عمار
ستالينغراد/ سبتمبر 1941
أسيرُ وعلى ملامِحي شيءٌ مِن الجزَع اذْ أنّ هذا الحقْل العظِيم ما سُميّ عظِيمًا لجمالِه بلْ لمآسي القنابِل والمعارِك التي خلفَت دِماءا روَتْ عددًا لا حصْر لهُ مِن الأشجار المنتشرة بالمكان، وأشبعَتْ عُقول الأجْيال بأساطِير وحكاياتٍ عديدة كالتِي تقُول أنّ مُعظم النباتات التي نمت على هذه الأرض لمْ يكُن الماء سُقيَاها بلْ تلبّدَت بالدِماء حتَى أخرَجت رأسَها مِن التُراب كبذْرة أساسُها الشرُ ونِهايتُها العلق، أما العُشب الطريُّ فهو يُعانِقُ قدماي داعِيًا إيّاي للمكُوث حتَى تبكِي السُحبُ قُنبلةً أُخرى وأُضحي رُوحًا عالِقةً تمامًا كالنباتات التِي هُنا، وأعيشُ الأبديّة في زهرة خُزامة حامِلًا لوْنِي المُفضل وعطر الطبيعة الذي يجعلُني أسكُر فِي سحْر الجمال. لكِنني دائِمًا ما أطرُد غزيرَ الأفكار ذاكَ مِن عقلي وأُكمِل في هدوء نحوَ المسْلخ أينَ أعمَل، مُحاطًا بالدِماء كتمثالِ المسِيح المُعلّق داخِل الكنِيسة التي تحظى بزيارتي كُل أحد، عادةٌ استغربَها مِني الأهلُ والجيران، اذْ أنني ورُغم زياراتِي المُتعددّة للكنيسَة مُسلِم، مِن أُبٍ جزائري مُسلِم علّمنِي أسُس الدين من صلاة وصومٍ وخُلق، وأمٍ نصرانِية قابَلها في المغرب وأحبّها في القُدْس لاشتراكِهما فِي مُخطط السفر الشهير الذي أقامتْهُ شرِكة السفر الأمريكية تحتَ عُنوان: "انتهت الحرب التي تُنهي كُل الحروب" آنذاك بعد خمس سنواتٍ من انتهاء الحرب العالمية الأولى التي توقّع البشرُ أنّه لنْ تصير حربٌ بعدَها قط، خُدعَة العقد، فها نحنُ ذِي نُقاسي نفسَ الشيء مُجددًا لكِن بأسلِحة أجدد، هلاكٍ أقوى وخسائر أفدَح. نشأتُ على كأسِ شاي القُداس الذي تُقدّمُه لي أمِي بحنان، وعلَى ماء زمزم الذي لا يترُك بيتَنا نهارًا اذْ يزور أبتي مكّة مرّة كُل شِتاء للقِيام بعُمرة فيُحضرُ لنا الكثير ويطلُبُ مِني وأختِي الوحيدة مريم وأمِي أن نشرَب وندعُو الله ما نبتغي، و ما دعواتُنا في ما سبقَ مِن السنوات إلّا واحِدة سكنَت أفئِدة كُل بشر، وهِي انتهاءُ كُل هذا بشكْلٍ جيّد عسَى أنْ نعيشَ العُمر مُجددًا ونزورَ دُول العالم كما فعلَ والِداي، ولرُبَما نقعُ في الحُب كما فعلَا. رُغمَ أنني لمْ أُؤمِن بالحُب قبلَ تِلك الأُمسية، لمْ أنتشِي قبْل ذاك اللقاء، لمْ أتنفَس قطْ قبل أن ألثَم عبيرها. كُنتُ مُتوجِهًا إلى المسْرح لأُؤدِي ما أمتهنُه هِوايةً وحُبًا "التمثيل" أتذكّر دوْر الشخصيّة التِي سأُمثلها، أبحثُ في الوجُوه الكثيرة في الشارِع عن وجْهٍ مميز لأُجسّدَه تدريبًا. اخترتُ كهْلًا يجلسُ على الأرض العارِية حافِي القدمَين يرتدِي من اللباس شيئًا حقيرًا مِن الكتان المُبقّع بالزّيت، يُتمتمُ دُون اكتراثٍ في الأعيُن التِي تُحدّقُ فِيه اذْ بينَهُ وتِلك السيجارة التي تنتصفُ شفتيْه حُبًا مِن نوْعٍ آخر. نوْعُ الحُب الذِي أردتُ دوْمًا أنْ أجدَهُ فهُو سبيلٌ لنسيان العالَم في شخصٍ ما.. ولمْ أجِدْهُ في أيٍّ ممن قابلتُ وعرِفت.
