إن أفُول عالمنا بشروق شمس ذلك الكون الآخر ذات الوهج الأخضر إنما هي نقطة
غامضة يشدد بلاتنر عليها. من الصعب التحركُ والانتقال في ليلِ العالم الآخَر نتيجة الإشراق
والبهاء الذي تبدو عليه أشياءُ هذا العالم، لكن لو كان الأمر كذلك، فمن العسيرِ تفسيرُ
أننا لا نرى لمحة من العالم الآخَر ونحن في هذا العالم. لعل ذلك مرجعه إلى إضاءة عالمنا
الزاهية نسبيٍّا. حين يصف بلاتنر ظهيرة العالم الآخَر يذكر أنها لا تضاهِي في أشد أوقات
وضاءتها تألُّقَ عالمنا في ليلة التمام، أما ليلها فحالك السواد؛ ومِن ثَمَّ فإن أقل ضوء، ولو في
غرفة عادية مظلمة، كافٍ لحجْب أشياءِ العالم الآخَر عن أنظارنا، قياسًا على أن الفسفور
الخافت لا يُرى إلا في أحلك الظلمات. حاولت، منذ أن قصَّ عليَّ بلاتنر حكايته، أن أرى
شيئًا من العالم الآخَر بالجلوس لوقت طويل في غرفة التحميضليلًا، وقد بدت لي بالفعل
أشكال مبهمة لمنحدرات وصخور مائلة إلى الخضرة، لكن عليَّ أن أعترفَ أنها كانت غير
واضحة وضبابية للغاية، ولعل القارئ يفلح أكثر مني في رؤيتها. أخبرني بلاتنر أنه رأى
منذ عودته، في صَحوِه ومنامه، مشاهدَ ميَّز خلالَها أماكنَ في العالم الآخَر، لكن ذلك غالبًا
ما يكون بسبب ذكرياته عن تلك المشاهد. من المرجَّح تمامًا أن ينجحَ أصحابُ البصرالحادِّ
للغاية أن يلمحوا أحيانًا مشاهدَ من هذا العالم الآخَر الغريب حولَنا.
لكن هذا استطراد يَحِيد بنا عن صُلب الموضوع، فمع بُزوغ الشمس الخضراء، بدا
أمامَه طريقٌ طويل من المباني السوداء في الوادي، لكنه كان معتِمًا وباهتًا؛ فأقدم بلاتنر،
بعد تردد، على نزول الجُرف شديد الانحدار، الذي يؤدي إلى تلك المباني. كان الجُرف
طويلًا، ونزوله شاقٍّا إلى أقصىحد، ليس فقط بسبب انحداره الحادِّ بل أيضًا لعدم ثبات
الكتل الصخرية التي تغطي كامل سطح التل. بدا نزوله الصاخب — كانت النيران تشتعل
في عقبَيْه بين الحين والآخَر لاحتكاكهما بالصخور — كأنه مصدر الصوت الوحيد في هذا
الكون، وذلك بعدما توقف الجرس عن الرنين. مع دنوِّه من تلك الصروح المتعددة، أدرك
أن ثمَّ تشابهًا فريدًا بينها وبين المقابر والأضرحة والشواهد، ولا يفرقها عنها إلا أنها كانت
جميعها سوداء بينما أغلب القبور تتميز بلونها الأبيض. ثم رأى عددًا من الأشكال الباهتة
المستديرة ذات اللون الأخضرالفاتح وهي تتدفق خارجةً من أكبر تلك الصروح، تمامًا كما
ينتشر المصلُّون خارجين من كنيسة. تفرقت تلك الأشكال في عدة اتجاهات حولَ الطريق
الفسيح، فسلك بعضها الأزقَّة الجانبية وعاود الظهور من جديد فوق منحدر التل، بينما
دخلت أشكالٌ أخرى بعضًا من المباني السوداء الصغيرة التي تصطفُّ على جانبَيِ الطريق.
