GilbertKeith

Share to Social Media

لا أستطيع الذهاب؛ فلديَّ الكثير من الأعمال الكتابية التي يجب أن أنجزها، » : وقال
ولكن سيكون لُطفًا منك أن تصطحب بعضًا من أصدقائي في جولةٍ بالسيارة، إن كُنتَ
«. تريدُ صُحبةً. هذا صديقي، السيد سميث، وهذا الأب براون
«. نعم بالطبع. ليأتيا معي » : فصاح بانكس
شكرًا جزيلًا، لكنني مضطرٌّ إلى الرفض مع الأسف؛ لأنني يجب » : فقال الأب براون
«. أن أذهب إلى منح البركة في غضون بضع دقائق
إذًا، فليكُن السيد سميث رفيقك. إنني » : فقال كارفر بنبرةٍ توحي بأنَّ صبره بدأ ينفد
«. متيقنٌ من أنَّه يتوق إلى ركوب سيارة
غير أنَّ سميث، الذي اكتسى وجهه بابتسامةٍ عريضة، لم يكن يبدو عليه أنَّه يشتاق
إلى أيِّ شيء؛ إذ كان رجلًا مُسنٍّا نشيطًا ضئيل الحجم يعتمر شعرًا مُستعارًا، والذي كان
يبدو وكأنه مُجرَّد قُبَّعة؛ لأنَّ لونه الأصفر لم يكن متماشيًا مع بشرته الشاحبة. فهزَّ رأسه
وأجاب بعنادٍ وُدِّي:
أتذكرُ أنني سافرت عبر هذا الطريق قبل عشر سنوات في واحدةٍ من تلك المركبات »
ذات العجلات الأربع. لقد جئتُ بها آنذاك من منزل أختي الواقع في ضيعة هولمجيت، ومنذ
«. ذلك الحين، لم أستقلَّ أيَّ سيارةٍ على هذا الطريق. لقد كانت رحلةً صعبة
قبل عشرسنوات! لو قطعتَ هذا الطريق قبل ألفَي عام، » : فقال جون بانكس ساخرًا
لكنتَ ركبتَ عربةً تَجرُّها الثيران. هل تظنُّ أنَّ السيارات لم تتغير طوال هذه السنوات
العشر، بل الطُّرُق أيضًا؟ أؤكِّد لك أنَّك لن تَشعر في حافلتي الصغيرة بأنَّ العجلات تدور
«. على الأرض، بل ستظنُّ أنَّك تطير في السماء
إنني متيقنٌ من أنَّ سميث يريد أن يطير. فهذا » : ألحَّ كارفر في إقناع صديقه قائلًا
حلم حياته. هيَّا يا سميث، اذهب إلى هولمجيت، وزُر أختك. فأنت تعرف أنَّك يجب أن تذهب
«. وتزورها. اذهب إليها، وبِت عندها الليلة إذا أردت
حسنًا، عادةً ما أذهب إليها سيرًا على الأقدام لذا أضُطَر إلى المبيت » : فقال سميث المُسِن
«. عندها، وأنا لا أرى داعيًا لأتُعِبَ الرجل اليوم تحديدًا
ولكن تخيَّل مدى الابتهاج الذي ستشعر به أختك حين تراك قادمًا » : فصاح كارفر
«. إليها في سيارة! يجب أن تذهب. لا تكن أنانيٍّا جدٍّا هكذا
إنَّه مُحِق. لا تكن أنانيٍّا. » : فصدَّق بانكس على كلامه ببهجةٍ ورغبةٍ في تقديم المساعدة
«؟ لن تؤذيك السيارة. لا أظنُّك خائفًا من ركوبها، أليس كذلك
حسنًا، » : فقال السيد سميث بينما كانت عيناه ترمشان وتوحيان بانهماكه في التفكير
لا أريد أن أكون أنانيٍّا، ولا أظنُّ أنني خائفٌ. سأرُافقك في سيارتك إذا كانت هذه وجهةَ
«. نظرك
فانطلق الاثنان وسط تلويحٍ توديعيٍّ من الثلاثة الآخرين جعلهم يبدون كأنَّهم حشدٌ
مبتهج. غير أنَّ ديفاين والأب براون كانا يُلوِّحان من باب المجاملة المُهذَّبة ليس إلَّا، وشعر
كلاهما بأنَّ إيماءات مُضيِّفهما التي كانت مُهيمنةً على ذلك التلويح هي التي أضفت على
المشهد هذا الطابعَ الوداعي. وقد أثارت هذه التفصيلة إحساسًا غريبًا فيهما بقوة شخصيته
الطاغية.
وفي اللحظة التي خرجت فيها السيارة من مرمى بصرهم، التفتَ نحوهما كارفر
«؟ حسنًا! كيف أخدمكما » : التفاتةً توحي بنوعٍ من الاعتذار الفظ، وقال
قالها كارفر بلهجة حماسية فضولية مُنافية تمامًا لحُسن الضيافة؛ وذلك لأنَّ الحماس
المُبالغ فيه يُشبه طَرد الضيوف.
لا بُدَّ أن أذهب. يجب ألَّا نقاطع النحلة المشغولة. يؤسفني القول » : وحينئذٍ قال ديفاين
«. إنني لا أعرف سوى القليل عن النحل، وأحيانًا لا أستطيع أن أفُرِّق بين النحلة والدبور
وحين أصبح ضيفاه على «. إنني أرُبِّي الدبابير أيضًا » : فقال السيد كارفر الغامض
بعد بضعة أمتار من الشارع في طريقهما نحو الخروج، قال ديفاين بنبرةٍ مُتحفِّزة لرفيقه:
«؟ إنَّه موقفٌ غريب بعضالشيء، ألا تعتقد ذلك »
«؟ بلى. وما رأيك في ذلك » : فأجاب الأب براون
فنظر ديفاين إلى الرجل القصير الذي يرتدي ثوبًا أسود، ويبدو أنَّ شيئًا ما في عينَيه
الرماديتَين الواسعتَين كان يُؤجِّج تحفُّزه.
