Enasmhanna

Share to Social Media

((1980))

دلف عابد لمنزل العجوز بعد يوم طويل قضاه خارجاً وهو يتواصل مع رجاله لمعرفة آخر التطورات، تركت رغد المطبخ وهرولت ناحيته تسأل بلهفة : متى سنغادر ؟ هل هدأت الأوضاع ؟
حاول جعل تعابير وجهه طبيعية قدر المستطاع كيلا تشعر بشيء وقال وهو يرتمي على الأريكة : معنا بضع أيام أخرى الأمور معقدة "
جلست على الأريكة المقابلة بيأس وقالت : ولكنك وعدتني !
حدق فيها وقال بصدق : أنا عند وعدي لكن ستسافرين إلى مدينة أخرى "
!! لما لن أسافر وأترك جامعتي هنا وأبي !
قاطعها قائلاً بنفاذ صبر : قلت لك أن الأمور معقدة والبقاء هنا خطرٌ عليك"
- وأبي هل هو بخير ؟
عند هذا السؤال تلاقت عيناهما، شعرت بانقباضة قوية داخل صدرها فعاودت السؤال بلهفة أكبر، نهض من مجلسه فتطلعت به العجوز من أمام الباب وقد فهمت ما الذي جرى لكنه ظل صامتاً، هرعت رغد بجنون وتمسكت بياقة قميصه وصارت تصرخ بهستيريا : أخبرني ما الذي جرى له ؟

رجفة زلزت كيانه ولأول مرة يشعر بالضعف يجتز صلابته أمام أحدهم بل أمام عينين واسعتين بلون الرماد المصفى ! ،لم يكن سابقاً بهذا الضعف ما الذي جرى الآن، هل يشعر بالشفقة ! تلك الكلمة كان قد محاها من قاموسه والآن أمام عينيها يشعر بالضياع، بالشفقة ، بالألم، هو ذاته الشعور الذي لسعه حينما قبضوا على والده قبل أن يقتلوه..،ذات الألم الذي اكتوى به حينما قتلوا والدته، عادت تلك الحادثة تطرق ذاكرته، بل صارت تضرب ذاكرته ضرباتٍ عنيفة كخبطات الموت الذي يحيط به من كان جانب ،

قبض على كفيها القابضين على قميصه : نطق حروفها المميتة : آسف، مات والدك ،قتلوه " انفرجت عيناها بصدمة ترسخت على تقاسيم وجهها، وكأن تلك الكلمة قد صارت شياطين تتراقص بينهما ، مات ....
اقترن نطقه لحروفها بحروف قالها إحدى رجال عمه وهو يسحبه معه ...مات والدك ، أعدموه "
ردموا قبر والديه بالتراب وروحه منذ ذلك الحين ظلت حبيسه قبريهما ولم تخرج تلك الروح إلا هذه الليلة !

صارت تضربه على صدره بعنف وهي تصرخ بهستيريا شاتمة إياه وقد خارت قواها وبلحظة وبدون وعي أو إدراك منه صارت حبيسة ذراعيه، دفنها بصدره رغم مقاومتها العنيفة له، على الرغم من أنها لسعته بشتائمها،إلا أنها تشبثت بقميصه انهارت دموعها لتروي صدره كأمطار من نيران تحرق فؤاده، تعالت وتيرة نبضات قلبه الحاقدة على الحياة بحد ذاتها، على عمه ،على والدها الذي أصر أن يسوقه قدره لمجابهة الوطواط ! على القدر الذي ألقاها بين يديه، وعند هذه الفكرة لم يستطع التخلي عنها ،بل شد بذراعيه عليها أكثر : همس بصدق : ما الذنب ذنبي "

لم يكن ذنبه أن الحياة اختارت له هذه المعيشة، ولم يكن كذلك ذنبها أنها الآن حبيسة ذراعي من كان سبباً في مقتل والدها .
ولربما كفت ساعة الحائط عن احتساب الزمان ، كف قلبه عن ضخ الدماء بل مهمته الآن انحصرت في أن ينبض فقط، ينبض بعنف وإصرار نبضات على الرغم من قسوتها إلا أنها بثت السكينة في ثنايا روحيهما لتستكين على صدره بصمت ،تراجع إلى الوراء خطوين ليرتد جالساً على الأريكة ولم تبتعد عنه بل ظلت متمسكة بقميصه وكأنه صار المخدر بالنسبة لها، صحيح أنها فقدت والدها لكنها وبهذه اللحظة لم تشعر إلا بالأمان، الأمان مع جلادها ..الذي قدم لها كأس الموت فشربته دفقة واحدة..

