ابتسمت وهي تتحدث مع صديقتها الجديدة نغم وتروي لها تجربتها التي مرت بها وأنها تعذبت طوال عشر سنوات بسبب اختيارها الخاطئ.
-"وماذا حدث معكِ بعد ذلك؟ كيف تغلبتِ على تلك المحنة؟"
قالتها نغم بتساؤل لتجيبها شيرين:
-"عندما علم والدي بطلاقي وبأني أواجه ظروفا صعبة تدخل لمساعدتي".
اتسعت عينا نغم بدهشة وقالت:
-"تقصدين بأنه سامحك ودعمك أنت وأولادك؟"
ابتسمت شيرين بخفه وهي تومئ برأسها قائلة:
-"أجل نغم فوالدي هو أفضل رجل يمكن أن تقابليه في حياتك ، رغم كل ما فعلته به إلا أنه ساعدني ووقف بجانبي".
تذكرت ذلك اليوم عندما كانت تغسل أواني الطهي وسمعت رنين جرس المنزل ... جففت يدها وذهبت لفتح الباب وتصنمت عندما رأت والدها يقف أمامها وينظر لها بعتاب وحزن.
-"بابا!!"
هتفت بها بصدمة وهي لا تكاد تصدق أن والدها الذي قطع كل صلته بها منذ سنوات قد أتى إليها ويقف أمامها وزادت دهشتها عندما رأت والدتها تقف خلف والدها.
نظر لها رأفت بعتاب وهتف:
-"هل سنقف كثيرا أمام الباب؟ ألن تدعينا ندخل؟!"
أفسحت لهما ليدلفا إلى الشقة ... نظرت هدى حولها بحزن فهي لم تكن تتوقع في أسوء كوابيسها أن تكون حالة شيرين سيئة إلى هذه الدرجة ... نظر رأفت إلى أولاد شيرين بشوق ولهفة واقترب منهم واحتضنهم ... ابتسمت شيرين وعرفت أطفالها على رأفت.
ارتمت في أحضان والديها وأجهشت بالبكاء وطلبت منهما أن يسامحاها على ما فعلته في الماضي.
مر بعض الوقت قبل أن يجلس رأفت برفقة هدى وتجلس أمامهما شيرين وهي تنكس رأسها لأسفل بخزي وندم .
رمقتها هدى بعتاب قبل أن تردف:
-"لماذا لم تعودي إلينا بعدما ترككِ كريم؟"
أجهشت شيرين ببكاء وهتفت بمرارة من بين شهقاتها:
-"لم أستطع فعلها ... لقد أخطئت في الماضي ولم أجرؤ على الإتيان إلى المنزل والنظر في أعينكما ... أشعر بالخجل والخزي كلما تذكرت فعلتي التي لا تستحق الغفران".
أردف رأفت بتساؤل وهو ينظر حوله في أنحاء الشقة:
-"لقد مر على طلاقك ستة أشهر ... كيف استطعتِ تدبير أمورك طوال هذه الفترة؟"
صمتت شيرين لبرهة قبل أن تتنهد بحزن وتتحدث:
-"بعت قرطي وخاتم زواجي وبعض الأشياء التي كنت أملكها وبعدها استأجرت هذه الشقة".
عندما سمع بالأمس أن ابنته تطلقت وبأن الحقير زوجها طردها من المنزل برفقة أطفالها بحث عنها حتى استطاع الوصول إلى عنوانها الجديد.
كز رأفت على أسنانه وكور يده من شدة الغضب ... يقسم أنه لو رأى كريم لمزقه إربا انتقاما لما فعله بشيرين ... هتف بضيق وهو يحاول كبح غضبه:
-"جهزي أغراضكِ لأنكِ ستعودين معنا إلى المنزل فأنا لن أسمح لكِ بأن تعيشي في هذه الشقة القذرة ".
