أبطال القصة حقيقيون في كُل بلادنا العربية, يعيشون ويموتون بيننا في اليوم آلاف المرات, قد زاروني في منامي وصحوي كثيرًا, شاركوني حزنهم فحزنت, ودعوني لفرحهم ففرحت معهم, رأيتهم في كُل من حولي ورأيت كُل مَن حولي فيهم .
إلى نفسي..
أتذكر ما قُلتُ لك
لقد قُلت لا تذهب لأنني صاحبك
في سراب هذا العالم أنا ينبوع الحياة
حتى لو غادرت بغضب وبقيت بعيدًا لآلاف السنين
فسوف تعود لأني غايتك
لقد قلتُ لكَ لا تكن راضيًا بوعود الدُّنيا
لأنني قبلة آمالك وقناعاتك
لقد قُلتُ لك لا تذهب لليابسة لأنني بحر لا شاطئ له
لقد قُلتُ لك يا أيهُا الطير لا تطر لشباك الصائد
وأقبل نحوي لأنني القوة التي تحرك جناحيك
وترفعك لأعالي السماء
لقد قلت لك سيأسرونك ويضعونك في الثلج
وأنا النار والدفء لحنينك الأزلي
لقد قلت سيغطونك بالماء والطين
وسوف تنسى أنني بدايتك النقية
(جلال الدين الرومي)
استهلال
رأيتُك من نافذة حلمي تركض وتركض في الظلام نحوي حيث لا قمر ولا شمس ولا بشر، أنا وحدي أرفس شالي القطني بقدمي، أصرخ جوعًا وأبحث بأنفاسي اللاهثة عن ثدي أمي التي كانت هي أيضًا تبكي وتنزف منها الدماء الحارة فوق الفراش البارد، ثدياها مُنتفخان مُمتلآن بالحليب الثقيل، تسعل ببكاء فتخرج منها المشيمة وباقي حبلي السُّري، الكُل من حولها يسوقونها كالمجدلية إلى الرجمِ، خط الدماء خلفها لا ينقطع وصوت من آخر المكان يصدح:
ألقوا الصغير في غياهبِ الليلِ.
كان بكائي يُشبه مواء القطط، شققت الظلام بجناحيك الأبيضين وأنرت لي فرأيتك ورأيتني لكني ظللتُ أبكي مُستوحشًا.. حملتني، شممت فيك رائحة أُمي، اطمأنت حواسي وصمتُّ عن البكاء بعدما وضعت خنصرك في فمي الذي كان أول وجباتي, شبعت ونمت وصَمت الكون من حولي إلا عن حفيف الأشجار في أُذني، وضعتَ قلادة في رقبتي، أشرت لي إلى نجمٍ بعيد قريب مني وقُلت في صوت كالهمس: إن غبت يومًا فاسأل ذاك النجم عنّي، سمعتُ وقع أقدام أحدهم فأنزلتني من فوق جناحيك وأعادتني على الأرض ووقفت بعيدًا تُراقبني.
أتى المؤذن لصلاة الفجر فوجدني، يا بُشرى هذا غُلام ولكنه ليس لي، إن لديّ في البيت خمسة أطفال.
إلى ملجأ الأيتام القريب حملني إلى حيث تبدأ قصتي، كانت وجوههم كُلهم بلا ملامح إلا أنت وجهك بدر طوال الشهر و صورتك لم تبرح يومًا ذاكرتي.
قالوا الكثير عني، قالوا مجنون وازدُجِر، قالوا مريض بالفقر، قالوا كلمة العذاب (لقيط)، وقالوا ابن عاهرة، وقالوا ابن أخته، وقالوا الكثير والكثير لو تدري.
لكن لم تقل ذلك يومًا حبيبتي، بل أخبرتني إني أشبه الأرض، أنا أم لكل البشر وليس لي أم، وإني إذا ما حزنت لسوف تجدب وتتشقق رُوحي الخضراء ويجف قلمي وهذا اليوم الذي لن تسمح به أن يأتي, راحت حبيبتي وحزنت وأجدبت روحي وتشققت وجفّ قلمي لكنك عُدت لتحملني بسفينتك من طوفان الحياة المُزري فعادت الحياة تدبّ في ترابي، تعلمت أني لأجل أن أظل أرضًا لا بد أن تطأ أقدام الجميع قلبي يدوسونه ولا يجب أن أتألم؛ لأننا نجيد الحزن ونعتز به، بل نضعه دائمًا تحت ميكروسكوب الفكر وَهَنت لدينا قوى السعادة ولا نُدرك أنها تولد بغتة من رحم الحزن وأن كُل السعادة التي نصفها ما هي إلا خيوط عنكبوت ما تفتأ تنجلي يا من وهبتني للسعادة ووهبت السعادة لي وعلمتني "أن السعادة هي أن تطلق سراح الروح من سجن الجسد".
شُكرًا لأنك أنت أنت.
ملجأ أيتام المدينة
ليلة صامتة كأغلب ليالي الشتاء، الشتاءُ الذي لا يعرف كيف يرحم طفلًا صغيرًا يتيمًا قابعًا في ملجأ الأيتام، البرد يفتك ببراثنه الفتاكة، ستارة النافذة التي بدت أمامه كخيوط العنكبوت لا تقي ولا تغني من البرد, نظرت إلى إخواني الصغار بالغرفة، منهم من جاءه النوم على استحياء من برودة أطرافه ومنهم من يظن نفسه نائمًا وهو غارق في الأماني الصغيرة والخيال غير المُكتمل النمو ومنهم من هاجم أمانيه الخفية، خوف النهار وبرد الليل استقرّا فيه فنبذه النوم وتركه مستلقيًا على الفراش يرتعد بصمت الجدران، ومنهم من يتلذذ بدفء بوله الذي سيتلاشى سريعًا مُخلفًا برودة تسري بكل جسده.. وأنا أقلِّب رأسي بين هذا وذاك سمعت قرع نعال المشرفة فهممت أن أغمضَ عينيّ مُسرعًا، ولأن صوت نعالها على الأرض أحد أنياب البرد لُذْت بالصمت ومثلت النوم ولكن ثمة صوت آخر أشد رنينًا، إنه صوت الطفل الذي تمسكهُ بيدها باتجاه غرفتنا تجرُّه على كرهٍ منه وتخوّف .
كان ضوء الغرفة خافتًا كأنه لا يريد استقبال الصغير لكون الغرفة تضج بالأطفال، وصنعت منها رائحةُ أنفاسهم اللاهثة خلف حلم الدفء وبولهم حظيرة ماعز.
هيا إلى هذا الفراش وكُن طفلًا مُهذّبًا لا داعي للبُكاء، قالت المُشرفة بصوت حاد ينبعث من نبراته التخويف والتهديد مُشيرة إلى فراشي ثُم أدارت ظهرها وهي تتمتم بكلمات لا أفهمها لكني أستطيع أن أتعرَّف مضمونها مؤكدًا أنها تلعن اليوم الذي عمِلت فيه مشرفة بدار الأيتام.
أغلقت الباب خلفها بقسوة كأنها توحي للطفل الجديد بمدى قسوة العقوبة التي ستقع عليه إذا عاد للبكاء مُهددًا سهرتها مع صديقاتها.
كان صدره يضجّ بالبكاء ولكن خوفه من المرشدة أشد وطْئًا من البكاء، كان أشبه بقطعة ثلج حين وضعته المشرفة بجواري مُتصلبًا باردًا كالمستقبل الذي ينتظرنا منذ أن قرعت الحياة باب كل منّا, ما إن خفَّ صوت وقع كعبها الحديدي المُخيف على الأرض وأدرك الطفل أنها ابتعدت لمسافة ما لن تستطيع سماعه حسب اعتقاد عقله الصغير المهجور، حتى أخذ يبكي بحرقة قلب، أكاد أرى دخانه الكثيف ورماد روحه يتطاير حوله, قمتُ من فراشي ومن نومي الكاذب الذي كُنت أوهم به المرشدة حين دخلت غرفتنا كتنين خارق يهاجم صمتنا، حاولت أن أُهدِّئ من نوبة بكائه الهستيري بأن أُربت على كتفه فلم أنجح، فقمت وأشعلت الإضاءة في الغرفة عسى أن يستشعر بعض الأمان الذي فقده فيهدأ ويتقبل عالمه الجديد.
