(1)
حملوا أسلحتهم وأخفوها بين أرديتهم، والبنادق غطوها بأقمشة وراء ظهورهم، وإن لم يخفوا الحراب التي في أيديهم، بينما كان كوفن يدفع لرجل يعرفه أجرة رسو مركبه في الميناء، ثم همّوا لينزلوا من المركب بسرعة لتفقد السفينة وتفحصها عن قرب، لكن استوقفهم كوفن قائلًا:
- مهلًا! ألن توَدّعوا كوفن العجوز وتسدوه خدمة أخيرة؟
قال موريس وهو يجزّ على أسنانه:
- ماذا تريد؟
- فقط براميل الجعة الثلاثة
وأنزلوا البراميل وحملوها على عربة تُجَرّ باليد، وأسرعوا حتى تركوا كوفن خلفهم مع عربته دون أن يودعوه.
كان ميدان الميناء مكتظًا بالناس على نحو غير مريح بالنسبة لأناسٍ قضوا أعوامًا طِوال في مكان مغلق مع بضعة رجال آخرين، تسيطر على الأجواء رائحة هي مزيج بين زيت الحيتان وماء البحر والعرَق، وكانت براميل الزيت مكدسة بعناية كأهرامات صغيرة من دون أن يتبينوا إن كانت فارغة أم ممتلئة، وقوارب التحويت ملقاة هنا وهناك منها السليم ومنها ما يحتاج لإصلاح كحال أكثرها.
وأينما تنظر تجد أحدًا يفعل شيئًا ما، حدادون يضربون على حراب، ونجارون يضربون على قوارب تحتاج للإصلاح، وصانعو البراميل وصانعوا حبال، وصانعو أشرعة، فكان الجميع يبدون مشغولين، حتى من كان منهم لا يفعل شيء كان مشغولًا بالوقوف في ثبات ووقار كأنه يُصلّي.
وإذ كان أكثر الناس يقفون أمام السفينة عاهرة نانتوكيت، فتوجّهوا إليها وقال موريس:
- لنبقَ معًا.. ولا تشرُدوا
ساروا بين الحشد حتى توسطوه، فكان أمام السفينة رجلًا يقف على منبرٍ عالٍ، ووراءه دستة من الرجال المتجهمين الصُّلع مثله، ومنهم من كان يمشي على متن السفينة بوقار يتأمل الحشد ولا يشيح عنه، ولم يكن منهم من يتحرّج من إخفاء صلعه، على عكس أوين الذي كان يرتدي قبعة كبيرة تجاهد لإخفاء صلعته دون جدوى.
كان الرجل يتكلم رافعًا قعيرته بطريقة وقورة توحي بأنه يعِظ حتى وإن لم يكن يفعل، فأدركوه يقول:
- ...ربما لم تكن خطيئة يونس أنه قد عصى ربه، بقدر ما كانت أنه قد نسيَ أن سلطان الرب في البحر كما هو على البر، وأنتم أيها الناس لا تنسوا ذلك إن ارتكبتم الإثم، لكن إن نسيتم فاعلموا أنه إن ضاقت بكم الأرض؛ فلن يسعكم بحر، وإن ضاق بكم البحر؛ فلن يسعكم إلا جوف حوت...
حينها عَلَت همهمات من الحشد، سرعان ما سكتت حين أكمل الرجل:
- نعم يا إخواني! لا يكف الناس عن ارتكاب الآثام، ولا يكف الرب عن المغفرة لمن تاب إليه وعلم أن خلاصه بين يديه وحده، لكن من ظن أن خلاصه على سفينة هشة، تبحر به في بحر متقلب، لتقِله إلى أرض أخرى؛ فهؤلاء لم تكف الحيتان عن التقامهم بأمر ربها حتى وقتنا هذا
سكت الرجل يقلب الكلمات في رأسه، فنظر دكرور إلى الناس من حوله فوجدهم مستغرقين في الإمعان، ووجد رفاقه أكثر الناس إنصاتًا واهتمامًا بهذا الرجل وكلامه، حتى عاد يكمل:
- هي سُنّة استنها أول حوت يبتلع إنسان، لكن ذلك الحوت كان محظوظًا لأن ذلك الإنسان كان يونس النبي الكريم، أما مَن بعده فلم يبتلعوا سوى المجرمين الهاربين، فقِلة من الحيتان أعطاها الرب تلك القدرة على رصد العصاة وتتبعهم والتقامهم والاحتفاظ بهم في داخل أجوافهم، ولكن قِلة من تلك الحيتان أساءت استخدام هذه القدرة، وحرّفت أوامر ربها، واعترضت طريق عدالته، فيفرجون عن المسجونين في بطونهم، ليس لأنهم قد أدّوا مدتهم وانتهت عقوبتهم، بل ليكملوا طريق الضلال بارتكاب الجريمة الأبشع على الإطلاق، ألا وهي القتل، ليس قتل أي أحد سوى البحارة، وليس قتل أي بحارة سوى الحوّاتين
ارتفعت شهقات الصدمة فور أن قال آخر كلمة، ولم تهدأ حتى بعد أن أكمل وقد رفع صوته أكثر:
- القتل رجس بشع حتى وإن كان في حق الشيطان نفسه، فما بالكم بقتل الحوّاتين الشرفاء الأتقياء وهم يسعون إلى أرزاقهم التي يسوقها ربهم إليهم في صورة وحوش ضخمة، بإمكانها أن تهلكهم بضربة من ذيلها!، وما أجبرهم على ذلك سوى ليأتونا بزيت الحوت لينيروا حياتنا
ثم أضاف بحماس وهو يكوّر كلتي قبضتيه:
- والآن من منكم ينتظر عودة سفينة تحويت قد غادرت منذ زمن؟
فارتفعت صيحات ثائرة من الحشد كله كأنهم رجل واحد، ثم عاد يسألهم بحماسٍ أكبر:
- من منكم فقد عزيزًا يسعى إلى رزقه على سفينة تحويت؟
جاءه الردّ بصيحات أكثر ثورة وغضب، فعاد يسأل أخيرًا:
- ومن منكم يريد أن ينتقم لهم؟
وانفجر الحشد في الهتاف والتصفيق، حتى هدأهم الرجل بيديه كأنه يربّت على رؤوسهم، وقال بعد أن سكتوا:
- قد قلتُ أن قِلة من الحيتان تفعل ذلك، في الحقيقة إنهم ثلاثة فقط، ثلاثة حيتان في ثلاثة محيطات، أظن أنكم تعلمون أننا قتلنا الذي في المحيط الهندي، والذي كان حوت عنبر يبلغ المائة وثلاثين قدمًا طولًا...