تهللت أسارير وجه شيرين وهي تسرع وتجهز أغراضها وأغراض أطفالها الثلاثة كما طلب منها والدها.
مرت ساعة قبل أن يغادروا الشقة ويذهبوا إلى شقة رأفت.
دلفت شيرين إلى غرفتها القديمة التي تحمل جميع ذكرياتها ونظرت بحزن إلى صورها المعلقة على الجدران.
تعلم بأنه تغيرت أمور كثيرة طوال هذه السنوات بسبب خطئها ولكنها ستصلح وترمم كل ما يمكن ترميمه.
ذهبت إلى الجامعة وأنهت كافة الإجرائات اللازمة لكي تستأنف دراستها التي تركتها قبل سنوات .
مرت أيام كثيره قبل أن يبدأ العام الدراسي الجديد ... استيقظت من نومها عندما أشرقت شمس الصباح حاملة معها شعاعها الذي داعب وجهها.
أنهت صلاتها ، وارتدت ملابسها ، وأوصلت أطفالها إلى المدرسة قبل أن تذهب إلى الجامعة.
سارت حياتها على هذا الروتين طوال عامين ، أنهت فيهما السنة الثانية والثالثة في كلية الحقوق ولم يتبقى لها سوى السنة الرابعة والأخيرة وتتخرج من الجامعة .
التقت شيرين بكثير ممن هن مثلها واستمعت إلى قصصهم ولكن لم تؤثر بها أيا منهن سوى سها ، تلك الفتاة التي تعرفت عليها قبل بضعة أشهر وأصبحت صديقتها مع مرور الوقت .
تذكرت ذلك اليوم عندما أخبرت سها بما حدث معها لتبدأ الأخرى في الحديث عن ماضيها قائلة:
-"كنت في التاسعة عشر من عمري عندما تمت خطبة شقيقتي الكبرى ... شعرت كثيرا بالفرح لأنها وجدت شريك حياتها ، ولكن تلك السعادة بدأت تزول بعدما وقعت في حب خطيب شقيقتي وهو أيضا بادلني الشعور ".
عقدت شيرين حاجبيها ولم يظهر على وجهها سوى ملامح الجمود وأردفت بتساؤل:
-"وماذا فعلتِ بعدما عرفت بأنه يبادلك مشاعركِ؟"
تلألأت أعين سها بالدموع وهي تتابع:
-"أخبرني بأنه يحبني كثيرا وأنه لا يمكنه أن يكمل حياته بدوني ، شعرت حينها بأن قلبي يخفق بقوة وتمنيت أن يقف الوقت عند هذه اللحظة ولا يمضي".
استطردت سها بألم وحزن:
-"أقنعني بأنه لا سبيل لإجتماعنا سوى بالهرب والزواج وهذا ما فعلناه ، هربنا بعيدا وتركنا الجميع خلفنا وتزوجنا ، دللني كثيرا لدرجة جعلتني لا أشعر بالندم على فعلتي النكراء بشقيقتي وأهلي ... مر عام ونحن نعيش حياة مليئة بالحب والسعادة قبل أن نكتشف بأني أعاني من مشكلة مؤقتة في رحمي تمنعني من الإنجاب".
أجهشت سها بالبكاء لتربت شيرين على كتفها وتحثها على المتابعة.
-"أخبرتنا الطبيبة بأن العلاج سيأخذ بعض الوقت وأنه يجب أن نتحلى بالصبر ، تغيرت معاملته لي كثيرا ، وبعدها بدأ يغيب عن المنزل ، بدأت أشك في أمره ولم أجد حلا سوى أن أراقبه لأكتشف بأنه تزوج بإمرأة أخرى وأنجب منها طفلا ، لم أستطع تحمل الصدمة فسقطت أرضا مغشيا عليَّ وعندما استيقظت أخبرني بأنه لن يتخلى عن زوجته وطفله وأنه إن أردت يمكنني الطلاق والرحيل".