أظنُّ أن كارفر حريص بشدة على أن يكون وحده في المنزل هذه الليلة. لا » : وقال
«؟ أعرف هل ساورَتك أيُّ شكوكٍ كهذه
ربما ساورتني بعض الشكوك، لكنِّي لستُ متيقنًا من أنَّها مماثلةٌ » : فأجاب الكاهن
«. لشكوكك
وفي ذلك المساء، حين كانت آخر بقايا الغسق في الحدائق المحيطة بقصر آل بانكس
تُعتِم، كانت أوبال بانكستتنقل بين بعضالغرفالمُظلِمة الفارغة بانهماكٍ يفوق انهماكها
المعتاد، ولو كان أيُّ شخصٍنظر إليها عن كثب آنذاك، لَلاحَظ أنَّ شحوب وجهها كان أشدَّ
من المعتاد. وبالرغم من فخامة المنزل البرجوازية، كان جوُّه العام يحمل طابعًا كئيبًا
فريدًا من نوعه بعضالشيء؛ إذ كان يُصيب المرءَ عند رؤيته بنوعٍ من ذلك الحُزن الفوري
المقترن بالأشياء القديمة، لا العريقة؛ فقد كان مليئًا بطُرُزٍ باهتة، وليست طُرُزًا تحمل عَبَق
التاريخ، وبنظامٍ وزخارف على درجةٍ كافية من الحداثة ليُدرك المرء أنَّهما بلا روح. وفي
أماكن متفرقةٍ منه، كان يحتوي على زجاجٍ ملوَّن ينتمي إلى أوائل العصرالفيكتوري أضفى
صبغةً طفيفةً على لون الشفق، فيما جعلت الأسقفُ العالية الغرفَ الطويلة تبدو ضيقة،
وفي نهاية الغرفة الطويلة التي كانت أوبال تسير فيها، كانت ثَم واحدةٌ من تلك النوافذ
المستديرة التي كانت مألوفة في مباني تلك الفترة. وبينما اقتربت أوبال من منتصف الغرفة،
توقفت ثم ترنَّحت قليلًا فجأةً، كأنَّ يدًا خفية لطمتها على وجهها.
وبعد ذلك بلحظةٍ واحدة، سمعت صوت ضجيج أو قرعٍ على الباب الأمامي بدا خافتًا
لتضاؤل حدَّته بفعل الأبواب المغلقة بينه وبين باب الغرفة. وكانت تعرف أنَّ بقية أفراد
الأسرة كانوا في الطوابق العُليا من المنزل، لكنَّها لم تستطع تحليل الدافع الذي جعلها
تذهب إلى الباب الأمامي بنفسها. وعلى عتبة الباب، كان يقف شخصٌبدينٌ قصيرٌ متجهمُ
الوجه أسودُ الثياب، عَرَفت أنَّه القسُّ الكاثوليكي الروماني براون. ولم تكن تعرفه سوى
معرفةٍ سطحية، لكنَّها كانت تُكنُّ له مَعزَّةً. وصحيحٌ أنَّه لم يكن يؤيِّد آراءها بشأن القوى
الروحية، بل العكس تمامًا؛ لكنَّه كان يُحاول أن يُثنيها عن تلك الآراء دون التسفيه منها.
فلم يكن يُعرضعن آرائها بقدر ما كان يتعاطف معها بالفعل دون أن يؤيدها. كانت كل
هذه الأفكار تدور في ذهنها بشيءٍ من الفوضىبينما وجدت نفسها تقول، دون أن تُحيِّيه،
أو تنتظر حتى سماع سبب قدومه:
«. أنا سعيدةٌ جدٍّا بمجيئك. لقد رأيتُ شَبَحًا »
لا داعي إلى القلق حيال ذلك؛ فهذا يحدث كثيرًا. معظم الأشباح ليست أشباحًا » : فقال
حَقٍّا، وحتى القلة التي ربما تكون أشباحًا بالفعل لن تؤذيكِ. هل كان نوعًا مُعيَّنًا من
«؟ الأشباح
لا، لم يكن شبحًا في حد ذاته بقدر ما » : فاعترفت بنبرةٍ تحمل شعورًا غامضًا بالارتياح
كان شعورًا عامٍّا باضمحلال مُخيف، أو نوع من التفكك النوراني. لقد كان وجهًا، وجهًا
«. عند النافذة. كان شاحب اللون، وكانت عيناه تحدِّقان، بدا كصورة يهوذا
حسنًا، بعض الناس يبدو هكذا، وأستطيع القولَ إنَّهم يظهرون عند » : فقال القس
«؟ النوافذ أحيانًا. هل يُمكنني أن أدخل وأرى أين حدث ذلك
ولكن حين عادت إلى الغرفة معه، كان أفراد الأسرة الآخرون قد اجتمعوا، وارتأى
أولئك الذين لا يشعرون بالقدر نفسه من القوى الروحية أنَّه من الأفضل إضاءة الأنوار.
فيما تصنَّع الأب براون مزيدًا من الكياسة التقليدية في حضور السيدة بانكس، واعتذر عن
تطفُّله.
