hindawiorg

Share to Social Media

لقد تحقق إتقان الطيران نتيجة مجهود آلاف الرجال؛ اقتراح من هذا الرجل وتجربة من
ذاك، وفي نهاية المطاف لم يَتبقَّ سوى مجهودٍ ذهني مكثَّف لاستكمال هذه المهمة. غير
أنَّ الرأي العامَّ وما يتَّسم به من إجحافٍ دائم قرَّر أنَّ رجلًا واحدًا فقط من بين هؤلاء
الرجال، وهو رجلٌ لم يتمكن من الطيران قَط، حَرِيٌّ بأن يُمْنَح لقب المُكتشِف، كما حدث
حين قَرَّر أن يُنسَب الفضل في اكتشاف البخار إلى واط، والمُحرِّك البخاري إلى ستيفنسون.
وبالرغم من وجود كل هذه الأسماء التي حَظِيَت بالتقدير والاحتفاء، فلم يكن من بينها
اسمٌ كاسمِ فيلمَر المسكين، الذي كان الاحتفاء به وتشريفه غريبًا ومأساويٍّا. إنه فيلمَر
ذلك الخجول المفكِّر الذي تمكَّن من حل المسألة التي حيَّرَت العالَم وأثارت فيه الرَّهبةَ على
مدى أجيالٍ عديدة، وهو الرجل الذي ضغَط على الزر الذي غيَّر السلام والحرب في العالم،
وكذلك معظم أحوال البشر وسعادتهم. ولن نجد أروع من ذلك مِثالًا على تواضُعِ رَجُل
العلم أمام عظمة عِلمه. والواقع أنَّ الكثير من الأمور التي تتعلق بفيلمَر لا يزال غامضًا
للغاية، وسوف يظل كذلك لا ريب — ففيلمَر ومَن هم على شاكلتِه لا يجتذبون إليهم كُتَّاب
السِّيَر — غير أنَّ الحقائق الأساسية والمشهد الخِتامي هي أمورٌ واضحة بما يكفي، ثم إنَّ
لدينا بعضالخطابات والمُذكِّرات والإشارات العَرَضية، ويمكننا استخدام كل ذلك لِتشكيلِ
الصورة الكاملة ورَبطِ الأمور بعضها ببعض. وتلك هي القصة التي أكتُبها؛ إذ أربط بين
هذا وذاك، لأصُوِّر حياة فيلمَر ووَفاتَه.
إنَّ أَوَّل أَثَرٍ حقيقي تركه فيلمَر علىصفحة التاريخ هو المُستنَد الذي تَقدَّم به للحصول
على مِنحةٍ دراسية لدراسة الفيزياء في المُختبَرات الحكومية بساوث كينسينجتون. وهو
باللغة الدارجة) « إسكافي » أو ) « صانع أحذيةٍ عسكرية » يَصِف نفسه في هذا المُستنَد بأنه ابن
من دوفر، كما أنه يَذكُر العديد من البَراهينِ التي تدُلُّ على براعته في الكيمياء والرياضيات.
ورغبةً منه في الظهور بِمَظهر الكرامة والكبرياء، فقد كان يُحاوِل تعزيز هذه الإنجازات
لِطموحه، وهي زلةٌ « نَحرًا » بادِّعاء الفقر وسُوء الحال. وها هو يكتب عن المُختبَر بوصفه
كتابية لكنها تُؤيِّد زعمه بأنه قد كرَّس نفسه تمامًا للعلوم. كان المُستنَد مُعتمَدًا بما يدل
على أنَّ فيلمَر قد حظي بتلك الفرصة التي كان يبتغيها. غير أننا لم نَتمكَّن من العثور على
أي دليلٍ يُشير إلى نجاحه في هذه المُؤسَّسة الحكومية، وذلك حتى وقتٍ قريب.
وعلى الرغم من ذلك، ومع ما عبَّر عنه فيلمَر من حماس للبحث، فقَد اتضح الآن أنَّه
قبل عام من حصوله على هذه المنحة كان يجِد بعض الإغراء في احتمال حدوث زيادةٍ
صغيرة في دخله الحالي؛ ومن ثَمَّ تَخلَّى عن هذه الأحلام لكي يعمل بأجرٍ يبلغ تسعة بنسات
في الساعة، وذلك لدى أحد الأساتذة المَشهورِين بإجراء الأبحاث المُوسَّعة في مجال الفيزياء
الشمسية، التي لا تزال من الموضوعات التي تُثير حَيرَة علماء الفلك. بعد ذلك، وعلى مدى
فترة سَبعِ سنوات، لم يعرفأَحدٌ عن فيلمَر أيشيء فيما عدا قوائمَ نجاحِ جامعة لندن التي
وَردَ اسمه فيها، وارتقاها بِبطء ليصل إلى درجة المرتبة الأولى مع الشرف في بكالوريوس
الرياضيات والكيمياء؛ فلم يعرفأَحدٌ عن حياته أين قضاها وكيف، لكنَّ الأرجح أنه استمر
في التدريس لتوفير نفقات المعيشة مع إجراء الدراسات اللازمة للحصول على هذه المرتبة.