لما رأى بلاتنر تلك الأشياء تنجرف إلى أعلى متجهة نحوه توقف محدقًا. لم تكن تمشي،
فقد كانت بلا أطراف في الواقع، وكان لها ما يشبه الرءوس البشرية، تتمايل أسفلَ منها
أجسادٌ تشبه أفراخ الضفادع. وقف بلاتنر في غاية الذهول أمام هيئتها الغريبة، المفرطة في
الغرابة في الحقيقة، حتى إن ذهوله غلب خوفه فلم يفزع منها حقٍّا. اندفعت تلك الأشكال
ناحيتَه، مدفوعة بالرياح الباردة التي كانت تهبُّ أعلى التل، مثلها في ذلك كفُقاعات الصابون
يحملها تيار الهواء، وحين تطلَّع إلى أقرب تلك الأشكال المتجهة نحوَه، تبيَّن أن لها بالفعل
رأسًا بشريٍّا، لكنْ بعينين أكبر من المعتاد، وتكسوه ملامح البؤس والهمِّ كما لم يعهدْها في
أيِّ وجه آدميٍّ من قبل. اندهش بلاتنر حين رآه لم يلتفت ليمعن النظر إليه، بل بدا أنه
يراقب شيئًا ما متحركًا لكنه غير مرئي، ويتبعه. وقف بلاتنر مشدوهًا لوهلة، ثم خطر له
أن هذا المخلوق ربما يراقب بعينيه الهائلتين شيئًا ما يحدث في العالم الذي غادره لتوِّه.
دنا المخلوق منه أكثر فأكثر، فألجمت الدهشةُ لسانه فعجز عن الصراخ، وإذا بهذا المخلوق
يُصدر صوت حكٍّ ضعيف وهو يدنو منه ثم ضرب وجهه ضربة خفيفة — كانت لمسته
باردة للغاية — ثم اجتازه صاعدًا إلى قمة التل.
خطر فجأة على بال بلاتنر اعتقادٌ غريب بأن لهذا الرأس شبهًا قويٍّا برأس ليدجت،
ثم وجه انتباهه إلى الرءوس الأخرى التي كانت تتحرك في حشود كثيفة نحو جانب التل.
لم يُبدِ أيٌّ من تلك الوجوه أدنى إشارة على إدراكه لوجوده أو تعرُّفه عليه، بَيْد أن رأسًا
أو اثنين اقتربا من رأسه، وكادا يفعلان به مثلما فعل الرأس الأول، لكنه انتفض متنحيًا
عن طريقهما. لمح بلاتنر على أغلب تلك الوجوه سيماء التحسرالعقيم التي رآها على الوجه
الأول، وسمع منها الأصوات الخافتة ذاتها الموحية بالبؤس والشقاء. كان أحد تلك الوجوه
— أو ربما اثنان — يبكي، وآخر يتدحرج بسرعةصاعدًا التل وعليه ملامح غضب شيطاني،
لكنَّ وجوهًا أخرى كانت تخلو من أيِّ انفعال، وعديد منها كان في عينيها نظراتُ مَن بلغ
مُبتغاهُ ونال غايته، ووجه واحد على الأقل تشير ملامحه إلى الانتشاء والاغتباط. لا يذكر
بلاتنر أنه ميَّز أيَّ تشابهات أخرى في تلك الوجوه التي رآها آنَذاك.
ربما مضت ساعات عديدة على بلاتنر وهو يراقب تلك المخلوقات الغريبة وهي تتفرق
فوق التلال، لكن لم يلبث أنِ استأنف هبوطه من التل بمجرد توقفها عن الانطلاق خارجة
من المباني السوداء المحتشدة في الوادي. اشتدت الظلمة حولَه إلى الحد الذي وجد معه
صعوبة في تَبيُّن موطئ قدمه، بينما استضاءت السماء فوقَه بلون أخضر فاتح برَّاق. لم
يساوره حينها جوع ولا عطش، لكنه لما شعر بهما لاحقًا، وجد جدولَ ماء بارد يجري
متدفقًا عند مركز الوادي، ولما بلغ منه الجوع مَبلغه تذوَّق تلك الطحالب الغريبة الموجودة
فوق الصخور ووجدها صالحة للأكل.