وأثناء ما كان يتكلم كان البحارة على السفينة وراءه يرفعون على الرافعة شيئًا مغطى، ويدلونه منها إلى خارج السفينة بجانب الرجل، وعندما استقر بجانبه رفع عنه الغطاء بحركة مسرحية، فكان ذيل حوت ضخم وعريض كذيل أطلس وربما أكبر، جلده متجعد ويبدو جافًا لونه أسود مطفي على عكس ما تكون الحيتان السوداء اللامعة.
ارتفعت شهقات عالية من الحشد، بدت أنها مِن كل مَن يعيش في المدينة، تخلله صوت بكاء من جهة، وهناك اضطراب من الجهة الأخرى بسبب أن أحدهم قد أغشيَ عليه، لم يعبأ الرجل بأي من ذلك وظل ينظر إلى الذيل في استغراق كأنه سحرهُ، ثم عاد إلى الحشد أمامه بعد أن هدأ وعاد إلى وقاره ونبرته التي تعظ وقال:
- إن لم يكن ذلك هو ذيل الشيطان نفسه.. فهو يشبهه، وإن كان الشيطان نفسه ليخجل مما قد فعل ذلك الحوت، لكننا وضعنا حد لكل هذا، ليس لأننا اجتهدنا أو لأننا حوّاتون بارعون، لكن هذا بفضل مجهوداتكم أنتم وسخائكم أنتم وإيمانكم بنا..
ومرة أخرى علَت صرخات غاضبة وتصفيقات حماسية من الجميع، وعاد الرجل ينظر إلى الذيل ويقول:
- ليتكم رأيتموه قبل أن يُحَنّط و...
قاطعته امرأة غاضبة من الحشد:
- ماذا عن البشر في بطنه؟
- ربما حسب سُكان جوفه العاهرة سفينة تحويت عادية لكنها لم تكن كذلك، كما أننا لم نكن حوّاتين عاديين، فقد كنا على أتم الاستعداد لهم حين تسللوا إلى المتن، فلم نبقِ منهم حيًا
والتفت عنها إلى باقي الحشد وأردف:
- أما عن الحوتين الآخرين فهناك السفينتان "ألاباما" و"كانتون" يجوبان الأطلسي والهادي بحثًا عنهما، وستساعدهما عاهرة نانتوكيت قريبًا، وما هي إلا مسألة وقت حتى نجدهم، وقريبًا ستنقضي مخاوف البحارة، ويشفى غل صدوركم، فقط ضعوا ثقتكم في جنودكم الحواتين
صفّق الناس وارتفعت صيحاتهم بالدعوات بعد أن سكت الرجل، وسرعان ما هدأوا بعدما نزل عن منبره عائدًا إلى سفينته، فتفرق الحشد كلٌ إلى سبيله، إلا ستة رجال كانوا ممسمرين في أماكنهم مذهولين.
لاحظ دكرور أنه كان يشعر بالمغص في معدته والخدر في ساقه والتنميل في رأسه، ووجد سيجورد يسند عمار الذي لم يكن قادرًا على الوقوف، وأوين ينحني ويستند إلى ركبتيه وقد أفرغ ما في معدته، وبينهم كان موريس يقف يداعب ذقنه بيده، مستغرقًا في تفكيره وقال:
- الأمر أسوأ مما ظننت!
★★★
كانت الشمس تشارف على الغروب، وتحل مكانها مصابيح الزيت المعلقة على عمدان رفيعة هنا وهناك، وحينها بدأ الميناء يخلو مِن كل مَن لا حاجة له فيه.
وقبل أن يسأل أحد نفسه "ماذا الآن؟" قال كوفن وهو يمسك بعربته:
- أرأيتم؟! أرجو أن تكونوا قد اقتنعتم
لم يعرفوا إن كان يقف بجانبهم كل ذلك الوقت، أم أنه قد أتى لتوّه، ثم ردّ عليه موريس:
- ربما.. أين ستمكث الليلة يا سيد كوفن؟
- في حانة شون العجوز بالقرب من هنا، ماذا عنكم؟ تبدون في حالة مزرية بالفعل
- حسنًا سنأتي معك
أمسك أوين بذراع موريس، وجعله يلتفت إليه وهمس له بشيء، وتبادلوا الهمسات العصبية فيما بينهما، حتى بدوا كأنهما يتشاجران، ولم ينتظرهم سيجورد فبادر بحمل العربة عن كوفن وساروا معًا، فشكره الأخير، ولما ابتعدوا بشكل كافٍ رفع موريس صوته ليسمعه من حوله:
- ...إذا أردت الذهاب فها هو البحر، لكنني لن أرحل حتى أفعل شيئًا حيال تلك السفينة، وهؤلاء الملاعين
ردّ أوين:
- ألم تسمع ما قاله ذلك الوغد؟! هناك ملاعين آخرين، على سفينتين أخرتين، وأحدهما تبحث عن أطلس خصيصًا.. بحقك يا موريس! لقد ذهبنا أبعد مما كنا ننوي بالفعل، والآن إنه وقت العودة لتحذير أطلس
قال مافي كأنه محتار في أمره:
- لا أدري يا أوين، لن أطمئن في داخل الجوف وهذه السفينة موجودة
وهمس دكرور:
- سنندم إذا عدنا دون أن نفعل شيء أو يتغير شيء
ثم ناداهم سيجورد، وقال موريس لأوين أخيرًا:
- حسنًا يا أوين!.. لكن يجب أن نأخذ قسطًا من الراحة أولًا
غابت الشمس فبدأت الشوارع تستحيل إلى السواد، ليست مظلمة، لكن سوداء، فيجب أن تكون على بُعد خمس أقدام من الشخص حتى تراه، أبعد من ذلك سترى ظلالًا فقط، لكن الشوارع لا تزال مزدحمة على نحو غريب في تلك الساعة من اليوم، وأثناء سيرهم سأل كوفن:
- إلى متى ستمكثون يا سيد أليكساندر؟
- الليلة فقط
- وبعدها ماذا؟
- الجميع سيعود إلى دياره
- ولماذا لم تعُد الـ"آڤريك" حتى الآن؟ أنا لم أجدها في الميناء..