*****

الوقت الحاضر

دلف مراد إلى المنزل فهرولت أليسا كعادتها لتستقبله ببسمة عاشقة تبرعمت على يديه، بفرحة طفلة صغيرة تتعلق بساق والدها عند مجيئه من عمله، حدق فيها بنظرات حانية كعادته، لف ذراعه على خاصرتها وهما يدلفان إلى الصالة ليلقي السلام على الجميع وفيما بينهم يجلس آدم ونور التي التصقت بوالدتها وهي تتابع فيلمها المفضل، جلست أليسا بجانب مراد وهي تثرثر كعادتها عما فعلته بهذا اليوم وهو يستمع إليها، ما زالت فعلا طفلة لم تكبر ، مسحة البراءة والبريق النقي بعينيها لم ينطفآ بعد ولم يرغب أبدا في أن ينطفآ، كذب حين قال أن يريدها امرأة ناضجة ... كذب حينما أخبرها بأن تنخلع عن عالم الطفولة .... بل يريدها كما هي... بهذه البراءة والعفوية التي تتفقدها روحه
تطلع رضوان في مراد قائلاً بجدية : هنالك موضوع قد تم فتحه منذ فترة، والآن أظنه الوقت المناسب للحديث فيه "
قدمت الخادمة القهوة للجميع فتناول مراد قهوته وحدق به باهتمام فقال رضوان :
-تقدم كريم منذ فترة بطلب نور للزواج واليوم فاتحني عمك بالموضوع مجدداً "

عند هذه اللحظة سقط الفنجان من يد آدم لتتناثر شظاياه على الأرض وهو يحدق بصدمة بوجه رضوان "
فقالت عسل بتذمر : كسرت فنجاناً من الطقم الجديد يا مغفل !!
- عيب يا عسل ! " قالتها عبير بعتاب لابنتها و انفرجت عينا نور بصدمة على آدم الذي تنبه بارتباك لعيون الجميع التي حطت عليه، اتسعت عينا مراد وقد فهم الآن سر الشجار الذي لم يخبره كريم إياه... قال بجدية: لم تخبروني بهذا سابقاً، لكن اظن نور ما تزال صغيرة على هذا الموضوع .

ابتلع آدم لعابه بصعوبة وهو يستجدي مراد بعينيه اللتين احتقنتا من الغضب، بينما عمه لم يرحمه بل لسعه بسوط كلماته مجددا : يطلبون إقامة خطبة مبدأيا، وأظنه أنه مناسب لنور فهو خلوق ومحترم "
ثم استدار ناحية آدم ليردف : ما رأيك يا آدم ؟

- رأيي !! نطقها آدم بمرارة وبالكاد خرجت حروف كلمتها ....
- أنا...لا رأي لي... عن اذنكم" وغادر الشقة حانقاً ودفع الباب بيده " انفرجت عينا رضوان على انفعاله الواضح وعاود الحديث :
-ما يهم الآن هو رأيك يا نور "

تبسم مراد ونظر الى نور التي دمعت عيناها بذهول فحاولت مداراة دموعها ...يستحيل أن تتفاهم مع كريم العصبي حاد المزاج، على الرغم من أنه صديق طفولته لكنه يستحيل أن يسلم شقيقته لحقل ألغام ! ..قال بهدوء :
- أظن أن الوقت ليس مناسباً الآن للحديث بهذه المواضيع يا أبي، ما تزال نور صغيرة أليس كذلك ؟
قالت إليسا بعفوية: ليست صغيرة إن نور أكبر مني..
حانت من مراد التفاتة إلى اليسا وحدجها بنظرة قوية جعلتها تصمت وتنكمش على نفسها خوفاً من أن تكون قد أخطأت. .تعلقت عيني نور بأخيها وهزت رأسها بخوف ثم قالت بتلعثم: آسفة يا والدي ، لكني لا أريد الآن سوى أن أدرس "

- أفهم منك الآن أنك لست موافقة عليه أم أنك تودين تأجيل الموضوع بضع سنوات لحين استكمال دراستك كي أعرف بما أجيبه ؟ .