مضىبلاتنر يتلمَّس طريقه وسط المقابر المصطفَّة في الوادي، في بحث هائم عن دليلٍ
ما يفسر تلك الأشياء غير المفهومة. وصل بلاتنر بعد وقت طويل إلى مدخل المبنى الكبير
الذي يشبه الضريح، والذي كانت الرءوس الغريبة تنبثق منه، وبداخله رأى حشدًا من
الأضواء الخضراء تتوهج فوق ما يشبه مَذبحًا من البازلت، وفي وسط المكان يتدلى من
برج أجراس بالأعلى حبل من الحبال التي تُربَط بالأجراس لقرعها، وعلى الحائط تَرسم
النيرانُ رموزًا وخطوطًا لا علم له بها. بينما يقف بلاتنر مذهولًا أمام دلالة تلك الأشياء،
نمى إلى سمْعه وقعٌ يخفت لأقدام ثقيلة يتردد صداها بعيدًا عبر الطريق، فركض خارجًا
نحو الظلام ثانيةً لكنه لم يستطع رؤيةشيء، فراودته نفسه لجذب حبل الجرس، ثم قرر
أخيرًا تعقب وقع الأقدام، ورغم ركضه لمسافة بعيدة، لم يُفلح قطُّ في اللحاق بها، كما أن
صياحه ضاع عبثًا. بدا له أن الوادي يمتد إلى ما لا نهاية. وكان مظلمًا على طول امتداده،
تضاهي حُلكته ظلمةَ ليلٍ أرضيٍّ لا يُضيئه سوى النجوم، بينما يربض على طول الحافَة
العليا من أجرافه ذلك النهار الأخضر المروع، ولم يعد بالأسفل أيٌّ من الرءوس الهائمة،
فقد بدت جميعها منشغلة تمامًا على امتداد المنحدرات العليا، وحين رفع بصره رآها تَهِيم
هنا وهناك، وكان بعضها يحلِّق في مكانه، بينما لمح رءوسًا أخرى تطير مندفعةً عبر الأثير.
وكانت تتميز دون غيرها بلونَيْها ،« نُدَف الثلج الكبيرة » وأخبرني بلاتنر أن الأخيرة ذكَّرتْه ب
الأسود والأخضرالفاتح.
يذكر بلاتنر أنه أمضىوقته في تعقب تلك الخطوات الراسخة التي لا تَحِيد عن مَسعاها
دون أن يدركَها قطُّ، وتلمُّسِ الطريق مستكشفًا بِقاعًا جديدة في ذلك الحاجز الصخري
اللعين الذي لا تبدو له نهاية، وتسلُّقِ تلك المرتفعات القاسية صعودًا وهبوطًا، والتجولِ
هائمًا بين ذُراها، وتأمُّل تلك الوجوه الهائمة. وكان ذلك الجزء الأكبر من أيامه السبعة أو
الثمانية التي أمضاها في ذلك العالم، فهو لم يُحصِ بدقة أيامه هناك. رغم أنه اكتشف
مرةً أو مرتين أعينًا تراقبه، فإنه لم يخاطب أيَّ كائن حيٍّ طوالَ تلك المدة. كان معتادًا
على النوم وسط الصخور الرابضة عند جانب التل. لم تكن الأشياء الأرضية باديةً للعين
في ذلك الوادي؛ لأنه، من المنظور الأرضي، في أعماق سحيقة تحت سطح الأرض، لكن ما
إن بزغ النهار الأرضي، حتى صار العالم مرئيٍّا بالنسبة إليه فوق المرتفعات. وجد بلاتنر
نفسه أحيانًا يصطدم متعثرًا بالصخور ذات اللون الأخضرالداكن، أو يوشك أن يَهوي من
فوق شَفا جُرف هارٍ، بينما كانت الأغصان الخضراء التي تميز أزقة ساسيكسفيل تتمايل
حولَه من كل ناحية، أو بدا له مجددًا أنه يسير عبر شوارع ساسيكسفيل، أو يراقب خِفيةً
الشئون الداخلية الخاصة ببعضالعائلات. ثم كانت المفاجأة: اكتشف بلاتنر أن كل إنسان
تقريبًا في عالمنا ترتبط به بعضٌ من تلك الرءوس الهائمة؛ أي إن كل شخص في العالم
تراقبه تلك الأرواح البائسة بين الفَيْنة والأخرى.
