جلست المرأة على الأرض مجدداً بعد أن تناولت الكتاب من يدي ووضعت الورقة التي كانت معها بصفحة من صفحات الكتاب قبل أن يضيء الكتاب بقوة فتطير المرأة وترتطم بالحائط المقابل فأخذت بالصراخ كالمجانين ....
-أحرقيني ....أحرقيني الآن....
-
وقفت ذاهلة أحاول عبثاً تهدئتها قبل أن طلتم الحارسات على صوتها
ما الذي أصابك أجننتِ ؟؟ اخرسي
لكنها ما زالت تصرخ وتصرخ و تصرخ بجنون حتى هجمتُ عليها وبدأت أضرب رأسها بكعب المسدس الذي أحمله وتناثرت الدماء على الحائط فهمدت حركتها أخيرًا،فتشتُ ألبستها فلم أرى شيئاً آخر, أخذت الكتاب وخبأته عندما حضرت السجانات مسرعات إلى مكاننا .
- احملوها معي هيا ...قلتها آمرةً
حملناها وتوجهنا الى المحرقة و ألقيتها في المحرقة اللعينة...وقبل أن أغلق عليها فتحت عيناها ونظرت إلي نظراتٍ أثارت الهلع بداخلي ...!!
ارتعشت يداي و تصببت عرقاً وأخذت ارتجف من فعلتي القبيحة وأنا أبسمل وأحوقل ولكن لم أعرف ما الذي أصابني فجأة وكيف نظرت إلي بهذا الشكل هل كنتُ أهذي !!.
◇◇◇◇◇◇◇◇◇
كانت اللعبة الآن تبكي وقد اكتساها الرعب فنظر علاء غير فاهم لما يجري ...
_ما بك ؟ ومن هذه المرأة ؟
حدقت فيه ونزلت من على الطاولة واختبأت تحت السلم ضمت ساقيها وبدأت ترتجف ...
حتى نهض ومشى باتجاهها وركع على ركبتيه وتلمس خدها الصغير "
لا تخافي اتفقنا ،هيا اخرجي يا صغيرتي واخبريني ما الأمر ومد يده إليها
تأملت وجهه قبل أن تمسح دموعها وتمسك إصبعه بيدها وتخرج..حملها ووضعها على الطاولة وابتسم قائلا:
-حسناً هل لي أن أعرف الآن ما الذي يجري ؟
أومأت برأسها الصغير وقالت له :إنها زوجة أبي.
تلك السجينة كانت زوجة أبي يا علاء مع ان شكلها قد تغير قليلا "
-يا إله السماوات.. لذلك فداء لم تعرفها.ولكن ما الذي ذهب بها إلى هناك ...وماذا تريد من فداء ؟وكيف طلبت أن تحرقها؟؟
-لا أعرف ،كل الذي أتذكره أنها بعثرت الصفحات وغادرت مع عشيقها وتركتني حبيسة الصندوق ...
-يا الهي ...فداء في خطر.
-لا اعتقد ذلك ...يبدو أنها تحتاج فداء لسبب لا أعرفه.
-ولكنها احترقت؟
- لننتظر ونرى.
◇◇◇◇◇
فداء...
كنت أمشي بين الممرات حتى قابلتني ماريا وقالت بحزن ستنتقلين مبارك لك، مع أني حزينة لفراقك ..وسلمتني ورقة ما نظرت لها وتناولت الورقة اقرأها ...وكانت قرارا ً بانتقالي الى أوشفترز ولكن التاريخ ..!
أوه إنه 1945.
-نعم وما الأمر في أن نكون في عام 1945 قالت هذا ونظرت لي باستغراب !
-لا شيء ..لا شيء غريب أبدا
ضحكت بسذاجة ولم أفهم ما الذي جرى وكيف قفزت سنتين هكذا.فقبل ان أقابل تلك المرأة السجينة من ساعتين كنا في 1943 !!
ذهبت إلى غرفتي وأغلقت الباب فاتحة الكتاب وقد كانت هنالك جملة واحدة مكتوبة بالدم وباقي الصفحات لا تزال فارغة.
خسر هتلر الحرب ، وانطفأت شعلته وسنبدأ بتصفيتكم أيها النازيين..
ماذا! أيقرأ المستقبل؟
اتسعت عيناي رعبا وأغلقت الكتاب و جلست على ركبتي حتى هدأت قليلاً وعدت إلى عملي،
في الليل كنت جالسة أوضب أغراضي للانتقال صباحا فلمحت الكتاب من جديد وفتحته.
كان مليئاً بصور نساء مشنوقات ....كل صفحاته نساء مشنوقات إلا صفحة وحيدة مرسوم عليها قلادتين كالتي ارتديها ....توهجت عندما اقتربت من الكتاب ..فخلعتها ووضعتها على الصورة بشكل تلقائي و طابقتها تماماً ...فالتحمت في الصفحة .