يؤسفني أنَّ الأمر اقتضى تطفُّلي على منزلِك، لكنِّي أظن أنني أستطيع أن » : إذ قال
أفُسِّرسبب أهميته لكِ. لقد كنتُ في منزل آل بولمان قُبيل لحظات، حين تلقيتُ اتصالًا هاتفيٍّا
وطُلِب منِّي المجيء إلى هنا لمقابلة رجلٍ آتٍ لكي يقول شيئًا ربما يكون مهمٍّا بعضالشيء
لكِ. كان ينبغي ألَّا أقُحِم نفسي في هذا التجمُّع العائلي، لكنَّ أحدَهم طلب منِّي المجيء؛ على
ما يبدو لأنني شاهدٌ على ما حدث في قصربيتشوود. بل في الحقيقة، أنا الذي نَبَّهتُ الجميع
«. إلى ما حدث
«؟ ماذا حدث » : فسألته السيدة
لقد وقعت جريمةسرقة في قصربيتشوود هاوس، والأسوأ، » : فقال الأب براون بجديةٍ
مع الأسف، أنَّ حُلي السيدة بولمان اختفت، وعُثِر في الحديقة على جثة سكرتيرها التعيس،
«. السيد بارنارد، الذي كان من الواضح أنَّ السارق الهارب أرداه قتيلًا بالرصاص
«… هذا الرجل. أعتقد أنه كان » : فصاحت السيدة قائلةً
وفي أثناء حديثها، تلاقت عيناها مع نظرات القس المُحدِّقة الحادة، فتلاشت الكلمات
فجأةً من على لسانها، دون أن تعرف سبب ذلك أبدًا.
لقد تواصلتُ مع الشرطة ومع جهة أخرى مهتمة بهذه القضية، » : ثم أضاف براون
ويقولون إنَّ الفحص الأوَّلي كشف عن آثار أقدام وبصمات أصابع ومؤشرات أخرى تُشير
«. إلى مجرمٍ معروف
وحينئذٍ، قوطِع هذا التجمُّع برهةً بعودة جون بانكس ممَّا بدا جولةً فاشلة بالسيارة.
إذ بدا أنَّ سميث المُسِن كان راكبًا مُحبِطًا في نهاية المطاف.
لقد تراجَع خوفًا في اللحظة الأخيرة رغم كل » : صاح جون قائلًا بامتعاضٍ صاخب
شيء؛ إذ فرَّ هاربًا بينما كنت أتفحَّص ما ظننته ثُقبًا في إطار السيارة. هذه آخر مرة
«… سأصطحب فيها واحدًا من هؤلاء الريفيين
لكنَّ شكواه لم تلقَ اهتمامًا كبيرًا في خِضَمِّ انشغال الجميع بالأب براون والخبر الذي
أعلنه.
سيصل شخصٌما » : فيما واصل القس حديثه بالنبرة المتحفِّظة الرزينة نفسها، قائلًا
في غضون بضع دقائق سيعفيني من هذه المسئولية. وحين أقابلكم به، سأكون قد أدَّيتُ
مهمة الشهادة في قضيةٍ مهمة. وبذلك لا يتبقى لي سوى القول إنَّ إحدى الخادمات في
«… بيتشوود هاوس أخبرتني بأنها رأت وجهًا عند إحدى النوافذ
«. لقد رأيتُ وجهًا عند إحدى نوافذ بيتنا » : فقالت أوبال
«. آه، إنَّك دائمًا ما ترين وجوهًا » : فقال شقيقها جون بفظاظة
من الأفضل رؤية الحقائق حتى لو كانت وجوهًا، » : فيما قال الأب براون بنبرةٍ هادئة
«… وأعتقد أنَّ الوجه الذي رأيتِه
وحينئذٍ دَوَّى قرعٌ آخر على الباب الأمامي في أرجاء المنزل، وبعد دقيقة واحدة، فُتِح
باب الغرفة وظهر شخصٌآخر. فقام ديفاين نصف قومةٍ من كُرسيه حين رآه.
كان رجلًا طويلًا ممشوق القامة ذا وجهٍ طويل شديد الشحوب وذقنٍ كبير. فيما
كان جبينه أملس بعضالشيء، وكانت عيناه، اللتان رآهما ديفاين في آخر مرَّةٍ محجوبتَين
بقبَّعةٍ عريضةٍ من القش، زرقاوَين لامعتَين.
«. أرجو ألَّا يتحرَّك أيُّ شخص » : قال الرجل، الذي يُدعى كارفر، بنبرةٍ واضحة مهذبة
غير أنَّ ذهن ديفاين، الذي كان مشوشًا آنذاك، جعله يشعر بأنَّ تلك النبرة المهذبة تحمل
تشابهًا مشئومًا مع نبرةِ لصٍّيُثبِّت مجموعةً من الأشخاصبمسدسٍ.
من فضلك اجلسيا سيد ديفاين، وبعد إذن السيدة بانكس، سأجلس » : ثم قال كارفر
«. أنا أيضًا. أعرف أنَّ وجودي هنا يتطلب تفسيرًا. وأظنُّ أنَّك تشك في أنني لصٌّبارزٌ شهير
«. هذا صحيح » : فقال ديفاين بتجهُّمٍ
«. كما قُلتَ سلفًا، ليس من السهل دائمًا التفريق بين الدبور والنحلة » : فقال كارفر
يمكنني أن أدَّعيَ أنني من الحشرات الأنفع، » : ثم سكت بُرهةً، قبل أن يواصل قائلًا
وإن كانت أكثر إزعاجًا. أنا مُحقِّق، وقد جئت إلى هذا الحيِّ للتحقيق في استئنافٍ مزعومٍ
لأنشطة المجرم الذي يطلق على نفسه اسم مايكل مونشاين. لقد كان متخصصًا في سرقة
الحُلي، وقد وَقَعَت إحدى هذه السرقات للتو في قصربيتشوود هاوس، ومن الواضح، بناءً
على جميع الفحوصات الاختصاصية، أنَّه هو الذي نفَّذها؛ إذ لا يقتصر الأمر على تطابق
بصمات السارق مع بصماته، ولكن ربما تعرفون أنَّه، حين قُبِضعليه آخر مرَّة وفي مرَّاتٍ
أخرى أيضًا حسب ما يُعتقَد، كان متنكِّرًا بتمويهٍ بسيط، لكنَّه فعَّال، متمثلٍ في لحيةٍ حمراء
«. ونظَّارةٍ كبيرة ذات إطارٍ مصنوع من العاج
وهنا انحنت أوبال بانكس إلى الأمام بشدة.