إذن مَن هؤلاء — مراقبو الأحياء؟ لم يعلم بلاتنر الجواب قطُّ، بَيْد أن اثنين منهم
سُرعان ما وجداه وعكفا على ملاحقته، وكانا يُشبهان والده ووالدته حسبما يذكرهما في
طفولته، وثَمَّ وجوه أخرى تحوِّل عيونها إليه، مراقبةً إياه بين الحين والآخر؛ عيون تشبه
عيون موتى مارسُوا تأثيرًا عليه، أو سببوا أذًى له، أو أسدَوْا إليه عونًا في صباهُ ورجولتِه،
وكان يغمره شعور غريب بالمسئولية متى نظروا إليه. غامر بلاتنر وتحدث إلى والدته،
لكنها لم تُحِر جوابًا. تطلعت إلى عينيه بنظرات ثابتة تفيض حزنًا وعطفًا، وبدت كأنها
تشي بقليل من العتاب أيضًا.
لم يكن من بلاتنر إلا أنْسرد هذه القصة، لكنه لم يسعَ إلى تفسيرها. ليس أمامَنا إلا
أن نخمِّن ماهية هؤلاء المراقبين، أو سرَّ مراقبتهم الدءوبة عن كَثَب لعالمٍ غادروه إلى الأبد،
هذا على افتراضأنهم موتى حقٍّا. إن التفسير الذي يبدو مقبولًا لعقلي هو أنه حين ينتهي
أجلنا ونفقد كل اختيار للخير أو الشر، ربما لا يزال علينا أن نشهد تبعات ما ألقينا بذوره
ونرى مجريات ما بدأنا من أحداث؛ فلو أن الروح البشرية تبقى بعد الممات، فلا شك أن
اهتماماتها تبقى كذلك بعد الممات. لكن هذا لا يَعْدو أن يكونَ تخميني الشخصي لمعنَى
ما رآه بلاتنر. لم يقدِّم بلاتنر أيَّ تفسيرات؛ لأنه لم يحصل على أيٍّ منها، وهي حقيقة
نُهيب بالقارئ أن يتفهمَها بوضوح. مضت الأيام على بلاتنر، يومًا بعد يوم، وهو يَهِيم على
وجهه في هذا العالم الأخضرالمنعزل عن عالمنا حتى أصابه الدُّوار، وأنهكه التعب، وبلغ منه
الوهَن والجوع مبلغهما، لا سيما قُبيل عودته. خلال النهار — أي النهار الأرضي— كانت
الرؤية الباهتة التي تحيط به من كل جانب لمشهد ساسيكسفيل القديم المألوف تُشعره
بالضيق والضجَر، إذ لم يكن يرى موطئ قدمَيْه، وكان وجهه يتلقى بين الحين والآخر لمسةً
باردة من إحدى الأرواح الناظرة. أما بعد حلول الظلام، فكان العدد الهائل من المراقبين
المحيطين به واستغراقهم الحثيث في البؤس يُربكان عقله إلى حدٍّ يفوق الوصف. استولت
على بلاتنر رغبةٌ جارفة في العودة إلى العالم الأرضيالذي كان شديد القرب لكنه عاجز عن
وُلوجه، وقد أنهكه ذلك الشوق حتى استنزف قُواه. كما أن غرابة الأشياء حوله ومخالفتها
لطبيعة الأمور على الأرض قد سببت له معاناة ذهنية طاحنة، هذا بخلاف ما سببه له
مراقبوه المزعجون من ضيق وقلق يستعصيان على الوصف، فكان يُقدم على الصُّراخ طالبًا
منهم الكف عن التحديق فيه أو يَنهرهم أو يركُضفارٍّا منهم. بَيْد أنهم لم يبرحوا صامتين
مستغرقين في تحليقهم، ومهما ركضفوق الأرضالوعرة، كانوا يلاحقونه حيث توجه.