التحمت وأصبحت مجرد لوحة مرسومة بألوان براقة ففهمت المقصد ...بقي علي إحضار الأخرى من إيرما لأطابقها ولو اضطررت إلى قتلها ولنرى ماذا سيحدث. بعد ذلك
كنت سعيدة لأن الحظ حالفني هذه المرة وسأنتقل إلى شفترز بعد بضعة ساعاتٍ فقط..
ودعتني ماريا بحرارة قبل ان أستقل السيارة متجهةً إلى المعسكر ، ووصلت أخيرًا فاستقبلتني إيرما بما أنها الوحيدة التي تعرفني من هنالك اقتادتني عبر العنابر إلى مهجعي وتفاجأت بأنها ارتقت بمنصبها وأصبحت رئيسة الحراس هنا ...يبدو أن وحشيتها ازدادت لترقيتها بهذا الشكل السريع ! .
ومساءاً عندما كنا نتناول طعام العشاء ، تعرفت على المسئولين أو الوحوش الآدمية في هذا المعسكر الضخم لكن ما أثار انتباهي هو ذلك الرجل الوسيم الذي لا يتعدى عمره الأربع والثلاثون عاماً ، دائم الابتسام وإطلاق النكات ، كان يعتمر قبعة قوات الصاعقة مرسوم عليها جمجمة وتعني أن هذا الشخص مصرحٌ له بالقتل كيفما يشاء ودون محاسبة ، تقدم نحوي وحياني قائلاً :
د .يوسف منجيا القائد الأعلى للمخيم ، سررت بالتعرف عليك جيني إيندا "
بادلته الابتسام ولم أعرف أبداً ما وراء هذه الابتسامة الدائمة ! .
******
و الوضع هنا ليس بأحسن حال بالنسبة لي من فرانسبورغ فالقتل والإابادة واحدة ...ولكني كنت أتحين الفرصة المناسبة لأحصل على القلادة الثانية, كان عملي هنا مختلف قليلاً ...فقد استلمت غرفة الغاز لأخنق بها المساجين والأسرى , يا لهُ من أمرٍ ممتع !!
كنت أجمعهم في هذه الغرفة وانتظرهم ليختنقوا وببساطة يتم التخلص من جثثهم كما السابق.
صباح أحد الأيام ، دخلت مجموعة جديدة من المساجين ، وقف القائد يوسف منجيا وبعض الضباط بالإضافة لي ولإيرما جريس وكأنها لجنة استقبال !! أو موت .كان يوسف ينظر تجاههم بابتسامة طفلٍ وديعة تحتل ثغره ثم تقدم وصار يشير لبعضهم للانتقال للجهة اليمنى وبعضهم للجهة اليسر ، حتى انتهى من فرزهم ولم أعرف وحشية هذا الفرز إلا بعد مدة وجيزة !
أصحاب اليمين اقتادهم الضابط المسئول لأعمال السخرة ليبدؤوا مسيرتهم الشاقة في الأعمال .
أما أولئك المساكين شاحب الوجوه وأغلبهم هزيل البنية فتقدم منهم يوسف بابتسامته المعهودة وقال :
- سأصلي لأرواحكم أعزائي"
وبهذا اختتم مسرحيته الهزلية عندما أعطى الأمر لحراسه ليتوزع أولئك المساجين على غرف الغاز والإبادة ليلقوا مصرعهم فوراً .
كان يعشق غرف الغاز ويستخدمها كثيراً ، ويستغل أسرى المعسكرة لإقامة تجاربه في علم الوراثة والجينات ، يفضل الأطفال التوائم كان يقدم إليهم ألواح الشوكولاه ويلاطفهم قبل أن يفصلهم عن بعضهم ويقوم بحقنهم بالكلوروفورم وتشريحهم ، لم تتوقف وحشيته عند هذا الحد بل كان يحاول تغيير لون العينين فيقوم بحقن أعين الأسرى بمواد كيمائية !! وفشله مرات عديدة لم تجعله يتوانى عن تجاربه بل على العكس ازدادت جموحاً وجنوناً بتجاربه الغير أخلاقية ، فكان يقوم ببتر الأعضاء ، وإقامة عمليات وتجارب لا أساس لها في الطب وكان يهدف في أغلب تجاربه إثبات أن الجنس الآري هو أنقى من الأعراق الأخرى في التركيب التشريحي.
******
وبالمقابل كانت إبرما تمارس هوايتها المفضلة في الساحة الخارجية والأسرى مقيدين بعد أن أنهكهم التعذيب لتنفيذ حكم الإعدام المنتظر، اقتربت وصفتهن رتلاً واحداً وأمسكت سلاحها وبدأت تتسلى فيهن واحدةً واحدة ....
حتى لمحتها ....كانت نحيلة جداً منكسةً رأسها وشعرها الأسود يتطاير بفعل الرياح ،أيعقل أنها هي؟؟صدمت كثيراً وجريت نحو إرما لأتأكد !.
-اسمعي اتركي لي تلك المرأة ...أريد أن أتسلى كذلك فقد شعرت بالملل "
ابتسمت لي وقالت: خذيها وخذي ما شئتِ منهن..
