مقتل
مليونير أمريكي؛ ذلك الحدث الذي نتعامل معه، لسببٍ أو لآخر، كنوع من الكارِثة. أما هذه
القصَّة، فيُسعدني أن أقول إنها تبدأ بمليونير مقتول؛ في الواقع هي تبدأ بثلاثة مليونيرات
مقتولين، ما قد يَعُده البعضورطةً بالغة التعقيد، ولكن كانت هذه المصادفة أو استمرار
السياسة الإجرامية هي في الأساس ما أخرجَ القضيةَ برُمَّتها عن المسار العادي للقضايا
الجنائية، وحوَّلها إلى الشكل الاستثنائي الذي كانت عليه.
شاع القولُ إنهم سقطوا جميعًا ضحايا لثأرٍ أو لعنةٍ ذات صلة بحيازة أثَر ذي
قيمة كبيرة سواءٌ في حدِّ ذاته أم من الناحية التاريخية؛ نوعٌ من الكئُوسالمرصَّعة بالأحجار
الكريمة، اشتُهر باسم الكأسالقبطية. كان أصلُها غامضًا، ولكن كان من المفترضأن يكون
استخدامُها دينيٍّا؛ وأرجع البعضالمصيرَ الذي آل إليه مالكُوها إلى تعصُّب بعضالمسيحيين
الشرقيين الذين روَّعهم أن تتناقلَها أيادي مثل هؤلاء الماديِّين، لكن القاتل الغامض، سواءٌ
كان متعصبًا مِن هؤلاء أم لا، كان بالفعل شخصيةً مثيرةً للرُّعب والاهتمام في عالم الصحافة
والنَّميمة، وقد أطُلق على ذلك الشخصغير معروفالاسم اسمٌ أو كُنية، ولكن قصة الضحية
الثالثة فقط هي التي تَعنينا هنا؛ ففي هذه القضيَّة فقط جاءت الفرصة للأب براون، الذي
هو محور قِصصنا هنا، كي يثبت حضوره ويكون له دور.
عندما نزلت قدَما الأب براون لأول مرةٍ من باخرةٍ آتية عبر المحيط الأطلسيعلى الأراضي
الأمريكية، اكتشف مثل العديد من الإنجليز الآخرين أنه كان شخصًا أكثرَ أهميةً مما ظنَّ
في يوم من الأيام؛ إذ كان يُمكنه، بجسمه القصير وقِصرنظره وملامحه العادية وملابسه
الدينية السوداء الباهتة اللونِ بعضالشيءِ، أن يمر عبرَ أي حشْد من الحشود في بلده دون
أن يُلاحَظ أن به أيَّ شيء غيرِ عاديٍّ؛ ربما باستثناء أنه غير ذي أهمية بشكلٍ غير معتاد.
ولكن أمريكا لديها مهارةٌ في التشجيع على الشُّهرة، وكان ظهوره في قضية أو قضيتين من
تلك القضايا الإجرامية المثيرة معصُحبته الطويلة لفلامبو، المجرم السابق والمحقِّق، قد بنَى
له سمعةً في أمريكا مما كان لا يزيد عن كونِه مجردَ شائعة في إنجلترا. خلا وجهُه المستدير
من أيِّ تعبير، من المفاجأة، عندما وجد نفسَه محاصَرًا على الرصيف من مجموعة من
الصحفيين، كما لو كانوا عصابةً من اللصوص، والذين سألوه حول جميع الموضوعات التي
كان يصعُب عليه أن يرى نفسه فيها مرجعية، مثل تفاصيل ملابسِ النساء وإحصاءات
الجريمة في البلاد التي كانت عيناه تريانها لأولِ مرة في هذه اللحظة. ربما كان التبايُن مع
هذه المجموعة المحاصِرة له المرتدية لملابسَ سوداء هو ما جعل شخصًا آخرَ يقفُ بعيدًا
عنهم يبدو أكثر وضوحًا، والذي كان يبدو بملابسه أسودَ على نحوٍ متساوٍ في مقابل ضوء
النهار الأبيض الساطع لهذا المكان والموسم الرائعين، ولكنه كان يقف بمفردِه تمامًا؛ لقد
كان رجلًا طويل القامة أصفرَ الوجه يرتدي نظَّارة واقية كبيرة، وقد أوقفَه بإيماءة عندما
«. معذرة، ولكنك ربما تبحثُ عن الكابتن وين » : انتهى الصحفيُّون من أسئلتِهم، وقال
ربما يكون بعض الاعتذار مناسبًا للأب براون؛ لأنه هو نفسه كان كثير الاعتذار
بصِدق. يجب أن نتذكَّر أنه لم يسبق له أن رأَى أمريكا من قبل، كما يجب أن نتذكَّر على
وجهِ الخصوص أنه لم يسبق له أن رأَى هذا النوع من النظَّارات المستمدَّةِ ألوان إطارها
من ألوان دِرع السلحفاة؛ فهذه الموضة لم تكن في هذا الوقت قد انتشرتْ في إنجلترا. كان
شعورُه الأول هو أنه يَنظر إلى أحد وُحوش البحر الجاحظة العينين مع احتمالِ أن يكون
مرتديًا لخُوذة الغوَّاصين. بخلاف ذلك، كان الرجل يرتدي ملابس رائعة؛ وبالنسبة لبراون،
ببراءته، بدت النظارة أغربَ تشويهٍ لمظهر الرجل الأنيق. كان الأمر كما لو أن رجلًا أنيقًا
يرتدي ساقًا خشبية كي يُضفي على مظهره لمسةً من الأناقة. أحرجه كذلك الكلام الذي قالَه
له الرجل. في الواقع كان طيارٌ أمريكيٌّ يُدعى وين، وهو صديق لبعضأصدقائه في فرنسا،
أحدَ الأشخاصفي قائمةٍ طويلة من الأشخاصالذين كان لديه بعضُالأمل في رؤيتِهم خلال
زيارتِه لأمريكا؛ لكنه لم يتوقَّعْ قط أن يسمعَ عنه بهذه السرعة.