حين أضاء المصباح الخافت أرجاء الغرفة التي يرن بها صوت الصغيرسقطت عيني على وجههِ بدا كأنه ليس له ملمح واحد أستطيع فهمه وجهه متورم عيناه وشفتاه وأنفه كأن شبحاً يسكن ملامحه صمت الطفل فجأة كأنه قرأ الإستفهام في عينيَ ثُم زادت نوبة بكائه أكثر حتى إنتابني أنا أيضاً الفزع, أفاق بعض الأطفال مذعورين ومن كان صاحياً رفض التعليق أراد أن يكمل مسلسل النوم الكاذب للنهاية ويؤمن به .
صاح أحد الأطفال بتجهم لماذا لا تتركنا ننام بسلام؟ ثم تأفف بضجرٍ وسحب غطاءه على جسدهِ ووجهه كالذي يسحب النوم على جسده سرقة، والطفل ينظر إليهم جميعاً ولا يراهم في عينيه مشهد العنف الذي قاده إلى هذه الدار مُتثاقل الحواس إنهُ موجود وغائب حيَ وميت.
عودوا للنوم ولا تدعوا قطار الأحلام يفوتكم قلت مُحاولاً أن أرسم بسمة في غرفتنا التي بدت أكثر حزناً وكآبة إقتربت من الصغير الذي يرتجف برداً وخوفاً وعيناه غائرتان تحت جفنين متورمين كأنهما أرادا أن يحفظا عينيه من يد باطشة لا تعرف الرحمة.
قلت مُبتسماً أنا أيضاً تعرّضت للضرب كثيراً لكن كُنت أتحمل كي أصبح رجلاً، قالت لي أمي المُشرفة أن من يتحمل يصبح رجلاً سريعاً. لم يعِ كلامي رُبما ولم يُبد أي ردة فعل ولو بإيماءة رمقني بنظرة شديدة الأسى صمت ثم تجمد مكانه. جمع قدميه كالجنين وإستسلم جسده الهزيل المتورم للنوم دون مُقاومة عيناه الجاريتان جفتا وأزيز صدره خف أخذت غطاء فراشي وغطيته ثُم أخذت أربت على كتفيه حتى تلاشى تصلبه وغط في الدفء أو هكذا بدا لي لكنه مع ذلك كان يصارع أشباحاً ما بنومهِ ربما هي تلك ذاتها من أوسعت طفولته رُعباً كان يرتعد كثيراً ويتمتم بكلمات مُبهمة لا يكاد ينام حتى يصرخ ثم يعود وينام أخرى.
أخذت أراقب وجهه الباكي المتواري خلف جريمة، لم يكن له يد بها لتزيد ضحية جديدة تضاف إلى سجل ضحايا الملجأ خطيئة جديدة يهرب صانعها وتقبع في جسد طفولتنا حتى الموت.
******
السابعة صباحًا دقّ جرس الاستيقاظ، قمتُ مُتثاقلًا لم أكد أشعر بأنني نمت ولو دقائق إلا من خلال بعض المشاهد الخاطفة في سجل حلمي الليلة بالطفل الجديد. نظرتُ إليه وقد استيقظ مذعورًا وصوته قد احتبس خلف حنجرته، فلم يكد يستطيع البكاء وكأن صاحب الجريمة قد حفر في جوفه درس البكاء الصامت منذ أن نهش بمخالبهِ الحادة قلب طفولته ورسم على وجهه البؤس الذي سيظل شبحًا يطارده، كان بنطاله مبللًا تصطكّ أسنانه بردًا وخوفًا وهو يتوارى من سوء فعلته التي تراءت لكل الأطفال فأخذوا يتأففون منه وقد سبقوه بفعلها.
دخلت المشرفة الغرفة وقالت موجهة وجهها للطفل الجديد: كيف حالك؟ قالتها وهي موقنة بالإجابة الحقيقية في عينيه القابعتين في الظُلام وفي ثيابه المبللة وفي يديه اللتين تنتفضان ارتعاشًا .. نظرت إلى الطفل باشمئزاز وهو يرتعد من خوف وبرد بوله ولعابه يتساقط، ضم يديه لصدره وعيناه تنظران إلى الأرض في خجل بائس، أما نحن فقد حفظنا الإجابة التي لطالما لقنونا إياها كالشهادة: نحن بخير يا أمي.
أُمي.. تلك الكلمة التي باتت طعامنا البارد طوال شتاء عمرنا، لقد رُسمت هذه الكلمة في وجه كل مديرة أو مُشرفة أو عاملة أو حتى زائرة فأصبحت كثيرة مشتتة، ضاع دفؤها وخلت من المعنى، فبعض الكلمات في حياتنا لا تنطبق إلا على شخص واحد وتكرارها يمحي معناها حتى أصبحت مجرد روتين.
خرجنا جميعًا ليومٍ جديد في عمرنا غير جديد في طفولتنا، غسلنا وجوهنا من عبث الأحلام المُتكررة بنا كل ليلة.. سرير دافئ وأم حنونة وبيت هادئ وأسرة ضاحكة، جدة حنونة متجددة القصص الأسطورية، ومع آخر رشة ماء على وجوهنا تتساقط معها تلك الأحلام.
تقدمنا في طابور يومي لتناول الفطار مُتشوقين فقد عبث الشتاء طوال ليلة بأجوافنا وأفناها.
جلسنا للإفطار وكنت حريصًا أن يتناول صديقي الباكي فطوره، أخذتُ أراقبه والمُشرفة تسير به حتى أجلسته بجواري بعد أن غيرت له ملابسه, ثُم جاء صديقي "آسر" الذي تلقبه المُعلمات "إقليدس" لذكائه بالرياضيات وبراعته في هندسة الأماكن أثناء لعب الغُمِّيضة والذي كان قد سبقنا في العمليات الحسابية وأجادها ونحن الذين لم تتهيأ أعمارنا بعدُ لها. جلس بجواري وبقايا النوم عالقة في عينيه، قال في خمول: لماذا كان ذلك الولد يصرخ طوال الليل؟
رُبما فقد عائلته أو حدث له حادث مفجع، فقال بلهجته الطفولية: يبدو من وجهه أن العائلة هي التي تخلَّت عن رغبتها به وأرادوا أن يُلقوه بيننا لنزيد ازدحامًا ثُم ابتسم، لكنني لم أحب إبتسامته تلك، شعرتُ برائحة القسوة منها, تناولنا الإفطار باردًا كيومِ أمسِ وكل يوم وخرج إقليدس طفل الملجأ المدلل مع إحدى المُشرفات، كان جميلًا نظيفًا تبدو عليه ملامح عَالِم صغير كنا نغار منه ومع أنه أحد أصدقائي المفضلين لكني كنت أبتعد عنه كثيرًا كي لا يتهمني أصدقائي بأني أُفضّله عليهم لجماله ولأنه ابن لعائلة ثرية متدينة، علمت ذلك لأني كُنت شغوفًا بسماع قصص الأطفال الحقيقية من المُشرفات أثناء اجتماعهن بغرفتهن وأنا أستمع من الشرفة الحديث دون أن يعلمن بأمر مراقبتي تلك، وفي يوم سمعتهن يحكين عن أن أُمَّ إقليدس وإنها ثرية من عائلة متدينة وحين علمت العائلة بحمل ابنتهم بطفل غير شرعي زجَّته في الملجأ كي لا يتلوث ثوب تديّنها أو يتفوه أحد عن تلك العائلة المجهولة لنا المعروفة لغيرنا المتمسكة بتقاليدها ودينها.
