(1)
كأن مثانته كانت تتحين تلك اللحظة منذ أن خرج إلى الماء، فأطلقَت العنان لنفسها دون حرج لينساب الدفء بين ساقيه، وانسابت معه قدرته على الحركة.
غاصت الصخرة في الماء وظهر جسد على السطح، ممددًا في هدوء عجيب، طويلًا كطريقٍ سيأخذك إلى البرّ في نهايته، عليه خطوط وأخاديد تتلاقى وتتفرق كخريطة لعالم آخر، خريطة تعمّها الندوب والقشور والبقع البيضاء عند مقدمته، أما باقي جسده فكان رماديًّا شاحبًا كالقمر إذا انطفأ.
إنه هو بالفعل.
إنه كل حقيقة قاسية اختبرها البشر وكل صدمة صعقت أحدهم، رؤيته كانت كالاستيقاظ من الحلم على مشارف النوم، أو كالماء البارد على الجسد المحموم، إنه كل شيء يخرجك من عالمك، ويقلب كيانك، ويمزق توقعاتك، ويعكر صفو أحلامك.
تطفو أمامه أقبح حقيقة رآها في حياته، حقيقة لا تتورع عن إبداء قبحها وقسوتها، ولكي يعلن عن نفسه بجلاء أكثر رفع ذيله الأسود العريض الذي يبدو أنه قد قُضِمَ منه قطعة؛ فوق الماء ونفث عمود رذاذ أبيض متلألئ من ظهره في خُيَلاء بَيِّنة، فقبّلت قطرات الرذاذ ذات الرائحة الكريهة وجه دكرور، فلذعت جلده واقشعر جسده وقد أفاق من إغمائه الذي طال دهرًا، لا يعلم لماذا يعجز عن الالتفات عنه، "ماذا أفعل الآن؟ كنت مقدمًا على فعل شيء، ما هو؟ منذ متى وأنا أتعلق هكذا؟".
ثم غاص الحوت واختفى تحت السفينة، فلم يجد دكرور أمامه سوى الجثة العائمة على بحرٍ من دمائها، رؤيتها فقط أعادت إلى عقله كل فكرة كانت قد هربت منه حين رأى الحوت.
أكمل دكرور طريقه إلى متن السفينة بعد أن استعاد شيئًا من رشده، وما أن كاد يصل وجد الرجل المهندم ينظر إليه من أعلى متعجبًا، ربما كان يتساءل إن كانت إحدى الجثث قد عادت لتنتقم، مد الرجل إليه يدًا يقطر منها الدم ليساعده على الصعود وهو يتمتم بكلمات، لكنه تجاهلها وصعد بنفسه.
ولم يلحظه أحد، إذ كان أحدهم يحمل جثة على كتفه ينزل بها إلى الكوثلة، ووراءه اثنان يمسكان بأخرى أمام بعضهما من الذراعين والقدمين، وآخَر يجر جثة من يدها، والبقية جالسين بوجوه ممتقعة وعيون شاردة في بقعة دم مجاورة أو يدين راجفتين، لا يفعلون شيئًا غير الجلوس، مرر بصره بينهم فوجدهم جميعًا ملطخين بالأحمر وحرابهم يقطر منها الدم كأنها هي المجروحة، وظلوا على حالهم فترة، حتى بدأ بعضهم في جمع الحبال، وبدأ آخرون يقومون بأعمال أخرى، وكل ذلك في صمت وهدوء.
جاء عمار وجلس بجانب دكرور دون كلام، ثم جاء أحد الرجال الذين كانوا يحملون الموتى ومعه طبق صغير يحتوي على التفاح، فألقى بتفاحة إلى الرجال الواحد تلو الآخر، حتى عادت الابتسامات إلى وجوههم شيئًا فشيء وعادت ألسنتهم إلى عملها، وألقى تفاحتين واحدة لدكرور وأخرى لعمار لكن التقط عمار كلاهما وضحك، ثم قال عبارة إلى صاحب التفاح أنهاها بـتاندي، فرد عليه تاندي بنبرة تحذيرية رافعًا تفاحة عطنة فوق رأسه متوعدًا، فضحك عمار أكثر وأعطا دكرور تفاحته، فذهب تاندي إلى سبيله.
ثم قال عمار وهو يمضغ التفاحة:
- كيف حالك؟
لم يعِره دكرور اهتمامًا وظل يتأمل تفاحته دون أن يأكل منها، فأردف:
- أعلم فيما تفكر.. إننا وحوش، قتلة، مجرمين.. كل هذا صحيح، وأعلَم أنك رأيتَ ما يكفي لأن تحكم، لكنها ليست الصورة كاملة، فقط لا تحكم الآن
تناول قضمة أخرى من تفاحته وأردف:
- أتعلم.. أنا أيضًا صعدت أول مرة دون أن أعلم شيئًا، حتى أني فكرت أن أطعن دييجو، لكن اختلفت الأمور كثيرًا بعدها
- لماذا تفعلون ذلك؟
سكت عمار لبرهة يفكر في إجابة ثم قال:
- نحن نعيش في بطن حوت إن لم تلاحظ، كما أننا فقط لا نحب صيد الحيتان ولا الحوّاتين، انتظر وسترى.. ثم إن جميعنا كنا مجرمين قبل أن نأتي إلى هنا، ولم يضرنا أن نكون كذلك بعد أن أتينا، أم أنك كنت قديسًا؟
ثم بدا أنه لاحظ أنه قال شيئًا خاطئًا فقال:
- تبًا!، معذرةً يا سيد! لم يكن ينبغي أن أقولها هكذا، لكن أتعلم.. سيخبركَ أطلس بشكل أفضل
التفت دكرور وراءه إلى البحر بحثًا عن الحوت ولم يجده فسأل:
- أين هو؟
التفت عمار معه وقال:
- ربما ذهب ليقضي حاجة ما، سيعود قريبًا.. دائمًا ما يفعل
أصبحت الأمور بالنسبة لدكرور لا تحتمل، وكل شيء أصبح أكثر من مقدرته على التفكير، فهو لا يريد أن يسلم نفسه لفكرة أنه سيعيش في بطن حوت ما بقيَ من حياته، وكلما فكر في الأمر أكثر تأكد أكثر أن لا مفر منه، ثم سأل عمار وهو لا زال يشاهد البحر وراءه:
- وما الذي يمنعني من قتلك والهرب؟
- أولًا أنت غبي، ثانيًا أين ستذهب ونحن في وسط المحيط؟، ثالثًا والأهم؛ لقد قتلنا لتوّنا تسعة وعشرين بحارًا... تبًا! أريدكَ أن تعلم أننا كلنا في هذا معًا، وأننا إخوتك الآن ولسنا أعداءك يا... ذكرني ماذا كان اسمك؟
- دكرور
ضحك عمار وقال:
- أي اسم هذا؟! لا يمكن أن يكون هذا اسم مصري، لا يمكن أن يكون اسم إنسان حتى
ابتسم دكرور رغمًا عنه نصف ابتسامة، فلاحظها عمار وقال بطيبة:
- أعلم أنك تظن أن الأمور ستكون أسوأ، لكننا سنحرص على أن تكون أفضل يا دكرور
شعر دكرور بقليل من الألم في صدره مكان الطعنة، وعاد ينظر أمامه وربما أراد أن يردّ، لكنه وجد بوهاردي واقفًا أمامهم عاقدًا ذراعيه إلى صدره، وينظر إليه بغضب لم يُخِفْ دكرور بقدر ما أخافته ملابسه الدامية، وفكرة أنه قد ارتكب القتل منذ دقائق، ثم وجه إليه الكلام بحِدّة كأنه يعنفه، فشعر دكرور بالارتباك والتوتر رغم أنه لا يفهم كلمة مما يقال، فتولى عمار الرّد عليه في تحدٍ، وسرعان ما تبادل الاثنان الكلام الحاد وعلا صوتهما، حتى أنهى بوهاردي الكلام بكلمة أخيرة وجهها إلى كليهما وتركهم وذهب إلى سبيله.