هذا هو، هذا هو الوجه الذي رأيته، وجهٌ ذو نظَّارةٍ كبيرة ولحية » : وصاحت منفعلة
«. حمراء شعثاء مثل يهوذا. اعتقدتُ أنه شبح
«. وهذا هو الشبح نفسه الذي رأته الخادمة في بيتشوود » : فقال كارفر بنبرةٍ جادة
ثم وضع بعضالأوراق والصناديق على الطاولة، وبدأ في فتحها بعناية. وواصل كلامه
كما قُلتُ سلفًا، أرُسِلتُ إلى هنا لأتحرَّى عن الخطط الإجرامية لهذا الرجل المدعو » : قائلًا
«. مونشاين؛ لذا اهتممتُ بتربية النحل وذهبت للإقامة مع السيد سميث
لا تقُل إنَّك تقصد أنَّ ذلك » : ثم حلَّ صمتٌ لحظي، قبل أن يقطعه ديفاين ويقول
«… المُسِن اللطيف
كُن منطقيٍّا يا سيد ديفاين، لقد كنتَ تعتقد أنَّ مزرعة النحل » : فقال كارفر مبتسمًا
«؟ مخبأ لٌي. فلمَ لا تكون مخبأً له
حين اشتبهتُ في سميث، » : فأومأ ديفاين بعبوس، وعاد المحقق إلى أوراقه. ثم قال
أردت أن أبُعِده عن المنزل، وأتفقَّدَ مقتنياته؛ لذا اغتنمتُ لطف السيد بانكس حين عَرَض
عليه اصطحابه في جولةٍ ممتعة بالسيارة. وبينما كنت أفُتِّش منزله، وجدت بعضالأشياء
التي كان من الغريب وجودها بين مقتنيات رجلٍ ريفيٍّ مُسِن ساذج غير مهتم إلَّا بالنحل.
«. وهذه إحداها
رفع كارفر في هذه الأثناء من الورقة المطوية التي فتحها لحيةً طويلة ذات لونٍ شبه
قرمزي كاللِّحى المستعارة التي تُرتدَى في المسرحيات.
وكان يوجد بجوارها نظارة قديمة ذات إطارٍ من العاج.
لكنِّي وجدتُ كذلك شيئًا آخر ذا صلة مباشرة بهذا المنزل، ويُمثِّل عذرًا » : ثم أضاف
قويٍّا بلا شك لتطفُّلي على منزلكم الليلة. لقد وجدت مذكرةً تتضمَّن ملاحظاتٍ بأسماء قِطَعٍ
مختلفة من الحُلي النفيسة في الحي وقيمتها التقريبية. وقد ذُكِرت قِلادة الزُّمرُّد التي تملكها
«. السيدة بانكس بعد تاج السيدة بولمان مباشرةً في تلك المذكرة
وحينئذٍ،صارت السيدة بانكس، التي كانت حتى هذه اللحظة تتعامل مع هذا التطفُّل
على منزلها بشيءٍ من الحيرة المتغطرسة، منتبهةً فجأة. وبدا وجهُها فجأةً أكبر بعشرسنوات
من سنِّها الحقيقي وأذكى بكثير، ولكن قبل أن تنبس ببِنت شَفة، نهضجون المُندفع بعلو
قامته مثل فيلٍ يَنهِمُ بصوتٍ عالٍ.
«! وقدسُرِق التاج بالفعل، والقلادة … سأذهب لتفقُّد القلادة » : وصاح قائلًا
فكرةٌ جيدة، مع أننا متيقظِّون بالطبع » : فقال كارفر، بينما هُرِع جون من الغرفة
منذ مجيئنا إلى هنا. حسنًا، استغرق منِّي فكُّ طلاسم المذكرة، التي كانت مُشفَّرة، بعض
الوقت، وقد أخبرني الأب براون عبر الهاتف بما حدث في بيتشوود هاوس حين كُنتُ على
وشك الانتهاء من فك شفرتها. فطلبتُ منه أن يُهرَع إلى هنا أولًا بالخبر، على أن أتبعه،
«… وهكذا
وفجأة، قُوطِع حديثه بصرخةٍ عالية. كانت أوبال واقفةً وتشير بجمودٍ إلى النافذة
المستديرة.
«! ها هو ذا مرَّةً أخرى » : ثم صاحت
وللحظةٍ، رأى الجميع شيئًا برَّأ أوبال من اتهامات الكذب والاضطراب العصبي التي
عادةً ما تُتَّهَم بها. فمن وسط الظلام المائل إلى اللون الأزرق الإردوازي خارج النافذة، بَرَز
وجهٌ شاحب، أو ربما بدا شاحبًا بسبب انضغاطه على الزجاج، فيما أضفت عيناه الكبيرتان
المتوهجتان، اللتان بدَتا كأنَّهما محاطتان بحلقتَين، عليه مظهر سمكة كبيرةٍ في بحر أزرق
داكن تُلصِق أنفها بنافذة سفينة، لكنَّ الخياشيم أو الزعانف كانت حمراء نُحاسية، أو
بالأحرى كانت سوالف حمراء شعثاء والجزء العلوي من لحيةٍ حمراء. ثم اختفى الوجه في
اللحظة التالية.
وبينما خطا ديفاين خطوةً واحدة نحو النافذة، دوَّى صدىصراخٍ في المنزل،صراخٍ
بَدَا كأنَّه يهزُّ أرجاءه. كانصراخًا يُصِمُّ الآذان ويُعجِزها عن تمييز ما تضمَّنه من كلمات،
لكنَّه كان كافيًا لإيقاف ديفاين عن مواصلة السير نحو النافذة، وأوحى إليه بما حدث.
اختفت » : إذ صَرَخ جون بانكس، الذي بدا ضخمًا ولاهثًا عند باب الغرفة، قائلًا
ثمسرعان ما اختفى مجدَّدًا بقفزةٍ تُشبه قفزة كلب صيدٍ يُلاحق فريسةً. «! القلادة
بينما اندفع نحو الباب بالفعل ليتبع «! كان اللص عند النافذة الآن » : فصاح المُحقِّق
جون المتهور، الذي كان قد خرج إلى الحديقة بالفعل.