كُنت أنتظر أن تحكي إحداهن شيئًا عنّي ذا فائدة غير ذلك الشال القطني الذي وجدوني فيه أمام باب الملجأ وتلك القلادة المكتوب عليها لفظ الجلالة (الله) بالخط العثماني لكن ذلك لم يحدث قَطْ.. خرجنا إلى فناء المدرسة حيث السماء ملبدة بالغيوم الرمادية الحُبلى والشمس بصعوبة تبعث بعض الخيوط تثبت وجودها الذي أضحى كعدمه، أخذنا ننظف الفناء ونسقي الورد ثم دخلنا نتعاون في ترتيب غرفنا, اقتربت المرشدة وفي يدها الطفل الباكي.. يا صالح، أنت ولد طيب وكل الأطفال يحبونك، ربما تستطيع أن تساعد أخاك الجديد هذا فهو حزين جدًّا لا نعلم ما به وقد أسميناه سعيدًا عسى أن يكفّ عن الحزن وهو لا يتكلم لكنه يسمع جيدًا. ذهبت دون أن تلتفت، نظرت إليه مُبتسمًا، يبدو أفضل حالًا من أمس لكن الكلام بداخله غارق في جوفه يحتاج إلى غواص ماهر يستخرجه وهو الذي لا تستوعبه طفولتي الباهتة.
قُلت له هنا إخوان لنا كثيرون لا يتكلمون لكنهم يومًا ما سوف يتعافون، نظر إليّ وعيناه تقولان كاذب، لم تهمني نظرته واتهامه ببساطة لأني لا أدركها.
جاء إقليدس ومعه كرة قائلًا: هيا يا صالح نلعب معًا.. أمسكت بيد سعيد وقلت: ومعنا سعيد. هزّ رأسه بالقبول، كان إقليدس سديد الضربة، لم أهزمه قط لذلك كُنت أنهزم أمام سعيد بلا ضجر كي يبتسم، فحين يضربني بالكرة أسقط عنوة فيبتسم ابتسامة خافتة لا تكاد تأتي حتى تذهب.
في منتصف النهار حين انتهينا من أعمال الدور كنّا نتضور جوعًا، ذهبنا لتناول الغداء؛ فاصوليا متشربة عصيرالطماطم وشرائح لحم صغيرة مع معكرونة، لم يكن سعيد معنا ولم أعرف السبب حينها لكن عرفت فيما بعد أن الشرطة عادت لترى الطفل صاحب الحادث الغامض الذي وجدوه أمام أحد المستشفيات يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة وسلمته المستشفى لقسم الشرطة الذي سلمه بدوره لملجأ الأيتام الصغار بالمدينة, بعد الغداء طلبت منّا المديرة الانتظام في طابور لأن لديها ما تودّ قوله ، جاءت المديرة ترتدي معطفًا ، ننظر إليه جميعًا كالمنقذ لنا من أنياب البرد، الاحتياج يُكبّر حجم كل شيء لأضعافه ، كانت عيناها حادتين تخرجان من تحت نظارتها التي كقعر الزجاجة ، وحين تحدق في أحدنا بغيظ يظن الطفل أنه هالك.
أبنائي الصغار غدًا سوف يأتينا زائر مهم من الدولة ومعه صحافة، أريدكم أطفالًا جيدين لن نسمح بحدوث شيء غير طيب هنا في دورالأيتام، نحن هنا أسرة واحدة (لم نسمع تلك الكلمات التي تحثنا على الانتماء إلا حين يأتي زائر).
مرّ النهار على عجل وأتى الغروب يحبو إلينا، لم أرَ الشمس وقت رحيلها كعادتي كل يوم ولم أجرِ خلف أشعتها الذهبية ويتملكني شعور أني والشمس نلعب معًا لأن السُحب الرمادية حجبتها طوال النهار ولأن ثمة من أبحث عنه في هذا العالم الذي تكدس بالأطفال من كل لون، إنه سعيد لم أره منذ الظهيرة، سألت عنه كل الأطفال، لم يعلم أحد أين هو، جلست وحيدًا في ركن بجوار سور الملجأ ورحت أرسم على الأرض بإصبعي وجهًا، التراب بارد لكنه يطاوع يدي كثيرًا لا يعصيني حين أرسم وأمسح، رسمت شمسًا وبجوارها قمر, كنت دائمًا أظن أن الشمس والقمر شيء واحد فإذا ذهب النهار وأتى الليل نزلت الشمس على استحياء لتغيّر رداء النهار لتظهر بالليل في ذلك الرداء الأبيض الخلاب ثم ما لبث أن غيّر العلم تفكيري حين ولجت بسنوات عمري علمًا ربما كان غير نافع، ثم يأتي الحب مجتاحًا جهلي فأنبذ ما قبله وراء ظهري وأصبح آدم آخر يتعرف على الكون من جديد.
ذهب آخر شعاع للشمس المُحتجبة تمامًا خلف السحاب، وبدا الظلام كوحش كاسرغطى الكون بجناحيه الأسودين كالوطواط الضخم، شعرت بالخوف، ذهبت جريًا إلى إخواني الذين استعدوا لتناول العشاء، يبدو أن لا أحد انتبه لغيابي، أخذتُ ألتفت فإذا بسعيد جالس وفي يديه اللتين ما زالتا ترتعشان طبق أرز، ذهبت وأخذت حصتي من الطعام في طابورالأطفال وأنا أنظر إليه, جلست بجواره بعد أن استلمت حصتي أمسك بالملعقة ليتناول طعام الأرز المطبوخ بالحليب وكلما اقتربت الملعقة من فمه تهتز وتسقط الحبّات على ثيابه فيداه الصغيرتان وَهَنتا حتى عجزتا عن حمل ملعقة في حجم إصبعيه، مسحت بكفي الأرز المُتساقط على صدره ثُم أخذت منه الملعقة وقلت: لا عليك، أنا سوف أطعمك.. قلتها مُتحاشيًا النظر لعينيه المتورمتين أتقي نظرة الحسرة (اليتيم يُجيد الإحساس مُبكرًا) أخذت أطعمه وهو لا ينظر لي أو إلى الملعقة أبدًا، ربما سافرت عيناه إلى مكان ما في عقله الباطن يرى مشهدًا لا يبرح مسرح حزنه أبدًا. دقّ جرس الخروج وأدركت أني سأبيت جائعًا أيضًا كما أبيت خائفًا وسيلتهمني ثلاثي: الأرق، الخوف، الجوع والبرد, كان إقليدس يراقب المشهد من بعيد ثُم اقترب قائلًا لي: أنا سوف أتولى غسل يديه وأنت تناول طعامك سريعًا قبل أن تنتبه مشرفة الطعام. أخذت أتناول وجبتي سريعًا حتى انتهيت وأنا أملأ بالوهم معدتي وأُقنعها عبثًا أني قد شبعت.
ذهبنا لغرفة نومنا التي سبقني إليها سعيد وإقليدس، كان إقليدس ذا شعر أشقر ناعم يتدلَّى على عينيه اللوزيتين اللتين تلمعان كالذهب بلون شعاع الشمس في الغروب، كان عطوفًا طيب القلب، جئنا هُنا في الليلة نفسها لا أدري لماذا أكبر الأحزان والأخطاء المُتشابهة تولد ليلًا؟
حبونا معًا ومشينا معًا وتكلمنا معًا، لم نفترق منذ خمس سنوات يومًا واحدًا إلا حين تأخذه المُعلمات ليجسد مشهدًا في مسلسل أو فيلم، فهو يُجيد ذلك ثم يعود لنا محملًا بهدايا جميلة، كنت أطلب منه أن يهدي إخوانه بالدار ولم يكن يرفض طلبي، كان كريمًا وعلى الرغم من كونه مغرورًا ومدللًا من قِبل المعلمات لكنه يشعر أكثر منّا بالحرمان.
