكر أن يخيم أو أن يأخذ وجواده قسطًا من الراحة بل أكمل طريقه بكل ما يستطيع الجواد من سرعة حتى أحس بإرهاقه فتمهل.
نظر إلى النجوم الواضحة في حلكة الليل المهيب وتحسر على نفسه.
"كيف كنت في الليالي الخوالي وكيف أمسيت الليلة وأين كنت ترعى يا صديقي؟" قالها قيصر محدثًا نفسه وجواده، وعلى الرغم من عواء الذئاب الذي يرن في أذنيه كان يحكم رباطة جأشه فقد اعتاده طوال حياته وتمرس على إبعاد الذئاب آخر شهرين قبل ليلته الموحشة هذه.
بزغ الفجر فأوقف جواده وترجل واضعًا راحتيه على خصره مائلًا بظهره للوراء مطقطقًا عنقه ضاربًا الأرض بأقدامه وأخرج قربة ماء من ثلاث قرب كانت بجعبته وشرب حتى ارتوى ثم وضعها على فم الجواد ورفع رأسه لأعلى ليشرب فلم يكتفِ بنصف واحدة فأخرج أخرى فشربها حتى أوشك أن يأكل جلد الماعز التي صنعت منه، دلك غرة جواده براحة يده اليمنى وسحبه من لجامه ماشيًا أمامه متحسسًا الأرض بقدميه مستكشفًا هذا المكان المنبسط الفسيح من حوله وقد تجردت ملامح وجهه من أي انفعال قد يبين ما مر به في أمسه أو ما هو مقبل عليه.
ظل قيصر ماشيًا حتى رأى الأفق يمتلئ بحمرة الشروق وما إن مر وقت قصير حتى رأى الشمس تشرق من وراء خيمة كانت بالقرب من امتداد الطريق، كان في ذلك الوقت يتضور جوعًا وكذلك حصانه ويشعر بالإرهاق الشديد ويتخبطه النعاس فقرر اللجوء لصاحب الخيمة طالبًا منه بعض الزاد له ولحصانه آملًا أن يجده مضيافًا ليأخذ عنده قسطًا من الراحة.
وصل قيصر بالقرب من الخيمة وما إن رأى شابة تخرج منها لتجهز البعير البارك بجوار الخيمة إلا أن ارتبك وثبت في مكانه، أحست الشابة بقدوم غريب فاضطربت ودخلت مسرعة للخيمة وما لبثت أن خرجت رفقة شيخ هرم متكئًا على عصا سميكة ومستندًا بذراعه اليسرى على يد ابنته مرتسمًا على وجهه ابتسامة خفيفة ثم أشار لقيصر أن أقبل فأحس قيصر ببعض الطمأنينة.
"حياك الله يا شيخ" قالها قيصر وهو على بعد كافٍ منه ليضمن عدم ريبته.
"حياك الله يا بني" قالها الشيخ مبتسمًا ومشيرًا إليه بالاقتراب.
اقترب قيصر منحنيًا على يده الممسكة بالعصا مقبلًا إياها باعثًا في صدر الشيخ وابنته فيض من الطمأنينة والراحة.
"باركك الإله يا بني، هيئتك مريحة ومطمئنة" قالها الشيخ مبتسمًا ومشيرًا لقيصر بالاعتدال عن انحنائه.
اعتدل قيصر: "عذرًا إن بعثت في نفوسكم الذعر".
أشار له الشيخ بالجلوس: "لا عليك يا بني."
تركت الفتاة ذراع والدها لقيصر وجلبت بساطًا سميكًا ليجلسا عليه ثم انصرفت إلى جوار الخيمة مشعلة للنار.
ساعد قيصر الشيخ في قعوده ثم قعد إلى جواره ثم أشار إلى البعير قائلًا: "عذرًا إن كنت أخرت ابنتك فلقد كانت تجهز البعير لشيء ما".