وفجأة بعد ذلك، نجده وقد وَردَ ذِكرُه في مُراسَلات الشاعر آرثر هيكس.
لعلك تتذكر فيلمَر. حسنًا، إنه لم يتغير على » : فقد كتب هيكس إلى صديقه فانس
لرجل أن يَتحمَّل أن يقضي « يمكن » الإطلاق بِغمغَمته العَدائية وذَقَنه البغيض — كيف
ثلاثة أيامٍ دون أن يَحلِق ذَقَنه؟ — ثم إنَّ مَظهَره يُوحي بالمكر والخداع، وحتى مِعطَفه
وياقته البالية لا يَشِيان بأي أَثَر على مرور السنين. كان يكتب في المكتبة وقد جلستُ بجواره
وأنا لا أقصد إلا خيرًا، غير أنه تَعمَّد إهانتي حين أَخفَى عني مُفكِّرته. يبدو أنه كان يعمل
على بحثٍ مُميَّز ومُبتكَر، وهو يَشكُّ بي أنني من بين جميع الناسسوف أسرقه؛ فقط لأنني
كنتُ أحمل كُتَيِّبًا من مطبوعات بودلي بوكليت! لقد نال العديد من الدرجات الرفيعة في
الجامعة، وقد أخبرني بها بسرعةٍ كبيرة كما لو أنه كان يخشى أن أقُاطعه قبل أن ينتهي
من إخباري بها كلِّها، وتحدَّث عن نَيلِه لدرجة الدكتوراه في العلوم كما قد يتحدث المرء
— عادةً — عن استقلال سيارة أجرة. سألني عن عملي بِلُكْنة تحمل في طيَّاتها نَبرة المُقارَنة
بين حالينا، بينما كانت ذراعه تَستلقي بِتَوتُّر على الأوراق التي تُخفي فكرته الثمينة حمايةً
«. لها؛ فكرته الوحيدة الواعدة
الشِّعر، حسنًا، الشِّعر. وما الذي تريد أن تعلِّمه للناسمن خلال الشِّعر » : تحدَّث قائلًا
«؟ يا هيكس
إنَّها وظيفةُ تدريسٍ على المستوى الإقليمي، وهي لا تزال مشروعًا في بداية تَبرعُمه، »
وإنني أشكر لله بإخلاصعلى نعمة التراخي؛ فلولاها، لكان من الممكن أن أَسلُك أنا أيضًا
«… طريق الدكتوراه في درجة العلوم والدمار
سأوُضِّح لكم باختصارٍ ما أعتقد أنه قد وضع فيلمر على الطريق الذي أدَّى إلى
ميلاد اكتشافه، أو حتى قد قرَّبه منه. كان هيكس مُخطئًا حين تَنبَّأ لِفيلمَر بالتدريس على
المستوى الإقليمي؛ فالمرة الثانية التي سنعرف فيها أخبارًا عنه ستكون وهو يُحاضر في
إذ كان قد أصبح مديرًا لِشركةٍ كبيرة في مجال — « المطَّاط وبدائله » جمعية الفنون عن
تصنيع المواد البلاستيكية — وفي ذلك الوقت أصبح من المعروف أنه كان عضوًا في جمعية
الملاحة الجوية، بالرغم من أنه لم يُساهم قَطُّ في مناقشات هذه الجمعية؛ فقد كان يُفضِّل
بالطبع أن يترك فكرته العظيمة كي تَنضَج وتَختمِر دون أي مساعدةٍ خارجية. وفي غُضون
سنتَينمن تاريخ هذه الورقة التي قدَّمها أمام جمعية الفنون، راح يحصُد العديد من براءات
الاختراع، ويُعلن بالعديد من الطرق الغير المُناسِبة أنه قد انتهى من الأبحاث المُتشعِّبة التي
جَعلَت من تنفيذ آلة الطيران التي اخترعها حقيقةً واقعة. وقد ظهر أَوَّل تصريحٍ مُؤكَّد
بشأن هذا الأمر في جريدةٍ مسائية لا يزيد سِعرها عن نِصفِ بنس تَصدُر عن وكالةِ رجلٍ
كان يُقيم مع فيلمَر في المنزل نفسه. ويبدو أنَّ ذلك التعجُّل الذي ظَهر في النهاية بعد طول
صَبره المُضني وعمله في السر، قد كان بسبب هَلَعه الذي لم يكن هنالك داعٍ له؛ إذ أعلن
بوتِل، ذلك العالِم الأمريكي المدَّعي السيِّئ السمعة، إعلانًا أساء فيلمَر تفسيره بأنه تَنبُّؤ
بفكرته.