وأحس دكرور ببعض الحرج والامتنان لعمار، فمن الواضح تمامًا أنه كان يدافع عنه، ثم عاد عمار يجلس وقال:
- لا تعبأ به، بوهاردي طيب لكنه... فقط لا تعبأ به
- هو القائد بينكم؟
- شيء من هذا القبيل، إننا فقط نستمع لما يقول
ثم ازداد الألم في صدره ومع كل نفس، فوضع يده داخل قميصه فأعادها دامية فازداد ألمه وقلقه، لاحظ عمار ذلك فسأل بلا مبالاة:
- ما هذا؟ متى حدث ذلك؟
- طعنة، قبل أن... كنتُ أظن أنها قد التأمت
- صحيح.. ما المشكلة في صوتك
رفع دكرور رأسه وأشار إلى الندبة على حلقه وهمس:
- إصابة قديمة
- منذ متى؟
- أربعة عشر عامًا
- تبًا! إنها مدة طويلة، لكانت شُفِيَت بحلول الآن...
★★★
سعل دكرور وعقد حاجبيه في استغراب وحدج عمار بنظرة لا تحتاج إلى الكلام لتخبر أنه لا يفهم ماذا يقصد، فأجاب عمار على تلك النظرة:
- فهناك منا من كان حيًا معافًا قبل أن يغرق، وهناك من غرق وهو مصابًا أو شبه حي
اعتدل دكرور في جِلسته ونظر لعمار بتركيز أكثر، ولما عرف عمار أنه أثار اهتمامه أكمل كلامه في حماس أكبر:
- أترى موريس هناك...
وأشار إلى الرجل العجوز الذي لا يبدو ذلك على خفة حركته، وقال:
- كان ضابطًا على سفينة في الأسطول الفرنسي دمرت سفينته فقُذِف منها وهو فاقدًا الوعي، ودييجو...
وأشار للشاب صاحب الوشوم بجانب موريس وأردف:
- ...كان قرصان إسباني تشاجر مع أحد زملاءه وخسر طبعًا فألقوه من السفينة، وتبين له بعدها أن نصفه السفلي قد شُلّ وأصبح عاجزًا عن المشي من إثر الضرب، وهناك رالف...
وأشار إلى الرجل المهندم الذي كان أمامهم شبه راكع يتكئ على حافة السفينة وأردف:
- ...كان معافًا حين غرق لكنه أصيب أكثر من مرة في...
قطع عمار كلامه بعد أن دقق النظر في رالف وهمّ إليه بسرعة، فوجده قد وقع ممددًا على ظهره يسعل دمًا وينزف من أنفه، فربّت على صدره ومسح الدم عن أنفه في ثبات انفعالي عجيب كأنه معتاد على ذلك حتى أنهم تبادلا الابتسامات، ثم نادى عمار على بوهاردي وأشار إلى الشمس التي اقتربت من الغروب، فالتفت إليهم لكن نظر إلى مكان آخر كأنه لا يراهم.
وازداد سعال دكرور بشدة كأن في حلقه ترابًا، وحين ساءت حالة رالف ذهب إلى باقي الرجال فكان منهم يقفون عند سور السفينة يشاهدون البحر في ترقب، وبجانبهم كان دييجو يجلس ممددًا ساقيه أمامه، ويربّت على صدر تاندي الذي كان مستلقيًا يسند رأسه على فخذ دييجو، ويئنّ ولعابه الدامي يسيل من بين شفتيه.
"ما بال هؤلاء الرجال؟ لقد كانوا بخير ويقتلون على ما يرام منذ قليل"، وكز دكرور ظهر أحدهم وندم حين وجده موريس، ثم أشار إلى عمار ورالف الممدد بجانبه فقال موريس شيئًا لبوهاردي وتوجّه ناحيتهم، ولما أراد بوهاردي أن يتبعه لم يكمل الخطوتين حتى اصطدم ببرميل كبير أمامه مباشرةً، واختل توازنه من الصدمة فعاد موريس وأجلسه وساعده سيجورد، فجلس وهو يضع يديه على عينيه ويفركها، ولاحظ دكرور سيجورد وهو يسعل الدم في راحة يده فمسحه في ردائه بسرعة ونظر إلى دكرور بازدراء كما لو كان قد رأى عورته.