-لا شكرا واحدة تكفيني عزيزتي "
أطلقت لها ضحكة وحشية لمجاراتها و ذهبت باتجاه المرأة وشددتها من شعرها إلى زاوية من زوايا المبنى ورفعت رأسها بطرف المسدس بعد أن أيقنت أنها هي !! ...
اللعنة !!
-ضربتكِ بالمسدس ولم تموتي ..
أحرقتك ولم تموتي .....بالله عليكِ أجيبيني من أنت ؟؟وكيف تظهرين أمامي هكذا !!أريد تفسيراً الآن يا هذه وإلا..
رفعت رأسها وبضحكةٍ منهكة أجابتني ...وإلا ماذا يا فداء ؟أنتِ قلتِ أني لم أمت ....
وأردفت بصوت مخيف : ولن أموت أيتها الفانية ....
ونظرت لي نظرة شيطانية من أعماق الجحيم .
ارتعدت أوصالي وأنا أتطلع بهاتين العينين اللتين تراقصتا كنيران جهنم فأجبتها بحق:
-ولكنك تتألمين "
ركلتها حتى هوت على الأرض وارتطم رأسها بحافة الحائط وبدأت تنزف، شددت شعرها وقد عاد لي ذلك الشعور الغريب الذي انتابني عندما قتلتها أول مرة ..هوساً مريعاً تملكني وبدأت أضرب رأسها على الحائط مراراً ومراراً فداعبت روحي نشوةً عامرةً غريبة ! حتى تنافرت الدماء وسط صراخها,وكأني صرت أستلذ مؤخراً بأصوات الصراخ .
نظرت إلي أخيراً وخرجت الكلمات متقطعة من فاه :
-أ ..أحضري ..قلادة إيرما ..
أغمضت عيناها ولم تتحرك بعدها هززتها وضربتها وأنا أصرخ .
أيتها الغبية استيقظي أنا أعرف أنك لم تموتي .
هززتها وضربتها مجدداً ولكن دون جدوى تعالت ضحكة من خلفي فاستدرت لأرى يوسف منجيل يقف على بعد أمتارٍ قليلة ، تقدم نحوي ثم ربت على كتفي مبديا إعجابه :
-وائو !!! بدأت تتعلمين بسرعة أيتها الجميلة ، لكن بفعلتك هذه تلوثين الأرضية عزيزتي ، أفرغي طاقاتك خارج حدود المبنى رجاءاً "
وقهقه عالياً وهو يدخن سيجاره ثم أرسل لي قبلةً بالهواء وغادر ...
بصقت ناحيته بعدما غادر وأنا ألعن هذا الملاك الجهنمي..! فعلاً يبدو فاتناً هذا الوغد !
تطلعتُ مرةً أخيرة ناحية هذا الجسد الملقى على الأرض, ثم تركتها مغادرة...وقد كنت منهكة ويائسة بحق لا الأوراق استطعت إيجادها هنا وهذه الحمقاء كلما ظننت أنها ماتت تعاود الظهور من جديد.
مشيت إلى المبنى المجاور وجلست على حافة الحائط أضع الخطط لكي آخذ قلادة إيرما ..طبعا استبعدت القتل فلن أغير مجرى التاريخ مهما حاولت ،أخدرها ؟ ولكن من أين سأحصل على مخدرٍ هنا ...إلا إذا تسللتُ لعيادة ذلك الوغد يوسف .
يا الهي ما العمل .
-بما تسرحين الآن ؟ قالت لي إيرما .وقد اتكأت على الحائط بجانبي .
-..لاشيء.
-اذاً فالتدخلي الجو بارد هنا"
دخلنا وقد استأذنت مني بالانصراف لأنها تريد الاستحمام لتزيح هذه القذارة على حد قولها....
شيطانة نظيفة " قلتها اضحك و انا استلقي على السرير,.ولكن مهلاً ....استحمام ....نظافة ..قلادة !!
وبرقت عيناي بانتصار, ركضت مسرعةً إلى غرفتها وفتشتها ملياً ولكن يبدو أنها لم تخلعها.تناولت عصا ً وأسرعت إلى الحمام ووقفت خلف الباب قبل أن افتحه بسرعة وأ هوي بالعصا على رأسها فوقعت من فورها ، انتشلت القلادة وعدت الى غرفتي راكضة
أغلقت الباب وكنت على وشك وضع القلادة في الكتاب, حتى سمعت ضوضاء وجلبة عالية ...ظننت لوهلة انهم اكتشفوا أمر إيرما، ارتديت القلادة وخبأت الكتاب مجدداً لأستطلع الأمر ...ازداد الصوت واختلطت أصوات الصراخ بأصوات وقع أقدامٍ ثقيلة، وفجأة انفرج الباب ودخل مجموعة جنود ..
دخل الجنود البريطانيين إلى الغرفة واقتادوني الى زنزانة حشرت فيها مع الأخرين ومن بينهم ايرما جريس التي لفت رأسها بضمادٍ طبي, ضحكت على هيئتها وجلست على الأرض....فقد صدق الكتاب حقاً وما زلتُ أتوقعُ الأسوء في رحلتي "