اطرقت نور برأسها إلى الأرض واعتصرت كفيها ببعضهما بارتباك فقال مراد بجدية : لن نجبرك على شيء، أجيبي بصراحة دون خجل "
فاومئ رضوان مؤيداً كلمات ابنه، رفعت بصرها ناحية والدها وتمتمت بخفوت : لا أريده "
هز رضوان راسه بتفهم وقال بوقار : سنبلغهم قرارك "
تنهدت بارتياح و هربت من أمامهم لتصعد إلى غرفتها ..
استدارت عبير تجاه رضوان وقالت : أشعرت بشيء غير طبيعي ؟
حدق بها رضوان بعدم فهم وتسائل : مثل ماذا ؟
أطرقت عبير براسها بتفكير عميق ثم قالت له : أنا أشك بموضوع ... وما إن أتيقن منه سأخبرك "
- حسناً كما تشائين "

دفع مراد الباب ودخل ليرى نور متربعة على السرير كمن يمارس اليوغا !
تبسم وهو يمد كفه ناحيتها: أتسمحين بأن ترافقيتي إلى الخارج...الجو جميل .
حدقت بعيني مراد وقد أدركت أنه يريد أن يستنطقها..حسنا فليفعل لا شي أخاف منه..
همهمت بينها وبين نفسها ثم مدت كفها ليقبض مراد عليها ويخرجان ناحية حديقة المنزل ..توقفا بعدما استجمع مراد توازن تفكيره وقال بهدوء وهي يحدق بعيني شقيقته:
- والآن أيتها الصغيرة ...لنحكي القصة منذ البداية.
-أي..أي قصة مراد؟
حك جبينه محاولا انتقاء كلماته وأردف: منذ عامين وأنت تعملين عند كريم بالتصوير، وكنا نسمح لك كي تجربي ...لكن وعلى ما يبدو أن الموضوع اتخذ منحا آخر من ابن عمك.
احتقن وجهها خجلاً وارتباكا وهمهمت: و...وما ذنبي.
- هل فاتحك بالموضوع من قبل أن يطلب من والده خطبتك!
كانت عيني مراد كعيني الصقر. ..حادتان مخيفتان وواثقتان وهو يستنطقها، لا تصدق أن أخوها الآن يستنطقها بعيداً عن الجميع!
ابتلعت ريقها وأجابت بجلادة : نعم.
- فرفضته و تشاجرتما لذلك السبب في السيارة منذ عدة أيام أليس كذلك؟
-أخي...أقسم لك أنني..."
اغتال كلماتها وهو يربت على كتفيها: أنا لا أطالبك بتبرير أي شيء، والملام ليس أنت، أنت ما تزالين صغيرة والمستقبل أمامك .
صمت هنيهة وأردف : لنأتي الآن للموضوع الأهم: لماذا رفضتي كريم؟
-انت قلتها أريد أن أستكمل دراستي..لا أفكر الآن سوى بالدراسة .
اقترب منها أكثر مازحاً ليخفف من توترها: يعني..لو تقدم لك عريس آخر سترفضيه كذلك أم أن الأمر متعلق بكريم فقط!
- سأرفض كل من يتقدم.
-لنأتي للشق الآخر من الموضوع...هل فاتحك أحد غير كريم بمسألة الزواج؟
اشتدت قبضتا يديها على جانبيها وتمتمت بنفي فاعتصر كتفيها براحتي يديه: حدقي بعيني لنرى...ما سبب انزعاج آدم اليوم؟
شحب وجهها وامتقع فالتمعت عيني الصقر وابتسم بزاوية فمه وقد فهم الموضوع:
-هل تكنين أية مشاعر له؟
- مراد ما هذه الأسئلة الغريبة ؟!
رفع مراد حاجبيه ثم غمغم: يراقبنا الأحمق من شرفة غرفته إنه خائف ومتوتر ..
أدارت نور عينيها قليلاً لأعلى لترى آدم واقفاً فأشاحات بوجهها فوراً ناحية مراد وقد تلفت أعصابها ..لتعطيه ما يريد سماعه ولتنهي المسألة ..فشددت على حروفها : لو طلب (براد بيت ) يدي شخصياً هذه الفترة لن أوافق...أريد أن أدرس..نقطة انتهى.
اعتصر مراد عنقها من الخلف بكفه وغمغم باسما: -إذن...من الآن فصاعدا ستكفين عن معاملة الجميع بأريحية و لن تذهبي لمتجر كريم ..جلسات التصوير ستتوقف...حتى آدم لن يوصلك بعد الآن لأي مكان بمفردك منذ هذه اللحظة..مفهوم.
اغمضت نور عينيها وقد ارتعدت أوصالها...تغييرات جذرية ستحصل في القريب لكنها لم تستطع رفض تعليمات شقيقها..بل لعلها أفضل، هزت رأسها موافقة فقرصها من وجنتها وقبل أن يغادر قال بهدوء :
-اعترف لي آدم كما اعترف لك....أنه يكن مشاعر لك...
تعالت نبضات قلبها بالتزامن مع اتساع حدقتيها
قال مراد.محذرا: لن تتواصلي مع آدم حتى يتخذ خطوة جدية ...وإن كان لا بد ستتم خطوبتكما وانت حرة بعدها إن أردت الزواج منه أو استكمال دراستك..أنا أمنحك ثقتي كاملة فتعاملي على هذا الأساس..
وغادر من أمامها بعد أن رأى معالم الذهول مرتسمة على وجهها...