"لا يا بني، لم نتأخر فلقد خيمنا هنا منذ ساعات قليلة إثر شعوري بالتعب، فالطريق أمامنا طويل ويوم من التأخير لن يؤثر في مسيرتنا" قالها الشيخ مشيرًا بيده إلى امتداد الطريق ثم التفت إليه مردفًا: "ولكن ما الذي يجعل شابًا في مقتبل العمر مثلك على هذا الطريق في ذلك الوقت وحده؟"
ابتسم قيصر قليلًا ثم قال: "أنا رحالة أحب السفر وأبحث دائمًا عن أماكن جديدة للذهاب إليها".
" رحالة؟ " قالها الشيخ مستنكرًا " وكيف يا بني لرحالة معتاد على السفر ألا يملك شيئًا ليخيم به ولا زاد يقيم أوده؟ " ملقيًا ناظريه إلى جعبته النحيفة على الحصان التي لا ينم شكلها عن وجود أي شيء داخلها.
ارتبك قيصر قليلًا ثم قال: " لقد نفذ مني الزاد سهوًا وأنا معتاد على النوم في العراء جوار جوادي أو داخل أي غار في بطن الجبل." هز الشيخ رأسه غير مقتنع بكلامه لكنه أيضًا غير مهتم بالحقيقة.
جاءت ابنة الشيخ من وراء الخيمة مقدمة لأبيها وضيفه الفطور حيث تناولاه ولم ينطق أحد منهما بكلمة حتى انتهى قيصر من طعامه، فشكر الشيخ واستأذنه بالرحيل، لكن الشيخ كان يشعر بأن قيصر يتخبطه النعاس والتعب فعرض عليه أن ينتظر ليأخذ قسطًا من النوم ثم ينصرف من بعده إلى حيث يريد، فقبل على الفور شاكرًا للشيخ سماحته، دخل قيصر إلى الخيمة بعد أن ساعد ابنة الشيخ في وضع الطعام والشراب لجواده ولبعيرها وما إن وضع ظهره في فراش الشيخ حتى غاص في نوم عميق؛ ليأتي رجل ضخم من وسط جموع العوام التي امتلأت الساحة بهم ممسكًا سيفًا ضخمًا ذا نصل مستقيم وطويل ويجثو آخر على ركبتيه أمامه، ذو شامة في خده الأيمن ولحيته قد رعى الشيب في سوادها، وقيصر في العاشرة من عمره يقف بعيدًا جدًا في غار عليه بقعة داكنة تشبه العقرب، مذعورًا متيبسًا في مكانه وقد اتسعا بؤبؤا عينيه حتى كادا أن ينفجرا أثناء مشاهدته لهذا الحدث المهيب المغلف بالغبار وكأن الدنيا تلونت بصبغة حمراء، وما أن رفع السياف ذلك السيف العظيم ليفصل رأس الرجل ذي الشامة عن جسده إلا أن وضع آخر يده على كتف قيصر بالغار، ففزع قيصر من نومه صارخًا فاتحًا عينيه الواسعتين متحسسًا موضع سيفه بيده ليرى ابنة الشيخ تدخل مسرعة للاطمئنان عليه، كان قيصر يتصبب عرقًا فاتحًا عينيه ضعف اتساعهما فاغرًا فاه شاهقًا لا يقدر على التقاط أنفاسه وكأنه غريق ببحر غير ذي قاع وما هدأ روعه إلا بعد أن اقتربت منه واضعة كفها على صدره لتهدئه فبدأ يلفظ أنفاسه ثم وضعت قربة الماء على شفتيه ليشرب وما إن أنزلها حتى دخل الشيخ متمهلًا في خطاه وجلس جوارهما " ماذا بك يا بني؟ يبدو أن سبقت رؤيتنا لك أحداث عظيمة تؤرق نومك " قالها الشيخ محاولًا أن يحصل على أي رد فعل منه دون تريث أو حذر، هرب قيصر من السؤال بحجة أنه بالكاد يستطيع أن يلفظ أنفاسه.
