- ما قبل النهاية -
في ليلة من ليالي يناير القاسية والرياح تضرب المكان بقوة ثور هائج حتى كادت الأشجار أن تُخلع من جذورها من قوة الرياح في تلك الليلة المقفرة التي لم يُلمَح فيها ضوء للقمر، رغم أننا كنا في منتصف الشهر العربي.
كانت الرياح تضرب بقوة في الأبواب والنوافذ، استيقظ الشيخ "أنيس عبد المعروف" من نومه مفزوعًا إثر ارتطام زجاج بالأرض، نظر الشيخ حوله مثقل الجفون من أثر النوم بحثًا عن زوجته فلم يجدها بجانبه، أزاح الغطاء من فوقه ونهض وهو يتثاءب، وضع قدمه في حذائه ومضى يسير بخطوات ضعيفة حتى وصل إلى كبس الكهرباء، قام بالضغط على زر الكهرباء ولكن لم يكن هناك أي ضوء، على ما يبدو أن الكهرباء مقطوعة، مر بيده على تسريحة قديمة ومتهالكة عليها بعض أدوات التجميل التي جف ما بها من قلة الاستخدام ومرور السنوات عليها، فهذه الزينة كانت قد اشترتها زوجته وهي في الثلاثين من عمرها وهي الآن في السابعة والأربعين من عمرها وأثناء مروره بباقي الأشياء تحسس زجاجة عطر كان قد اشتراها لها منذ خمسة أعوام، الزجاجة كما هي لم تستخدم قط، تذكر حينها عندما قال لها:
- هذه الهدية لكِ فاليوم عيد زواجنا.
لم يجد منها أي ترحيب بالهدية، بل قالت له في امتعاض:
- لقد مر على زواجنا عشرون عام أو أكثر، لقد كبرنا على هذه الأشياء الفارغة يستحسن بك أن تفكر في مستقبل ابننا لقد صار الآن شابًا يجب أن نفكر كيف نؤمِّن له مستقبله، أنت تعلم جيدًا أن الغد دائمًا أسوأ من اليوم وهذا الصغير لن يجد شيئًا، لن يحصد من الدنيا غير الشقاء والهم ونحن لا نملك شيئًا غير راتبك الذي لا يكفينا سوى أسبوعين والأسبوعين الأخرين تكون على النوتة من عند "حسن" البقال والخضار من "زهيرة" زوجته، انظر إلى أثاث البيت أين السجادة التركية المزركشة التي كنت أفتخر بها بين جيراني؟ أين الأنتريه المذهب؟ لقد بعنا كل شيء، انظر إلى يدي في هذه اليد كانت تحمل زوجين من الأساور الثمينة وهنا في البنصر كان يوجد خاتم مزين بفص من الألماس كان قد جلبه لي أبي، كل ذلك قد بعته في سبيل إحياء هذا البيت ثم تأتي إليّ اليوم وفي يدك زجاجة عطر! اذهب يا أنيس من وجهي فلقد مللت رؤية وجهك.
