الفصل الأول: نهاية البداية
أحيانا يعد الصمت الدامس نذيرا لحدث مشؤوم يوشك وقوعه، أو كما يطلقون عليه .."هدوء ما قبل العاصفة"، هذا بالضبط وصف دقيق لحالة آل (هاندرسون) تلك الأمسية .. بين جدران غرفة المشفى الكئيبة ينتظر الوالدان على أحر من الجمر قدوم المستجدات التي تخص الحالة الصحية لابنهما الوحيد ذي السنوات الأربع، يشاهدانه و هو مستلق على سرير المرضى و قد تم توصيله بعدة أنابيب طبية على مستوى أنفه و ذراعيه.
تجلس السيدة (هاندرسون) بجوار صغيرها النائم تربت على رأسه تارة و على جبينه تارة أخرى محاولة طرد الأفكار السلبية التي اجتاحت خاطرها المكسور.. بينما يحوم السيد (هاندرسون) حول أرجاء الغرفة ذهابا و إيابا بخطوات متسارعة تزامنت مع تسارع دقات قلبه، لا ينفك عن شبك أصابعه ببعضها لعله يبقي نفسه منشغلا عن الإفراط في التفكير.. على الأقل ريثما تحين لحظة الحقيقة.
و ما هي إلا دقائق معدودة حتى يكسر الصمت الدامس صوت طقطقة صدر من مقبض باب الغرفة ليطرد معه شرود الزوجين و سراحهما، تنتفض السيدة (هاندرسون) من مقعدها و تقف متأهبة لأسوأ الاحتمالات، بينما يدنو منها زوجها ماسكا يدها المرتجفة بإحكام محاولا الحفاظ على رباطة جأش كليهما.
يفتح الباب على مصرعيه كاشفا عمن يقبع خلفه .. إنه الطبيب المنتظر .. حامل الخبر الذي سيحدد مصير هذا الطفل البريء .. بل مصير الأسرة بأكملها ..دون التلفظ بكلمة واحدة يتقدم متجاوزا عتبة الباب بخطوات متثاقلة علا صداها، ليتسمر بعدها في موضعه مواجها آل (هاندرسون) بوقفة تعتريها قشعريرة مكبوتة، يتراقص بؤبؤا عينيه يمينا و شمالا خلف تلك النظارات، كما لو أنه يتجنب عن قصد النظر مباشرة إلى تلك الوجوه البائسة..
يستشعر كل من السيد و السيدة (هاندرسون) هالة الشؤم التي انبعثت من هيئة الطبيب مذ دخل الغرفة ليتفاقم قلقهما بشكل مضاعف، يخاطبه السيد (هاندرسون) سائلا إياه بنبرة مهزوزة: كيف حال ابني؟ هل سيكون على ما يرام؟ يرد الطبيب حانيا رقبته للأسفل و هو يحدق في ذلك الملف الأصفر الذي يحمله: سيد و سيدة (هاندرسون) .. ها قد ظهرت نتيجة التحليل الخاصة بابنكما (آدم) و .. لحظة من الصمت تبعت كلامه بدت كتمهيد لقادم لا يبشر بالخير، لم تتمالك السيدة (هاندرسون) أعصابها المرهقة و سألته بانفعال: و؟؟؟ صمتك هذا يخيفني أيها الطبيب .. رجاء أخبرني ماذا سيحل بصغيري؟.. سرعان ما تتكتل الدموع داخل عينيها ليضمها زوجها إلى جنبه بقوة لافا ذراعه الأيمن حول جذعها بينما يمسح على كتفها برفق محاولا تهدئتها.
يتأمل الطبيب حالة هذه الأسرة المزرية، يتذكر عدد المرات التي اضطر فيها إلى اتخاذ مواقف مشابهة طيلة مسيرته المهنية .. يتمنى لو يعود به الزمن إلى طفولته السعيدة و يمسح من ذاكرته ذلك الحلم البريء الذي نما معه منذ الصغر.. صحيح أنه حقق الجزء الذي يتضمن مساعدة الناس المحتاجة.. إلا أن منصبه أيضا قد أجبره على التعامل مع الحالات عديمة الأمل.. و هذا بالضبط ما هو على وشك فعله بعد لحظات ..
يطلق الطبيب العنان لتنهيدة طويلة ثم يقول: السرطان في أقصى ذروته.. لم تعد رئتاه فعالتين بعد الآن .. يؤسفني حقا إعلامكما بهذا لكن .. لن يعيش لأكثر من شهرين كأقصى تقدير .. اخترقت تلك الكلمات سمع الوالدين كالرصاصة لتجثو السيدة (هاندرسون) على ركبتيها و شلالات من الدموع لم تلبث تنهمر على خديها دون توقف، حتى السيد (هاندرسون) لم يتمكن من الحفاظ على ثباته و انهار بالبكاء هو الآخر.. كيف لا و فلدة كبدهما سيغادر الحياة في عمر الزهور و يتركهما وحيدين..
و الآن بعد أن أتم الطبيب مهمته المستعصية لم يعد يملك سببا يلزمه المكوث في تلك الغرفة لوقت أطول.. خاصة بعد أن أغرقتها دموع الانكسار و اليأس، لذا يغادر سريعا بقلب منفطر دون أن يلتفت وراءه.. و خضم تلك الأجواء التعيسة يفيق الطفل (آدم) من سباته بعد أن عكر صفوه تعالي أصوات البكاء بجانبه، ليلتفت ناحية مصدر الصوت و يفاجئ بمشهد والديه و هما في تلك الحالة المزرية..
أمي.. أبي.. لماذا.. تبكيان..؟-
و ما إن تنبهت السيدة (هاندرسون) أن ابنها مستيقظ إذ بها تنهض على قدميها من جديد و ترتمي على سريره حاضنة إياه بشدة وسط دموعها المنهمرة.. و (آدم) الصغير لا يفقه شيئا مما يحدث حوله.. يحدق في والده الذي وقف في زاوية بعيدة من الغرفة يكافح لاستيعاب حقيقة أن ابنه لن يكون سوى ضحية للمرض الخبيث.. نعم إنها تلك الأمسية.. حيث انقلبت حياة آل (هاندرسون) رأسا على عقب..