رن هاتفها بعد دقائق قليلة وهي مرتمية على المقعد في حديقة المنزل لا تقوى على النهوض...كان آدم. يهاتفها ليعرف ما حدث لكنها تجاهلت اتصالاته..فلا قدرة لها على مواجهة أخرى يكفيها هذه الليلة ما جرى !

******
بعد اسبوعين من اختفاء كريم من حياتها اختفاء جزئياً...ومع رفضها القاطع له إلا أنها شعرت بالألم على اختلاع شخص كان من أقرب المقربين لها ..
هو من جعلها بدفعة منه تتناسى دراسة التصوير وتتفتح على آفاق كانت غائبة عنها ...
كفيديو لطبيبة كانت ذات يوم ظاهرة وهي تسعف جريح .. لا تعلم لماذا رنت كلماته كأجراس بأذنيها...
تخيلي أنك طبيبة ترتدين المريول الأبيض وتقومين بعلاج المرضى... دكتورة نور ..ياه ما أجمل هذا اللقب"
حدقت فيه بتمعن وصورة الطبيبة لا تزال تعرض على شاشة التلفاز ...
الدكتورة نور! أعجبها هذا اللقب..أعجبتها جرأته في تحوير اهتماماتها المحمومة في التصوير إلى عمل أكثر إنسانية وواقعية ...التصوير هواية ..هواية ما كانت تطلب منها إلا إبراز كل جميل..موهبة سترافقها طيلة حياتها ..كالرسم أو ممارسة الرياضة ..أما أن تكون طبيبة ...يعني أن تساعد على أرض معركة الحياة..أن تداوي، أن تعالج ..أن تعطي أملا لإنسان في الحياة بمشيئة الله..ومن حينها انكبت على الدراسة بجهد وتصميم...وكأنها اختلعت افكار نور القديمة لتحل محلها أنثى أخرى ...
حينما تنظر إلى الوراء...ترى أنها صنيعة أفكار كريم دون أن تدرك ذلك بوقتها .وكأنما استدراجها لتقع في الفخ ...وحين وقعت ألقى لها حبل الإنقاذ بشروطه هو ...
والآن تشعر بالخيانة ...بخيانته وخيانة شعور جميل لم يستطيع كريم أن يحافظ على براءته تحت مسمى الحب الذي استحوذ على تفكيره تجاهها ...أما آدم فقد فهم حتماً فحوة الرسالة التي أرسلها مراد له...بل قالها علانية ...
لن يعود شيء كما السابق إلا بعد أن تتخذ خطوة جدية تجاهها..