شعر دكرور بصدره يحرقه بشدة مكان الطعنة ففكر والتعجب واضح على وجهه "ربما صاروا مثل السمك.. يموت حين يخرج من الماء"، ثم اشتد سعاله حتى لم يقدر على الوقوف مستقيمًا، وحينها صاح القزم من أعلى الصاري، وأشار نحو الأفق وقال شيئًا جعل الرجال تهتف في فرح، ثم نزل مافي الضخم بسرعة إلى أسفل ومعه بلطته، وسرعان ما سمع صوت طرق على الخشب.
وذهبوا حيث أشار القزم ليجدوا الحوت يتقافز فوق سطح الماء بجسده الهائل، يغوص ثم يعود ويخترق الهواء، يوشك أن يطير بزعنفتيه الصغيرتين قبل أن يجذبه البحر إليه مرة أخرى، وقد استرهب دكرور حجمه الهائل حين رآه بوضوح فوق سطح البحر، فحيّاه الرجال بحماس وبادلهم التحية حين وصل إلى جانب السفينة بأن نفث رذاذه عاليًا، وسأل دكرور نفسه "هل يجب أن أفرح بعودته؟"، ربما لا، لكنه شعر براحة غير معلومة السبب حين رآه.
رفع سيجورد تاندي العجوز عن دييجو وحمله بين ذراعيه كالطفل، وسار بوهاردي وهو يضع يدًا على عاتق موريس وبالأخرى يتحسس الهواء أمامه، فبدا وكأنه أصابه العمى، بل إنه بالفعل قد أصابه العمى، عاد مافي من أسفل وحمل دييجو على ظهره ليتعلق برقبته وأرخى ساقيه أسفله فبدا كأنهما لا يعملان، وتوجهوا جميعًا إلى جهة السفينة التي عندها الحوت، ثم وقف موريس وبوهاردي على حافة السفينة وقفزا منها معًا بجانب الحوت الذي كان ممددا يكشف جزءًا صغيرًا من ظهره فوق سطح الماء، وفغر فاه على اتساعه فدخل الرجلان سابحين إلى داخله.
"أه بالطبع! إنه وقت العودة" بعث الخاطر الارتباك في دكرور، وجعله ينظر خلفه لا إراديًا إلى السفينة نظرة أخيرة علّه يجد مهربًا، لكنه وجدها خالية كأن لم تغنَ بالأمس، وقد نهته بقع الدماء البنيّة والحِراب الدامية؛ عن التفكير في الهرب، ولاحظ أيضًا أن السفينة مائلة فعلم ماذا كان يفعل مافي في الأسفل، وأدرك بعد أن انتهى تفكيره في الهرب؛ أن هذه السفينة ستغرق خلال ساعات.
وأثناء ما كان دكرور يقف يتأمل السفينة في استغراق جاءه عمار وقال:
- فقط لا تفكر فيما تفكر.. سنعود إلى الجوف الآن، هيّا تعالَ وساعدني مع رالف
كان القزم أوساي قد نزل من أعلى الصاري وساعدهم في لف حبل حول رالف، فأنزلوه رويدًا إلى الماء وتبعه أوساي وأخذه واختفى تحت الماء.
بدأت الشمس تزيّن أفق البحر كأنها جوهرة صفراء على تاج أزرق، بالكاد تلامس السطح ولا تغوص، ثابتة لا تصعد أو تنزل في غروب أبدي، فجعله منظر الغروب الأحمر المهيب لا يريد أن يرفع عينه عنه، ومرة أخرى شعر دكرور لوهلة بسيطة أن الأمور ستكون على ما يرام.
ثم لف عمار ملاءة حول حربتين وبندقية وأشياء أخرى وأحكم ربطها، وألقاها بجانب الحوت فزفر زفرةً ضعيفة كأنه يتعجلهم، فنظر عمار إلى دكرور وقال بابتسامة طيبة:
- لنقفز معًا!
ودون أن يفكر دكرور في خياراته الأخرى حتى وإن كانت موجودة، ودون أن يلتفت وراءه؛ سلّم أمره وأومأ إلى عمار وسحب نفسًا عميقًا وقفزا معًا، فغاص قليلًا في الماء وارتفع ثانيًا، نظر دكرور بارتياب إلى الفم العملاق البشع المفتوح أمامه، وتشبث بظهر عمار وتبعه وهو يغلق عينه بشدة كأنه لا يريد أن يرى نفسه وهو يودي بها إلى تهلكتها، فدخلا من الشق الضيق وخرجا من الجهة الأخرى كأنهم يولدون من جديد.
★★★
(2)
المكان ساكن وساكت إلا من أصوات السعال، وأنين التألم الخافت، بعض الرجال مستلقٍ على الأرض، وبعضهم قد نام بالفعل أو ربما ماتوا، لا سبيل للتمييز.
نظر دكرور وراءه إلى الباب حيث دخل فلم يجده، اختفى إلا شِقًا طوليًا رفيعًا بقيَ مكانه، لا إراديًا وضع كفه علي الحائط لعله يجد ثقب مفتاح أو أي شيء، ثم تراجع وهو يتساءل في حسرة "كيف عدت إلى هنا بإرادتي؟".
ثم عاد يلتفت إلى المغارة ونظر إليها بعين أخرى كأنه أول مرة يراها، تلك المرة نظر إليها كجوف حوت، إذ لم يعد هناك مجال للشك في الأمر بعد كل ما رأى، وتخبطت مشاعره تجاه هذا المكان وهؤلاء الرجال؛ بين أن يعتبره بيته وهؤلاء هم أهله، وبين أن يعتبره سجنه وهؤلاء هم المحكوم عليهم معه، في الحالتين يجب أن يعيش معهم.