استلقيتُ في فراشي بجوار سعيد، غطّيته بالغطاء الطاعن في العمر الذي لم يكن لنا أنا وهو سواه، النوم لنا يعني أشياء كثيرة غير الراحة؛ منها الهروب من أعين المشرفات القاسية التي كلما نظرنا فيها رأينا أبوينا عُراة من كل شيء يتلوَّون من ألم العار لأننا جرم لا يُغتفر. كان سعيد يصغرنا بعام واحد ولكني كنت أراه يصغرني بأعوام عدة، كنتُ أراه دائمًا ابن لي شُغلت به عن كل الأطفال حتى عن إقليدس، لم يكن يهتم لأمري أحد ولم يعطف عليّ أحد؛ لذلك قررت أن أعطف أنا على كُل الأطفال وأن أُعاملهم جميعًا بمحبة ولكن سعيدًا كان أكثرهم تعلق قلبي به ربما لأنني أرى نفسي فيه منذ رأيته يبكي بتلك الحرقة التي لطالما تمنيت أن أبكي بها حتى أُفارق الحياة، شيء ما يجمعنا، رُبما هو ذاته الذي سيُفرقنا!
أغمض عينيّ ثم أعود لأفتحها، ألقيت نظرة على سعيد فإذا به قد أخذ وضع الجنين يكاد وجهه يلتصق بفخذيه، ربما ذلك نوع من الاستسلام لمصيره طويل الأمد هُنا.
لقد نام وعسى ألَّا يزعجنا مجددًا.. قال إقليدس مبتسمًا، فقلت له: وأنت لماذا لم تنم؟ رفع رأسه من تحت غطائه متنهدًا تنهيدة تبدو كأنها أمل قابع في الجوف يخرج مع تلك التنهيدة؛ أريد أن أكبر سريعًا وأخرج من هنا، أريد أن أبحث عن أُمي التي لا أعرفها وإخوتي الحقيقيين، أُريد بيتًا كبيرًا واسعًا به كل أنواع الطعام وخادمة تجلب لي كل ما أطلب وتلفازًا به الألوان تتلألأ وثيابًا جديدة وألعابًا كثيرة، أُريد أن أعيش خارج هذا الملجأ.
قاطعته بصوتي المصحوب بحزن الواقع ولكن بطريقة الطفولة قائلًا: رُبما هذا يوم لن يُكتب له مجيء، نظر إليّ نظرة وكأن خنجرًا مزّق أحشاء أحلامه ثم قلب وجهه للحائط يواري جرح أحلامه النازف، لم أسمع سوى صوت أنفاسه المضطربة اختناقًا، كان يستحي من حزنه دائمًا.
فطرة
مرت الأيام مهرولة، أو هكذا خُيّل إليّ من فرط وهنها، أتممتُ السادسة من عمري، كان هذا اليوم غريبًا؛ إذ فصلت الفتيات عن الفتيان في المبنى، لم يكن يجمعنا بهن إلا أوقات قليلة حين ننظم حفلًا أو يأتينا زائر وبعد أن يذهب الزوار كنّا نلقي عباءة أحزاننا الثقيلة حين نراهن يمثلن بطفولتهن البريئة أنهن أمهات ونشم منهن رائحة الأمومة التي لا يعرفنها لكنهن يجدن تمثيلها في مشهد بدا لطفولتنا جميلًا، لكن ما إن كبرنا حتى رأيناه بما هو أَهل له، إنهُ مؤلم حدّ العظم, في الطفولة نجيد الأدوار الخيالية وبعد أن نكبر نفشل حتى في إجادة أدوارنا الحقيقية.
اجتمعنا في طابور بدا متهاويًا، قد نكون اعتدنا مشهد الفراق حيث كانت تفارقنا أغلب المعلمات اللاتي جمعتنا بهن محبة وإحساس أمومة صادق، إما بالانتقال لملجأ آخر أو ترك العمل للسفر أو للزواج لكن هذا كان الأكثر ألمًا.
جاءت المديرة، كانت في هذا اليوم أكثر بشاعة من ذي قبل، في يدها عصا كأنها الساحرة الشريرة التي نقرأ عنها في القصص، وتلك العصا هي التفاحة المسمومة، فرّقتنا في طابورين؛ طابور السنوات الخمس وطابور السنوات الست، ثم قالت غدًا سيفصل الأطفال الذين سيتهيؤون للدراسة في مبنى لهم ومن هم أصغر سنًّا سيبقون هنا. وقع في قلبي وقتها سعيد الذي يصغرني بعام وأضافت: ستُفصل الفتيات في مبنى جديد خاص لهن، كانت الأولى أصعب ما جاءت به عصاها، بعد قليل سوف يأتي الزوار وعِندما يسألونكم عن أي شيء فعليكم أن تقولوا فقط: "نحن وسط عائلتنا ولا ينقصنا شيء".
في ذلك اليوم حدث ما لم يكن في الحُسبان، فعِندما سأل الزائر أحد الأطفال: هل تشتري لكم الدار ملابس جديدة في غير الأعياد؟ وهل تحبون الملجأ؟ فأجاب الطفل الذي لم يكن وقتها يُجيد الكذب: لا، لم نلبس ثيابًا جديدة منذ العام الماضي ولا نحب الملجأ بتاتًا. فكانت عقوبته أشد قسوة من عقاب الأيام، كانت نجاته في أن يكذب ويُزوّر شهادته في الزيارة القادمة.. يُعلموننا الكذب ثُم يُعاقبونا عليه.
أخذت أفكر في عالم جديد؛ عالم المدرسة.. سيكون لديّ كتب دراسية وألوان وحقيبة وسأكبر سريعًا، وكان قطار المدرسة أشد سرعة من سابقه لكن في الحقيقة كلاهما بالسرعة نفسها وكلاهما ينزلقان عن قضبان الأمل, ذهبنا لغرفنا كي نستعد لعالم جديد لم يبد لي ما يميزه عن هذا بل على العكس كنت أُراقب سعيدًا وهو يلعب ثم يأتي ويتكلم معي كلمات لا أفهمها، هو بصعوبة يحرك لسانه كأن جبلًا من عجز قد رسخ فوقه, قلت له: اليوم سنفترق لكنني سوف أطلب من معلمتي السماح لي بأن آتي إلى هُنا كي أراك. عاد سريعًا إلى عهده الأول بهذا الملجأ حزينًا مُنكسرًا لكني سرعان ما اختطفته قبل أن يستسلم ويقفز في بئر الحزن قائلًا: ستأتي معنا في العام القادم وستكون في عامك الأول في المدرسة، ابتسم ابتسامته الباهتة محرّكًا رأسه للأسفل بالقبول.
كان أول يوم في الدراسة ممتعًا، تعلّمت بعض الحروف والأعداد، قرأنا سورة الفاتحة، أما إقليدس فقد حفظها فور سماعها من أول مرة, أخبرتنا المعلمة عن الله وعن الجنة والنار، أخبرتنا أنه عندما يسألنا أحد أين الله؟ نُجيب إنه في السماء، ومع أني كنت صغيرًا لكن فطرتي كانت تكره الأماكن، ما إن خرجنا للفسحة حتى قام أحد الأطفال بسرقة طعام صديقه، فلما نهرته وأخبرته أن الله سيعذبه، قال بطفولة مقصوفة بقناص المُربي إن المعلمة قالت إن الله في السماء فهو لن يراني لأن السماء بعيدة.