اتصلت عبير بآدم ذات مساء وأخبرته بأن يقل نور من منزل صديقتها بعد عودته من مقر الشركة فالليل قد حل ولن تستطيع العودة بمفردها، كان يتخذ الدراجة الكهربائية وسيلته الرئيسية للتنقل كونه اعتاد على حريته وهو يستقلها، يعشق السرعة العالية ولسعات الهواء التي تشعره بحريته بعيدا ً عن قيود السيارة، ولم يأبه لكلام مراد عن أهميه استقلاله السيارة معه على الأقل أمام عيون موظفي الشركة ..لم تكن المظاهر ولا الاستعراض من ضمن تفكيره ولا الثراء الذي يتنعمون فيه ...فما هو إلا شاب طموح يحاول شق طريقه وسط ضباب ماضيه.
وماهي إلا دقائق حتى لبى آدم نداء قلبه واجبه وتوجه ناحية منزل صديقة نور، فهذا كان طلب خاص من خالته ولن يرد مطلبها حتماً .. فلتحترق تعليمات مراد هذه الليلة!
توقف امام منزل صديقتها في الوقت الذي خرجت فيه..
-إن كنت جاهزة فلنغادر "
استقلت الدراجة النارية فهمهم بابتسامة:
-تمسكي بي جيداً ...
-هكذا جيد .
-نور ستقعين هكذا ...تمسكي الآن وبعدما نصل بإمكانك مخاصمتي من جديد !
تمسكت بقميصة أكثر دون أن تتفوه بحرف فانطلق بدراجته وبعد دقائق من الصمت المزعج سألها :
- أستخاصمينني مطولا نوارتي ؟
ليس من عادة نور أن تصمت لأكثر من خمس دقائق متواصلة، وخاصة عندما تكون برفقته ،لكن جرى بينهما منذ عدة أيام وعلى ما يبدو قد فهمت معناه أخيرا لتتخذ منهجاً آخر لتعامله به، أجابت دون أن تكلف نفسها عناء النظر إليه :
- سأخاصمك أبد الدهر ..

شق وجهه عن ابتسامة عريضة وشد بقبضة يديه على مقود الدراجة وهو يحارب ضحكاته من التصاعد وأزاد من السرعة وعاد يسألها :
-وما الذي أخبرتك به ؟
-من ؟
-إليسا بيت أسرارك "
عقدت حاجبيها بغضب وخجل وتمتمت بسخط :
- بأنك وقح و ...
-وماذا أكملي !
زفرت بقوة وأجابت باندفاع : انت وقح وغبي و...تستحق الحرق ...وسأخبر ماما ومراد عما قلته لي ذلك اليوم .

تمالك نفسه أخيراً من نوبة الضحك التي اجتاحته ليوقف الدراجة على الجانب الطريق حينما لاحت له حديقة صغيرة
-انزلي لنتحدث...لم اعرف أن اتكلم معك كلمتين منذ ذلك اليوم:
هزت كتفيها برفض فسحب المفاتيح قائلا بحزم : -إذن لن أبرح مكاني "
وتقدم ناحية المقعد الخشبي ليرتمي عليه ويعقد ذراعيه على صدره باستمتاع ليزداد غيظها منه وتهتف : ماذا تريد ؟

- تعالي " انصاعت لمطلبه على مضض ونزلت من على الدراجة لتجلس بجانبه على المقعد تأملها قليلاً قبل أن يتحدث : -لا أعرف صراحة ما الذي أزعجك؟
رفعت حاجببها بدهشة : ألا تعرف...الذي جرى طبيعي برأيك بعد أن نهاك أخي عن التواصل معي إلا لشيء ضروري..!
حك حاجبيه ثم استطرد وهو يستدير ليواجهها بجسده كاملاً:
-وضعفت اعترف ..أنت لماذا لم توقفيني وأغفلت تعليمات مراد.
عضو شفاهها وغمغمت: كان على أن أضربك ..
- صحيح..أصبحت ناضجةً كفاية لتضعي حدوداً لا يجوز لأحد اختراقها حتى أقرب الناس إليكِ ...خاصة الرجال وأيا كانت علاقتك بهم لاتكوني أبدا بتلك العفوية احمي نفسك منهم، محيطك ليس بتلك البرائة التي تتخيلينها .
فقالت بعناد :
لكنك تعرف جيدًا بأني أضع الحدود للجميع وبجميع الأحوال هذا ليس موضوعنا !
قالتها بعناد ليجيبها بثقة وبجدية: بل هذا هو موضوعنا الأساسي، لا تعطي الفرصة لأحد بالتمادي معك "