سمع بلاتنر، قُبيل مساء اليوم التاسع، وقْع الخطوات الخفية وهي تدنو، بعيدًا أسفل
الوادي، وكان هائمًا حينَها أعلى القمة الفسيحة للتل ذاتِه الذي شهد سقوطه حين دخل
هذا العالم الآخر الغريب أولَ مرة، فاستدار ليجريَ مسرعًا أسفلَ الوادي، متحسسًا سبيله
عَجِلًا، وقد اختلبته رؤية شيء يحدث داخل غرفة في شارع خلفي قربَ المدرسة، وقد ميَّز
وجهَ الحاضرَيْن في الغرفة دون أن يعرفاسمَيْهما. كانت النوافذ مفتوحة والستائر مرفوعة
وشمس الغروب تبعث بأشعتها الوضاءة إلى داخلها؛ لذا بدت الغرفة بجلاء تامٍّ في البداية
في شكل مستطيل واضح فوق صفحة الأرض السوداء وسماء الفجر ذات اللون الأخضر
الباهت، تمامًا كصورة يعكسها مِصباح العرضعلى حائط. لم يكن ضوء الشمس هو ما
يضيء الغرفة فقط، فقد كانت في الغرفة شمعة مضاءة بالفعل.
كان هناك رجل هزيل راقدٌ في الفراش، ووجهه الأبيض الشاحب يبدو مخيفًا فوق
وسادته غير المستوية، وقد رفع يديه المنقبضتين فوق رأسه، وبجانبه منضدةصغيرة تحمل
القليل من قوارير الدواء، وبعض الخبز والماء، وقارورة فارغة. كان الرجل الهزيل يفتح
شفتيه بين الحين والآخر معبرًا عن كلمة يعجِز عن نطقها، غير أن السيدة لم تلحظ ذلك
مطلقًا؛ إذ انهمكت في إخراج مجموعة من الأوراق من مكتب قديم الطراز مستقر في الركن
المقابل من الغرفة. كانت الصورة في البداية واضحة للغاية حقٍّا، لكن مع بُزوغضوء الفجر
الأخضرفي الخلفية واشتداد وهجه، بهتت الصورة وأصبحت شفافة أكثر فأكثر.
مع اقتراب تلك الخطوات، التي يتردد صداها عاليًا في ذلك العالم الآخر بينما تتقدم في
سكون تام في عالمنا هذا، أبصربلاتنر حولَه عددًا هائلًا من الوجوه الشاحبة تبرز محتشدة
من الظلمات مراقبةً هذين الشخصين في الغرفة. لم يسبق لبلاتنر طوال ما مضىمن الأيام
أن رأى مثل هذا الحشد الهائل من مراقبي الأحياء. كان هناك جمع من هؤلاء المراقبين
لا يرصدون سوى الرجل رهين الفراش، بينما يركز جمع آخر على مراقبة السيدة في أسًى
لا حدَّ له. كانت السيدة تفتش بعينَيْن تنضحان طمعًا وجشعًا عن شيء لا تجده. اكتظت
الوجوه حول بلاتنر، وراحت تمر أمام ناظرَيْه ضاربةً وجهه مرارًا وتكرارًا، وأحاط به
من كل جانب ما كانوا يُصدرونه من زفرات التحسر العقيم. لم تتسنَّ له الرؤية بوضوح
إلا بين الحين والآخر؛ فقد كانت الصورة أحيانًا ما تهتز في ضبابية عبر حجابٍ نسجته
الانعكاسات الخضراء لحركات الوجوه المراقبة. لا بد أن السكون التام كان يخيِّم على
الغرفة، ولاحظ بلاتنر أن لهب الشمعة كان يتصاعد مشكِّلًا خطٍّا رأسيٍّا تمامًا من الدُّخَان.
ورغم سكون الغرفة، كان وقع كل خطوة وتردد صداها يَقرع أذنيه كالرعد. والوجوه!