تذكر "أنيس عبد المعروف" تلك الذكرى، غادرت دمعة من عينه وقال لنفسه أسفًا:
- معها حق في كل ما قالت، فقد كانت تعيش عيشة كريمة في بيت أهلها لم تطلب طلب إلا ووجدته أمامها، تلبى كل طلباتها كأنها أميرة في يدها مصباح سحر، ما أن تمسح بيدها على الفانوس حتى يظهر المارد من فوره يلبي لها النداء، ثم جئت انا وأوقعتها في شباكي بكلام الحب المعسول ظللت أتودد إليها حتى وقعت في حبالي، تقدمت لخطبتها لم يوافق والدها كان غاضبًا جدًا وصارمًا قال لي: ( أنت يا فقير يا معدم تريد أن تتزوج ابنتي؟) خرجت من بيته حزينًا مكسور القلب لا ألوي على شيء، في اليوم التالي وجدتها أمامي ومعها حقيبة ملابسها قالت لي أنها قد هربت من أجلي ومن أجل حبنا أخذتها من يدها لمحامٍ أعرفه وكتب لنا عقد الزواج وتزوجنا، عندما عرف والدها تبرأ منها وحرمها من ماله وأوصى وهو على فراش الموت أن لا تأخذ مليمًا واحدًا وأخواتها من الرجال لم يكونوا يقلون قسوة عن أبيها فتقاسموا نصيبها من تركة أبيها وهم بذلك راضون كل الرضا، أما أمها فلم يكن باستطاعتها فعل شيء كانت مغلوبة على أمرها وقد ماتت همًا وحزنًا وكمدًا على حال ابنتها قبل موت زوجها بعامين، أما أنا "أنيس عبد المعروف " فأنا رجل فقير على باب الله لا أملك من الحياة إلا قوت يومي، أعمل محضر بإحدى المحاكم ولا أملك إلا راتبي وهو في نظر الكثير ملاليم، وهو حق هو كذلك أننا نعيش الشهر أنا وتلك الزوجة وذلك الابن التعس حياة التقشف بكل معنى الكلمة، فأكثر أكلنا الخبز والجبن قليلًا ما يكون هناك لحوم وتكون في أول الشهر عندما أقبض راتبي، حتى ليس هناك سبيل لأي رفاهية مثل باقي الخلق، وأنا أشعر بغصة في حلقي طوال هذه السنوات، فما كان ينبغي أن أسعى إلى تلك المسكينة التي كانت هانئة في بيت أبيها مثل الملكة، كانت تنتظر زوجًا من الأعيان أو من أرباب الرتب العليا في الحكومة لتعيش حياة كريمة كما كانت تعيش في بيت أبيها، أما ما حدث فهو أني قضيت على تلك المرأة بكلام الحب المعسول وإلقاء قصائد الشعر المبتذلة وقضيتُ على ابني "مالك" عندما أنجبته وجئت بيه إلى هذه الحياة البائسة التي كلها فقر ومرض أني حقًا لأشفق عليكِ يا "بثينة" وأشفق عليك يا "مالك" سامحوني فأنا السبب لو أني أموت الآن وأصبح لا شيء ولكن إن مت الآن سيزداد شقاء هذه الأسرة شقاءً فوق شقاء، فلأظل حيًا حتى أعبر بهم بر الأمان وأطمئن على "مالك" وهو في وظيفة، لقد أنهى الجامعة الصيف الماضي ولكن حتى الآن يضنني البحث ولا أجد له شيئًا لقد تذللت إلى الكثير من القضاة ووكلاء النيابة ولكن بلا أي نتيجة، ليتني لم أشر عليه أن يدخل كلية الحقوق، لقد ظللتُ أوسوس في دماغه وأقول له أن مستقبله في كلية الحقوق، لقد طمعت أن يكون وكيلًا في النيابة أو أستاذ في الكلية ثم بعد ذلك يصير قاضيًا، لقد رسمت عليه أحلامًا كثيرة ولكن كما يقول المثل الابن مثل الأب والأب مثل الجد كلهم في الشقاء والهم سواء بسواء، ذاك يورث ابنه وابنه بالمثل يورث ابنه، فنحن حقًا لا نورث أبنائنا غير الفقر والشقاء، فابن الفقير المعدم سيكون ابنه فقيرًا ومعدمًا مثله، والغني سيكون ابنه غنيًا مثله وهذه هي الحياة شئنا أم أبينا، ولكن ما ذنب ابني "مالك" أن يورث فقر وشقاء أبيه؟
ظلت تطوف "بأنيس عبد المعروف "هذه الذكريات ومسح دمعة قد فارقت عينه وأكمل بحثه بعد أن أخرجه صوت الرياح وهي تضرب في البيت وكأنها ستقتلعه من جذوره، وأخيرًا وجد ضالته مصباح صغير يعمل بالبطاريات، ضغط على زر في الجانب الأيمن من المصباح، كشف الضوء الأبيض المنبعث محتويات الغرفة، لم يكن بها غير سرير من الخشب ومرتبة بالية من فعل السنون وبجوار السرير كومودينو يوجد فوقه كوب من الماء وقطعة من تفاحه قد نخرها السوس وعلى الجانب الأيسر من السرير يوجد بعرض الحائط دولاب قد تأكل خشبه وبجوار الباب توجد التسريحة التي يقف أمامها "أنيس عبد المعروف " وقف ينظر إلى هيئته ويوجه ضوء المصباح على وجهه، ظل يتفحص ملامحه لقد كبر حقًا، ها هو وجه متكرمش والتجاعيد تملأ كل وجهه وتحت عينه هالات سوداء من قلة النوم وشعره الذي تساقط ولم يبقَ إلا على الجانبين وأسفل الرأس أما مقدمة الرأس فقد تآكلت تمامًا.