- لكنك تماديت معي..
هتفت بها وهي تتطلع بعينيه بعتاب كبير فرد بجدية : حتى أنا ....أو لأكون واضحاً أكثر أو وقحاً ... خاصة أنا احمي نفسك مني، فبالنهاية أنا رجل "
أردف بذات الأسلوب وهو يبتسم بحنو ويميل بجذعه أكثر ناحيتها : حتى ولو كنت أحبك ولي مكانة خاصة بقلبك، وأعترف أني تجاوزت حدودي بذلك اليوم في الحديقة، بإرادة مني أو بدون إرادة... لا أستطيع في كل مرة السيطرة على مشاعري....
كان عليكِ أن تمنعيني ..لكنها عادتك... لا تتنبهين للخطر بلحظتها بمن تثقين بمن حولك ثقة عمياء"
احتضن كفها بيده وشد عليها قائلاً وهو يتأمل عينيها الصافيتين : أنا خائفٌ عليكِ، أخافُ عليكِ حتى مني ... أتفهمين ذلك .

-آدم...أنا ...أثق فيك أكثر من نفسي وأعرف أنك لن تؤذيني بقول أو فعل ولولا هذه الثقة ما رافقتك لأي مكان..ما كان أحد من عائلتنا استأمنك علي ... "
تنفس بعمق مجيبا: وأنا لن أخون هذه الثقة ...كيف لي أخون نفسي وشرفي ..

تبسمت بسعادة وهي تستمع لكلماته الصادقة، ابتسامة جعلت ضربات قلبه تتواثب من مكانها فقال وهو ينهض ويسحبها معه : أعطني القليل من الوقت ...فقط القليل لأستجمع نفسي ولأرى وضعي الجديد في العمل وبعدها سنبدأ حياة جديدة .
- لا زواج قبل أن أنهي دراستي" قالتها بحزم فضحك ملئ صوته: الزواج يسبب لك عقدة على ما يبدو!
غمغمت بخجل وهي تتحاشى النظر إليه: هذا الوقت لاستجماع نفسك...أحتاجه أنا أيضاً..لمعرفة وضعي الجديد إن قبلت بكلية الطب .
- تحت أمرك...هيا نتكلم بهذا الموضع لاحقاً كيلا نتأخر حبيبتي"

لكم صارت تعشق حروف هذه الكلمة التي وعلى الرغم من أنه نطقها مئات المرات حتى الآن إلا أنها وكل مرة كأنها تسمعها منه للمرة الأولى !

تقدما ناحية الدراجة وجلس على مقعده متنهدًا بعمق، تمسكت بقميصه قبل أن ينطلق من جديد وعاد بذاكرته لسبب غضبها منه منذ لثلاثة أيام مضت ...

فعلى طاولة العشاء وحينما قالت له بابتسامة مصطنعة :
-تذوقها إنها لذيذة " وأطعمته بالملعقة لتزداد ابتسامة انتصارها، بصق آدم ما بفمه على المنديل هاتفا بغيظ :
- نوووور !
هربت نور من أمام طاولة الطعام وهي تمد لسانها بشقاوة لتتعالى ضحكاتها لتثير حنقه وهرولت إلى الحديقة الخارجية وكان مراد قد وصل لتوه من العمل بعدما طلبت إليسا منه أن تقضي الليلة بمنزل عائلتها، ترجل من سيارته فصرخ آدم بحنق وهو يحاول اللحاق بها : إمسك تلك الفأرة قبل أن أجتزها بأسناني !