ظهر وجهان، قرب وجه السيدة بالأخص: كان أحدهما وجه سيدة أيضًا، وجه أبيض
واضح القسمات، قسمات لعلها كانت فيما مضىجامدة قاسية، أما الآن فقد ألانتْها مسحة
من الحكمة غريبة عن عالمنا الأرضي. ربما كان الوجه الآخر لوالد السيدة. كان من الواضح
أن الوجهَيْن ممعنان في تأمل فعل بدا دنيئًا بغيضًا، لكنه ما عاد بوسعهما الحيلولة دونه
ومنعه. ظهرت خلفَهما وجوهٌ أخرى، لعلها لمعلمِين لقَّنوا طلابهم السوء ولأصدقاء لم يؤدوا
واجب الصداقة كما ينبغي. حلَّق فوقَ الرجل كمٌّ هائل من الوجوه أيضًا، لكن لم يبدُ أنها
لوالديه أو معلميه! وجوه ربما كانت ذات يوم فظة غليظة، لكنها الآن قد تطهرت بالأسى
والألم فعادت إلى عافيتها! تقدم ذلك الحشد وجهُ فتاة يافعة، ولم يكن غاضبًا ولا متندمًا،
وإنما تعلوه أمارات الصبر والنَّصَب، وخُيِّل إلى بلاتنر أنه ينتظر الخلاص. رغم كل هذه
التفاصيل التي ذكرها بلاتنر، لم تسعفه قواه على الوصف عند تذكر كل هذا الحشد الغفير
من الملامح الباهتة، فقد تجمعت كل هذه الوجوه عند قرع الجرس، ورآها جميعًا فيما لا
يتجاوز الثانية. يبدو أنه، من فرط ما تعرضله من إثارة وانفعال، مد أصابعه المرتبكة،
لا إراديٍّا، مخرجًا قارورة المسحوق الأخضر من جيبه وحملها أمامه، لكنه لا يتذكر شيئًا
من هذا.
وفجأة توقفت الخطوات، فتطلع مترقبًا ما سيحدث تاليًا، لكنه لم يسمع سوى السكون
التام، ثم إذا بصوت جرسيقطع السكون المفاجئ وكأنه شفرة حادة دقيقة، وعندها بدأت
الوجوه المحتشدة في الترنح جيئة وذهابًا، ولم يطغَ على قرع الجرس سوى صوت نحيبٍ
تعالَى حوله من كل ناحية. لم تسمع السيدة كل ذلك؛ فقد كانت منشغلة الآن بحرقشيء في
لهيب الشمعة. ثم دوَّى الجرس ثانيةً، فغرق كل شيء في عتمة داكنة، وهبَّت ريحٌصَرْصر
كالزَّمهرير، عصفت بذلك الحشد من الوجوه المراقبة التي راحت تدور حولَه كدوامة من
أوراق الربيع الذابلة. ومع قرع الجرس للمرة الثالثة، امتد شيء عبر الوجوه وصولًا إلى
الفراش. لا بد أنك سمعت من قبل عما يُسمى شعاع الضوء، أما هذا فكان أشبه بشعاع
الظلام، ولما تطلع إليه بلاتنر مجددًا رأى أن هذا الشعاع في الواقع كان ذراعًا معتمة غامضة
تبرز في نهايتها كف.
علت الشمس الآن فوق القفار السوداء الممتدة على طول الأفق، وأصبح منظر الغرفة
باهتًا وخافتًا للغاية. استطاع بلاتنر أن يلمح غطاء الفراش وهو يضطرب وينتفض، وأن
السيدة قد أجفلت حين التفتت إليه ناظرةً.
