سوريا، حلب، 2005
رن هاتف سالم فرمق يعقوب بنصف عينه الرقم، فعرف من المتصل عندما رأى رمز البلد وهو مشغول بقص شعر الزبون، قفز سالم من مكانه تاركًا المقص من يده متوجهًا نحو الهاتف فردّ قائلًا:
- أهلا يا ابني كيف حالك؟
- انا بخير يا أبي الحمد لله وأنتم كيف الأحوال؟
- كله تمام الحمد لله.
- أريد أن أزف لك خبر نجاحي فقد تخرجت ولله الحمد، وعثرت على الوظيفة التي تناسبني.
- أه، هذا خبر مفرح أنا فخور بك يا فلذة كبدي، سأذهب للبيت لإخبار أمك بهذا الحدث السعيد.
- حسنا بلغ سلامي ليعقوب، سأقفل الآن لأنني أتحدث من مخدع عمومي.
- حسنًا يا بني أعانك الله وحفظك بحفظه.
أقفل الخط وعيناه تلمعان بسعادة وهو يسرع لحلق لحية جاره مسعود.
- ماذا هناك يا سالم أراك سعيدًا؟
- ابني تخرج من دراسته وعثر على وظيفة أحلامه.
- مبارك لك.
كان يعقوب يراقب الحديث ولم ينبس ببنت شفة، استمر في الحلاقة كأن الأمر لا يهمه وكأن من تخرّج ليس بأخيه.
عندما أنهى سالم عمله أوصى ابنه بإغلاق المحل باكرًا لأنه ذاهب لشراء حلويات من السوق بمناسبة هذا الخبر السعيد.
كانت فريال تقوم بكنس ساحة المنزل وهي تغني أغنية شامية قديمة، سمعت صوت أحدهم يفتح باب المنزل.
- فريال أين أنتِ؟
- ماذا هناك يا سالم، ماذا تفعل في البيت في هذا الوقت؟
لم يدعها تكمل جملتها حتى فاجئها بالخبر، تركت المكنسة من يدها غير مصدقة فانهارت بالبكاء اختلطت عليها الاحاسيس من إحساس الفراق والفخر والسعادة في آن واحد..
إنها لم ترَ ابنها فادي لمدة تزيد عن عام كانت فرحة لا توصف، ابنها البكر جعلها تاجًا فوق الرأس ومفخرة أمام الجيران والعائلة فقد كانوا ينتظرون هذه الفرحة لمدة خمس سنين من هجرته إلى بلجيكا.
غسان
عندما دخلت إلى شرفة المنزل وجدت الخالة صفية وابنتها والخالة ميسون والعديد من الجيران جاءوا ليباركوا لنا نجاح فادي، لا أدري لماذا هذه القيمة والمكانة الكبيرة، هل فقط لأنه أكمل دراسته خارج البلد؟ أم لأنه مؤدب ومحترم الكل يعزه في الحي؟
أصبح المنزل شبيهًا بالمهرجان؛ المشروبات في كل مكان، الكل تهافت نحو البيت بعد ما سمعوا الخبر وأحلى ما في كل هذا الأمر: وجود جميع الحلويات من قطايف وحلاوة طحينية والعوامة المفضلة لدي، ما إن مددت يدي لأتذوق واحدة حتى أحسست بضربة نبع الحنان نحو يدي مباشرة قبل الشروع في التهامها.
- كفاك أكلًا يا غسان ألا ترى وزنك كيف أصبح؟
- لكن يا أمي، حلوى واحدة لن تضرني في شيء.
- حسنًا، انتظر إلى أن يكتمل عدد الضيوف على الأقل.
تأففت واضعًا يدي فوق خدي وأنا أتأمل منظر الحلويات ولعاب فمي يسيل من شدة اللهفة، بعد مرور بضع ساعات امتلأ البيت إلى آخره، كان الجميع يبارك، باشروا الأكل ومع حلول الظلام سمعنا صوت - الدبكة- الآتي من الخارج، وكل ما ركزت في الصوت أكثر كلما تزايد اقترابه من البيت فخرجت أتبع أبي لمعرفة مصدر الصوت فوجدنا عمي "سليمان" بعبايته متباهيًا وبجانبه زوجة عمي وهي ترقص بأساور الذهب اللامعة مع أضواء الحي، الكل يرقص ويردد ويغني، استقبله أبي أمام باب المنزل مرحبًا بزيارته وهديته بمناسبة نجاح فادي.
- يا سالم وأخيرًا تقدر على أن ترفع رأسك أمام العباد ولكن بفضل فادي..
توقف الجميع عن الأكل؛ كلماته جعلت الكل يصمت ويراقب ردة فعل أخيه في آن واحد.
توقفت أنا بدوري أتسائل: ماذا يقصد هذا الأبله؟ أيقصد عندما ضُبِط أبي متلبسًا في قضية سرقة منذ سبع سنوات؟ لكنه كان مظلومًا.