دارت نور خلف مراد وتشبثت بقميصه تحتمي به فعاود آدم الهتاف مجدداً : إن لم تكبل تلك الفأرة سأخبر إليسا عن صولاتك وجولاتك يا زير النساء .

اتسعت عينا نور وهي تستجدي أخيها العطف لكن الأخير قام بحملها على ظهره معتذرًا : مع الاسف يا فأرتي إن ما بجعبته ضدي كفيل برميي وراء القمر ما زلت عريسًا !
رمى مراد نور على الكرسي الخشبي في الحديقة وكبل يديها وسط صراخها لكن آدم دلف الى الداخل فهمس مراد معاتباً أخته : ما المصيبة التي فعلتها هذا المرة بالمسكين ؟
عاد آدم من جديد ومعه طبق الملوخية خاصته وهدر صوته من جديد، ملوخية بالسكر يا لئيمة !
ملوخية بالسكر !
ضيق عينيه مقترباً منها وهي تحاول فك قيدها من قبضة مراد وسط ضحكاته المجلجلة .
-لا لا صدقاً الملوخية طيبة بكافة أشكالها !
قالها مراد ضاحكاً ليهتف به آدم :
- افتح فمها .
-آدم رجاءً توبة.....توبة لن أكررها "
نور تتلوى ومراد يضحك ملئ حنجرته فما كان من آدم إلا أن يمسك نور من فكها ليقحم ملعقة الملوخية بالسكر بفمها وهو يجز على اسنانه بغيظ :
- ألم تتعظي من المرة السابقة هاه؟
تسائل مراد وسط ضحكاته عما فعلته تلك الصغيرة فأجاب آدم بمكر :
- أأحكي قصة القهوة بالملح ! .
جحظت عينا نور وبهتت ملامحها مشيرة له بأن يصمت لكن آدم غمزها وعاود الحديث من جديد وهو يقحم ملعقة أخرى بفمها :
- كي تتعلمي أصول اللعب مع الكبار نوارتي .

بصقت نور الملوخية من فمها وهتفت بعدما فاض بها الكيل : مراد إن لم تتركني حالًا فأنا من سيحكي لإليسا عن تلك الهدية التي وصلتك بعيد الحب قبل زواجك بشهر فقط .
- يا شيطانة تفتشين بأغراضي ! ، أتبتزونني يا أحمقين !
تطلع مراد بآدم بقلة حيلة حين تعالى رنين هاتفه فشتم هذين الاستفزازيين مفلتا نور من قبضته يتوعدها ويقول:
- لا هدية عيد الحب تغلب بكل تأكيد، ليرحمك الله يا ابن خالتي .
ثم أخرج هاتفه ليجيب على الاتصال وانشغل فيه.. ضيقت نور عينها على آدم وبلحظة انتشلت منه صحن الملوخية فهرول مبتعداً لتلحق به :
- انطق بالشهادتين فنهايتك قد اقتربت "
بقيت نور تحاول اللحاق بآدم الذي التف إلى الجهة الخلفية من الحديقة ليختبئ خلف إحدى الاشجار الضخمة وقد صار يلهث بتعب وهي تتنقل و تنادي عليه، اقتربت من الشجرة التي يختبئ خلفها فانتشلها على حين غرة ليسندها على الشجرة حاولت جاهدة ابقاء الطبق بين يديها كيلا يسقط فقال آدم ضاحكا ً: أتبحثين عن أحد فأرتي ؟

لوت نور شفتيها مجيبة : أبحث عن وحش الملوخية هل رأيته " وبلحظة كان طبق الملوخية مقلوباً على رأس آدم الذي جمد بمكانه بصدمة إثر فعلتها المجنونة و ضحكاتها التي تعالت من جديد وهي تقوم بدعك الملوخية فوق شعره بكلتا يديها وقالت بمكر : تستحقها أيها الأحمق "
تناسى كل ما يدور حوله الجمته ضحكتها العابثة وسط التماع ضوء القمر عليهما ليسقط على وجنتها الناعمة فتترقرق ببريق خلاب، رسم ابتسامة على ثغره وقال من جديد وهو يحاول كتم غيظه واضطراب صدره :