أثناء ضياعِي في الشخصية ومُباشرتِي في التمتمَة مثلَهُ أحسستُ بقدمي ترتطم بصخرٍ من الصخور المُنتشرة على الرصيف، لأفقد توازُني على حين غرّة وأسقُط على جسدٍ طرِيّ دافِئ رُغم برُودة الجو. تمكّنتُ في تلك الثوانِي التي كُنت أحاوِل الوقوف فيها لثْمَ شعرِها الأشقر، رائِحة الصابُون المُبتل تكتسي جسدَها وكأنّها خرجَت للتو مِن الحمام.. الشامَةُ التي على رقبتِها، لمْ أتمكّن مِن الاطلاع أكثَر فقدْ بدأَت السبّ واللعن قبْل أن أسقُط عليها حتى.
اعتذرتُ وأنا أمسحُ سروالِي الذي عليّ التمثيل بِه لأكتشِفَ تمزِيقًا عند الرُكبة فلعنتُ حظِي قبْل أن أشكُره وأعشقَه بعدَ أن لمحتُ عُيونَها الصفراء الغاضِبة، شفتيْها وهِي تسُبني.. أصابِعُها وهِي تسحبُني مِن مئزري مُهددّة "أيُها الأحمَق، ألا ترَى الطريق أمامَك." تُنزِلُ نظرها نحوَ فُستانِها البُرتقالي ذُو رسمات الأزهار البيضاء على أرجاءه لتشهَق بعد اكتشافِها لتمزيق في نهايتِه. لاحظتُ أنّها قصيرة، تصِلُ إلى صدرِي حتَى الآن وهِي تُحاوِلُ الهجُوم عليّ وضربي وبعضٌ مِن النسْوة يُبعدنها عنّي قائِلاتٍ كلِماتٍ لم أسمَعْها فأذنِي ظلّت مُعلّقة مع تِلك.
لقدْ أعجبتْني. أُعجبتُ في حياتي بكثير من النساء الحِسان من الزميلَات والسميرات لكنني لمْ أُصدَم بجمال امرأة هكذا، اذْ ملامِحها، نظراتُها وثباتُها في الحديث ينُمان عنْ نُضجٍ ولكِنّ بهاءهَا يدُل على انّها وُلِدَت للتوْ مِن مُخيلتِي.. مِثاليّة، رُغم أنّهُ لديّ عقليّة شاعِريّة ترفُض عِشْقَ الجسَد بلْ الروح، عقليّة تُحبّذ لوْ أنّني أقعُ في الحُب يوْمًا لكيْلا تفقِد الكلِماتُ حسّها بداخِلي. لكِن.. عجبًا.. عجبًا! إنّها أفقدتْني النُطق فأنى للكلِماتُ الوجود.
أبعدتْها النِسوة عنّي فاقتربتُ لتستشيط غضبًا خُصوصًا عِندما أخرجتُ ورقة نقدية مِن جزداني وسلمتُها إيّاها قائِلًا بصوتٍ أجش: "للفُستان الذي تمزّق."
اعتقدتُها غضِبَت لأنّ مُعظم النسوة يعتبرن أنفُسهن تحت قانون "لا نُشترى بالمال" لكِنها وعلى العكس قامَت مِن مجلسها على اسمنتِ الرصيف قائِلة:
"ورقة واحِدة؟" نظرت لي والحنقُ يعتري عيونها: "إنّهُ فستانٌ بعشرون ورقة أيُها الأبلَه.."
"تبا عشرُون ورقة، أنا لا أخرُج من المنزِل بأكثَر من خمس ورقاتٍ في جيبي." حدّثتُ نفسي فأصدَرت فرقعة بأصابعها أمامي لتُوقظني مِن شرودي ثُم وضعتْ الورقة في جيب مئزري جهة قلبي وضربت بكفها بخفة على صدري لكنّ لمستها اخترَقت صدري، ونالتْ مِن قلبي فعصرتْهُ بقسوة وهِي تُغادِرُني قائِلة: "عشرات الرجال يموتون في هذه اللحظة وأمثالُك ها هُنا ذي يعيشون خير حياة."
تِلك كانتْ المرّة الأولَى التِي رأيتُها فيها.