«. توخَّ الحذر، لديهم مسدسات وأسلحة مؤذية » : وهنا صاحت أوبال
«. وأنا أيضًا » : فَدَوَّى صوت جون الجسور من بعيد في الحديقة المظلمة، قائلًا
كان ديفاين قد لاحظ بالفعل في أثناء ركضجون بجواره أنَّه يُشهِر مسدسًا ليُهدِّد به
طريده، وتمنَّى ألَّا يُضطَر إلى استخدامه للدفاع عن نفسه، ولكن بينما كانت تلك الأفكار
تراوده، دَوَّى صوت طلقتَين متتاليتَين، كأنَّ إحداهما تردُّ على الأخرى، وأيقظ سلسلةً
جامحة من الأصداء في تلك الحديقة الريفية الهادئة ظلَّت تتردَّد ثم طواها السكون.
«؟ هل مات جون » : فسألت أوبال بصوتٍ خافت مرتعش
كان الأب براون قد غاصأعمق وسط الظلام المُخيِّم على الحديقة، ووقف مديرًا ظهره
نحوهم، وناظرًا إلى الأسفل نحوشيءٍ ما. وكان هو الذي رد عليها، قائلًا:
«. لا، بل مات الشخصالآخر »
ثم انضمَّ كارفر إليه، وبعد لحظةٍ واحدة، حَجَب الاثنان، الطويلُ والقصير، الرؤيةَ
التي كان من الممكن أن يُتيحها ضوء القمر المتقطِّع المضطرب. ثم تنحيا إلى جانبٍ واحد،
فرأى الآخرون شخصًا ضئيلًا نحيلًا قوي البنية مستلقيًا على الأرض في وضعيةٍ ملتوية
قليلًا كأنَّه كان فيصراعٍ أخير قبل الموت. كانت اللحية الحمراء المستعارة مرفوعةً إلى أعلى،
كأنَّها تنظر بازدراء نحو السماء، فيما سَطَعضوء القمر على النظارة التنكُّرية الكبيرة التي
كان يرتديها المدعو مونشاين.
يا لها من نهاية! فبعد كل مغامراته، أرداه سمسار أوراق » : فتمتم المخبر كارفر قائلًا
«. مالية قتيلًا بالصدفة تقريبًا في حديقةٍ بإحدى الضواحي
غير أنَّ سمسار الأوراق المالية نفسه تعامل مع إنجازه بقدرٍ أكبر من الرزانة بالطبع،
اضطُررت إلى » : لكنَّها لم تخلُ من الاضطراب. إذ قال وهو ما زال يلهث من شدة الإجهاد
«. ذلك. أنا آسف، لقد أطلق الرصاصنحوي
سيُفتَح تحقيقٌ بالتأكيد، لكنِّي لا أرى ما يدعو إلى القلق. » : وهنا قال كارفر بجديَّة
لقد سقط المُسدسُ من يده بعد أن أطلق رصاصةً واحدة، وبالتأكيد هو لم يُطلِق النار
«. بعدما أصُيب برصاصتك
وفي غضون ذلك، اجتمع الجميع مرَّةً أخرى في الغرفة، فيما كان المحقق يلملم أوراقه
استعدادًا لمغادرة المنزل. وكان الأب براون يقف في الجهة المُقابلة له، ناظرًا إلى الأسفل نحو
المنضدة، كأنَّه منهمكٌ في تفكير عميق. ثم قال فجأة:
سيد كارفر، لا شكَّ أنَّك حللت القضية حلٍّا مكتمل الأركان ببراعةٍ شديدة. لقد خمَّنتُ »
مهنتك الحقيقية قبل أن أعرفها، لكنِّي لم أظن قَط أنَّك ستربط كل الخيوط معًا بهذه
«. السرعة: النحل واللحية والنظارة والشفرة والقلادة وكلشيء
«. من المُرضيدائمًا إتمامُ حلِّ القضايا » : فقال كارفر
نعم. إنني معجبٌ جدٍّا بالحلِّ الذي » : فقال الأب براون وهو ما زال ينظر إلى المنضدة
كُلُّ ما أريد قوله أنني لا أصُدِّق » : ثم أضاف بنبرةٍ متواضعة تكاد تكون عصبية «. عَرضته
«. كلمةً واحدة منه
هل تقصد أنَّك لا تُصدِّق أنَّ مونشاين » : فمال ديفاين إلى الأمام باهتمامٍ مفاجئ، ثم قال
«؟ اللص
بل أعرف أنَّه لص، لكنَّه لم يسرق. وأعرف أنَّه لم يأتِ إلى هنا، » : فأجاب الأب براون
ولم يذهب إلى القصرالكبير، ليسرق الحُلي، أو يُردَى قتيلًا بالرصاصوهو يهرب بها. فأين
«؟ الحُلي إذًا
إنَّها حيث عادةً ما تكون في مثل هذه الحالات. إمَّا أخفاها وإمَّا سَلَّمها » : فقال كارفر
إلىشريكٍ متواطئ معه. فهذه من الجرائم التي تقتضيمشاركة أكثر من شخص. وبالطبع
«. رجالي يُمشِّطون الحديقة وينشرون التحذيرات في أرجاء الحيِّ
ربماسرقشريكه القلادة بينما كان مونشاين ينظر » : فاقترحت السيدة بانكس قائلةً
«. إلى المنزل عبر النافذة
لماذا كان مونشاين ينظر عبر النافذة؟ ما الذي قد يُرغِّبه » : فسأل الأب براون بهدوء
«؟ في النظر عبر النافذة
«؟ حسنًا، ما الذي تظنُّه » : فصاح جون المبتهج
«. أظنُّ أنَّه لم يرغب قط في النظر عبر النافذة » : فقال الأب براون
إذًا، فلماذا فعل ذلك؟ وما فائدة هذا الكلام المُبهَم؟ لقد رأينا كلَّ ما » : فسأله كارفر
«. حدث بأمِّ أعيننا
كثيرًا ما رأيت أشياء تحدث أمام عينَي، لكنِّي لم أصُدقها. وأنت أيضًا، » : فأجاب القَس
«. سواءٌ في مسرح الجريمة أو كواليسها
أيها الأب براون، هل ستخبرنا بالسبب » : فقال ديفاين بنبرةٍ تحمل بعض الاحترام
«؟ الذي يجعلك لا تُصدِّق عينَيك
ثم أضاف بلطف: «. نعم، سأحاول أن أخبركم » : فقال القس
تعرفون ماهيَّتي وماهيَّتنا. فنحن لا نضايقكم كثيرًا. بل نحاول أن نكون أصدقاء »
مع جميع جيراننا، ولكن ينبغي ألَّا تظنُّوا أننا لا نفعل شيئًا، وألَّا تظنُّوا أننا لا نعرف شيئًا.