نعم إن السماء بعيدة.. قُلت وأنا أنظر للسماء كأنني أقيس المسافة ثُم صمتّ ولم أنبس بكلمة, مرّت أيام أخرى لم أرَ فيها سعيدًا وكنت كلما حاولت رؤيته تبوء محاولاتي بالفشل, مر العام بقسوةٍ لم أشهدها من قبل ثُم أخذنا إجازة، وقد تعلمت أن أكتب وأقرأ كلمات سهلة، كنت شغوفًا بفكّ الكلمات لأحرف ثم أعيد الأحرف في كل مرة بشكل آخر وكنت قد تلقيت تحذيرًا من مديرة المكتبة أن لا أقترب من الكتب، ولا أستعمل كراس الرسم إلا إذا سمحت لي المعلمة في حين أنه عندما يأتي أحد الزوار ويسألنا عن مهاراتنا وأوقات فراغنا أين نقضيها نُخبره أننا نرسم ونُلون في المكتبة، هذا ما تُحفظنا إياه المُرشدات قبيل الزيارة.. لا زال التراب هو أفضل ما يستجلب خيال الرسم لديّ وعجينه بالماء أصنع منه سيارة أو حصانًا فهو أشد رقة من كراس الرسم الذي إذا ما أحضرته فسوف أعاقب عقابًا ربما يجعلني أكره الرسم، أفضل أوقاتي هي تلك التي أقضيها مع القطط التي تأتي خلسة متسللة لداخل الدور قبل أن تمتد إليها الأيدي القاسية بالضرب وإلقائها بعيدًا، أو الوقت الذي تأخذ فيه الشمس لون البرتقالة مقتربة من الأرض تُقبلها وقد تلاشت أشعتها، كان لإقليدس نشاط آخر فقد أتقن مشاهد مع ممثلين كبار وفي كل مرة يأتي لنا بأخبار جديدة عن العالم الخارجي عن التلفزيونات وعن الشوارع وعن الحياة خارج ذلك المبنى، كنا نسمع أخباره متشوقين لأن يفرد لنا جسر الخيال عبر حديثه عن الدنيا خارج هذا المبنى. في الناحية الأخرى انقطع عنه ما تبعثه له العائلة المجهولة من هدايا غالية الثمن وثياب أنيقة وكأن العائلة قد بدت لهم سوءاتهم وطفقوا يخصفون عليها من الدُّنيا وزينتها.
******
بدأ العام الدراسي الذي لطالما انتظرته، إنه العام الذي سيأتي فيه سعيد ليكون معنا، تتقاذفني الأفكار كيف سنقضي اليوم الدراسي معًا، كيف ستكون ملامحه؟ ربما كبر قليلًا أو أصبح يجيد الحديث ولا يتلكأ كالسابق، أخذت الأفكار تعدو ثُم صمتّ رويدًا واستسلم سباق أفكاري للنوم. أشرق الصباح خلف الستار الذي تمزقه الشمس متسلطة علينا لتوقظنا من ظلام ليل قد هوى.. رأيت سعيدًا أخيرًا، نعم رأيته وكأني رأيت أُمي التي لا أعرفها أو أبي الذي لم أحط عِلمًا بملامح وجهه, مبتسمًا غير تلك الابتسامة الهشّة، ربما لأنه رآني أو هكذا ظننتُ، قلت له بكل تشوّق وعاطفة الطفولة: كيف حالك يا سعيد؟.. قال: "بخييي..". فهمت أنه ما زال يعاني ثقل الكلام، قلت له وأنا أتحاشى أن يشعر بأني حزين: أتعلم، لقد أخبرتني المعلمة أن هناك نبيًّا من الأنبياء اسمه موسى كان لا يجيد الحديث جيدًا بسبب بطش فرعون الكافر الذي ألقمه جمرة في فمه.. هز رأسه وكأنه لم يعِ ما قلت ربما لأنه لم يعرف ما معنى ذلك.
عام يهتك ستر الأحلام
ألفا عام قد انصرمت وها قد أقبلت ألف عام جديدة، قد استعدت لها الدُّنيا برمتها، احتفل العالم بهذا العام الذي ستعُم فيه التكنولوجيا كل بيت من بيوتهم ولم يدركوا أنهم يحتفلون بـ "عشتار" إلهة الجنس والحرب والإجرام عند البابليين التي تحكم الشرق الأوسط والتي تدخل كل البيوت بيدين في إحداهما سيف وفي الأخرى الجنس فأتاحت للجميع بسطاء وغير بسطاء ممارسة الجنس بلا عناء البحث عنه من خلال الشاشات والقنوات الكثيرة، وهذه المرة تطغى عشتار دون مقاومة "جلجامش" المُحارب الشُّجاع الذي وقف بوجهها, أصبح الناس يرون الحرب والموت والدمار والجنس في كل مكان على ظهر البسيطة، تناقض لا يرحم طفولتنا التي غدت مع الألفية الماضية وحلّت مع الألفية الجديدة تيهًا وغضبًا وفحولة مكبّلة بألف قيد من صمتٍ وحذر.
بلغنا العمر الذي تكفل بتواري براءتنا لا نعي تلك الأحداث الكثيرة المُتوالية، محض أطفال كُنّا قبل بضع سنوات، ما زلت أراني أركض وأسقط وأقف مُجددًا أما الآن فكيف أقف وكل سقوط يسقط مني شيء رُبما لن أملك القوة كي أنحني لأستعيده، أضحت ملامحنا غريبة مُتغيرة وعابرة تختلف كل عام وداخلنا يُضاهيها في الاختلاف والتناقض لكنه أكثر وقعًا على أرواحنا، كنّا في آخر عام في الثانوية وقد تفرقت بنا سُبل الحديث نوعًا ما فلم يعد يجمعنا نقاش إلا القليل مما كُنت أطرحه فقط لتلافي خبث الصمت الذي أقام بيننا كشيطان رجيم يؤلف بين نزاعاتنا ويُضاعفها, إقليدس صديقي الوسيم بات متيمًا بالروايات العالمية وبالأدب الأوروبي القديم، كان مثالًا للطالب الذكي المجتهد والوسيم أيضًا استطاع أن يُحلق في سماء العلم سريعًا، إنه يملك ما يجعله سعيدًا نوعًا ما لكني لم أره كذلك يومًا, كُلما تحدثت إليه تألمت لما يحويه قلبه من فراغ ووحشة ومن ممرات ضيقة مُلتوية تأخذك لآمال مقصوفة في مخيم قلبه, كان كثير البحث كثير العبث بأفكاره، لم يكف يومًا عن البحث في حقيقة الأشياء، طفق يبحث عن الحقيقة بكل شيء إلا في قلبه، ها هو قد أصبح شابًّا جميلًا وعيناه زادتا جاذبية لم أرَ أجمل منهما إلا عيني "ماري" حبيبتي.
آه يا صديقي! ليتني لم أتركك أبدًا وبقيت معك حتى إن رفضت وجودي! لكم تمنيت أن تعود طفلًا مُمتلئًا بالحماس والمحبة، لا يمر يوم لا يعتصر فيه قلبي ألمًا من حزني على ما أصابك في صباح نجاحك وتوهج شمسك وبريق نجمك، ليتنا ما افترقنا وأتركك تجدف وحيدًا في بحر الظلام بمجدافٍ واحد وقارب متهالك فيه ألف ثقب يسمح للماء أن يخترق ألواحه، لكن ما الجدوى وأنا أعلم أنك لن تقرأ اعتذاري ولن تشم رائحة ألمي ولن تمسح دموعًا لن تراها ولن تضم أضلعًا تتوق إليك شوقًا.
أذكر خبث مقاصدهم وبراءة نواياك إذ قالت لنا إحدى معلمات اللغة العربية في أحد الأيام: "إن الله جميل يُحب الجمال"، فما كان من عقل طفل صغير إلا أن قام برسم صورة ملونة بألوان متعددة خُيل لبراءته أنها صورة جميلة تشبه الله، لم يدرك هول الكارثة التي زلزلت أمنه حين عرضها على المعلمة التي أخذت تؤنبه وتضربه وشاع الخبر في المدرسة أن الطفل "آسر" قد عمل عملًا فاحشًا لم يسبقه إليه أحد من العالمين، فكان كلما رآه زميل بالمدرسة يسأله عن فعلته التي أصبحت حديث الجميع، وكأنه قد سنّ أول سنن الكفر القبيح الطاعن في الظلم والظلام، فكان يتخفى منهم من سوء فعلته كما يتخفى المشاهير المجرمين من أعين الكاميرات.
سكبوا رصاص الأسى على قلب صغير ما فعل فعلته إلا عن حب لا يدرك معناه من هم بالأساس صنعوا إلههم بأيدهم كالذين صنعوا العجل بالذهب تدخله الريح فتُحدث خوارًا، هم صنعوا إلهًا غاضبًا سيعاقب طفلًا بالنار حرقًا حتى تتفتت عظامه فقط لأنه تخيله، لكن لا عجب فذلك الغزال يخاف منه الجميع ويهرب بعد أن أصابه السعار من جراء عضة الكلب، لن يُلام الكلب بل سيفرّ الجميع من الغزال، استرهبوه فرهبهم، استوحشوه فاستوحش منهم.