لقد تذكر ما أيقظه صوت ارتطام زجاج بالأرض، وأين زوجته إنها غير موجودة؟ وجه المصباح الذي في يده نحو الباب، أدار بيده مقبض الباب، خرج من الغرفة إلى الصالة، أدار المصباح في أنحاء البيت وجد خصاص النافذة مفتوحًا والزجاج قد خلع من مكانه بفعل شدة الهواء ولكن مَن فتح خصاص النافذة الخشبي في هذا الإعصار الذي بالخارج؟ فبسبه تعرض الزجاج للكسر، نادى على زوجته قائلًا:
- "بثينة" أين أنتِ؟
اقترب من باب المنزل وجده مفتوحًا، هرب الدم من عروقه من الخوف، شعر أن هناك شيئًا غريبًا يحدث لعل هناك سارقًا قد دخل البيت وفعل شيئًا بزوجته وابنه، خطى بخطوات بطيئة ويده ترتجف من الخوف والبرد وقلبه يكاد يخرج من مكانه وقدمه غير قادره على حمل جسده من الخوف والرعب، واصل السير حتى وصل إلى باب المنزل، خرج لينظر ويتفحص المكان بالخارج وهاله ما رأى، إنها زوجته أمام الباب جثة هامدة مطعونة بسكين في قلبها والدماء تسيل منها في كل مكان، من هول المنظر سقط بجانبها، ظن في البداية أنه يحلم وهذا كابوس أفاق بعد ثوان ويده ملطخة بدماء زوجته "بثينة" وضع يده على قلبها لم يسمع شيئًا، لقد فارقت الحياة حتى أن جسدها صار قطعة من الثلج، لم يدر ماذا يفعل أيبكي؟ أيصرخ؟ تذكر ابنه "مالك" اهتز جسده كله قام من مكانه فزعًا وخوفًا على أبنه ليكون قد لحق بمصير أمه، أمسك بالمصباح بعد أن أسقطه من يده واتجه كالسهم المنطلق نحو غرفة ابنه وقبل أن يفتح الباب كانت الكهرباء قد عادت، أدار مقبض الباب ودلف إلى الغرفة لمح على الكرسي المقابل للمكتب ابنه جالسًا في هدوء واضعًا يده تحت ذقنه ويبدو أنه مستغرق في التفكير، شاب في منتصف العشرينات ذو وجه بيضاوي وبشرة قمحية مائلة للبياض وشعر داكن مائل إلى البني قليلًا وجبهة معتدلة متناسبة مع الوجه، عيون عسلية يعلوهما حاجبان متقوسان كثيفا الشعر يتوسطهما أنف دقيق صغير نسبيًا وفم رشيق وأسفل ذقنه طابع الحسن، يجلس في هدوء غير مكترث بصراخ ودموع أبيه، توقف "أنيس عبد المعروف" عن الصراخ وظل ينظر إلى هذا الوجه الجامد أمامه والخالي من أي مشاعر، ظل ثوان قبل أن ينطق ثم خرج عن صمته ونطق قائلًا بتلعثم والدموع تنهمر من عينه كالطفل:
- "مالك" بني الحمد لله أنك بخير لقد كدت أموت من الخوف أن يكون قد أصابك مكروه.