«؟ أستميحك عذرًا، هل أنتَ الكابتن وين؟ هل … هل تعرفه » : قال في شك
حسنًا، أنا واثق تمامًا من أنني لست الكابتن » : قال الرجل ذو النظَّارة الواقية بصرامة
وين، وقد كنتُ واضحًا للغاية بشأن ذلك عندما رأيتُه في انتظارِك هناك في السيارة، لكن
السؤال الآخر هو الأصعبُ قليلًا. أعتقد أنني أعرف وين وعمَّه والرجل العجوز ميرتون
أيضًا. أعرف الرجلَ العجوز ميرتون، لكن الرجل العجوز ميرتون لا يعرفُني، وهو يعتقد
«؟ أنه أفضلُ مني، وأعتقد أنني أفضلُ منه. هل تفهمني
لم يكن الأب براون قد فهم شيئًا بعدُ. نظر بعينين طارِفَتين إلى المناظر البحرية الرائعة
والمباني العالية في المدينة، ثم إلى الرجُل ذي النظارة الواقية. لم يكن إخفاءُ الرجل لعينيه
فقط هو ما خلقَ انطباعًا بشيءٍ غير مفهوم؛ فقد كان ثمة شيء في وجهه الأصفر آسيويٌّ
بعض الشيء، وبالتحديد صينيٌّ، وبدت محادثته طبقاتٍ متراصَّةً من السخرية. كان من
النوع الذي يُمكنك أن تقابله في كلِّ مكانٍ في ذلك المجتمع الودود والاجتماعي؛ فقد كان
الأمريكيَّ الغامض.
اسمي دريدج، نورمان دريدج، وأنا مواطن أمريكي، وهذا يشرح كلَّ شيء. » : قال
أتصور على الأقل أن صديقك وين سَيودُّ أن يشرح لك بقيةَ الأمر؛ لذلك سنؤجل الاحتفال
«. بعيد الاستقلال إلى يومٍ آخر
أخُذ الأب براون، وقد انتابه شيءٌ من الحَيرة، نحو سيارة على مسافة قصيرة يجلس
فيها شابٌّ ذو أكوام غير مهذَّبة من الشعر الأصفر، وتظهر عليه أمارات الضيق والإنهاك
بعض الشيء، وقد حيَّاه من بعيد وقدَّم نفسه على أنه بيتر وين. وقبل أن يعرف أين هو،
دُفع إلى داخل السيارة التي تحرَّكت مسرعةً عبر المدينة وهي تتجه إلى خارجها. لم يكن
معتادًا على مثل هذه الممارسات العمَليَّة الطائشة للأمريكان، وقد كان مذهولًا ذهولَ مَن
تحمله عرَبة تجرُّها التنانين إلى عالم الخَيال. وفي ظل هذه الظروف المُربِكة سمع لأوَّل
مرة، في المونولوجات الطويلة لوين والجمل القصيرة لدريدج، عن قصة الكأس القبطية
والجريمتَين المرتبطتين بها بالفعل.