والآن، ماذا كانت فكرة فيلمَر بالتحديد؟ الواقع أنها فِكرةٌ بسيطة للغاية؛ فقبل عصره،
كان مجال علم الطيران يتمثل في اتجاهَين مختلفَين. أَنتَج أحدُهما المناطيد، وهي أجهزةٌ
كبيرة أَخفُّ من الهواء، تُحلِّق فيه بسهولة، وهي آمنةٌ نسبيٍّا في الهبوط على الأرض، غير أنها
تُحلِّق باستسلامٍ تامٍّ مع أي هبَّةِ هواءٍ في أي مكانٍ تَصحَبها إليه. وأمَّا الاتجاه الآخر، فهو
الآلات الطائرة التي لم تكن تطير إلا نظريٍّا؛ فهي هياكلُ مستويةٌ كبيرة أَثقلُ من الهواء،
تدفعها وتُديرها للتشغيل مُحرِّكاتٌ ثقيلة، وهي تتحطم في معظم الأحيان عند هبوطها لأول
مرة. وبغض النظر عن حقيقة أنَّها ستتحطم عند الهبوط لا مَحالة، مما يجعل تنفيذها
مستحيلًا، فإنَّ وزن الآلات الطائرة قد منحها مَيزةً نظرية؛ فهي تستطيع أن تطير في الهواء
ضِدَّ اتجاه الرياح، وهو شرطٌ ضروري لكي يكون للملاحة الجوية أي قيمةٍ عملية على
الإطلاق. وأمَّا الإنجاز المُتميِّز الذي حقَّقه فيلمَر فيتمثل في أنه قد أدرك أنَّ المزايا المُتناقِضة
التي لا يتوافق بعضها مع بعضٍ في كُلٍّ من المناطيد والآلات الطائرة يمكن أن تجتمع
في جهازٍ واحد أَخفَّ من الهواء أو أثقل منه، حسبما نشاء. لقد استَلهَم الفكرة من مثانة
السَّمَك القابلة للانقباضوالتجاويفالهوائية لدى الطيور، وابتكر تصميمًا لبالوناتٍ مغلقةٍ
تمامًا وقابلةٍ للانقباض؛ فحين تَتمدَّد تتمكَّن من رفع جهاز الطيران الفعلي بسهولة، وحين
المُعقَّد الذي دَمجَه حولها فإنها تنسحب بالكامل « التركيب العضلي » تنقبض من خلال
تقريبًا إلى داخل الهيكل الخارجي. وقد بنى الهيكل الكبير الذي يحمل هذه البالونات من
الأنابيب الصُّلبة المجوَّفة، وصمَّم فيها آليَّةً ذكية تقوم بتفريغها من الهواء تلقائيٍّا حينما
يهبط الجهاز؛ ومن ثَمَّ، فإنَّها تبقى مُفرَّغةً ما دام الطيَّار راغبًا في ذلك. لم تكن تلك
الآلة تحتوي على أجنحةٍ أو مَراوحَ كما كانت الحال فيما سبقها من الطائرات، وحتى
المُحرِّك الوحيد اللازم لها، لم يكن سوى جهازٍ صغير وقويٍّ يُستَخدم في دفع البالونات إلى
الانقباض. وقد تَصوَّر أنَّ هذه الآلة التي ابتكرها يمكن أن تصل إلى ارتفاعٍ معقول وهي
تحمل معها الهيكل المُفرَّغ والبالونات المُمَدَّة، ثم يُمكِن بعد ذلك أن تنقبض البالونات،
فتسمح للهواء بالدخول إلى الهيكل، ومن خلال تعديل أوزانه يمكن توجيه الهواء في أي
اتجاهٍ مُراد. وعندما يهبط ستزداد السرعة المتجهة ويقل الوزن؛ ومن ثَمَّ يمكن استخدامُ
الزَّخَم الناتج عن اندفاعه إلى الأسفل من خلال تحويل أوزانه لدفعه في الهواء مُجدَّدًا بينما
تَتمدَّد البالُونات. وبالرغم من ذلك، فإنَّ هذا التصوُّر، وهو التصوُّر الجوهري في جميع
آلات الطيران الناجحة، لا يزال يحتاج إلى قَدْرٍ هائل من المجهود في العمل على تفاصيله
بِسخاءٍ » وإتقانها، حتى يُصبح من الممكن تنفيذه في الواقع، وقد بذل فيلمَر هذا المجهود
وذلك مثلما اعتاد على أن يُخبر مُقابلِيه من الصحفيِّين الذين كانوا يحتشدون ،« ودون توانٍ
حوله في أَوجِ شُهرته. غير أنه كان يُواجه بعضالصعوبة في بِطانة الِمنطاد المطَّاطة والقابلة
للانقباض؛ إذ وجد أنه يحتاج إلى مادةٍ جديدة. وفي رحلة اكتشافه لهذه المادة الجديدة
وتصنيعها بذل فيلمَر مجهودًا شاقٍّا ومُضنيًا، حتى إنه يفوق ما قد بَذلَه في العمل على
إنجازه الفعلي لاكتشافه العظيم، وهو ما لم يتوانَ فيلمَر عن التأكيد عليه والتصريح به
لِمُقابلِيه من الصحفيِّين.