أكمل كلامه بعجرفة وغرور قائلًا:
- ولكن الآن الفضل كله يعود لابننا فادي حفظه الله.
"ابننا؟" أتذكر قبل مغادرة فادي أرض الوطن، كان يطردنا من متجره بحجة أننا لسنا من مقامه، والآن بكل وقاحة يناديه "ابننا"، وددت لو قلت له هذا في وجهه بصوت عالٍ وأمام الجميع، لكن أمي منعتني عندما رأت شرارة تخرج من عيني، فأنقذت الوضع قبل أن يتفاقم.
أجابه أبي بكل برود:
- الحمد لله، رأسي كانت دائمًا مرفوعة بنزاهتي وسمعتي أمام الجيران ومفخرتي بأبنائي.
تجمد البعض لبضع ثوانٍ، أحس عمي بقليل من الخجل، وزوجته التي تبتسم بدون سبب، حقًا مستفزة تظن أنها بذلك أخفت الإحراج إنها غبية حقًا، لم يكن يهمني أي واحد منهم سوى أبي الذي رأيت في عينه نظرة حزن والحلويات التي لم أقدر على تناولها بسبب العم "أبي عصام" الشره؛ لم يدع ولو حلوى واحدة في الطبق وكذلك نظرات أمي طيلة الأمسية؛ محذرة عدم اقترابي من أكلاتي المفضلة، لا أفهم لماذا هذا الحذر الشديد حول الأكل، هل فقط لأنني أزن ستين كيلوغرامًا وعمري إحدى عشرة سنة؟ والله غريب.
***
تفرق الجميع والكل عاد إلى بيته بعد يوم طويل من التحضيرات، أقفل سالم الباب بعدما ودّع "االمعازيم، لمحته زوجته متجهًا نحو الأريكة مشغّلًا التلفاز؛ ليتناسى ما حدث له من إحراج، ربتت على كتفه قائلة:
- لا عليك يا سالم، سليمان وتعرف أسلوبه؛ لا بد أنه لم يكن يقصد ذلك.
رغم أنها كانت تعرف نواياه وأن هدفه فقط هو الإنقاص من زوجها لما يحمله له من حقد دفين قديم.
كان غارقًا في التفكير ولم يوقظه من سهوه سوى شخير غسان مما جعله ينفجر ضاحكًا وهو يقول لفريال:
- لقد بدأت سهرة الليلة؛ السيمفونية اليومية.
***
مرت الأيام كسائرها من الأيام الاخرى، كان يعقوب يراقب الناس من الزوار لمحل الحلاقة.
فناداه أبوه قائلًا:
- ما بك يعقوب، ماذا هناك؟
رد قائلًا:
- لا لا، ليس هنالك شيء.
- أتذكرت أمك ثانيةً؟
أجابه وعلى فمه نصف ابتسامة بعدما غضّ الطرف عنه:
- من؟ أنا؟ أبدًا، لماذا سأتذكرها؟
- لا أدري، أنا فقط سألتك.
- سؤال ليس في محله، أستأذنك الآن يا أبي سأذهب؛ لدي موعد مع صديق لي.
غادر يعقوب، كأنه هرب من ثقل الأسئلة التي ودّ ان يجد لها أجوبة من والده بشكل شخصي.
يعقوب
ماذا سأقول لك؟ أني اشتقت لها.. كأن الأمر يهمك، خمس وعشرون سنة وشهران وخمسة أيام على رحيلها من حياتي.
كم تألمت عندما غادرت وتركتني في بيت جدتي، قبّلتني من وجنتي تاركة معي علبة شوكولاتة وصورة لها، كنت لا أزال في سن الخامسة من عمري، لم تكن المشاهد واضحة لي بالمرة كل ما أتذكره جدتي حضنتني فصارت تبكي وتصرخ:
- "ليش يا بنتي ليش؟"
كنت أتأمل علبة - الشوكولاتة- خاصتي، كانت سعادتي لا توصف أنني سآكلها لوحدي نِمت تلك الليلة لا أدري بشيء رغم سماع أنين جدتي على السفرة، ومع حلول الصباح أنتظر رؤية أمي كما كنت متعودًا في كل مرة أستيقظ فيها، بحثت في أرجاء المنزل لم أجدها فانتظرت أمام باب المرحاض ظنًا مني أنها في الداخل إلى أن جاءت جدتي ودموعها تتساقط وهي تسمع ندائي الذي ينطق باسمها فقط: أمـــــي..
فأخذتني جدتي في أحضانها وهي تقول بصوت خافض:
- تعال يا بني، والدتك ذهبت ولن ترجع أبدًا.
مرت ثلاثة أيام وأنا في سريري لا أتحرك، عانيت صدمة كبيرة وقتها وما زلت كذلك، على ما أظن، فتحت جدتي باب الغرفة وهي تقول أن أبي في انتظاري في الصالة، قمت من مكاني متوجهًا إليه، كانت قد مرت أربعة شهور على آخر مرة رأيته فيها، كان مقصرًا معي وقتها في الزيارات بما أنه كان منفصلًا عن أمي حينها وتزوج خالتي فريال.