صحيحٌ أننا نهتم بشئوننا ولا نتدخَّل فيما لا يَعنينا، لكننا نعرف الأناس المحيطين بنا. لقد
كنت أعرف هذا الرجل الميت معرفةً قوية في الواقع؛ إذ كُنتُ القَسَّ الذي يسمع اعترافاته
بخطاياه ويساعده على التوبة، وصديقه. وبقدر ما يستطيع المرء، كُنتُ أعرف ما يدورُ
في عقله حين غادر تلك الحديقة اليوم، وكان عقله كخليةٍ زجاجية مليئة بنحلٍ ذهبي.
وحتى إذا قُلتُ إنَّ توبته كانت نَصوحًا، فلن أوُفيها حقَّها؛ إذ كان واحدًا من هؤلاء التائبين
العظماء الذين حصدوا حسناتٍ من توبتهم تفوق الحسنات التي يُمكِن أن يحصدها بعض
الآخرين من عِفَّتهم. وصحيحٌ أنني كُنتُ القسَّ الذي يساعده على الاعتراف والتحرُّر من
عبء خطاياه، ولكن في الواقع، أنا الذي كنت أذهب إليه كي أشعر بالارتياح؛ إذ كان ينفعني
وجودي بالقرب من رجلٍ شديد الصلاح مثله. وحين رأيته يرقد ميتًا في الحديقة، بدا لي
كأنَّ بعض الكلمات الغريبة التي قيلت قديمًا قد تُلِيَت عليه بصوت عالٍ في أذني. وربما
تكون قد تُلِيَت عليه بالفعل؛ لأنَّه لو كُتِبَ لأيِّ امرِئٍ أن يدخل الجنَّة مباشرةً، لربما كان هو
«. هذا الرجل
دعك من هذا، لقد كان مُجرَّد لصٍّ مُدانٍ في » : وهُنا قال جون بانكس بنفاد صبر
«. النهاية
نعم، وهذه البُشرى المُطمئنة التي قالها المسيح لم يسمعها أيُّ » : فقال الأب براون
«.« الليلة ستكون معي في الجنة » : شخصٍفي الدُّنيا سوى لصٍّمُدان
ثم خيَّم صمتٌ بدا فيه أنَّ الجميع لا يجد شيئًا يقوله، إلى أن كسَره ديفاين أخيرًا وقال
فجأة:
«؟ إذًا، فكيف تُفسِّر كلَّ ما حدث بحقِّ لله »
لا أستطيع تفسيره إطلاقًا حتى الآن. أرى شيئًا » : فهزَّ القسُّ رأسه، ثم قال ببساطة
غريبًا أو شيئَين، لكنني لا أفهمهما. وحتى الآن، ليس لديَّ أيُّشيءٍ لأثُبت به براءة الرجل،
«. باستثناء الرجل نفسه، لكنِّي متيقنٌ تمامًا من أنني مُحِق
ثم تنهَّد، ومدَّ يده نحو قبعته الكبيرة السوداء. وبينما كان يخلعها، ظلَّ يُحدِّق إلى
المنضدة بتعبيراتٍ مختلفة نوعًا ما، فيما مال رأسه المستدير ذو الشعر المستقيم بزاويةٍ
مختلفة. كان يبدو كما لو أنَّ بعضالحيوانات الفضولية قد خرجت من قبعته، كأنَّها قبعة
ساحر، لكنَّ الآخرين، الذين كانوا ينظرون إلى المنضدة أيضًا، لم يرَوا عليها سوى وثائقِ
المُحقِّق واللحية المستعارة والنظارة القديمتَين المبهرجتَين.
فليحفظنا الرب، والرجل الميت مستلقٍ في الخارج مرتدٍ لحيةً » : فتمتم الأب براون قائلًا
هاك خيطًا لتسير وراءه إذا كنت تريد » : ثم التفت فجأةً نحو ديفاين، وقال «. ونظارة أيضًا
«؟ أن تعرف حقيقة ما حدث. لماذا كانت لديه لحيتان
وبعد ذلك، اندفع بطريقته غير الوقورة خارج الغرفة، لكنَّ الفضول كان يفترس
ديفاين آنذاك، فدفعه إلى الخروج وراءه نحو الحديقة الأمامية.
لا أستطيع أن أخبرك الآن، لستُ متيقنًا، وأنا منشغلٌ الآن بالتفكير » : ثم قال الأب براون
فيما يجب فعلُه. تعال وزُرني غدًا، وقد أتمكن حينئذٍ من إخبارك بالتفاصيل كلها. ربما
«؟ تكون قد اتضحت لي بالفعل، و… هل تسمع هذا الصوت
«. إنَّه صوت تشغيل مُحرِّك سيارة » : فعلَّق ديفاين قائلًا
«. سيارة السيد جون بانكس. أعتقد أنَّها تسير بسرعة كبيرة » : فقال القس
«. إنَّه أيضًا يعتقد ذلك بالتأكيد » : فقال ديفاين بابتسامة
«. ستنطلق بعيدًا الليلة مثلما تنطلقسريعًا » : فقال الأب براون
«؟ وماذا تقصد بذلك » : فسأله الآخر
أقصد أنَّها لن تعود. لقد خمَّن جون بانكس شيئًا ممَّا أعرفه بناءً على » : فأجابه القس
«. كلامي. وها هو قد ذهب آخذًا معه القلادة المُطعَّمة بالزمرُّد وجميع الحُلي الأخرى
وفي اليوم التالي، وجد ديفاين الأب براون يتحرَّك ذهابًا وإيابًا أمام صفٍّ من خلايا
النحل بمزيجٍ من الحزن وبعضالسكينة.