أما سعيد لم يكن يومًا سعيدًا، تقول الأسطورة إن كل إنسان له من اسمه نصيب لكني على قناعة أيضًا أن لكل إنسان من عكس اسمه نصيبًا, ها هو ذا أصبح شابًّا يزيد عنّا في بُنية الجسد كأنه من سُلالة العماليق، أسمر بعينين سوداويتين وشعر أسمر كثيف على رأسه وذراعيه، إذا رأيته من بعيد حسبته ماردًا ضخمًا، لم أره يومًا إلا بالعينين نفسهما القابعتين في زمان لم أدرك ماهيته إلا مؤخرًا، زمان تنبت فيه الأشواك بلا زهور, زمان لا يعرف طعم الحب، تمنيت لو أصنع لهُ سعادة أو أعطيه من الدُنيا كل شيء بات يتخاذل في طلبه لكنه رافض لكل شيء حتى قصائدي التي لا تنتمي لأي من ألوان الشعر والتي كنت أكتبها عن الحب والنساء مُتغزلًا بامرأة كُنت أظن أنه رُبما لن تسوقها لي الأقدار يومًا.
قُلت له ذات مرة مازحًا: لن تقبل بك أي فتاة ما لم تغازلها. فرد بصوت مُتهدل مُتخاذل وهو ينظر تحت قدميه كما لو أراد أن يخفي حديثه تحت الأرض: لا أرى أي جمال في أي فتاة، كلهن على الشكل والطباع نفسها، لن تعجب بك فتاة إلا إذا وجدت فيك ما يملأ حافظتها وعاطفتها الفارغتين، كلهن يردن رجلًا ثريًّا وجميلًا بملامح كتلك التي يحملها أبطال هوليود، المرأة لم تُخلق إلا لمتعة الرجل لا لتُملي عليه طلباتها السخيفة.
شممت في حديثه رائحة ذلك الشيخ مخضّب اللحية الذي يأتينا في الدار كلما شعر بالملل كي يُلقي علينا شظايا خطبه الحارقة ليذكرنا دائمًا أننا في هذه الحياة نسبح وسط ضفتين إما جنة وحور وقصور وإما نار لهيبهُا مسعور، كُنا من وجع خيالنا نظن أن الله يشبهه كثيرًا غاضب ومُخيف ذا صوت جهوري ملامحه مُتصلبة قاسية مثله أو كمديرة ملجأ أيتام الصغار, في كل ليلة بعد خطاب الوعيد الذي أسمعه أعود منه وقد تلاشى من ذاكرتي كل حديثه عن الدين من حلال وحرام إلا عن الحوريات وجمالهن، فيشتعل الخيال بي على وسادة الجمر مُتخيلًا كم واحدة سوف أفض بكارتها في اليوم على شواطئ الأنهار وأنا أتقلّب بينهن أستعر تارة بقوة كلما حدَّ صوت الشيخ بأذني وتارة بلينٍ كلما خرجت حممي ملتهبة ثم يقضي مني الندم والأرق وطرًا وتتكالب على ذهني التساؤلات الممقوتة البشعة التي تقصف كياني المؤمن.
من أنا؟ وحدها الوسادة المفخخة بأوجاعي تعلم، و مَن هم أولئك المتحدثون بلسان الله؟ ومن أنت أيها المُحتجب بسماء مترامية كموج جارف أزرق من ماء الحياة يخطف الأبصار والقلوب.
لا يضر الليل المزيد من الظلام
قضت سعادة العرب نحبها بعدما كَشَفّتْ الألفية الجديدة عن نواياها بآخر شهورها, قُلبَ حال الناس وحال التلفاز الذي امتلأ بأغاني الفيديو كليب السريعة ذات ألحان تشبه ألحان الهنود الحمر في الحروب وراقصات من كل لون مع كلمات لا تتفق مع واقعها التمثيلي بأي وجه لكنها كانت تخفف عنّا بعضًا من أعباء يوم يكتظّ بالدراسة والاستذكار والبحث، حيث كان العام الأخير لنا بالثانوية، حيث أصبح لنا مُعلمون نشبههم في الملامح الذكورية ونبرة الصوت الخشنة , تقلّبت قلوبنا سريعًا كما هو نمط الحياة المُتناقض، اكتظت الشاشات بالأغاني الوطنية وأصبح الكُل وطنيين يُرددون شعارات وهمية إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية التي كانت هي بالحقيقة انتفاضة لآخر ما بقي من أرض طفولتنا المغتصبة, أصبحنا نرى الموت أمامنا كل وقت كما نرى وجوه المارة، نقلّب مشاهد الموت في يومنا بكبسة زر على الحاسوب أو بريموت كنترول الفضائيات حتى صار الموت لدينا مألوفًا لا يخيفنا, إن الطفل الصغير الذي تُخيفه أمه بالشبح ليختبئ في أحضان النوم ربما لو رأى هذا الشبح ذاته لزال هلعه رويدًا رويدًا.
المساجد والكنائس باتت تؤرق صفو شوارعنا، الكل مُتهم ومُدان حتى نحن الذين يحتسبهم المجتمع عالة عليه، كلما جاءنا من الخارج زائر معلم أو شيخ يشعرنا بأننا مسؤولون عن كل أخطاء الوطن، حتى أضحت كلمة وطن باردة كسابقتها كلمة أمي أو أبي والتي كُنّا نُلقِّب بها كُل الحضور حتى فسد طعمها وأصبحت تصيب البطن بكركبة وتقلصات.
في نهاية العام كان لنا نشاط نوحي به لبعضنا زخرف القول غرورًا بأن نعلّق الأعلام الفلسطينية على أكتافنا نوعًا من صناعة الذات رياء حسنًا بحماسة ما تكاد تشتعل حتى تنطفئ تزيد مع الأغاني الوطنية ثم نعود كما كُنا فارغين من عاطفة الانتماء، يومها أخبرني إقليدس أنه قد أحب فتاة وسوف يعرفني عليها، كان يقول لي ذلك منتشيًا وقد رُسمت بعينيه فرحة لقاء قريب بفتاة أحلامه، إنه جميل حين تزور الفرحة النادرة وجهه النّدي, قُلت له مُشاكسًا: سوف أخبر هذا الفتاة بسخافاتك بتلك الصور المُخبأة تحت فراشك لنجمات الأزياء العاريات. نظر إليّ ماطًّا شفتيه في غُرور محبوب مُبتسمًا بعينيه وقال: لا بأس، هي تُحبني لعيوبي، ما كُنت لأثق في حُبها لو لم تقبل بي كما أنا.
كنت جالسًا وقتها بجوار شجرة في حديقة المدرسة، نظرت إلى السماء وقد وقع في قلبي كلماته، يحدث أن يأتي من يتحدث بلسانه عما في قلوبنا نحن، هي رسائل لنا دون أن يعي قائلها شيئًا، هي فحوى إشارة لطيفة لإعادة غَزْل ما نقضته الحياة فينا! قُلت في صمت: أيُّها المُحتجب، أعلم أنك تعلم بأعمالي كلها خيرها وشرها وتقبلني بكلي ولكن بئس العبد أنا إن لم أقبل بك كلك.. حتى أنا لا أعلم لماذا أخاطره من حين لآخر، أحيانًا الخوف منه يُكبّلني فأهرب للمعاصي الافتراضية مختبئًا خلف شاشة العالم الافتراضي، وتارة الخوف منه يجعلني أمقت كل شيء حتى حديثي إليه.. فجأة سحب إقليدس العَلَم من فوق كتفي بقوة ورجّني حتى ظننت أن تيارًا كهربائيًّا مسّه، وقف متصلبًا كجبل باذخ مُندهِشًا، سألته: ما بك؟ قال: انظر، إنها هُناك قادمة. نظرت فإذا بفتاة ربيعية الجمال زهرة متفتحة لما رأيتها حسبتها حورية من اللاتي يحكي عنهن الشيخ لكنها حورية ترتدي زي الدراسة؛ قميصًا أبيض وصدرية وبنطالًا بلون بُني غامق بدت فيها سفيرة حب صغيرة.