لم تشعر شيرين بنفسها وهي تهتف بشراسة:
-"بعدما تسبب في ابتعادك عن عائلتك يخبرك وبكل برود بأنه يمكنك الطلاق والرحيل!! أعترف بأنه تغلب على كريم في النذالة والحقارة".
كفكفت سها دموعها واستطردت:
-"لم يكن أمامي سوى الإستمرار معه ، وعندما رأى أنه لا حول لي ولا قوة أحضر زوجته الأخرى وطفله إلى الشقة وأجبرني على خدمتهما ، مر عامين عرفت فيهما المعنى الحقيقي للذل والقهر إلى أن أتى ذلك اليوم الذي أهانتني به زوجته وعندما وجهت لها الإهانات كما فعلت معي ضربني زوجي بشدة ، لم أستطع التحمل فطلبت الطلاق وعندما حصلت عليه رحلت ، علمت بأن شقيقتي تزوجت برجل أخر وهي سعيدة معه ، وعرفت بأن عائلتي تبرأت منِّي وبأنهم لا يريدون رؤية وجهي".
نظرت لها شيرين بحزن وتنهدت قائلة بأسى:
-"لقد أخطأت في حق نفسكِ وفي حق شقيقتكِ ، ولكنك لستِ المذنبة الوحيدة في هذه المسألة ، فالحقير الذي تزوجتيه مذنب أيضا وأثق بأنه سينال عقابه يوما".
ابتسمت سها بتهكم وهي تردد بسخرية:
-"نال عقابه منذ فترة ، مات طفله وبعدها تعرض لحادث جعله غير قادر على الإنجاب مرة أخرى وعندما علمت زوجته بالأمر تركته وتزوجت غيره".
ابتسمت وهي تستطرد قائلة:
-"أما أنا فقد تعافيت وسيصبح لي أطفال في المستقبل إن شاء الله ، ولكن ليس قبل أن تسامحني عائلتي".
زفرت نغم أنفاسها بعمق بعدما أخبرتها شيرين بقصة سها وقالت:
-"على الرغم من أنها أخطئت ولكن أتمنى من كل قلبي أن يسامحها والدها".
أردفت نغم بعفوية محاولة تغيير مجرى الحديث:
-"لقد سمعت بأن طليقك أفلس بعدما خدعته زوجتة وأخذت جميع أمواله وهربت مع عشيقها".
هتفت شيرين بلا مبالاة فهي لم تعد تتأثر به أو تهتم لأمره:
-"لا يهمني أي شيء يتعلق به ، لو أخبرتيني الآن أنه مات فأنا لن أبالي".
كانت كلمات شيرين صادقة فكما لفظها كريم من حياته ، أخرجته هي من قلبها ولم يعد يعنيها أمره ، عندما تراه أمامها تتعامل معه وكأنه غريب لم تعرفه من قبل.
▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪
نظرت إلى انعكاس صورتها في المرآة بفرحة ، فأخيرا قد طرقت السعادة بابها ... اقتربت منها انجي وهي تبتسم وهمست بخفوت:
-"تبدين جميلة يا عروس ... واثقة بأنك ستسرقين عقل فارس عندما يراكِ".
التفتت لها شيرين ونظرت لها بإمتنان صادق ، فهي لم تخيب ظنها وسامحتها عندما ذهبت إلى منزلها واعتذرت منها ، وطلبت منها أن تعود صداقتهما كما كانت قبل أن يفسدها كريم.
أمسكت شيرين بكفيها وهمست بنبرة ذات مغزى:
-"ارحمي نصر قليلا ووافقي علي الزواج منه ... لقد طار عقله عندما علم بأنك لن توافقي".
ابتسمت انجي بمكر قائلة:
-"لن أقبل قبل أن أتأكد أنه يحبني ، وسأدرك ذلك عندما ينجح ويجتاز الإختبارات التي وضعتها له".
-يبدو أن المسكين سيعاني كثيرا معكِ".
