في حركةٍ بطيئة وبدون تركيز يلتقط فنجان القهوة الموجود أمامه منذ نصف ساعة, يأخذ رشفة دون أن يشعر هل لازال ساخناً أم بَارِداً, يضعه مرة ثانية ولم يتحرك نظَرِه مِن على الأرواق المبعثرة أمامه, يراها من خلف نظارته البُنِّية التي اعتاد دائماً أن يرتديها في ذلك المكان حتى يصعب التعرُّف عليه نوعاً ما, فهو كما يطلقون عليه الآن أحد مشاهير الكتَّاب, وإذا تعرَّف إليه الناس لن يستطع إستكمال كتابه الرابع الذي استغرق في تدوينه حتى الآن تسعة أشهر... ولم ينتهِ بعد.
في هذا " الكافيه" الذى اعتاد دائماً أن يُكمِل كتاباته فيه, تحت أنغام الموسيقى الأجنبية الهادئة, وضع أمامه هاتفه المحمول وعلبتىّ سجائر, تلك العادة اللعينة التي لم يستطع تركها بل ازدادت يوماً بعد يوم وكأنها صارت آلة الزمن التي تنقله من هذا الكوكب اللعين إلى كوكب أحلامه الذي تدور فيه أحداث رواياته.
يستغيث هاتفه بحثاً عن الطاقة، فهو دائماً ما ينسى أن يوفر له الطاقة كما يفعل مع نفسه, تظهر على شاشته صورة لبنتين تخفي وجوههم بعض الإشعارات اللعينة, يزيلها دون اهتمام كي ينظر للصورة وكأنه يستقي منها إكسيراً كي يبقى على قيد الحياة .
يرن هاتفه ولكنه لم يستطع أن يعرف من يطلبه, فقد أبَى الهاتف أن يبقى على قيد الحياة مثله بدون طعام, لم يهتم ولم يكترث للأمر، وضعه بجواره دون أي اهتمام، فكل ما يشغل باله حالياً أن يكمل كتابه, أين ذهبت الأفكار؟ لماذا لا تعمل آلة الزمن الخاصة بي؟ لماذا يصر عقلي على البقاء هنا؟
- أشرف: أستاذ يوسف؟ أستاذ يوسف؟
- يوسف: أيوة يا أشرف، معلش مش مركز، كنت بتقول حاجه؟
- أشرف: لا بس حضرتك بقالك 4 ساعات قدامك والقهوة بردت خالص، أجيب لحضرتك غيرها؟
أثارت كلمات أشرف انتباهه، نظر في ساعته...
- يوسف: يااااه، هو أنا بقالي كتير أوي كدا؟
- أشرف: مش عارف والله يا أستاذ يوسف, بس أنا من ساعة ما استلمت وأنا شايف حضرتك قاعد بس شكلك مش كويس.
- يوسف : أنا فعلاً مش كويس، هاتلي الشيك يا أشرف لو سمحت.
لملم يوسف أفكاره المبعثرة على الأوراق قبل أن يلم أوراقه، رتَّب الأوراق ولكن أبتِ الأفكار إلا أن تظل مبعثرة، حمل حقيبته وخرج إلى الشارع متجهاً إلى منزله.
********
على الجانب الآخر من هذا الكوكب تجلس الست "هدى" على أريكتها فى منتصف الغرفة, تمسك بهاتفها المحمول تقربه من وجهها كثيراً نظراً لضعْف بصرها, لا تلتفت لشئ سوى لتلك الغُصَّةِ التي شعرت بها فجأة وجعلتها تلتقط الهاتف للإطمئنان عليها.
على الرغم من صُراخ حفيدتها والأحاديث التي تدور حولها، إلا أنها كانت لا تشغل أي حيزاً ضئيلاً من تفكيرها، كل ما يجول بخاطرها الآن لماذا تأخرت المكالمة اليومية التي اعتادت استقبالها، هل حدث لها مكروه ، أم انخرطت في عملها؟
- ريهام : ماما, يا ماما إيه روحتى فين؟ عمالة أكلمك على فكرة.
- هدى : أيوة يا رورو.. بتقولي إيه معلش مش مركزة معاكي.
- ريهام : اللي واخد عقلك يا ستي, الله يسهلك يا بابا, هتلاقي فين واحدة بعد العمر دا كله ولسه بتفكر فيك وإنتَ في الشغل.
نظرت لها هدى بابتسامة خفيفة يملؤها القلق ويبدو جلياً على ملامحها ولكنها تصنعت إخفاؤه.
- هدى: يابت إسكتى بقى ... مش عارفة أختك مكلمتنيش لحد دلوقتي ليه؟ مش بعادِتها.
- ريهام : تلاقيها لسه في الشغل يا ستي، ولا روحت متأخرة فدخلت على المطبخ على طول علشان تلحق تحضر الأكل, هو إنتي هتتوهي عنها يعني, مانتي عارفة بنتك عِندية ومبتحبش تحسس أي حد إن شغلها ممكن يأثر على أي حاجه في حياتها.
- هدى : مش أحسن ما تبقي خايبة وقاعدة في البيت زي قِلتها؟
- ريهام : قصدك إيه بقى يا ست ماما؟ قصدك إن أنا خايبة يعني؟ مانتي عارفة إن لولا إن "حياة " لسه صغيرة كنت نزلت الشغل تاني.
- هدى : ولا قصدي ولا مقصديش, والنبي سيبيني دلوقتي.. المشكلة إنها كمان مابتردش على تليفونها ودا قلقني أكتر.
- ريهام : طب ما تكلمي يوسف؟
- هدى : تليفونه مقفول..
- ريهام : طب مش يمكن خرجوا بعد الشغل؟ ولا خدوا بعضهم وسافروا, مانتي عارفاهم هما الإتنين مجانين وبيعملوا أي حاجه فى أي وقت.
- هدى : جايز برضو... دلوقتي تاخد بالها من التليفون وتكلمني.
قالتها بصوت مُهتز يملؤه الخوف, الخوف مما سوف تسمعه في الهاتف, الخوف مما جعلها تشعر بتلك الغُصَّة المُفَاجِئة التي طالما لم تشعر بها إلا وتؤكدها لها الأيام بأن سهام قد حدث لها مكروه ، كيف لا وهى ابنتها الكبرى بل وصديقة عمرها دوناً عن أختها ريهام، كيف لا وهو قلب الأم الذى دائماً لا يكذب .
أفاقت من شرودها على صوت هاتفها المحمول يرن, كانت هى المتصلة, أمسكت الهاتف مسرعة وأجابت ولكن أتاها صوت ابنتها وكأنه صوت فريسة أجْهَزَ عليها صيادها دون شفقةٍ أو رحمة، تستغيث طلباً للنجدة...
- "أيوة يا ماما... معلش التليفون كان silent".
********