قالت مبتسمة وهي تزيح شعرها للناحية الأخرى وأنا أنزاح معه: مرحبًا.
فرددت عليها برأسي، مدّت يدها من أسفل الكُتب تصافح إقليدس فقبّل يدها قائلًا: أهلًا زهرتي. لم يكن يعلم المسكين أن من أجمل الزهور هي (زهرة القلب النازف) التي تنمو في شمال الصين من أسفل ملتقى شقي القلب يبرز جزء أبيض سام إذا تذوقه إنسان قد يقتله, إن حبيبته هي من سُلالة تلك الزهرة, لا يا صديقي لم تكن تقبلك على عيبك، حتى هذا الذي لم يكن عيبك بل عيب من وارتك هنا خلف الظلام كي تحافظ على العائلة المُبجّلة من تلوث شرفها المُبتذل وألقتك في سلة مهملاتها كما تُلقي ثيابها القديمة متبرعة بها لمن يُقبّل يدي سخائها الكاذب، نحن نسرق الحب يا صديقي من فقرائه واللص الغبي هو الذي يسرق من بيوت الفقراء.
وجاء إقليدس ذات مساء تعيسًا، تجعدت فيه ملامح صفوه ووهنت فيه قوى العشق سريعًا يعتريه نوع من شيخوخة القلب المفاجئة التي قضت عليه ذات يوم ملوّحًا للحياة من طرف خفي فهو مودع لها ومقيم فيها, لن أتحدث إليه، إن الحديث معه الآن هو استمرار مصارعة لا أخلاقية مع خصم ضعيف سقط مغشيًّا عليه ينزف من كل اتجاه.
أخبرني سعيد بعد أن ولج إقليدس غرفته يتوارى منّا كما لو أصابه الجذام أن الفتاة أخبرته أنها ما زالت صغيرة على الارتباط وأنها ما كانت لترتبط بشخص "لقيط". لم أسأل سعيدًا كيف عرف ذلك رُبما لأني قرأت في عينيه إجابة كُنت أخشاها.
لقيط.. الكلمة هذه كفيلة أن تُنسيك وقع خطو روحك وأن تُلقيك في أعماق جحيم الحياة إلى الأبد.
أدركت كيف سقطت الكلمة حادة على رقبته ففتحت جرحًا غائرًا وحين يُفتح جرح سبق له النزيف لم يبرأ يصبح أكثر نزفًا وألمًا.. أخبرها أحدهم أن إقليدس لا مستقبل ينتظره ولا عائلة تقيم لها حفل عرس كملكة فوق بساط العشق العابر وأنه فقير.
لقيط.. تلك الكلمة التي كانت أكثر فتكًا من أسلحة الدمار، محشوة برصاص متعدد الاشتعال يقتل آلاف المرات، كلمة تشعرنا أننا شيء مَهِين تم التقاطه من الطريق فقط لإماطة الأذى، لقد اختارت كلمة الفراق, كلمة العذاب، كلمة النهاية.
ليت من وضعونا على حافة الموت رحمونا فقتلونا قبل أن نموت كلما أدلى أحدهم بدلوه فخرجنا عُراة على جلودنا جدري الخطيئة وفي وجوهنا كوليرا اليُتم.
ذكرتني تلك الواقعة بي ذات نهار حين قبض علينا أحد المُعلمين ونحن نرش الماء في ملعب المدرسة فأغلق الصنبور وصاح يا أولاد العاهرة لسوف أقطع أيديكم يا أبناء الزنا، لم نعِ ماذا يقصد لكننا كنا نعي من ملامح وجهة المُتحجرة أنه يسبّنا، فذاع هذا النمط من السب بيننا فكُلما غضب أحدنا من الآخر أو من أحد من أبناء الملجأ يصيح به: يا ابن العاهرة.. حتى سمعت بفحشنا المُديرة وعاقبتنا بالوقوف ورفع أيدينا عالية ساعة من الزمان لجرم لسنا من سَنَّه.
مر يومان كان إقليدس فيهما بحالة سيئة لا يتحدث ولا يقرأ ولا يذهب إلى المدرسة، جئت إلى فراشه متسللًا، شعرت أنه ليس بخير، كان نائمًا، وضعت يدي على جبهته المُتصببة بالعرق، إن حرارته مرتفعة، أخذت أتلفَّت في أرجاء الغرفة أبحث عن سعيد ولكنه لم يكن على فراشه، طفقت أقلِّب في مكتب سعيد أبحث عن خافض حرارة فأنا لم أكن أحتفظ عندي بأدوية، قلبت الدرج فلم أجد شيئًا إلا ورقة أثارت فضولي صغيرة بحجم ورقة التلغراف، فتحتها وليتني ما فعلت (شكرًا لك عزيزي سعيد، كُنت سأتورط في حب يوشك أن يهلك كيان عائلتي لولا أنك أخبرتني ما كُنت علمت merci).
يا إلهي! سعيد؟ لا لا يُمكن، سعيد! لا كيف قادته نفسه لقتل أخيه ولم يساوره الندم؟ قابيل ندم على أنه لم يُدرك كيف يدفن أخاه مثل الغراب ولكنك يا سعيد قتلته ولم تهتم أن تواري ألم قلبه.. أأنت يا سعيد ليس غيرك! يا إلهي!
غدًا بعد أن يُشفى إقليدس سوف أقص عليه صُنع سعيد, لا سوف أوبخ سعيدًا بكلام قاسٍ وربما أضربه, لا لن أفعل شيئًا سأتركهم جميعًا وأستقل وحيدًا قطارعمري, لا لا يمكن أن أتركهم.. يا إلهي ماذا أفعل؟! لم يكن مني إلا أن ابتلعت شفرة الصدمة أنزف وحيدًا مختبئًا بين ضجيج أفكاري متكئًا على عصا أحزاني كي لا يتقاسمها معي أي منهما, تذكرت أني قد تركت إقليدس وحرارته مرتفعة، خرجت مسرعًا بعد أن أخذت معي الورقة، أعدمتها وأعدمت حقيقة رؤيتها أمامي عين اليقين، ثم أخذت قطعة قماش قطنية وماء بارد جلست بجانبه أحاول أن أخفف عنه الحرارة وأنا أسمعه يتمتم: لقيط، لقيط.. كأنه يلفظ آخر أنفاس الأمل.
لاح الفجر وتسربت نسماته الجميلة عبرالنافذة، قمت أُصلي بعد أن اطمأننت أن الحرارة قد خف لهيبها، بكيت كثيرًا كما لم أبك من قبل، رجوت الله أن يخفف عن إقليدس وأن يغفر لسعيد خطأه ربما كان يخاف على صديقه أو رُبما عَلم ما لا نعلم أن الفتاة تستغله وأنها تُريد فقط أن يُساعدها بدروسها, أتلتمس أعذارًا وهمية، أقامرعلى وهم وأعلم إني خاسر ولكني أقامر .
في تلك الليلة تراقص الهذيان في مخيلتي وبينما أنا غارق في هواجسي إذ بإقليدس قد فاق مع طلوع الشمس.. جميل أنت والشمس، إنها تشبهك حين تشعّ بهجة، فنظر إلى النافذة التي تدخل منها الشمس تفرد عضلاتها وقال: لا شيء في هذه الحياة يشبهني إلا زجاجة نبيذ على طاولة الكل مهتم بها وقت تكون مُمتلئة بالشراب وحين تفرغ الكل يفكر كيف يتخلص منها وكيف يتفنن في كسرها. فصمتُّ ولم أنبس ببنت شفة، نظرت مُتأسفًا إليه، كان ملكًا مهزومًا مُنكّس العرش أبكيه خلف الصمت.