لقد كنت أخبِرُ النحل بما حدث. أتعرف أنَّ المرء يجب أن يُخبِر النحل » : قال القس
يا لها من سلالة « تبني هذه الكائنات البنَّاءة الشادية أسطحًا من الذهب » ! بالأحداث المهمة
«. لا شكَّ أنَّه يرغب في أن يحظى النحل برعاية » : ثم قال فجأة متحدثًا عن مونشاين «! رائعة
آمُل أنَّه لا يرغب في أن يُهمَل البَشَر، لا سيما حين يئِنُّون من شدة » : فقال ديفاين
الفضول. كنتَ مُحقٍّا تمامًا حين قُلتَ إنَّ بانكس رحل آخذًا معه الحُلي، لكنِّي لا أعلم كيف
«. عرَفت، أو ما الذي كان يُمكِن معرفته في الأساس
فنظر الأب براون بعينَيه الرامشتَين نظرة عَطوفةً إلى خلايا النحل، وقال:
يُمكن القول إنَّ المرء يتعثَّر بالتفاصيل فيكتشفها مصادفة، وقد كانت تُوجَد تفصيلةٌ »
مهمة تعثَّرتُ بها في البداية. لقد حيَّرني إطلاقُ النار على بارنارد المسكين في قصربيتشوود
هاوس. فحتى حين كان مايكل في عزِّ إجرامه، كان مُلتزمًا بأن يُنجِزسرقاته دون أن يقتل
أيَّ أحدٍ، معتبرًا ذلك مسألة مبدأ، أو حتى مدعاةً إلى الفخر بنفسه؛ لذا بدا من غير العادي
أن يَحيد عن مبدئه بعدما صار تقيٍّا ويرتكب خطيئةً كان يحتقرها حين كان آثمًا. أمَّا بقية
القضية، فظلَّت تُحيِّرني حتى النهاية، ولم أستطع أن أتوصَّل إلى أيٍّ من تفاصيلها، باستثناء
أنَّ ما افترضه المُحقِّق لم يكن صحيحًا. ثم ومضت في ذهني شرارةٌ تنبيهية متأخرة حين
رأيت اللحية والنظارة، وتذكَّرتُ أنَّ اللصجاء مرتديًا لحيةً ونظَّارة أخُريَين. قد يتبادر إلى
ذهنك الآن بالطبع أنَّه ربما كان يملك نسختَين من أدواته التنكُّرية ليس إلَّا، لكنَّها ليست
مصادفةً أنَّه لم يستخدم النظارة القديمة ولا اللحية القديمة، مع أنَّ كِلتَيهما بحالةٍ جيدة.
وقد يخطُر على بالك أيضًا أنَّه ربما خَرَج بدونهما فاضطُرَّ إلىشراء لحيةٍ ونظَّارة جديدتَين،
لكنَّ هذا مستبعد. لم يكن هناك دافعٌ يجعله يذهب مع بانكس في سيارته على الإطلاق؛ لذا
فلو كان قد ذهب معه عازمًا السرقة من البداية، لكان بإمكانه أن يأخذ الأدوات التنكرية في
جيبه ببساطة. وعلاوة على ذلك، فإن اللحى لا تنبت على الشجيرات؛ لذا كان سيجدصعوبة
في الحصول على أدواتٍ كهذه من أيِّ مكانٍ آنذاك.
كلَّا؛ بل مستحيل، وكلما فكَّرتُ في الأمر مَليٍّا، شعرت بشيءٍ مُضحِك في ارتدائه أدواتٍ
تنكُّرية جديدة تمامًا. ثم بدأت الحقيقة تتكشَّف لي بالاستدلال المنطقي، بعدما أدركتها
بغريزتي بالفعل. لم يذهب مع بانكس ناويًا ارتداءَ الأدوات التنكُّرية قَط. ولم يرتدِها قَط.