وأثناء ما كان يتأمل المكان وجد عمار نائمًا أعلاه على السقف، فسار نحوه بخطوات حذرة، وقد شعر بالدوار حين رأى نفسه رأسًا على عقب من حيث كان، ثم ركله بقدمه وجلس بجانبه فقال عمار باستياء:
- ماذا تريد؟.. استرح قليلًا فقد بذلت مجهودًا اليوم
- لم نكمل كلامنا
- سنكمله حين أستيقظ.. أعدكَ بذلك
وعاد لينام ثانيًا فأمسكه دكرور من ذراعه بعنف أجبره على الجلوس أمامه، فقال عمار وقد زاد استياءه كثيرًا:
- حسنًا أنا مستيقظ الآن، فقط أخبرني بما تريد يا دكرور
وإذ كانت الأمور أكثر من أن يستوعبها عقله أو ذاكرته؛ لم يدرِ دكرور ماذا يريد أن يعرف حقًا فاكتفى بأن همس:
- ماذا يحدث لهؤلاء الرجال
- آآه حسنًا! كنا نتكلم عن كيف جاء كل منا إلى هنا، وكنت أخبرك عن رالف.. صحيح؟
أومأ له دكرور فأكمل عمار:
- أيًا كان ما فعل.. فقد ألقوه عقابًا له على ذلك، لقد كان بحارًا جنديًا في الأسطول الإنجليزي كما ترى، كان معافًا حينها لكنه أصيب أكثر من مرة في أكثر من مرة نصعد فيها إلى سفينة، لكنه محظوظ رغم ذلك.. فهناك دوراي ولويس ماتا منذ زمن قبل أن آتي إلى هنا، لكنني أذكر زيمان الذي مات منذ عشرين سنة تقريبًا، فلترقد أرواحهم في... تبًا! لا يهم
- مهلًا! عشرين سنة؟!! كيف تذكره منذ عشرين سنة؟!
- أه! أنا هنا... إذا كنا في العام 1841 فأنا هنا منذ...
ضيّق عمار عينه كأنه يفكر في شيء صعب، ثم قال بعد برهة:
- منذ ثمانية وعشرين عامًا تقريبًا
تمنى دكرور أن يكون قد أخطأ السمع أو أنه يكذب أو يمزح حتى، فسأل بشك:
- كيف... كم عمرك؟
- أنا في الخامسة والأربعين، حسنًا أريدكَ أن تهدأ الآن.. ربما أبدو في الثامنة عشر لكننا لا نشيخ هنا.. أو ربما نفعل لكن ببطء شديد، مفهوم؟!
ربما لمس عمار الحيرة والقلق على وجه دكرور فقال:
- أعلم أن الأمر يبدو جنونيًا لكن الزمن هنا أكثر جنونًا، خمّن كم يوم قد مر منذ أن جئتَ إلى هنا؟
فكر دكرور برهة قبل أن يجيب وهو غير متأكد من إجابته:
- أنا هنا منذ البارحة وربما كنت نائمًا ليومين على الأكثر...
- أنت هنا منذ عشرة أيام
وما أن قالها عمار حتى شعر دكرور على الفور أنه من الممكن فعلًا أن يكون قد مر كل ذلك الوقت، لكن دون أن يعرف كيف، ثم قال عمار:
- لا تقلق! ربما يمر اليوم كساعة والأسبوع كيوم والسنة كشهر وربما العكس، آخر يوم قبل أن تأتي مرّ علينا كالدهر، ولسبب وجيه أعتقد!
- إذًا منذ متى جاء أول من جاء هنا؟
- لقد كان بوهاردي، وكان تحديدًا منذ مائة وأربعة وعشرين عامًا، اللعنة! إنه الآن في عامه الثمانين بعد المائة
وسكتا لبعض الوقت حتى بدا أن عمار سيغشى عليه من شدة النعاس، فباغته دكرور:
- ماذا عن بوهاردي؟
- ماذا عنه؟
- ماذا حدث له؟ بدا أنه قد فقد بصره بالأعلى، ألذلك علاقة بلون عينه الأصفر الغريب؟
ردّ عمار وهو يفرك عينيه في حيرة وتعب:
- لا، إنه شيء آخَر.. إن الأمر معقد، أممم! لا أدري كيف... لقد كان فاقدًا لبصره قبل أن يغرق، لكن ليس قبل أن يغرق بكثير
تذكر دكرور الجرح في صدره فتحسسه ليجد نفسه لا يشعر به رغم أنه لم يلتأم فقال:
- إذًا الجروح تشفى هنا؟
- الطفيف منها يشفى تمامًا، مثل تلك...
ومدّ عمار ذراعه كاشفًا عن ندبة طويلة بطوله، وأشار إلى ندبة أخرى تمتد من رقبته إلى كتفه، وتلك أيضًا لم تبدُ هينة، وأردف:
- لقد استغرقت هذه ثلاث سنوات حتى تندمل، لكن هناك جروح تهدأ وتتوقف عن النزف وأنت بداخل الجوف، ثم تعود لتنفتح وتكمل نزيفها فور أن تخرج، مثل رالف كما رأيت...
ثم تثاءب وأردف:
- وهناك جروح تقتل على الفور مثل دوراي وزيمان كما أخبرتكَ، وهناك جروح تقتل لكن ليس على الفور، لا تُخرِج الروح في لحظتها مثل... أه! لا يهم
- ماذا عن البقية هنا؟ كيف غرقوا؟
- آآه بحقكَ!! حقًا ألم تتعب من الأسئلة وكل هذا الجنون الذي سمعته؟
- ...
- تبًا لذلك! من أيضًا.. تاندي أردوه وألقوه حتى لا يدفعوا عنه ضريبة للسفن المضادة للعبودية، ومافي أيضًا كان على سفينة عبيد وألقوه حتى يخففوا الحمولة لأنه ضخم، وأيضًا سامبار حين أصيب بالمرض ألقوه حتى لا يفشي المرض بين باقي العبيد وتفسد البضاعة، لذلك لا يخرج من الجوف كي لا يعدينا نحن، وأوساي...
ثم ضحك فجأة وهو يقول:
- ذلك الوغد الصغير! ألقوه حين اقتربت العاصفة لاعتقادهم أنه جلب إليهم سوء الحظ، ثم ضربتهم العاصفة على كل حال وغرقوا، ودائمًا ما يتباهى ذلك الحقير أن إلقاءه كان السبب في غرقهم
ابتسم دكرور رغمًا عنه، ثم عاد عمار ليكمل وقد ذهب عنه بعض التعب وإن لم يذهب ضحكه:
- وسيجورد كان يعمل على سفينة صيد حيتان، وأغرقه الحوت الذي كانوا يصطادون، ويقسم ذلك البائس أن تلك كانت أول مرة يعمل فيها على سفينة تحويت وأول مرة يشارك في الصيد
ثم أضاف:
- من أيضًا؟.. أنا غرقت في العاصفة، وبوهاردي أيضًا، وأوين وويليام أيضًا، قد ذهبا منذ شهر لتفقد اليابسة... أرجوكَ لا تسأل الآن!، وهناك بيدرو بالطبع الذي مات أيضًا منذ سنة تقريبًا، وأخيرًا هنري...