ترك المصباح من يده واستند على الباب ونزل متربعًا مفترشًا الأرض ونظر إلى ابنه وأكمل كلامه في أسى:
- أمك يا "مالك" لقد ماتت، وجدتها خارج البيت مقتولة هناك مَن طعنها بسكين في قلبها، لعله سارقًا قد أتى إلى هنا بغرض السرقة فشعرتْ به أمك وغادرتْ الغرفة لتعرف صاحب هذا الصوت الذي بالخارج فطعنها، إني اليوم يا بني لميت فلا داعي بعد الآن لحياتي ولكن يجب أن نعرف مَن القاتل أولًا حتى نأخذ بحقها يجب أن أجده مهما كلفني ذلك، ماذا فعلت له تلك المسكينة التي عانت خمسة وعشرين عامًا معي من الفقر والبؤس وهي ابنة النعيم والجنة التي كانت تعيش فيها ولكنها تركتها وراء ظهرها، كل ذلك فعلته من أجل شاب أهوج مثلي أغراها بكلام الحب وقصائد الشعر الرخيصة، إني آسف يا "بثينة" فأنا السبب لما أنتِ فيه الآن، أنا مَن قتلتك يا حبيبتي.
ووضع يده على وجهه وهو يبكي، أخرجه صوت "مالك" من بكائه قائلًا:
- لا تبكِ يا أبي لقد ماتت أمي وارتاحت مما هي فيه من شقاء ولا تحزن كثيرًا فأنت بعد ثوان ستلحق بها، يمكنك أن تأخذها في نزهة في الجنة.
لم يعي "أنيس عبد المعروف" كلام ابنه جيدًا وما هذا الذي يقوله؟ وما هذا الوجه الجامد؟ لا يوجد أي تعابير على وجهه لا حزن ولا غضب ولا أي مشاعر على موت والدته وكأن الأمر لا يعنيه، ما هذا البرود الذي أره في صفحة وجهه؟ ثم ما معنى كلامه أني سألحق بأمه بعد ثوان، ولكنه لم يدع أفكار أبيه تقتله كثيرًا فقد تكلم قائلًا:
- أبي هل تحبني؟
- ما هذا الكلام يا بني بالتأكيد أحبك ولكن هذا ليس وقت الكلام إن أمك مقتولة بالخارج، تعال معي ندخلها ونبلغ الشرطة لا سندعها مكانها من أجل المعاينة هات هاتفك نتصل بالشرطة.
- أبي لا داعي مما تقوله لقد انتهى كل شيء.
- أنا لا أفهم ما تقول يا بني ما الذي انتهى؟
- أمي وأنت وتلك الحياة البائسة التي نعيشها كل ذلك سينتهي الآن.
- لا أفهم ما تقول عن أي حياة تتحدث؟ لقد ماتت أمك كلا بل قُتلت، قتلها مجرم بدم بارد لا يحوي قلبه ذرة من شقفة أو إنسانية، إنه حيوان بل لا بل إن الحيوان لا يقترف مثل تلك الجريمة، إن هذا إلا شيطان مَن يفعل ذلك ليس إلا شيطانًا.
رد "مالك" ببرود:
- صدقت يا أبي في ذلك أن من فعل ذلك بأمي هو الشيطان.
قال "أنيس" مخاطبًا ابنه في رجاء:
- هيا يا ولدي اتصل بالشرطة.
- لا يمكنني يا أبي!
-لماذا؟
- لأنني يا أبي أنا ذلك الشيطان الذي قتل أمه..