بالرغم من ذلك فلا تتخيَّلْ أنَّ هذه المقابلات قد توالت مباشرةً وبِوَفرة بعد أن أعلن
فيلمَر عن اختراعه، بل انقَضَت خمس سنوات ظل خلالها قابعًا في مصنع المطَّاط الخاص
به، الذي يبدو أنه كان يعتمد عليه كُليٍّا في توفير دَخلِه الصغير. وخلال هذه المدة ظل يقوم
بالعديد من المحاولات المُهدَرة لِيؤكِّد لجمهورٍ غيرِ مُبالٍ أساسًا أنه اخترع بالفعل ما قد زعم
أنه اخترعه. كان يقضيالجزء الأكبر من وقت فراغه في مراسلة المجلات العلمية والصحف
اليومية وغيرهما، يَذكُر فيها ما تَوصَّل إليه من نتائجَ ويَطلُب فيها دعمًا ماليٍّا، وقد كان ذلك
وحده كفيلًا بإهمال خطاباته. وكان يقضي أيام العُطلات في ترتيب مُقابلاتٍ غيرِ مُوفَّقة
مع حارسِي مَقرَّات الصحف الرائدة في لندن، لكنه لم يكن يتمتَّع بتلك الموهبة الاستثنائية
في أن يَحُثَّ حارسِي العَقَارات والحمَّالِين على الوثوق فيه. ولا شك في أنه قد حاول أن يُثير
اهتمام مكتب الحرب بعمله، ولدينا هذا الخطاب السرِّي من الجنرال فولي فاير إلى إيرل
إنَّ الرجل غريبُ » : فروجز، الذي يقول فيه الجنرال بطريقته العسكرية الصارمة الحكيمة
ولهذا فقد ترك اليابانيين لكي يحظَوا بالأولوية «. الأطوار، وهو يفتقر إلى الذَّوق والكِياسة
في هذا الجانب من الحرب، كما فعلوا بعد ذلك بالفعل، وهي أولويةٌ ما زالوا يتمتَّعون بها،
وهو ما يُسبِّب لنا مَشقَّةً عظيمة.
وبضربة حظٍّ، اتضح أنَّ الغِشاء الذي اختَرعَه فيلمَر لكي يستخدمه في بالُونه القابل
للانقباضسيكون من المُفيد استخدامُه في صَمَّامات نوعٍ جديد من المُحرِّكات الزيتية، وقد
تمكَّن من صُنع نموذجٍ تجريبي لاختراعه. تَخلَّى فيلمَر عن التزامه بمصنع المطَّاط، وكفَّ
عن كتابة المُراسَلات، وكرَّسنفسه للعمل على جهازه؛ وذلك في جوٍّ من السرية بدا أنه صِفةٌ
ملازمة لجميع ما يقوم به. يبدو أنه كان يُدير عملية صُنعِ أجزائه وجَمعِ مُعظمِها في غُرفة
في شورديتش، لكنَّ عملية التجميع النهائية تمَّت في ديمشِرش في كِنت. لم يكن الجهاز
الذي صَنعَه كبيرًا بما يكفي لِحَملِ رجل، لكنه استخدم ما كان يُعرف وقتها باسم أشعة
ماركوني استخدامًا رائعًا لِلتحكُّم في طيرانه. وفي أول رحلةٍ لجهاز الطيران العملي هذا،
حلَّق فوق الحقول بالقرب من جسر بورفورد، وهو يقع بالقرب من هايث في كِنت، وقد
تابع فيلمَر مساره في الرحلة ووجَّهه وهو يقود دراجةً بخارية ثلاثية صُمِّمَت خُصوصًا
لذلك.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.