ثم اقترب عمار أكثر وأخفض صوته وهو يقول:
- غرق في عاصفة، وكان يعمل على سفينة تحويت هو الآخَر لكنه كان حوّاتًا متمرسًا، وفي المرة قبل الأخيرة التي نخرج فيها، قبل أن تأتي أنت بيوم؛ اختبأ هنري بداخل السفينة وهي تغرق وهرب على متن قارب نحو اليابسة القريبة، لم يرَ أحد ما حدث سوى بوهاردي، الذي كان نائمًا حينها فرأى أطلس وهو يدركه ويقتله، كانت صدمة كبيرة علينا جميعًا بعضنا لم يتعافَ منها حتى الآن، ربما لأن أطلس لم يقتل أحدًا من قبل
زاد انتباه دكرور أكثر وشعر بالفضول الشديد؛ حين سمع كلمة هرب، وربما أراد أن يستفسر عن كيفية حدوث ذلك لكن استوقفه عمار قائلًا:
- والآن لقد تعبتُ حقًا يا دكرور، دعني أخبركَ بما أردتُ أن أخبركَ منذ البداية.. أتعلم! جميع المرضى والمجروحين وأصحاب العاهات؛ كلهم كانت إصاباتهم حديثة، لكن أنتَ عاهتكَ عمرها أربعة عشر عامًا صحيح؟!
أومأ له دكرور باستغراب فأردف:
- لا أعلم بشأنها، لكن لم لا تجرب أن تتكلم الآن؟ أعني أن ترفع صوتك بالكلام..
"ماذا تريد؟!!"، انتابته قشعريرة ورهبة من الفكرة وحدها، لا يمكنه أن يجرب ذلك، فكرة سماع الصوت يخرج من حلقه أثارت المغص في معدته، ولا يعلم لماذا، الأمر أشبه كأنه يقبض على جوهرة، يشعر بها في داخل قبضته لكن يخشى أن يفتح يده وينظر إليها، "لكن ما المخيف في سماع صوتي ثانيًا؟ ماذا سأخسر إن تفقدت الأمر؟".
وكأن عمار غير موجود استلقى دكرور على ظهره بهدوء في موضع جلوسه وهو شارد، وقد اكتفى من الكلام لليوم عن الموت والغرق والمرض والعاهات، كما أنه قد تكلم في يوم أكثر مما فعل خلال السنة المنصرمة بأكملها، وقد اتضح له أن الكلام مرهق أكثر من الغرق.
- أه حسنًا! ستنام أولًا، تصبح على خير...
نهض عمار وأشار إلى دكرور بسبابته وقال:
- لا تفكر في أن توقظني!
وابتعد عنه واستلقى هو الآخر ليكمل نومه.
★★★
ممددًا على ظهره؛ وضع دكرور يديه خلف رأسه وشرد في أفكاره التي تتدفق كالسيل، والتي لم يكن لها رادع إلا النوم، لكن حتى النوم كانت تطرده من عينه في عناد.
المكان مظلم كثيرًا "لابد أننا في أعماق المحيط الآن"، بعث الخاطر الوحشة في نفسه، إذ لا يفصل بينه وبين المحيط المظلم الشاسع إلا قطعة من لحم حوت، "ماذا يفعل الآن؟، لا يمكن أنه يسبح فقط"، واستغرب أن المكان ساكن وهادئ وليس هناك ما يخبر عن وجود أي حركة خارجه، ثم تذكر شكله المرعب البشع الذي بدا كأنه تعرض لحرق أو تم سلخ قطع من جلده عند مقدمة فمه "من المؤكد أنه تعرض للصيد في مرة ونجا، فجعل ابتلاع الناس هوايته".
ثم تذكر ما حدث على السفينة وأصوات شهقات الموتى ومنظر بقع الدماء البنية، وعلى الرغم من أنه ليس جديدًا عليه كل ذلك؛ إلا أنه لا يعلم لماذا شعر بالضيق لما حدث، وعلى الرغم من أن حياته على اليابسة لم تكن ترتقي لمستوى عيش الحيوانات؛ إلا أن ضيقه قد زاد من فكرة أنه سيكملها في بطن أحد تلك الحيوانات، مع بشر يبدون سعيدون راضون بذلك.
وحين بدأ دكرور يغيب عن الوعي سمع صوت عمار يتكلم، ويرد عليه أحدهم في مكان آخر، ثم زادت الهمهمات بينهم حتى صارت هتافات لكن بمرح، ثم عادوا إلى صمتهم ثانيًا وسرعان ما بدأ أحدهم يغني.
علم دكرور أنه أوساي القزم، لكنه لم يصدق أن لديه مثل هذا الصوت الملائكي، كان يغني أغنية جميلة جدًا ذات لحن هادئ من المفترض أن يريحه سماعها لكنه لم يفعل، ثم بدأ الجميع يشاركه في الغناء كأنهم ينشدون بصوت واحد، ثم سمع عمار يناديه فلم يجِبه دكرور، فقال:
- أعلم أنكَ مستيقظ يا دكرور.. الرجال يريدونكَ أن تعلم أنهم سعيدون لأنكَ هنا.. وهذه الأغنية من أجلكَ
ثم بدأ اسمه يتردّد في أرجاء المكان على ألسنة سكانه فيما بدا كتشجيع أو ترحيب، فبَضَع الدمع في عينه ربما من التأثر بألفة هؤلاء الرجال أو بالأغنية الهادئة؛ ثم فاض حين أغمضها، وآلمه حلقه من محاولة دفع البكاء والحزن والكمد، فمسح دموعه وعزم أمره لينام بأي شكل، وساعده صوت أوساي الذي يصيب العقول بالخدر، كما ساعده خفوت النور الأصفر ببطء حتى أظلم أخيرًا لينام، وفور أن فعل عاد إلى السفينة.