«. بل صنعها شخصٌآخر في وقت فراغه، ثم ألبَسه إيَّاها
«؟ ألبَسه إيَّاها! وكيف ذلك إذن » : فكرَّر ديفاين الجملة الأخيرة متسائلًا
دعنا نسترجع ما حدث، وننظر إليه من خلال نافذةٍ أخرى، النافذة » : فقال الأب براون
«. التي رأت الفتاة من خلالها الشبح
«! الشبح » : فقال الآخر بشيء من الاستغراب
لقد وَصَفَته بالشبح، وربما لم تكن مخطئة تمامًا. » : فقال القسُّالقصير برباطة جأش
صحيح أنَّها ممَّن يمكن أن يُطلَق عليهم الوسطاء الروحيين، لكنَّ خطأها الوحيد أنَّها تظن
أنَّ الشعور بالقوى الروحية هو نفسه الشعور بالتجليات الإيمانية. فبعض الحيوانات
تشعر بقوًى روحية؛ على أي حال، إنَّها شابة حساسة، وكانت مُحِقةً حين شعرت بأنَّ
«. الوجه الذي ظهر عند النافذة كان مُحاطًا بهالةٍ مروِّعة توحي بأنَّه وجه جثَّة
«… أتقصدُ أنَّ » : فقال ديفاين
أقصد أنَّ الرجل الذي نظر عبر النافذة كان ميتًا، والرجل الذي كان » : قال الأب براون
يحوم حول أكثر من منزل، ناظرًا عبر أكثر من نافذة كان ميتًا. أمرٌ مُرعِب، أليس كذلك؟
ولكن يُمكن القول إنَّه كان عكس الشبح؛ لأنَّه لم يكن روحًا متحررة من جسدها، بل كان
«. جسدًا متحررًا من روحه
لكنني أظنُّ أنَّ أقصرتفسير لما » : ثم نظر رامشًا إلى خلية النحل مرَّة أخرى وأضاف
«. حدث هو النظر إليه من منظور فاعله. وأنت تعرف الفاعل؛ جون بانكس
«. إنَّه آخر شخصٍكان من الممكن أن أشكَّ فيه » : فقال ديفاين
بل كان أول شخصٍشككتُ فيه، بقدر ما يحقُّ لي أن أشكَّ في أيِّ » : فقال الأب براون
شخصٍمن الأساس. يا صديقي، لا توجد فئاتٌ اجتماعية أو مِهَنٌ طيبة وأخرىشرِّيرة. إذ
يمكن لأي رجل أن يكون قاتلًا مثل جون المسكين، ويمكن لأيِّ رجل، بل الرجل نفسه حتَّى،
أن يكون قديسًا تقيٍّا مثل مايكل المسكين، ولكن إذا كان ثَم فئةٌ تميل في بعضالأحيان إلى
أن تكون أشدَّ إلحادًا من فئةٍ أخرى، فهي هذه الفئة الوحشية من رجال الأعمال. فهو لا
يؤمن بمُثُلٍ اجتماعية، فضلًا عن أيِّ دين، ولا يتحلَّى بتقاليد النبلاء ولا ولاء الطبقة العاملة.
ويُمكن القول إنَّ كل تفاخره بإبرام صفقاتٍ جيدة كان تفاخرًا بخداع الناس. فيما كان
استخفافه بمحاولات أخته المسكينة لممارسة الوساطة الروحية فعلًا بغيضًا. صحيحٌ أنَّ ما
تُمارسه وتؤمن به من قُوًى روحية محضُتفاهة، لكنَّه كره الروحانية لمجرَّد أنَّها روحانية.
على أي حال، لا شكَّ في أنَّه كان الشخص الشرِّير في هذه القضية، وكان اهتمامه الوحيد
أن يرتكب فعلًا شرِّيرًا مُبتكَرًا بعض الشيء. لقد كان دافعه إلى القتل جديدًا وفريدًا من
نوعه بالفعل؛ إذ أراد استخدام الجثة كأداةٍ مسرحية، أداةٍ أشبه بدُميةٍ بشعة. في البداية،
نَسَج في ذهنه خطةً لقتل مايكل في السيارة، لمجرد أخذ جثته إلى المنزل والتظاهُر بأنَّه
قتله في الحديقة، لكنَّ جميع اللمسات النهائية المُذهلة التي أضفاها على جريمته لاحقًا
انبثقت انبثاقًا طبيعيٍّا تمامًا من الحقيقة الأساسية؛ أنَّه كان يملك تحت تصرُّفه ليلًا جثة
لصٍّ معروفٍ بارز في سيارةٍ مُغلقة. وبذلك، استطاع أن يترك بصماته وآثار أقدامه في
مسرح الجريمة، ويُسنِد وجهه المألوف على النوافذ ثم يُبعِده مرَّة أخرى كيفما شاء. ولعلَّك
ستُلاحظ أنَّ وجه مونشاين ظهر عبر النافذة واختفى حين كان بانكس خارج الغرفة
متظاهرًا بالبحث عن القلادة ذات الزمرد.
وأخيرًا، كُلُّ ما كان عليه أن يُسقِط الجثة على العشب، ويُطلِق رصاصةً من كل مسدس،
«. وقد فعل ذلك. وربما ما كان ليُفتضَح أمره أبدًا لولا الشكُّ بشأن وجود لحيتين
ولكن لماذا ظلَّ صديقك مايكل محتفظًا بلحيته » : وهنا قال ديفاين بنبرةٍ حكيمة
«. القديمة؟ أرى ذلك مريبًا
بحُكم معرفتي به، أرى أنَّ ذلك كان أمرًا حتميٍّا تمامًا؛ إذ كان » : فأجاب الأب براون
سلوكه في الحياة كذلك الشعر المستعار الذي كان يضعه على رأسه. فأدواته التنكُّرية لم
تكن تجعله متنكرًا بالفعل. صحيحٌ أنَّه لم يعد يرغب في ممارسة التنكُّر القديم، لكنَّه لم
يكن خائفًا منه، وكان يشعُر بأنَّ التخلُّص من اللحية المستعارة المُخادِعة سيكون فعلًا
مُخادِعًا؛ لأنَّه كان سيُصبح كالاختباء، وهو لم يكن يختبئ من شيء. لم يكن يختبئ من
لله، ولم يكن يختبئ من نفسه، بل كان ظاهرًا للجميع في وضح النهار. وحتى لو كان قد
أعُيدَ إلى السجن، لظلَّ سعيدًا جدٍّا؛ إذ لم يُبيِّضنفسه ليُواريَ رذائلها، بل تطهَّر حتى صار
بالفعل كثوبٍ أبيضَخالٍ من الدَّنَس. لقد كان فيهشيءٌ غريب يُضاهي غرابة رقصة الموت
العجيبة التي جُرَّ إليها بعد وفاته. فحتى حين كان يتنقَّل ذهابًا وإيابًا وسط خلايا النحل
«. هذه مبتسمًا بمظهرٍ شديد التألُّق والإشراق، كان ميتًا. لم يكن خاضعًا لأحكام هذه الدُّنيا
كلُّ ذلك يرجع إلى التشابه » : وحينئذٍ، خيَّم صمتٌ قصير، ثم هزَّ ديفاين كتفَيه وقال
«؟ الشديد بين النحل والدبابير في هذه الدُّنيا، أليس كذلك
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.