سكت موريس قليلًا فأجاب أوين:
- سمعتُ أنهم سيعرجون على ميناء نيوبدفورد أولًا
- حقًا؟! لماذا؟!
سكت أوين هو الآخر فقال كوفن:
- أه! لا يهم، لكن لماذا عدتم حقًا؟
- احتاجت السفينة لكثير من الإصلاحات، و... أممم! وكانت المخازن ممتلئة بالزيت بالفعل
- ملأتم المخازن في أقل من سنة؟! لطالما كنت متأكدًا من غباء وينسلو وقلة كفاءته، لكن يبدو أن طاقمه الجديد أكثر منه براعة
وأضاف موريس:
- كما أن السيدة وينسلو كانت تواجه صعوبة في العناية بطفلها وبنفسها
- أه! هكذا إذًا!
لم يبتعدوا عن الميناء كثيرًا حتى وصلوا للحانة، دخل كوفن أولًا فحياه صاحب الحانة وبعض الجالسين، ثم تبعه سيجورد ووضع عربة اليد جانبًا، وقال بعد أن جال ببصره في المكان:
- ما هذا؟! هل هذه حانة أم كنيسة؟!!
بالفعل كان المكان هادئًا، وليس مزدحمًا وإضاءته جيدة مقارنةً بالخارج، ثم قال كوفن:
- لن تجد ما تبحث عنه قريبًا من هنا يا سيد جاتفولد، لكنه موجود دائمًا
ثم أردف إلى صاحب الحانة:
- إنهم رفاق طيبون يا سيد شون.. سيمكثون هنا الليلة
رحب بهم صاحب الحانة ودلّهم على غرفتهم في العلية، ثم جلسوا على إحدى الطاولات، وسرعان ما جاءتهم فتاة تحمل بعض الأكواب وزجاجة من الرَّم، فصبّت إليهم منها، وتركت إليهم الزجاجة وذهبت.
تجرع سيجورد كوبه بسرعة على مرتين، وهو يتبع الفتاة بنظراته بإمعان شديد، وقال:
- والآن.. سأذهب أنا وعمار لتلبية بعض الحاجات المُلحّة، هل يريد أحد الانضمام؟ هه! أوين؟.. مافي؟.. ماذا عن القديس دكرور؟ لا؟.. سيد أليكساندر؟
قال موريس بسأم:
- بحقك! ألن تستريحوا حتى؟
قال عمار:
- سنستريح بعدها
وأردف سيجورد:
- والآن وكما تعلم.. فإن تلك الحاجات باهظة الثمن هذه الأيام
قالها سيجورد ومدّ كفه إلى موريس، فسبّه موريس ووضع في يده بعض العملات، فنظر سيجورد إليها في ذهول وقال:
- ربما سيكفي هذا لشراء بعض الشموع وإنارتها في الكنيسة.. لكننا ذاهبون للماخور يا موريس.. إن لم يكن كلامي واضحًا
ردّ موريس ساخرًا:
- سيكفي هذا، والباقي ستتكفل به وسامتك
ضحك الجميع إلا سيجورد الذي بدا أنه سيبكي وهو يقول:
- كيف سيكفي هذا؟ انظر! انظر إلى هذا المسكين ذو الخمسين عامًا...
وأشار إلى عمار وأردف:
- إن لم نحتسب جيرترود فإنه لم يرَ امرأة في حياته سوى أمه
استدرك عمار:
- وحتى هذه لم أرَها في حياتي
ثم أخرج موريس صُرّةً من العملات، وقبل أن يعطيها لسيجورد وكز دكرور في قدمه وقال وهو يغمز له دون أن يلحظه أحد:
- متأكدون أنكم لا تريدون الذهاب؟
كان دكرور ينوي أن ينضم إليهم لكنه علم أن موريس يريد شيئًا فلم يُبدِ رَد، وقال مافي:
- ربما سنلحق بكم بعد حين، لكن ليس الآن
وقال أوين بعد أن تجرع ما تبقى في كوبه جرعةً واحدة:
- تبًا لهذا! سأذهب معكم
حينها انتزع سيجورد كيس العملات من يد موريس، ثم نهض وأشار إلى دكرور ومافي وقال:
- ستندمون!
كان دكرور متأكد بالفعل أنه سيندم، وشبه متأكد أنه سيعود عن قراره هذا، لكنه مكث لكي يعلم ماذا يريد موريس منه ولا يريد لأحد أن يعلمه، أو ربما لم يكن يريد أن يفعل أشياء ستذكره بما كان عليه في زمنٍ بعيد، وتعيده أكثر إلى عالم البشر الذي مقته طوال حياته، ويحاول أن ينساه منذ أن سكن جوف أطلس.
ثم قال موريس بعد أن غادر سيجورد وعمار وأوين بصحبة كوفن:
- هناك أشياء أهم لنفعلها يا رفاق! يجب أن تغرق تلك السفينة
★★★
(2)
وبمجرد أن نظر موريس إلى دكرور، أومأ الأخير استحسانا في تأكد، وقال مافي:
- ألن ننتظر الرجال؟
- لا، لا أريد أن أسمع تذمر أوين
- حسنًا.. المفترض أن يكون الأمر أسهل عندما نكون نحن الثلاثة فقط.. صحيح؟!
رَد دكرور:
- ربما، لكن هذا على حسب ما سنفعل
فقال موريس بعد أن انتهى مما تبقى في زجاجة الرَّم بسرعة:
- ليس هناك خطة يا دكرور.. إن كان ذلك ما تسأل عنه
وهمّوا بالخروج، وكان كوفن قد عاد من الخارج يجلس مع صاحب الحانة عند الباب، فاستوقفهم:
- إلى أين ذاهبون؟ هل ستتبعون رفاقكم؟
- أه! نعم!
- هل أدلكم إلى أين ذهبوا؟
- لا، شكرًا يا سيد كوفن، نحن نعلم الطريق
- حقًا؟! حسنًا كما تشاء يا سيد أليكساندر
ألقى موريس ببعض العملات إلى صاحب الحانة وقال وهو يخرج:
- غرفتنا محجوزة.. لن نتأخر!