ارتفع ذلك الحشد من مراقبي الأحياء عاليًا مثل سحابة من الغبار الأخضرتسوقها
الرياح، وسرى بعدَها في خفة منحدرًا نحو ذلك المعبد القائم في الوادي. ثم أدرك بلاتنر
فجأة دلالة الذراع السوداء الغامضة التي امتدت فوق كتفه منتزعةً فريستها. لم يجرؤ
بلاتنر على الالتفات برأسه ليرى ذلك الظل الرابض وراءَ الذراع، بل أطلق ساقَيْه للريح،
مغطيًا عينيه، وباذلًا جهدًا جهيدًا في العدْو، وبعد أن ركض لمسافة عشرين مترًا تقريبًا
انزلق فوق كتلة صخرية، وسقط إلى الأمام على يديه، وتهشمت القارورة وانفجرت ما إن
لامس الأرض.
وفي لحظة وجد بلاتنر نفسه جالسًا، مذهولًا نازفًا، وجهًا لوجه أمام ليدجت في الحديقة
القديمة المسوَّرة الكائنة خلف المدرسة.
إلى هنا تنتهي قصة ما شهده بلاتنر. لقد جاهدت، بنجاح حسبما أعتقد، ميلي الفطري
كأديب إلى تنميق مثل هذه الأحداث وتجميلها؛ فقد بذلت جهدي لنقل القصة بنفسالترتيب
الذي رواه بلاتنر، وحرصت على تفادي أيِّ محاولة لإحداث تغيير في أسلوب القصة أو وقعها
أو بنائها. لم يكن من العسير، مثلًا، أن أحوِّل مشهد وفاة الرجل على فراشه إلى ما يشبه
الحبكة الروائية يكون لبلاتنر دور فيها. لكن بعيدًا عن ذلك الادعاء المردود بتزييف أحداث
أغرب قصة حقيقية، فإن أيٍّا من تلك الوسائل المبتذَلة كانت ستُفسد، في رأيي، ما لهذا
العالم المظلم من وقع غريب على القارئ، وذلك بأضوائه الخضراء الباهتة ووجوهه المراقبة
الهائمة، التي لا نراها ولا يمكننا التواصل معها، لكنها تحيط بنا جميعًا من كل جانب.
تبقى ملحوظة واحدة يجدر بي أن أضيفَها، ألا وهي أن حالة وفاةٍ وقعت بالفعل
في فينسنت تراس، خلف حديقة المدرسة تمامًا، وبحسب ما يمكن إثباته، وقعت الوفاة
في ذات اللحظة التي عاد فيها بلاتنر. كان المتوفىَّ يعمل محصِّلًا لأقساط التأمين ووكيلًا
تأمينيٍّا، أما أرملته، التي تصغره كثيرًا، فقد تزوجت الشهر الماضيمن رجلٍ يُدعى السيد
ويمبر، وهو طبيب بيطري من أولبيدنج. نظرًا لتردد هذا القسم من القصة على الألسنة
في ساسيكسفيل بأكثر من شكل، فقد وافقت أرملة المتوفىَّ على إيرادي لاسمها، شريطة أن
أعُلنصراحةً رفضها الباتَّ لكل ما ذكره بلاتنر بشأن لحظات زوجها الأخيرة؛ فقد أنكرت
حرقها لأي وصية، رغم أن بلاتنر لم يتهمْها قطُّ بارتكاب مثل هذا الفعل؛ لم يكتب زوجها
سوى وصية واحدة عقب زواجهما مباشرةً. لا شك أن وصف بلاتنر لأثاث غرفة المتوفىَّ
يبلغ من الدقة حدٍّا يثير الاستغراب، لا سيما أنه لم يسبق له من قبلُ أنْ رأى الغرفة.
ثَمة نقطة أخرى لا بد من التشديد عليها خشية أن أبدوَ مؤيدًا للأفكار الخرافية
الساذجة، حتى إن عرَّضني ذلك للوقوع في التكرار الممل. أعتقد أن غياب بلاتنر عن عالمنا
على مدار تسعة أيام أمر ثابت بالأدلة، غير أن هذا لا يُثبتصحة قصته، فمن المحتمل تمامًا
تعرُّضالمرء للهلاوس حتى وهو خارج الوجود ثلاثي الأبعاد. يتعين على القارئ أن يضعَ
مثل هذه الملاحظة، على الأقل، نُصب عينيه.