★★★
(3)
مرّ أطلس بقطيع من حيتان العنبر التي يعرفها جيدًا شكلًا واسمًا، كان معظمها من الإناث والأمهات وصغارها وجميعهم كانوا يغنّون، يغنون نداءً على بعضهم أو على الصغار، ومنهم من يغني من أجل الغناء فحسب، ومنهن من يغنين نداءً على الذكور القليلين فيهم من أجل التزاوج، ورغم أن أطلس ليس حوت عنبر إلا أنه انجذب لذلك الغناء على كل حال.
توجه إلى القطيع قاصدًا أنثى بعينها كانت أكبرهم، لكن القطيع تفرق وتشتت عندما اقترب كأنهم رأوا سفينة بشر تريد أن تفتك بهم، لكن أطلس لم يعبأ بذلك وأسرع وراء الأنثى معميًّا بغنائها الذي لم تكف عنه، أخذ يتقرب إليها بسرعة وهي تبتعد في تمنّع لا يثير شهوته بقدر ما يثير حنقه، وحين كاد أن يدركها ظهر أمامه الذكر صاحب هذا القطيع، أحد جبابرة المحيطات وأعظم حوت عنبر ذو جوف يحوي بداخله بشرًا، والذين يطلقون عليه اسم "نون".
كان نون صديقه منذ زمن بعيد، وهو من كان يخبره أنه ذو جوف مثله، وأن الاحتفاظ بالبشر في جوفه أمر سهل، كان نون رفيقه عندما كان ييأس من فكرة إيجاد الحيتان الرمادية من فصيلته، حتى أنه إلى الآن يساعده في البحث عنهم.
قال نون من دون مقدّمات أو تحيّات:
- لم يكن عليك فعل ذلك
رَد أطلس:
- لم أعلم أنك هنا
- بالطبع لم تكن تعلم.. فقد كنتَ مشغولًا بشيء آخر
- أنتَ تدري كيف هو الحال
- لا، أخبرني كيف هو الحال
- لقد شعرت بهم مجددًا، شعرت بهم أقرب من أي وقت، حتى أني رأيت ما يرون، هل يحدث لكَ ذلك؟
- نعم، يمكنني الرؤية من خلال أعين حيتان العنبر
- ولن تصدق ماذا رأيت.. لقد رأيت حوتًا آخر لم أرَ له مثيل من قبل
- ربما كنتَ تحلم بأمك
- لا، لم يكن ذلك حلمًا، أنا أعرف الأحلام، كما أني نسيت شكل أمي
- وأين كان ذلك؟
- ليس بعيدًا عن هنا
- صدقني لقد بحثت في كل بقعة من هذا المحيط ولم أجد لهم من أثر
ثم سبِحا إلى جانب بعضهما هائمين في المحيط معهم عددًا من حيتان العنبر، الذين كان نون يتحكم فيهم كأنه يسوقهم بالحبال، وقال نون:
- هل شعرت بذلك الصداع؟ لا بد أن ذلك الإنسان كان شديد البؤس لكي يتسبب في صداع كهذا
- لا تقلق بشأنه.. إنه في جوفي الآن
- بالطبع، أليس هذا نوعك المفضل من البشر؟ أن يكونوا أكثرهم شقاءً
- ثم يتضح أنه أكثرهم إثارة للشفقة
وأضاف نون:
- وكيف حال رجالك؟
- مزعجين أكثر من أي وقت
- لطالما كان البشر كذلك.. لكن أعني ألم يلقَ أحدًا منهم حتفه أثناء ما تخرجهم؟
- لا، آخِر من مات منهم كان منذ مدة، لكن هناك اثنان قد خرجا إلى اليابسة منذ مدة ولم يعودا إلى الآن
كان أطلس يثق في رجاله لدرجة أنه يُخرِج منهم إثنين أو ثلاثة على الأكثر؛ إلى اليابسة لتفقد أحوالها وربما للاستمتاع بوقتهم، ولم تخِب ثقته فيهم سوى آخر مرة عندما خرج إثنين منهم ومكثا أكثر من المعتاد.
رَد نون:
- هذا خطؤك يا صديقي، لا أدري كيف تسمح لهم بالخروج إلى اليابسة
- فعلتها أكثر من مرة، وكل مرة يعودون، لكن هذان لا أعرف بشأنهما
أخبر أطلس نون منذ زمن عمّا يفعل رجاله من أمر إسقاطهم للسفن، فاستنكره في البداية لكن سرعان ما صار يقلده، ثم أخبر كلاهما حوت أزرق صديقًا لهما يدعوه البشر "كيانج"، فاستنكر كيانج الأمر في البداية لكن سرعان ما صار يقلدهما، بعدها قرروا أمرهم على أن يتولى كلًا منهم محيطًا من المحيطات الثلاثة، فأطلس كان يتولى السفن في المحيط الأطلسي الذي يعيش فيه، ونون في المحيط الهندي الذي يعيش فيه، وكيانج في المحيط الهادي الذي يعيش فيه أيضًا، فكانوا الوحيدين من ذوي الأجواف الذين يفعلون ذلك، وربما الوحيدون الذين يُخرِجون من في أجوافهم أصلًا، فقرروا أمرهم بألا يعرف أي حوت آخر بهذا الأمر.
غيّر أطلس الموضوع عندما تذكر أن أحد رجاله قد حاول الهرب منذ أيام قليلة، وبالطبع لم يُرِد أن يعلم نون بالأمر، فقال:
- ماذا عن رجالك؟
- كم أنهم مثيرين للشفقة بعضهم يجيد القتل وبعضهم لا.. إلا أنهم جميعًا يعشقون سفك الدماء، رغم علمهم أن ذلك يقتلهم أيضًا، ومع ذلك...
قطع نون كلامه عندما وجد سفينة قد أنزلت قواربها لصيد حيتان العنبر التي حولهم، فقال نون:
- ها هم التعساء.. أتريد أن تتولى أمرهم؟
- لا، لم يمضِ يومًا على آخِر مرة، كما أننا في منطقتكَ، مهلًا ألستَ قادرًا على التحكم في حيتان العنبر وجعلها تهشّم تلك السفينة؟
- صدقني.. قد جرّبتُ أكثر من مرة، وكل مرة... لا أقدر على فعلها، حتى أني أحسد الحيتان العادية عندما تهشم القوارب وتخرق السفن
لم يَعجب أطلس من ذلك، فهو يعلم أن الحيتان ذوي الأجواف لا تقتل البشر بأي شكل، ثم تركه نون واقترب من السطح وسرعان ما خرج.