- كنت أعرف الملوخية بالأرانب ..الملوخية بالدجاج لكن ملوخية برأس بشري ! هل هو صنفٌ طعام جديد !
-نعم صنف جديد وخاصة للمتخلفين أمثالك .
شد على ساعديها الممدودين على رأسه لينزلهما ويجيبها بمكر وبصوتٍ شرير :
- نحن الآن في الحديقة الخلفية وسط الشجر حيث لا يرانا أحد ....تحت ضوء القمر الشحيح ...وبهذه العتمة التي تلتهم كل ما حولنا ...هاه إسمعي

ابتعلت لعابها بصعوبة وهي تنظر إليه بخوف : استمع إلى ماذا؟
ليتابع بذات المكر :
صرصار الليل يترنم بألحانه الرومانسية........! والملوخية بالسكر فوق رأسي!

انطلقت منها ضحكة عاليةٌ بعد كلماته الأخيرة ليضع كفه على فمها لتصمت وأردف بذات العبث :شش سيسمعوننا!
ابنة خالتي الغبية ذات التفكير المحدود كعقل العصفور بين يدي و تحت رحمتي، ألا تشعرين بأن هنالك شيئاً ما خاطئ بهذا الموضوع؟
هزت رأسها بغباءٍ سيصيبه بالجنون حتماً ثم أشاح ببصره عنها : سأصاب بأزمة قلبية بسبب غبائك أقسم بالله ... اسألي اليسا وأنا متأكد بأنها ستفهم ما الخاطئ فما شاءالله هي تربية مراد...نور...نور سأعد إلى خمسة وإن لم تهربي بسرعةٍ من أمامي فأنا وبكافة وعيي وإدراكي .... وعن سبق الإصرار والترصد مستعدٌ لارتكاب جنحة يا ابنة خالتي "

افلتها من بين يديه لتقول مجدداً بغباء : فعلاً لم أفهم آدم ،هل غضبت كوني أغرقت شعرك بالملوخية أنا آسفة "
-وااااحد
-آدم!!
-إثنااااان .....
- أفهمني ما الأمر ؟
ثلاااثة ......

فكان لا بد لها من أن تطلق ساقيها للريح بسرعةٍ بين الشجيرات لتهرب إلى داخل الفيلا وما زالت تستمع لعدّه :
-أربعة....يا غبية
بعد اختفائها عن مرمى نظره جلس على الحشائش مستندًا على ظهر الشجرة وتعالت ضحكاته بشكلٍ هستيري وهو يمسح وجهه ويتنفس بعمق ليهدئ من ضربات قلبه المجنونة
تنهد وهو يلتقط ورقة ملوخية من رأسه
- ملوخية بالسكر ...!
وتعالت ضحكاته من جديد ....ضحكات عاشق مستعدٌ لأن يأكل الملوخية بالسكر طوال حياته إن كانت نور هي من تعدّها .

دلفت إلى الداخل تتلاحق أنفاسها الضاحكة فتسائلت عبير بعدما لمحت تلوث يدي نور :
- ماهذا الذي على يديك ِ
نظرت نور بتلقائية إلى يديها وساعديها الملطخين بالملوخية لتقول ضاحكة : لقد دعكتها على رأس آدم "
لطمت والدتها صدرها وهتفت فيها:
-يا بنت المجنونة!
تعالت ضحكات مراد وهو يخرج من غرفته بعدما استبدل ملابسه : فتحتِ على نفسك باب الجحيم يا صغيرة.
ضحكت وهي تراقص أصابعها و تجيب : اه قال لي إن لم أركض من أمامه سيرتكب جنحة لأن الأءءؤ

وكفه من جديد غطت وجهها ليمنعها من البوح بعدما سمع كلماتها وهو يصعد درجات السلم الخارجي فركض بسرعة الى الداخل وهو يلعن غبائها المتزايد لأنهم سيفهمون تلميحاته فور نطقها .
تعالت ضحكات الجميع على شكل آدم الغارق بالملوخية وعلى تلويثه لوجه نور فيها فضاعت السيرة من الأساس ..

*****
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.