أخذني إلى منزله لأعيش معه بصفة نهائية بما أن أمي ليست موجودة وجدتي حالتها المادية لا تسمح برعايتي رغم أنها ستتألم من فراقي ولكن فضّلت أن أعيش معه لأحظى بعيش كريم.
كنتُ في ذلك الوقت غريبًا عن كل شيء، لا شيء في مكانه، ليس بمكاني ولست بمنزلي ولست مع محيطي.
ما كنت أوده في ذلك الوقت استرجاع اللحظات مع أمي وبيتنا البسيط.
اليوم العاشر في هذا البيت الغريب، لأول مرة أخرج من غرفتي إلى ساحة البيت جالسًا فوق الكرسي أراقب حركاتهم ونظراتهم، وبطن خالتي فريال الكبير التي كانت من حملها في شهرها السابع، أتمعن في ذلك البطن ولم أفهم لماذا كان شكلها هكذا؟
- أتستغرب لماذا بطني هكذا، أليس كذلك؟
اندهشت من سؤالها؛ كيف عرفت ما أفكر فيه؟ طأطأت رأسي نحو الأسفل بيدين متعانقتين نحو الوراء وفي لحظة أراها تقترب بنعليها نحوي بسرعة عندما انتبهت لوجهي الممتلئ بالحمرة، لم أكن أعرف لماذا كانت تقترب مني، وقلبي ينبض أسرع كلما اقتربت أكثر.
- هل تريد أن تعرف لماذا بطني ممتلئة هكذا؟ هنا تتواجد أختك أو أخوك قلبه ينبض وكافة أعضائه تتحرك في أحشائي، هل تود أن أبلغه سلامك؟
رفعت رأسي نحوها بعدما اكتشفت في ملامحي فضولي لمعرفة الأمر أكثر، كان الموضوع كله جديدًا عليّ بالمرة وبعد مهلة من التفكير قلت:
- وكيف هو بداخلك؟ أظنه حزينًا.
- لماذا ما الذي يجعله حزينًا؟
قلت ببراءة:
- لأنكِ أكلته.
ضحكت ضحكة طويلة، ما زالت عالقة في مسامعي لحد الآن؛ ضحكة كانت مختلطة بالدموع، فجلست بجانبي ربتت على كتفي وقالت:
- كم أنت رائع يا يعقوب.
وضحكت أنا أيضًا بعدها مرات ومرات، منذ ذلك الوقت بدأت علاقتي بخالتي فريال أو بالأحرى أمي فريال.
وفي كل يوم كنا نجتمع على الطاولة نحن الثلاثة في وجبة الفطور، فلم أعد ذلك الطفل الخجول المنغلق دائمًا في غرفته، استطعت الاعتياد على البيت وأجوائه، أساعد خالتي فريال في إعداد الطاولة وفي ترتيب المنزل كنت ألاحظ تعرقها على كافة جسمها، وجهها بالتحديد، وتنهداتها في كل مرة كأنها قطعت أشواطا كبيرة في سباق ما ورغم ذلك لم أسمعها قط تشتكي من الصعوبات التي تواجهها في المشي، في الانحناء وفي التنفس أيضًا.
كانت تأخذنني معها إلى السوق وإلى زيارة أهلها وكذلك جيرانها كنا نذهب أيضًا لشراء البوظة والجلوس في الحديقة معًا رغم ظروف حملها الصعبة، لم تكن واضحة لي حينها لأن جانبها المبتسم ووجهها البشوش كان يغطي على حزنها وألمها أيضًا.
مرت فترة الصيف في أحسن الأحوال وازداد أخي الذي اسميته فادي، كانت عيني تبرق عندما حضنته أول مرة، كان صغيرًا جدًا يبدو كالسنافر؛ أنفه الصغير ويديه كحجم الكرزة، كنت متحمسًا حينها وحماسي جعلني أخبر أهل الحي واحدًا تلو الآخر بنبأ زيادة فادي.
وفي يوم عدت من المدرسة أنتظر خالتي فريال أن تستقبلني في الباب، لكنها لم تكن هناك سمعت ضحكة فادي الآتية من الغرفة رغم خيبة أملي ركضت نحوهما لأجدها تلعب مع رضيعها الصغير ولم تنتبه لوجودي أصلًا ولا للرسمة التي أنجزتها في القسم من أجلها، كان الواحد والعشرين من شهر مارس الموافق لعيد الأم، لكنها لم تنتبه عدت أدراجي ملقيًا الورقة في ساحة المنزل وأغلقت الغرفة على نفسي فكانت أمي صورتها تخطر على بالي في تلك اللحظة أكثر من ذي قبل، اشتقت لها كثيرًا وما كان يزيد من جنوني هو ما سبب رحيلها، لماذا رحلت؟
لماذا رحلت ولم تأخذني معها؟