ثم لاحظ أطلس رجاله يغنون فظل يستمع لهم ويغني معهم حتى نام معظمهم، وقرر أن يزورهم في أحلامهم.
★★★
السفينة سليمة ليست مائلة، وعليها كل أشرعتها، وعليها تقريبًا معظم رجال الجوف الذين كانوا يجلسون في هدوء كأنهم يستجمّون.
هناك صوت غناء لا يعلم دكرور مصدره، لكن بدا كأنه آتٍ من أعلى، فنظر إلى أعلى الصاري الرئيس ولم يجد أوساي هناك، لكن هذا صوته وهذه أغنيته ولا تزال تأتي من أعلى، كأن السماء نفسها هي من تغني، ورأى في السماء سفينة تسبح في سحابة وتلك أيضًا كانت تبدو بخير.
ذهب دكرور إلى المقدمة ليرى الغروب، كان نصف السماء مخضب بالأحمر والنصف الآخر أزرق مثل البحر، لكن الشمس لم تكن هناك، لاحظ ذلك ولم يَعجَب منه، ثم أدرك أطلس وهو يقول:
- لابد أنه كان يومًا طويلًا
وبالرغم من أنه لم يكن وحده على السفينة إلا أنه علم أن أطلس يكلمه هو، فرَد:
- نعم.. يوم صعب فعلًا
- أعدك أن الأمور ستصبح أسهل
- لا أنا لم أوافق على هذا
- أخشى أنه لا يوجد خيار آخر.. إنها الحياة كما ترى
- لكن ليس هكذا
- لا يوجد حياة هكذا وحياة هكذا! الحياة هي الحياة، وهي دائمًا أفضل من الموت
- حياة الحرية تختلف عن حياة السجن هذه
- لكن هل الموت أفضل من حياة السجن هذه؟
- أه بحقك! أعفني من الكلام عن الموت، لقد رأيت وسمعت ما يكفي منه اليوم، لا أنكر أن ما يفعله هؤلاء الرجال يثير إعجابي، لكن أليس هذا قاسيًا بشكل مبالغ
رَد أطلس بغضب كأنه قد تلقى إهانة:
- قاسيًا! هل تعرف حتى معنى القسوة؟ هل سمعتَ عنها في حياتك الصغيرة البائسة تلك؟ لا تحدثني عن القسوة ولم ترَ ما رأيتُ...
بدأ البحر يضطرب والرياح تشتد والسفينة تتمايل، وبدأ الحلم يتحول إلى كابوس شيئًا فشيء، وبدأ دكرور يشعر بالقلق وعدم الأمان، بعد أن كان يشعر بالاطمئنان والراحة من مجرد وجوده على هذه السفينة والكلام مع أطلس، وتضاعف كل ذلك حين أكمل:
- لا تحدثني عن القسوة ولم تختبر الموت مع كل نفس تتنفسه ويجب أن تستعد لأن يكون الأخير، لا تحدثني عن القسوة ولم ترَ إخوتك وهم يزفرون الدم ولا تجرؤ على الاقتراب منهم حتى لا يصيبكَ المثل، لا تحدثني عن القسوة ولم ترَ أمًا تُقتَل بجانب ابنها وهي ترضعه، لا تحدثني عن القسوة ولم ترَ قسوتك بعد
كان دكرور في موقف لا يحسد عليه بالفعل ولا يعلم بما يرُد، كأنه يعلم أن كلمة خاطئة أخرى ستودي به، فقال بحذر:
- لا لم أرَ أي من ذلك
- بالطبع لم تفعل، حسنًا حان الوقت الآن لكي ترى بنفسكَ...
فجأة ظهرت الشمس في الأفق، فارتفعت عن سطح البحر فجأة، وشعر دكرور بأنه يرتفع معها هو الآخر، ودارت الشمس في السماء نصف دائرة حتى غاصت في الجهة المقابلة فأظلمت السماء في ثانية، وسرعان ما انقشع الظلام وصعدت الشمس ثانيًا، ودارت أسرع من المرة الأولى، ودكرور لا يزال يرتفع في الهواء نحو السفينة التي بين السحاب، وصارت الشمس تشرق وتغرب دون كلل بسرعة، ثم أسرع، ثم أسرع، حتى أصبح النهار مجرد ومضات، وبعد مدة بدت كدهر توقفت الشمس قبل أن تغوص ثانيًا، ووجد دكرور نفسه على السفينة التي كانت في السماء ويصعد إليها، لكن كان حوله البحر وليس السحاب.
زعق صوت بنداءٍ من فوق الصاري الرئيس، فالتفت دكرور ودُهِش حين وجد السفينة بكامل طاقمها، الذي دبت فيه الروح فور سماع ذلك النداء، وأخذوا يرددون نداءه في حماس شديد.
وبسرعة أنزَلوا قاربين في الماء فركب دكرور إحداهما مسلوب الإرادة، وجلس يشاهد البحارة يجدفون بكل ما أوتوا من قوة لكن لم يتبين إلى أين يذهبون، حتى ظهرت أعمدة الرذاذ ليست بعيدة، فكر أنه لا بد من أنه أطلس، إلا أن نفثة أطلس التي رآها كانت أعلى وأكبر من هذه بكثير.
همّ رجلًا يقف عند مقدمة القارب كان يجدف مع باقي الرجال، وأمسك بحربة ثم صوّبها نحو الماء متأهبًا، فوصلوا عند أحد مصادر النفث ووقف دكرور ليتبينه، فوجده حوتًا لونه أسود ممتلئ الجسم وليس طويل، يبدو كسمكة صغيرة مقارنةً بأطلس، حاصره القاربين من الجهتين وهو يسبح ببطء شديد، لا يهرب أو يغوص في الأعماق وينجو بحياته كأنه لا يراهم، أو يراهم لكنه لا يدري أنهم يريدون قتله.