كانت الشوارع على حالها، لم تقِل ازدحامًا عما كانت، فساروا من حيث أتوا نحو الميناء، والذي كان أقل ازدحامًا من الشوارع بكثير، وعاهرة نانتوكيت راسية حيث تركوها، وأمامها كان رجل جالسًا وربما كان نائمًا، فابتعدوا إلى مكانٍ متوارٍ، ثم قال موريس وهو يبدو أنه ليس في كامل عقله:
- سنلتف من حولها على قاربنا
وقال مافي:
- ثم ماذا؟.. ستكون الضوضاء شديدة إذا حاولنا خرقها
ثم أشار دكرور إلى أحد مصابيح الزيت المعلقة القريبة منهم وهمس:
- لمَ لا نحرقها؟
- حسنًا هذه خطة جيدة.. هيا بنا!
ساروا بهدوء إلى قاربهم وخلصوه من الحبل المربوط بمركب كوفن، وجدفوا قليلًا ليصلوا إلى جهة الرصيف الأخرى، عند جهة السفينة المتوارية عن الميناء، وصعد موريس أولًا، ثم توقف ليتفقد سطحها، ثم أشار إلى دكرور ومافي وأكمل طريقه.
كان سطح السفينة مظلم لدرجة أنك لا ترى يدك، فقط كان هناك مصباح زيت خافت لا ينير شيء؛ معلق عند مقدمة السفينة، ذهب دكرور لإحضاره وهو منحني ويسير بحذر شديد، ثم أخذ موريس يده الممسكة بالمصباح وقربها إلى شيء أسود ثم قال وهو يتحسسه:
- مدفع!
ورأوا من مثل ذلك المدفع صفًّا على طول متن السفينة، ورأوا الرافعة لا يزال ذيل الحوت الكبير معلقًا منها، ثم قاد دكرور الطريق نزولًا إلى كوثل السفينة، ومنه إلى مخزن البراميل، الذي كان خاليًا من أيّة براميل.
رأى مافي ذلك وقال:
- لن يكفي زيت المصباح لإشعال سفينة، نحتاج إلى برميل
فقال موريس:
- إذًا اذهب وابحث في مخزن المؤن
وبالفعل عاد مافي يحمل برميلًا صغيرًا على كتفه، ففتحه وأخذ يسكب ما فيه في كل مكان من حوله حتى على الجدران والسقف، حتى أفرغه بالكامل، ثم عاد يقف مع موريس ودكرور وقال:
- سيفي هذا بالغرض.. من بعدِكَ يا دكرور!
تقدم دكرور خطوة، وسحب نفسًا ورفع المصباح أعلى رأسه، وألقاه لأبعد ما أمكنه، فانكسر واستشرت النار في المكان بسرعة غير عادية.
وهرع الثلاثة نحو السطح، ورجعوا إلى قاربهم بسرعة، ثم نزلوا إلى الميناء، فوجدوا الرجل حارس السفينة قد استيقظ، وإن كان لا يزال جالسًا لا يفعل شيء، فابتعدوا عن الميناء بهدوء وثبات، والتفت دكرور خلفه فوجد السفينة كأنها نائمة لا تعلم شيئًا عمّا يستعر بداخلها.
★★★
غادروا الميناء مسرعين فقال مافي بمرح:
- سيندم عمار أشد الندم أنه لم يأتِ معنا!
وهمس دكرور بسعادة:
- الآن يمكنني الذهاب إلى الماخور وأنا مرتاح البال
فقال موريس:
- حسنًا، لك ذلك أيها المنحرف! وستذهب معنا يا مافي
- بالطبع! لكن يجب أن نعود إلى الحانة لنسأل كوفن عن المكان
ثم توجهوا عائدين إلى الحانة، ودكرور في المنتصف يعانق بذراعيه أكتاف مافي وموريس، اللذان كانا يغنيان أغنية "سُكّان الأطلسي" ذات اللحن المرح السريع:
نحن لا نصيد الحيتان.. إنّا نصيد الحوّاتينَ
كنا للبحر هاربين.. ثم غرقنا ما متنا أو حيينا
نحن من بالحبس حكم علينا.. ثم ضللنا ما اهتدينا
نحن من نسكن المحيط.. فلا نخرج إلا كل حينَ
فلتخشَ الخارج من البحر.. ولتخشَ مِن جوفه الخارجينَ
أجسادنا ملأى بالندوب.. لكن ما صابنا عِلُّ وما عيينا
نرشق الحراب في القلوب.. ونبث الخوف في السفينة
فاغلِ ما استطعت من زيوت.. واجمع ما شئتَ في الخزينة
لكن لا تظن بذلك أن تعود.. منتصرًا إلى أهلك في المدينة
فلسوف نكون إلى جوارك.. فلا تبدأ في البكاء والأنينَ
إذ فأنت ميت لا محالة.. وسنعود نحن سالمينَ
لكن لا تحزن يا رفيقي.. فهذا ما نفعل من سنينَ
فنحن لا نصيد الحيتان.. بل إنّا نصيد الحوّاتينَ
إنّا نصيد الحوّاتينَ.. إنّا نصيد الحوّاتينَ
بالرغم من أنها أغنية سوداوية في معناها؛ إلا أن لحنها المرح لا يدل على ذلك، فلحنها دائمًا مرح، يمكنه أن يكون حماسيًّا إن أردت لكنه لا يكون حزينًا أبدًا، وكانت تلك هي آخر أغنية يألفونها بعد أن عاد أوين من بريطانيا، وأخبرهم عن الشائعات المنتشرة بين الحوّاتين أن هناك بشرًا يسكنون المحيط ويغرقون السفن.
ساروا في الشوارع وهم يغنونها بحماس ومرح وبصوت عالٍ يتبخترون في الطرقات، حتى أن بعض المارّة من سكان المدينة وقفوا يشاهدونهم بسعادة كأنهم يؤدّون عرضًا ترفيهيًّا، غير مدركين أنهم يعنون كل كلمة في تلك الأغنية.