قمت من نومي في الظهيرة إثر صوت خطبة قوية صاحبها ذو حنجرة فولاذية, هرعت ظننت أن الكل هالك لعلها نفخة البوق، لا إنه سعيد يستمع إلى قناة فضائية ذات طابع متشدد، سحبت وصلة الكهرباء سريعًا وابتلعت ريق الرّوع ومسحت شفتيَّ الجافتين المتشققتين بلساني محاولًا أن أستعيد سكوني وأرتب أنفاسي التي بعثرها صوت الخطبة الجهوري، لا أدري ما علاقة مصداقية الخطاب بمدى ارتفاع الصوت وقوة الحنجرة, نظر إليّ نظرة حادة لم يصحبها كلام فقلت له محاولًا أن ألطّف الجو بيني وبينه: نحن على مشارف الاختبارات، راجع دروسك ودع زملاءنا بالدار ينعمون بالهدوء, يُمكنك في الإجازة أن تستمع إلى تلك الخطب. نظر إليّ وعيناه تتسعان وتضيقان غضبًا كالذي يقول إن استعطافي باء بالخيبة، ثم ذهبت أتفقد إقليدس فوجدته يقلب وجهه في الكتاب. أنت بخير؟ سألته, قال: نعم. صدّقته.
خارج الملجأ
أذكر ذلك اليوم وكأنه أمس، يوم خروجنا من ملجأ الأيتام، ودعنا أيامنا هُناك بحزنها وفرحها، مرّت الأيام سريعة وبطيئة، عرجاء وعداءة، صامتة وكثيرة اللغو، هادئة وصاخبة، ضاحكة وباكية، ممتلئة وفارغة، سهلة وصعبة، صلبة ولينة، ثلجية ودافئة، حنونة وقاسية.
تسلّمنا متعلقاتنا التي باتت تؤرق صفونا؛ الذكريات الصغيرة التي يحتفظ بها أي طفل في دور الأيتام, الشال الصغير القطني أو الحريري، كُل حسب الحالة المادية للقاذفين بنا، هو الشيء الوحيد الذي يحتفظ برائحة أوجاعنا، التميمة المعلقة برقبتي التي التفت حولي كمشنقة منذ بلغت العمر الذي يجعلني أرفض بدايتي، وضعتها مع الشال بكيس ووددت لو أتخلص منها وأتخلص من خيط الأمل الرفيع الذي يربطني بحقيقتي لكن الغريق يتعلق بقشة ويراها مركبًا.
ودّعت الأطفال الصغار هُناك موهمًا نفسي بالقوة، بيدَ أن الدمع باء بالحقيقة وأمام صدق دموع الصغار أعلنت أُولى دموعي فشلي في إخفائها.
ها أنا ذاهب لمستقبل مجهول كما بدأ يعود، كل مرة أسبَح وأسبح ثم إلى شاطئ المجهول أعود، كُنت أقلب طرفي بينهم حائرًا بين البقاء معهم وهو الخيار الأضعف وبين الذهاب إلى العالم خارجًا، الذي هو أكثر شراسة وشراهة وفتكًا بالأحلام.. حسنًا هذا يوم الفصل الذي يفصل بين نقطتين وحياتين وعمرين وحلمين.
ذهبنا إلى الإدارة، نودع معلمينا شاهرين سيف الثقة الوهمي بوجوههم، أعطونا مبلغًا من المال يعيننا على استئجار شقة وبداية بسيطة لحياة اخترنا أن نكملها متكئين على حماستنا وشبابنا. أود لو أحرق تلك السنوات التي قضيتها هُنا.. قال سعيد بصوت حزين وقد بدت عليه ملامح قاسية التفسير: ماذا سيحدث في الدُنيا لو كُنت غير يتيم؟ نظرت إليه ونحن نستقل سيارة أجرة عابرة بعد أن وضعنا فيها أغراضنا وأشياءنا وربما آمالنا وحياتنا: لولا هذا المكان لم نلتقِ، ثم قلت مبتسمًا ناظرًا إلى إقليدس الذي كان بجوار السائق: أردت أن أجمع بين ثلاثة أعمار في عمرٍ واحد. ثم نظرت لسعيد وقُلت: رُبما لو كان لديك أبوين لعققتهما.
نظر سعيد بابتسامة نصف حقيقية وقال: لا يهم بالأصل (لو) تفتح عمل الشيطان وأعوذ بالله من الشيطان.
- وهل يُغلق عمل الشيطان لتفتحه كلمة (لو) هههههه؟!
قال وهو مُنكّس عينيه في كفّيه كالذي يقرأ الطالع: اليتيم لا يُجيد الحب، فاقد الشيء لا يُعطيه.
- لا، بل فاقد الشيء يُعطيه وجدًّا، واليتيم يُجيد الحب أكثر.
نظر للمباني الشاهقة من نافذة سيارة الأجرة وقال بتنهيدة:
وماذا لو كُنت غنيًّا وأملك بعضًا من تلك المباني الشاهقة؟
- وقتها لم نكن لنلتقي ونكون صديقين، ثم إن (لو) تفتح عمل الإنسان، أعوذ بالله من الإنسان.
لم يُشاركنا إقليدس الحديث، كان ينظر إلى الشوارع كما لو كان يبحث عن شخص تاهت بين الناس ملامحه، هو لا يكف عن البحث أبدًا عن أشياء مجهولة حتى بين الوجوه.
أمام أحد العمارات السكنية توقف السائق ببطء وأخبرنا أنها منطقة لسكن الطلاب، كان الشارع هادئًا إلا من بعض المارة والجامعيين وسيارات الأجرة، سألنا أحد الحراس بالعمارة التي وقفنا أمامها عن شقة فأخبرنا أن لديه واحدة فارغة تصلح لثلاثة شباب.. السكن بعيد عن الملجأ هو نوع من الاستقلالية والخصوصية وخروج للعالم الذي يجتاحنا قبل أن نخرج إليه. دخلنا مسكننا الجديد سُعداء، كانت شقة صغيرة لكننا رأيناها أفضل ما يكون بعيدًا عن صخب الدار وزحام الأعين الكثيرة التي تحوم حولنا.
كُنت أود أن تدرس معي في الطب.. قال إقليدس ونحن نضع حقائبنا.
- ألم نتفق على دراسة الفلسفة معًا ثم أخلفنا وجهتنا.. أجبته مبتسمًا.
- سأدرس الطب ولن أترك الفلسفة.. قال إقليدس وهو يرفع حاجبه بثقة وابتسامة ناظرًا من فوق نظارته الجذابة بعينيه اللتين من دونهما لا تعدو أن تكون قطعتا زجاج محصورتين في إطار فقير.. عينيه دُومًا مُمتلئة بالحب مثل ماري، كانا إقليدس وماري متشابهين جدًّا حتى ظننت أنهما واحد لم يلتقيا ولم يهبني الحظ فرصة التحليق بهما، شخصين قادرين على ملء حياتي حبًّا، لكن أيضًا هُناك بعد جرحين وصبرين من استطاع أن يملأ حياتي بهذا وأكثر في حين لم أكن أطلبه وكُنت أتشرب حبًّا من نوع آخر، الحب الحقيقي الذي لا تبحث أنت عنه بل الذي يجتاحُك ويلقي ما دونه في أزقة الماضي.
أما أنا فسوف أدرس لغة الفرنجة.. قال سعيد وهو يقلب بجهاز التحكم القنوات الفضائية الكثيرة، ضحكنا جميعًا وذهبنا بعد عناء ترتيب أغراضنا وتنظيف الشقة إلى تناول الغداء بنهم.. كان غداءً شهيًّا؛ رُبما لأننا لأول مرة نتناول ثلاثتنا معًا وبحرية دون قيد طعامًا خارج حدود أسوارالملجأ, قدمتُ أوراقي لألتحق بالجامعة لأدرس الإعلام مُتوّقًا بحماسةٍ متأججةٍ لأكون إعلاميًّا أصنع أخبارًا تجذب الناس إلى الشاشة في وقت أصبح الإعلام هو المال والمقال والمآل لكل متفرج ومهتم وقارئ وحتى لكل أُمّي.