هتفت بها شيرين قبل أن تدلف والدتها إلى الغرفة لترافقها للخارج حيث يتم عقد القران.
مرت بضع دقائق قبل أن ينتهي المأذون ويعلنهما زوج وزوجة .
ابتسمت وهي تتذكر كيف عرض فارس الزواج عليها.
-"حركات المراهقين هذه لا تليق بك".
قالتها ببرود عكس الغضب الذي يتأجج في صدرها ... لم تعد تفهم لماذا يلاحقها هذا المعيد بإستمرار؟
زفرت بحنق وهي ترمقه شذرا فقد سأمت من تصرفاته التي باتت تستفزها في الآونة الأخيرة.
ابتسم فارس بهدوء وهو يهتف:
-"أريد رقم هاتف والدك وطلب يدك منه".
رمقته بذهول وتنهدت بصمت وهي تحاول أن تتحلى بالقليل من الشجاعة وهتفت:
-"أنت لا تعرف شيئا عني أنا ..."
قاطعها وهو يهتف ببساطة:
-"كنتِ متزوجة ولكن زوجك تركك من أجل امرأة أخرى سرقت أمواله في النهاية وهربت مع عشقيها ، ولديك ثلاثة أطفال وتعيشين حاليا في منزل والدك".
صاحت بإستنكار وابتسمت بسخرية:
-"استطعت أن تعرف كل هذه الأمور ولم تعثر على رقم والدي؟"
كادت تغادر ولكنه أوقفها قائلاً بصوت أجش:
-"حصلت عليه ولكن لن أتصل به قبل أن أتأكد بأنكِ موافقة".
كبحت ابتسامتها بعدما تذكرت بأنه متزوج ولديه أطفال وردت بنبرة جامدة:
-"طلبك مرفوض ، أنا لن أقبل الإقتران برجل متزوج".
جحظت عيناه وهمس بذهول:
-"متزوج؟!"
ضحك بشدة على كلمتها ولم يعد يستوعب أي شيء إلا عندما سمعها تهتف بشراسة وتهكم:
-"هل يمكن أن تتكرم سيادتك وتخبرني لماذا تضحك؟"
كبح ضحكته بصعوبه وهو يجيب:
-"لأنني اكتشفت بأنكِ لا تعيشين في هذه الدنيا ، أنا وزوجتي انفصلنا منذ أربع سنوات".
هزت رأسها بعدم تصديق وفكرت قليلا قبل أن تومئ له برأسها موافقة على طلبه وابتسمت له ولكن بتوتر ثم غادرت بسرعة.
اتصل فارس بوالدها وطلب يدها ... رحب رأفت به ووافق عليه بعدما تحرى عنه وعلم بأنه مناسب لإبنته كما أن سمعته جيدة ولا يشوبها شائبة.
عرف كريم بأن شيرين ستتزوج مرة أخرى فذهب إلى منزلها وهددها بأنه سيأخذ أطفالها منها ... عندما علم فارس بالأمر توجه إلى منزله وهدده بأنه سيبلغ الشرطة عن أعماله غير الشرعية فما كان من كريم إلا الإبتعاد عنهم وعدم التعرض لهم نهائيا.
قد يدفعكِ العشق أحيانا لإرتكاب أخطاء لا تستطيعي اصلاحها ولا ينفعكِ الندم ... من يحبكِ بصدق سيحرص على سعادتكِ ولن يبعدكِ عن عائلتك بل سيقربكِ منهم.
كوني واثقة بأنه لا يوجد رجل في هذا الكون يستحق أن تتخلي عن عائلتك من أجله ، وإن فعلتها وتركتي كل شيء من أجل حبك فتأكدي بأنه سيظل يذكركِ ويعايركِ بهذه النقطة السوداء طوال حياتكِ ... احرصي على أن تكوني غالية كالماسة ، لا ينالها إلا من يستحقها.
-النهاية-
#batol