وربما انشغلوا كثيرًا بالغناء حتى ضلّوا طريقهم عدة مرات، جعلهم ذلك يسخرون من أنفسهم، ثم وجدوا الحانة أخيرًا ودخلوا وهم على حالتهم يضحكون، فقال لهم كوفن بابتسامة فور أن رآهم:
- أه! هل عدتم بالفعل!
قال مافي:
- لقد نسينا الطريق، أخبرنا إلى أين دللت الآخرين؟
- لمَ لا تسألوهم؟ هم أيضًا قد عادوا وينتظرونكم بالأعلى
تعجبوا من ذلك وصعدوا بسرعة لكي يخبروا البقية بما فعلوا، ويعلموا منهم ماذا فعلوا هم أيضًا ويدلوهم على الطريق، فصعدوا إلى غرفتهم، وكوفن وراءهم مباشرةً، وقبل أن يدخل مافي الغرفة أولًا، التفت دكرور وراءه إلى كوفن ليجده يصوب بندقية نحوهم، فأشهر مسدسه لا إراديًا هو الآخر، وحين كاد أن يضغط على الزناد وكزه موريس قائلًا:
- دكرور!.. اخفض سلاحك!
عاد دكرور يلتفت إليهم دون أن يخفض مسدسه عن كوفن، فوجد موريس ينحني ليضع بندقيته على الأرض بيمناه، ويرفع يسراه بمستوى رأسه، ومافي يقف رافعًا كلتي يديه أمام باب الغرفة، وفوّهة بندقية تخرج من الباب مباشرةً إلى رأسه، فقال كوفن:
- ضع المسدس على الأرض يا سيد!
وبعد برهة من التفكير امتثل دكرور للأمر على مضض، فقال حامل البندقية من داخل الغرفة:
- والآن ادخلوا بهدوء!
كان دستة من حاملي البنادق والمسدسات في الداخل يصوبونها إليهم وجميعهم حليقي الرؤوس، مثل الذي كان جالسًا يلعب بسكين بين يديه، والذي عرفه دكرور على الفور، فكان الأصلع الذي يعظ في الناس عند السفينة، فألقى إليهم نظرة لامبالية وقال بابتسامة:
- مرحبًا بسكان أطلس!
ازدرد دكرور ريقه، وأغلق عينه في استسلام وطأطأ رأسه، وجحظ باندهاش حين عاد يفتحها ورأى عمار نائمًا على الأرض، وأوين بجانبه ينزف من أنفه، وكلاهما مربوطان بالحبال من أرجلهم وأيديهم وأفواههم.
★★★
(3)
- سيسعد الزعيم كثيرًا لرؤيتكم.. قيّدوهم!
قالها الرجل ونهض، فقال موريس وأحدهم يربط حبلًا حول يديه من وراء ظهره:
- أولستَ أنتَ الزعيم؟ حسنًا أعتقد أنه لا داعي لكل ذلك، فقد كنا نبحث عنكم بالفعل
قال الرجل بابتذال كأنه تفاجأ:
- أهذا حقًا؟ لماذا لا تبدون سعداء لرؤيتنا إذًا؟...
قال مافي دون أن يدعه يكمل:
- أين سيجورد أيها الوغد؟
- من؟.. أه! صحيح يا سيد كوفن لقد قلت أنهم ستة
ردّ كوفن بتوتر:
- لا أعلم يا سيدي.. لقد ذهب مع هاذان الإثنين ولم يعد معهم
نظر الرجل بازدراء تحته إلى أوين وعمار، وركل عمار بقوة في بطنه حتى أيقظه غير قادر على التنفس، فاندفع مافي نحوه، لكن ضربه من كان يقف بجانبه بكعب بندقيته في بطنه، مما جعله ينحني، واستطاع دكرور أن يسدد له ركلةً أسقطته، فعاد الرجل ينهض بسرعة ووضع سكينه على رقبته، فرفع رأسه ونظر إليه في تحدٍ كأنه يترجاه أن يحز عنقه، فقال موريس وهو يكشر عن أنيابه بصوت أشبه بالزمجرة:
- قلتُ لا داعي لذلك! أنتَ تعلم من نحن وما فعلنا، لذا إن كنت ذكيًا كما تخبر نفسك، فلتقتلنا جميعًا الآن، لأنه لن يجدي معنا تهديد، وإلا فلتأخذنا إلى رئيسك دون أن تجعل نفسك غبيًا أكثر من ذلك
بعد أن سكت موريس ظل الرجل ينظر إليه باهتمام لبرهة من دون أن يرفع سكينه عن رقبة دكرور، وبعدها أجهش في ضحكٍ غير مبرر، وبادله رجاله الضحكات الساخرة، وحتى موريس أخذ يضحك معهم.
كان الرجل قد رفع سكينه عن دكرور، فأشار به إلى موريس وقال:
- بغض النظر عن أن الزعيم ربما يريدكم أحياء، إلا أنك تعجبني.. والآن هيّا بنا!
قاد الرجل الطريق إلى الخارج، فيما أشبه بالموكب، وثلاثة من رجاله على جانبي ذلك الموكب، وإثنين آخرين في المؤخرة، فخرجوا من الحانة وساروا مبتعدين عن جهة البحر.
ثم قال موريس:
- لم نتشرف يا سيد!
رمقه الرجل بطرف عينه وقال:
- شادويك.. جورج شادويك، وأنتَ يجب أن تكون موريس!
انتبه الجميع أكثر وقال موريس:
- كيف علمتَ؟
- ربما أخبرني السيد كوفن، أو ربما... لا أعرف
ثم سأل عمار كوفن عن يساره:
- وكيف علمتَ أنت أيها العجوز الأرعن؟
ولما لم يتلقَّ عمار إجابة قال أوين:
- إنها تلك العاهرة جيرترود أليس كذلك؟
- احفظ لسانك! المسكينة.. كانت ترتعد وهي تخبرني، كنتُ لأدق أعناقكم وأنتم نائمين، لكن...
لم يحتَج دكرور لأن يذَكّر نفسه بأنه كان يجب عليه أن يتركها تغرق حين وجدها، واكتفى بأن قاطع كوفن بأن اندفع نحوه بكل ثقله، فأسقطه وركله ركلةً واحدة، قبل أن يضربه من كان وراءه على رأسه، ضربةً جعلته يجثو دون أن يسقط، ثم قام كوفن ووضع بندقيته على جبهة دكرور، وهو يقول:
- ستدفع ثمن ذلك أيها الوغد الأبكم!