برز من كل قارب رجلًا ممسكًا بحربة، ولما أصبحوا على جانبي الحوت، شدّ أحدهما جسمه ورفع حربته وراءه، ورماها لتصيب ظهر الحوت مباشرةً، فأخذ يتلوى ويضرب الماء بذيله ثم غاص ليس بعيدًا وعاد يقفز بوهن من الماء، ولما هدأ قليلًا أخذ الرجلان يتناوبان عليه بالطعنات وشاركهم في ذلك بقية من كان يجدف حتى سكنت حركة الحوت تمامًا، وبدلًا من الرذاذ الأبيض اللامع نفث دمًا في الهواء وأمطر الرجال وخضب وجوههم بالأحمر، فعَلَت صيحات الفرح من قلوبهم، وهم باسِطو أذرعهم ليتعرضوا لأكبر قدر من الدماء كأنهم يغتسلون بها.
عاد دكرور مع البحارة إلى السفينة يشعر بالاختناق من الدم الذي يسيل على وجهه من دون أن يمسحه عنه، وعادت السفينة تبحر بسرعة، وعادت الشمس تغوص من جهة وتصعد من الأخرى، حتي توقفت في كبد السماء.
وسمع نفس الصيحة من أعلى الصاري، فأنزَل نفس الرجال نفس القوارب، وجدفوا نحو أعمدة الرذاذ واضطرابات بيضاء في المياه، وتكرر كل شيء مع اختلاف الحوت، فذلك أطول وذو رأس عظيم، وأسرع ومراوغ أكثر من الآخر، حتى أنه لمس أحد القوارب فقَلَبه بمن عليه من رجال، قبل أن يرميه الرجل على القارب الآخر بالحربة لترشق في ظهره، فبدا على الحوت الغضب والثورة فضرب البحر بذيله قبل أن يغوص بسرعة في الماء، والحربة لا تزال تخترق ظهره، وغاص حتى ظنوا أنه سيسحب القارب معه، لكنه عاد إلى السطح بعد أن خارت قواه، وطُعِن حتى نفث الدم، وصرخ الرجال نفس صرخات الانتصار الهمجية.
عاد دكرور مع البحارة إلى السفينة، وأبحرت السفينة بسرعة، ودارت الشمس عدة مرات حتى توقفت، فأطلق النداء وأُنزِلَت القوارب، وضرب الحوت قاربًا وهشمه إلى شظايا فقُتِلَ رجلًا، ثم طُعِن الحوت على كل حال، وزفر الدم ولم يهتف البحارة.
وعاد دكرور مع البحارة إلى السفينة، وعادت السفينة تبحر بسرعة، وعادت الشمس تغوص من جهة وتصعد من الأخرى، حتي توقفت قبيل مغيبها، فأُطلق النداء، وأُنزِلَت القوارب، وطُعِن الحوت، وزفر الدم وصاح الرجال.
وظل المشهد يتكرر مرة بعد أخرى، حتى ظن دكرور أنه قد علق في هذه الحياة إلى الأبد، وكل مرة ينزل مع القارب يشهد الطعن ويتخضب وجهه بالدماء، وهو مسلوب الإرادة بالكامل، لا يقدر على منعهم من القتل، ولا على منع نفسه من المشاهدة.
عاد إلى السفينة فوجدها قد عادت خالية من بحارتها، فانهار جاثيًا على ركبتيه ويديه يسعل ويئنّ في ألم، ووجهه وملابسه ويديه مضرَّجين بالدم الأحمر كأنه نُقِع فيه ويتقاطر من شعره.
لم تكن رؤية الدماء بهذا الكم هي ما جعلته يشعر بالاختناق والحنق والضيق، بل سماع صيحات الفرح فور رؤيته كأنه يسمع الغناء أثناء الجنازة، فقد أصابت شيئًا في نفسه جعله غير قادر على التقاط أنفاسه من شدة الكمد والسقم، وحين اختلط أنينه ببكائه سمع أطلس يقول:
- هل رأيت ما يكفي؟ أم تريد أن تعود؟
هرع دكرور إلى حافة السفينة وقال بعصبية وهو يلهث:
- لا!!! لا يمكنني العودة ثانيًا
- هل أنتَ متأكد؟ تلك كانت سفينة واحدة في سنة واحدة.. هناك آلاف السفن وآلاف السنين وآلاف آلاف الحيتان
- حسنًا لقد فهمت لمَ تكرههم هكذا، أنا أيضًا أكرههم، فقط لا تعيدني إلى هناك، أيًا كان ذلك
- معذرةً يا صديقي دكرور، كان يجب أن ترى الأمر بنفسك، كان يجب أن ترى القسوة التي كنتَ تتحدث عنها
عاد إلى البحر سكونه، وإلى الرياح نسماتها، وإلى السفينة ثباتها، وإلى الحلم هدوءه وإلى دكرور سكينته، وبدأ يستعيد اتزانه رغم كل ما رأى فقال:
- ما الذي فعلتَ؟ وكيف فعلته؟
- تلك كانت ذكريات، ليست لي بالطبع، لكنك في حلمي ويمكنني أن أريك أي ما أريد
غيّر دكرور الموضوع فقال:
- إذًا هل يفعل رجالك ما يفعلون انتقامًا لكل ما يحدث أم ماذا؟
- الرجال يفعلون ذلك لأن ذلك ما الرجال، وهؤلاء الرجال بالأخص، فذلك ما يجيدون فعله، وما يريدون فعله، وأنا ممتن لذلك أشد الامتنان
- أعتقد أني أفهمكَ، ربما سأساعدهم في المرة القادمة
- هذا عظيم! كل شيء سيكون على ما يرام يا صديقي، بالمناسبة.. لِمَ لَمْ تفتح هديتك بعد؟
- أيّة هدية؟
- الهدية التي استعدتها من أجلك بعد أن فقدتَّها
علم دكرور في لحظتها عمّا يتكلم، أو كأنه كان يعلم مسبقًا، ثم أردف أطلس:
- أم أنك لا تقبل هديتي؟
- لا... أنا فقط نسيت كيف أفتحها
- فهمت.. فقط لا تهتم سأكون معك وإخوتك أيضًا.. يجب أن تذهب الآن
وما أن قالها مالت السفينة وتدحرج دكرور من على متنها حتى سقط منها، وظل يهوي إلى السفينة التي كان عليها أولًا، والتي لا يزال عليها رجالها؛ فصدرت منه صرخة مدوية رنّت في أذنه كأنه بداخل كهف، ولم تنقطع تلك الصرخة حتى بعد أن استيقظ منتفضًا.