وقفت الشابة جوار قيصر مشفقة عليه ثم قالت موجهة النظر لعينيه "من الأفضل أن تجلس قليلًا في الهواء خارج الخيمة " هز قيصر رأسه ضامًا شفتيه كأنه يستجمع قواه للنهوض ثم أخذت الشابة بيد أبيها ليخرجوا جميعًا، نصبت البنت ساترًا خفيفًا لأشعة الشمس فوق مجلسهما، جلسا قليلًا قبل أن يستهل الشيخ الحوار قائلًا: " ما الأمر يا بني؟ لا ترتاب في شيخ كبير طاعن في السن مثلي، لا تفصل لي ولكن قص عليّ ما يمكنني أن أنصحك لأجله" ثم صمت برهة وسأل مستنكرًا واضعًا كفه على ركبة قيصر " أأنت بخير؟ "، رفع قيصر عينيه الواسعتين عن الرمال مختطفًا بعض النظرات السريعة في أعين الشيخ وابنته وهز رأسه قائلًا بصوت خافت " أنا بخير".
ببسمة خفيفة - نظر الشيخ إلى امتداد الطريق قائلًا: " أقدر حذرك يا بني، ولربما إن لم تكن متعبًا ما لجأت لخيمتي." ثم نظر في عيني قيصر محدقًا وقال: لكني ما زال لا ريب لي فيك فقد عاملت أناسًا بكثر ما أنجبت النساء وأعرف أن أقرأ الصدور جيدًا، ثم فاجأه سائلًا: " ما اسمك يا فتى؟ لا تخف، فلن تجد ناصحًا غيري في تلك الصحراء الموحشة ولا تكذب عليّ فإن لم تصدقني القول فلن تجد النصيحة صادقة".
تلعثم قيصر قليلًا ثم قال بصوت خافت على مسمع من الشيخ وابنته: " أُدعى قيصر".
"وا حيرتاه " قالها الشيخ ضاربًا ركبته بكفه ناظرًا لابنته ثم أكمل: "ملامحك مختلطة لا يبين فيها عرق واحد واسمك غريب وإن سألتك عن أرضك لن تجيب صدقًا، إلى أين كنت ذاهبًا؟" رفع قيصر كتفيه لأعلى قائلًا: "لا أدري."
قال الشيخ: تبحث عن مكان تقيم فيه، فقد نال منك ماضيك، وتنهد ثم أكمل: "اذهب إلى مدينة (سالمة) أنا منها وابنتي سارة ولي فيها ابنة أخرى اسمها هند متزوجة سأرسلك إلى زوجها ولكن أنصت لما أقول" أحس قيصر بأن هناك ناصحًا حقيقيًا يساعده في ضياعه هذا، استجمع كل شتات فكره وأنصت للشيخ الذي اقترب في جلسته منه قائلًا: اسمعني جيدًا يا حمزة. فنظر له قيصر مستنكرًا فأومأ له الشيخ برأسه: نعم، لا تقل قيصر أبدًا لأن ماضيك لن يَكَلَّ البحث عن قيصر، اذهب شرقًا حيث مدينة ( سالمة ) ولا تدخل من البوابة الغربية لأن كل التجار يدخلون منها فهي على طريق ممهدة وكلهم معروفون جيدًا والبضاعة تفتش بعناية والحراس يقفون بكل ركن، فبعد مسيرة يوم من هنا بالحصان على مهل انحرف جنوبًا حتى ترى أسوار سالمة قد ذهبت لترى مشرق الشمس فاذهب معها لتصل إلى بوابة صغيرة تكاد تكون مهملة واحرص أن يكون ذلك ليلًا، ستجد وقتها عامر زوج ابنتي يحرس البوابة، ثم نظر إلى ابنته وقال: أعطيه عقدك يا سارة فنظرت سارة في عيني قيصر وأزاحت وشاحها عن عنقها العاجي وفكت رباط العقد وناولته إياه فنظر مستنكرًا للشيخ الذي أكمل قائلًا: أعط عامر هذا العِقد فمع زوجته مثيله، وبعد أن تسلمه العقد قل له أن الشيخ حزام قد أرسلني لك لتدخلني المدينة وتعطيني تصريحًا لأتجول بها.