فاستوقفه شادويك قائلًا:
- مهلًا! هل فيكم أبكم؟.. لقد أصبح ذوق الحيتان للبشر عجيبًا، والآن دعكَ منه يا سيد كوفن...
رفع كوفن بندقيته على مضض، واستكملوا مسيرتهم في صمت، وظلوا يسيرون في شوارع صغيرة ضيقة، خرجوا منها إلى الشارع الكبير الذي أوله عند الميناء، ولم يسيروا فيه كثيرًا حتى وجدوا أحدًا يسعى إليهم راكضًا وهو ينادي:
- سيد شادويك! انتظر! سيد شادويك!
توقف الجميع حتى أتى فتى صغير، توقف لهنية يلتقط أنفاسه قبل أن يقول لاهِثًا:
- سيد شادويك! إنها العاهرة... إنها تحترق!
★★★
وقع قوله على شادويك كأن بيته هو ما يحترق، فقال بعصبية لأحد رجاله:
- تومسون! أيقظ الزعيم.. وضع هؤلاء في مكانٍ آمن، ولا تدعهم يغيبون عن بصرك
هرع شادويك مع الفتى وأخذ معه واحد آخر وركضوا نحو الميناء، فاستكملوا مسيرتهم من دونه، مروا على عدة متاجر كانت تغلق أبوابها عندما يمرون من أمامها، آخرها كان يبدو متجر للقبعات والذي كان عند تقاطع ذلك الشارع الكبير مع شارع آخَر أصغر، فدخلوا ذلك الشارع ولم يكملوا خطوتين حتى انعطفوا إلى زقاق متواري وصغير جدًا كطرقة في منزل، كان يفصل بين ذلك المتجر ومبنى آخر بدا كمصنع مهجور أو مخزن كبير، وهذا أيضًا مبنيًّا من الخشب مثل كل المباني في المدينة.
ساروا في الزقاق وفوّتوا أبوابًا يبدو أنها لم تفتح منذ زمن، ثم نزلوا سلمًا كأنهم ينزلون تحت المباني، وكان عند آخره بابًا خشبيًّا، فطرقه تومسون فسأله صوت من وراء الباب "من؟" فردّ عليه:
- إنه تومسون!
انفتح الباب وخرجت من وراءه رأسًا صلعاء تأكد صاحبها ممن الطارق قبل أن يفتحه، ودخلوا قاعة واسعة تتوسطها مائدة كبيرة عليها أطباق فارغة وبقايا طعام يجلس عليها رجلين، ولها عدة أبواب تنفتح على بعض الحجرات التي بدت كمهاجع للنوم، إذ كان بها أسرة كثيرة تبدو مشغولة، لكن أكثر شيء في تلك القاعة إثارةً للانتباه كانت خريطة معلقة على حائط، كبيرة جدًا كأنها الحائط نفسه، رآها دكرور عدة مرات من قبل، فعلم أنها خريطة العالم، لكن هذه كانت أكثر جمالًا ودقة وتعقيدًا، إذ كان يعمّها خطوط ملتوية ونقط وعلامات وأرقام ورسومات كثيرة لحيتان.
نهض الجالسون على المائدة أول ما دخلوا، فأمرهم المدعو تومسون أن يوقظوا قائدهم، وساقهم هو مع كوفن وآخرين؛ إلى سلم آخَر يصعد لأعلى إلى مستوى آخر من القاعة، يفضي إلى ممر يدور حولها، فكان عن يمينهم سور أشبه بسور سفينة؛ يطل على القاعة، وعن يسارهم صفًّا من الأبواب أكثرها سليم وبعضها مغلق بمزاليج من الخشب.
وساروا على ذلك الممر حتى دخلوا ممرًّا آخر طويل ومظلم له أبواب عن اليمين واليسار، حتى وصلوا إلى آخِره، وألقوهم في آخر حجرة.
من الواضح أنها حجرة للمؤن، إذ كانت ذات إضاءة متواضعة جدًا، وممتلئة بأجولة وصناديق وبراميل وحبال؛ مصنفة ومكدسة بعناية، وعلى الحائط المقابل للباب كان يرتفع عمودًا من كل ركن يتصلان من أعلى بعارضة خشبية غليظة، يتدلى منها ثلاثة خنازير مذبوحة مغطاة بأقمشة بيضاء دامية، وبجانبها بعض الحبال الفارغة تتدلى كالمشانق.
أمر تومسون رجاله بربط أرجلهم هي الأخرى، فلم يبدِ أحدهم أيّة مقاومة، وبعد أن انتهوا قال كوفن بحماس:
- فقط زيادة تأكيد...
فأخذ بعضًا من الحبال، وتوجه إلى مافي وهو يقول:
- فلنبدأ بهذا الفتى الكبير!
وربط الحبل حول العقدة التي حول قدما مافي، ثم رفعها فوق العارضة، وأخذ يشد الحبل بقوة كأنه يرفع شراعًا، لكن مافي كان أثقل من الشراع فلم يرتفع، فأمر تومسون إثنين من رجاله ليساعدوه على رفع مافي، وما أن ارتفع بضعة أقدام عن الأرض حتى تدلى يتأرجح من العارضة بجانب أحد الخنازير، ولما انتهوا منه قال كوفن وهو يتنفس بصعوبة من إثر المجهود:
- والآن دورك يا أبكم!
كرروا الأمر مع البقية وانتهوا منهم بسرعة وبدون مجهود، فصار خمستهم رأسًا على عقب، مثل تلك الخنازير المذبوحة المعلقة لتصفية دمّها.
وقف كوفن أمامهم يتأملهم بإعجاب كأنه يتأمل فنًّا قد صنعه، فبدا لهم مثل الخفافيش وهو معلق على السقف، ثم قال بنبرة فَرِحة:
- ألستم رائعين؟!
فقال موريس:
- أعدكَ أنني سأقتلك بيدي يا كوفن!
- حقًا! وكيف ذلك يا سيد...
قاطعه صوتًا من عند باب الغرفة يقول:
- ما هذا؟ ماذا تفعلون هنا؟.. أرجو أن يكون شيئًا يستحق أن توقظني من أجله يا سيد تومسون
أراد تومسون أن يجيب، لكن كوفن هو من فعل:
- أنا من أحضر هؤلاء يا سيدي، إنهم سكان...
- لم أكن أكلمك... من أنت؟
ردّ كوفن بتوتر:
- كوفن يا سيدي! إدموند كو...
قال الرجل بحِدة وغضب كأنه يعنفه:
- لم أسألك عن اسمك!.. أريد أن أعرف من أنت حتى تكلمني!!
ردّ تومسون عنه:
- إنه من وشى بهؤلاء يا سيدي.. يدّعي أنهم سكان أحد حيتان يونس
تساءل الرجل مع نفسه بنبرة مهتمّة:
- أهذا صحيح؟!!
وحمل مصباح الزيت الخافت من على الجدار، وسار ناحية دكرور الأقرب إليه، وجثا أمامه وقرّب المصباح من وجهه، مما مكّن دكرور من رؤيته هو الآخر، ولم يلاحظ إلا صلعه الكامل.
وأثناء ما كان الرجل يتفحص دكرور كان تومسون يقول:
- أخبرنا السيد شادويك أن نراقبهم، و...
قاطعه كوفن:
- لا تعبأ بهذا يا سيدي.. إنه أبكم
ولم يكَد الرجل يتحول إلى أوين الذي كان بينه وبين دكرور خنزيرًا؛ حتى قال تومسون بعصبية وبسرعة:
- إن العاهرة تحترق يا سيدي!!
التفت الرجل بحِدة ونهض بسرعة وصاح:
- ماذا؟!! بحقكَ يا تومسون لماذا لم تخبرني؟ لماذا لم يخبرني أحد؟
- ارتأيت أنهم...
- ماذا عنهم؟!.. أيًا كانوا فتخلص منهم
- أمرك يا سيد بوتش!
فور أن قال تومسون آخر كلمة، وكاد الرجل أن يرحل؛ قال أوين يتساءل:
- بوتش؟!!!
توقف الرجل وعاد يقف أمامهم، ومال برأسه على كتفه ليستبينهم، وفعل الرجال المثل، فقال موريس:
- اللعنة! إنه هو...
ثم قال مافي:
- كنتُ أعرف أن الصوت يبدو مألوفًا
عدل الرجل رأسه، فلاحظ دكرور ابتسامة واسعة على وجهه، وسمعها في صوته حين قال:
- فلتحل بي اللعنة!.. هل اشتقتم إليّ بالفعل؟!!
فقال عمار أخيرًا:
- هنري!!!!!
★★★
كنتُ قد نمتُ على الكتاب من شدة التعب أثناء ما كنت أقرأ الفصل التاسع، واستيقظت لأكمل على الفور حتى انتهيت منه، وصُعقت حين انتهيت منه واتضح أن هنري الهارب على قيد الحياة، فقد أصبحت الأمور أكثر إثارة بعد أن خرجوا من الجوف.
كنت قد ذهبت مرة منذ زمن إلى مدينة نانتوكيت في ماساتشوستس، وكنت أعلم أن لها علاقة بصيد الحيتان قديمًا، لكن لم أكن أعبأ بأي من ذلك حقًا، فبحثت في الإنترنت عنها فوجدت فعلًا أنها كانت رائدة مجال التحويت في العالم كله، حتى منتصف القرن التاسع عشر، لكن لم يكن هناك ذِكر لجنود حوّاتين أو سفن تحويت حربية أو أي من ذلك.
أخذت الكتاب ونزلت ولم أجد سوى سامبار، ودكرور وحده في الشرفة فقلت لسامبار مازحًا:
- عمت صباحًا يا سيد سامبا مبادار!
قال سامبار بضيق لا يخفي ابتسامة:
- أه! أيها الوغد! ليتني لم أخبركَ
- كنت سأعرف وحدي على كل حال يا سيد سامبا مبادار!
- أنتَ أغبى من أن تعرف أي شيء وحدك، أين وصلت في القراءة على أي حال؟
- عندما وجدوا هنري على قيد الحياة، اللعنة! لقد طار عقلي...
- أرأيتَ؟! اتضح أنك أغبى من أن تعرف من أنت حتى
تعجبت كثيرًا وتغير مزاحي إلى استغراب، بعد أن تذكرت لم أنا هنا أصلًا، فقلت باستغراب:
- ماذا تقصد يا سام؟
لم يُجِب سام، وكان دكرور يقف على باب الشرفة يشاهدنا في صمت، فتوجهت إليه وقلت بانفعال شديد بعد أن ألقيت الكتاب بعنف على الطاولة:
- أتعلم ماذا؟.. لن أمكث هنا يومًا واحدًا حتى تجيبوا على أسئلتي
قال دكرور بهدوء:
- حسنًا أخبرنا بمَا تريد أن تعرف
لم أعرف حقًا ماذا أقول، ففكرت في كل شيء في حيرة وقلت:
- ماذا إذًا؟.. أعني... هل كان لي أبًا يعيش في بطن حوت مثلًا؟.. مهلًا! هل أنتَ والدي؟!!
- تبًا لك ولوالدك! لا بالطبع.. بل أنت من كان يعيش في بطن حوت يا إد... ذكرني إلامَ يشير إدي؟
- أنا كنت في بطن حوت؟!! هل هو أطلس؟ أعتقد أني كنت سأتذكر شيء كهذا
- ربما كنتَ أصغر من أن تتذكر، والآن أخبرني إلام يشير إد
- إدوارد
- إدوارد؟! محتمل.. وإدجار أيضًا محتمل، أو ربما هو إدريس أو إديسون، ولم لا يكون إدوين أو إدموند
- ماذا تريد أن تقول؟
- أعتقد أن اسمك الحقيقي ليس إدوارد يا إدموند
- اسمي الحقيقي!!! ماذا إذًا؟
- لقد قلته
- ماذا قلتَ؟
- اسمك الحقيقي
- ما هو؟
- إدموند
- إدموند؟!!!!