نظر قيصر منتظرًا المزيد متوقعًا أن عامر هذا سيساعده في العيش أو إيجاد عمل قبل أن يستكمل الشيخ حديثه قائلًا: أما الباقي مهمتك، ليست كل الأمور تدرك هكذا عليك أن تصنع لنفسك شأنًا فلو ساعدك كل مَن وطأ الثرى بقدميه فلن تصنع شيئًا دون أن تجد ذاتك أو تستردها، كن دائمًا أمام الناس حمزة واحذر أن تهجر قيصر وحارب من أجل ماضيك الذي أرق نومك، فإن لم تفعل لتلاشى قيصر شيئًا فشيئًا حتى يبدو كمسخ مشوه المعالم والملامح وسيبقى حمزة الذي ليس له جذور من الماضي ليكمل عليها حاضره وآتيه فمهما صمد ما بنى حمزة وتزخرف فهو مبني على ريح ساكنة ستعتي بغتة في أي وقت، هيا يا بني تشجع واسلك طريق قيصر باسم حمزة.
ابتسم وقبل يد الشيخ شاكرًا حسن ضيافته ونصائحه العظيمة ووعده أن يضع كل حرف من كلامه نصب عينيه طوال حياته ثم وقف ليجهز نفسه للرحيل ليجد سارة قد جهزت الجواد للسفر وقد زودته بما يكفيه طيلة الرحلة فاقترب منها ممسكًا لجام جواده الذي قد بدا مسرورًا ومنسجمًا بتدليك كف سارة لغرته وما أن استعد قيصر ليمتطي ظهر الجواد إلا أن سمع صوت سارة الدافئ كما لو أنه صوت اعتاد عليه طوال حياته وفي كل مرة يطربه حين يرقى لمسمعه، "احذر على نفسك يا قيصر، كم أتمنى ألا أكون آخر من يناديك باسمك هذا وأدعو من الله حين تنادى به مرة أخرى أن تكون مطمئنًا وقد حققت غايتك" قالتها ناظرة في عينيه الواسعتين وقد ملأتهما فيضًا من الراحة والأمل.
تبسم لها قيصر ناظرًا لوجهها الذي تمعن فيه النظر لأول مرة حتى ثبت سواد عينيه على شطآن كحل عينيها السوداوين كقمرين قد أَنِسا ليالي البشر ودَنَوَا من الأرض ليؤرقا العالم أجمع بسحرهما، ثم قال بصوت هادئ: كم أتمنى لو نُسخ قلبيكما في صدور باقي البشر كم كنا سنحيا حياة هنيئة وضحك بصوت منخفض وأكمل: ولكني ما كنت لألتقي بكما، لا تقلقي يا سارة إنها أقدار وأنا لي قدري. فابتسمت حتى تزخرف خديها بغمازتين ما ارتقى لوصفهما ملوك الشعر والغزل، مضيقة شطآن الكحل كالبحر حين يداري لآلئه ثم انفرجت فتوهج القمران باسطا سحرهما على الخلائق، فأحس قيصر بلهفة في صدره وأسى وامتطى جواده مودعًا سارة والشيخ وما إن بدء في التحرك حتى شد لجام الجواد تجاه الشيخ.
- ولكن إلى أين وجهتكما؟
- وجهتنا للبيت الذي رفع إبراهيم قواعده.
قالها الشيخ وفي صدره فيض من الحنين لما هو ذاهب إليه.
- أتمنى ألا يكون آخر لقاء بيننا، ولكن لماذا فعلت معي كل هذا؟
- فيك شيء من صديق لي.
- وهل سأجده في سالمة؟
- قد تلقاه بعد مدة فلقد أتته أخبار عن طفل لليهود تكلم في مهده يقال أنه نبي فخرج في طلبه ولا أظنه يعود قريبًا.
هز قيصر رأسه وشد لجام الجواد ناحية الطريق ووكزه في جنبه وانطلق مسرعًا إلى صحراء شاسعة ومصير مجهول لا يعرف منه سوى بضع كلمات للشيخ حزام، لا يضمن منها سوى تصريح دخول إلى ذلك المجهول.