- إد.. موند
ربما استغرقت ثلاثين ثانية في التفكير أنظر في عينيه ببلاهة جلية، وأنا أفكر في ذلك الاسم، وتذكرت كل من أعرفهم يحملون ذلك الاسم، حتى تذكرت آخرهم والذي كان إدموند كوفن الذي في رواية سكان أطلس، وعندما تذكرت أن هناك إدموند آخَر في الرواية قد سُمّيَ تيمّنًا به؛ هوَيت أجلس بعد أن فقدتُ اتزاني دون أن أفقد وعيي، فهرع إليّ دكرور وأحضر سام كوب ماء، وشربت وأنا لا أزال غير قادر على الكلام أو على سماع سام وهو يتكلم.
وبقيت على ذلك الحال مدة أجلس في شرود بوجه واجم، وسام ودكرور بجانبي لا يتكلمان أيضًا، وبعد أن استعدت اتزاني ثم وعيي ثم رشدي؛ قلت لدكرور بنبرة باكية دون أن أبكي:
- أي إدموند تقصد؟
قال دكرور بحنان وطيبة:
- أظن أنك تعرف يا إد.. أنتَ إدموند ابن جيرترود
حينها حاولت أن أبكي لكنني لم أفعل، أو ربما لم أقدر، فقد كانت المشاعر أكثر من قدرتي على الشعور فلم أشعر بشيء، لكنني رغم ذلك قد ذرفت الدمع.
ربما كان من شدة الانفعال فحسب، من أني أخيرًا أعلم إجابة أكبر سؤال في حياتي، أو ربما لأني علمت أني كنت أعيش باسم غير اسمي، أو ربما لأني علمت اسم أمي الحقيقية، أو لأني علمت أنها كانت تحبني، أو ربما أشفقت عليها لما مرت به، أو ربما كل ذلك وأكثر.
قال دكرور بهدوء بنبرة ثابتة تخلو من أي مبالاة:
- لقد وُلدتَ تقريبًا في فبراير من العام 1846، ودخلتَ الجوف وأنت في عمر خمسة أشهر، ربما لم تمكث سوى أربعة أيام لكن كان ذلك كفيل بأن يجعلك أحد سكان أطلس، أنت آخر ساكن للجوف يا إدي.. وليس دكرور
رفعت رأسي ومسحت دموعي، وعرفت حينها بما يجب أن أشعر، قلت بصوت مختنق، بنبرة غاضبة:
- وأين هي الآن؟ أليست أحد سكان أطلس هي الأخرى؟
قاومتُ العودة إلى البكاء بصعوبة، وقال سام:
- لقد بحثنا عن جيرترود بعد... بعد ذلك، لكن لم نجدها
لم أتحمل أن أسمع منهم كلمة أخرى فانفجرت فيهم صائحًا:
- حقًا!!! لماذا؟.. لكي تقتصّون منها لأنها وشت بكم؟
- إدي! أريدك أن تهدأ..
- لا!!! لن أهدأ!! لا تقل لي أن أهدأ!! لن أهدأ بعد أن سمعت أكاذيبكم وقرأت هراءكم
وجدت دكرور قد جلس وعلى وجهه ابتسامة ساخرة استفزتني بشدة، فوقفت أمامه وواجهته وقلت بسخرية:
- حسنًا.. أخبرني أين حوتنا العزيز أطلس؟! هه؟ ولِمَ لَمْ أرَه حتى الآن؟ ألم يمُت حقًا؟ هل لا يزال في قلوبنا ولا يغيب عن بالنا؟ إذًا لِمَ أنتم هنا ولستم في جوفه؟ ذلك الذي أدخلتني إليه تحملني بين يديك وأنا رضيع
اتسعت ابتسامة دكرور أكثر وقد زادت سخريته، فأردفت بسخرية أكبر:
- لا تظن أني قد صدقت كلمة من تلك الرواية الرديئة، وإن كنت تعدها على أنها قصة حقيقية فأنت كذاب وتكذب على نفسك، إنه هوسك بتلك الحيتان اللعينة ما جعلك تتخيل قصة مريضة مثل هذه
اختفت ابتسامته ببطء، فعلمت أني أثرت حفيظته، فابتسمت بدلًا منه، فقال سام من ورائي:
- إدي! يجب أن تعتذر الآن..
ضحكت وكدت ألتفت إليه، لكن أمسكني دكرور من عنقي وألصقني بالجدار، بدا الهدوء على ملامحه، لكن كان الانفعال في صوته حين قال:
- أنا لستُ كذابًا، لقد جئتَ إلينا طلبًا للحقيقة.. وها هي الحقيقة التي نعرفها وليس لدينا أخرى، فإن أردتها فخذها كما هي ولا تتذمر، وإن رفضتها فلا تتذمر أيضًا
دفعه سام عني، فوقفت أفرك رقبتي وأنا أقول:
- لقد أضعت أسبوعًا مع مهرجين!
ثم تركتهما وصعدت مسرعًا إلى الغرفة، وجمعت حقيبتي في عجلة، ثم نزلت بعصبية فلم ألحظ دكرور الجالس بالقرب من الباب، لكن استوقفتني رؤية الكتاب موضوعًا على الطاولة حيث ألقيته، ثم نظرت إلى دكرور لأجده يبادلني النظر وقال وهو يهز رأسه بثبات:
- لا، لا تفكر في الأمر.. لن تأخذها معك
قلت بانفعال:
- لا أحتاجها! لا أريد أن أقرأ الهراء الذي تكتبه...
فتحت الباب والتفتُّ وأكملت بنفس النبرة:
- وأتدري ماذا!.. أنت كاتب سيّئ!
خرجت وصفقت الباب ورائي، خرج سامبار خلفي وقال:
- إدي! إذا أردت العودة فلا تتردّد، وهاتفني متى أردتَ...
توقفت لبرهة، أفكر في الأمور قبل أن أدرك خطأ ما أفعل، وأدرك أني بالفعل أصدق الحقيقة التي أخبراني بها، إذ لم يكن هناك ما يدعو لتكذيبها سوى التفكير فيها، وأدرك أني لم أكمل قراءة الرواية، وأني أريد حقًا أن أكملها، وأني يجب أن أعتذر لدكرور.
فكرت في كل ذلك والتفتّ ورائي لأجد دكرور ينظر إلي من النافذة، فقلت لسام:
- سأفعل يا سام.. اعتني بنفسك يا صديقي!
ورحلت على كل حال، وفي نفسي نيّة مبهمة لأن أعود.