يبدو أن وين كان لديه عمٌّ يُدعى كريك، الذي كان لهشريك يُدعى ميرتون، وهو الرجل
الثالث في سلسلةِ رجال الأعمال الأثرياء الذين امتلكوا الكأس. أوَّلهم، تيتوس بي ترانت،
ملك النحاس، تلقَّى خطاب تهديد من شخص وقد وقَّع عليه باسم دانيال دوم. وعلى ما
يبدو كان الاسمُ مستعارًا، لكنه أصبح يمثل شخصيةً عامة، بل يتمتع أيضًا بشهرة كبيرة؛
فقد نال شهرة كل من روبن هود وجاك السفاح معًا. إذسرعان ما أصبح واضحًا أن كاتبَ
خطاب التهديد لم يقتصِرْ على التهديد. على أي حال، خلاصة الأمر أنه عُثر على العجوز
ترانت في صباح أحدِ الأيام ورأسُه في بركة الزَّنْبق في منزله، ولم يكن ثمة ما يدلُّ على
الفاعل. لحسن الحظ، كانت الكأسمحفوظةً في البنك؛ وانتقلت ملكيتُها مع بقية ممتلكات
ترانت إلى قريبِه براين هوردير، الذي كان كذلك رجلًا ذا ثروةٍ كبيرة، والذي هدَّده العدو
المجهول أيضًا. وقد عُثر على براين هوردير ميتًا وانتُشل جثمانُه من سفح جرفٍ خارج
منزله المطلِّ على البحر، الذي تعرَّض لسطوٍ كان على نطاقٍ واسعٍ هذه المرة. وعلى الرغم
من نجاةِ الكأسِ على ما يبدو مرةً أخرى، فقدسُرق ما يكفِي من السندات والأوراق المالية؛
ما أربَكَ الحالةَ المالية لهوردير.
اضطرتْ أرملة براين هوردير إلى بيع معظم ممتلكاتِه الثمينة، » : شرح وين الأمر قائلًا
وأعتقد أن براندر ميرتون قد اشترى الكأسَ في ذلك الوقت؛ إذ كان يملكها بالفعل عندما
قابلتُه أول مرة. ولكن يمكنك أن تخمِّن بنفسك أنها ليست بالشيء المريح اقتناؤُه على
«. الإطلاق
هل تلقَّى السيد ميرتون أي خطابِ تهديدٍ » : سأل الأب براون بعد فترةِ توقُّف قائلًا
«؟ من النوع الذي تلقَّاه سابقوه
وشيءٌ في صوته جعل القَسَّ ينظر إليه مستغربًا «. أعتقد ذلك » : قال السيد دريدج
حتى أدرك أنَّ الرجل ذا النظارة الواقية كان يضحكُ في صمتٍ بطريقة جعلت الوافدَ
الجديد يستعيد شيئًا من هدوئه.
أنا واثق تمامًا من ذلك. أنا لم أرَ الخطابات؛ فلا يرى أحدٌ » : قال بيتر وين عابسًا
خطاباتِه سوى سكرتيرِه؛ فهو متحفِّظ للغاية بشأن أعماله، كما يجب أن يكون رجالُ
الأعمال الكبار، لكنني رأيتُه مضطربًا ومنزعجًا جدٍّا من بعضالخطابات، وعرَفتُ أنه مزَّق
خطاباتٍ حتى قبل أن يراها سكرتيرُه. كان السكرتير نفسه يشعر بالتوتُّر ويقول إنه متأكِّد
من أن شخصًا يرتِّب شيئًا للرجل العجوز؛ وكل ما يُمكن قوله أننا سنكون ممتَنِّين للغاية
للحُصول منك على بعضِالمشورة في هذا الشأن. الجميع يعرفُ سمعتَك الطيِّبة، أيها الأب
براون، وقد طلب مني السكرتيرُ أن أرى ما إذا كان بإمكانِك الذهابُ مباشرة إلى منزلِ
«. ميرتون على الفور
قال الأب براون الذي بدأ يفهَمُ أخيرًا معنى هذه العمليةِ التي بدَتْ في البداية اختطافًا:
أوه، فهِمت. لكن، في الواقع، لا أعتقدُ أنه بإمكاني أن أفعل أكثرَ مما يمكنُكم فعلُه. أنتم »
في مسرح الأحداث، ولا بدَّ أن لديكم المئاتِ من المعلومات التي يمكنكم من خلالها الوصولُ
«. إلى استنتاج منطقيٍّ أفضلَ من زائرٍ أتى للبلاد بالصُّدفة
نعم، إن استنتاجاتِنا منطقيةٌ بشدة بحيث لا يمكن أن » : قال السيد دريدج ببرود
تكونَ صحيحة. وأرجِّح أنه إذا طال أيُّشيءٍ رجلًا مثل تيتوس بي ترانت؛ فإن هذا الشيءَ
«. قد طاله دون سابقِ إنذارٍ ودون انتظار لأيِّ تفسير منطقي، أي، كسهمٍ من السماء
«! لا يمكن أن يكون ما تعنيه هو أنَّ الأمر كان خارقًا للطبيعة » : صاح وين قائلًا
ولكن لم يكن من السهل بأي حال، وفي أي وقت، اكتشافُ ما قد يَعنيه دريدج، إلا إذا
قال إن أحد الأشخاصذكيٌّ حقٍّا، فهو على الأرجح في هذه الحالة يعني أنه أحمَق. حافظ
السيد دريدج على جُموده الشرقي حتى توقَّفت السيارة بعد فترةٍ وجيزة، حيث كان من
الواضح أنهم قد وصلوا إلى وجهتِهم. كان مكانًا غريبًا بعضَالشيء. مرُّوا بالسَّيارة عبر بلد
مليءٍ بالأشجار الرفيعة التي تؤدِّي إلى سهل واسع، وأمامَهم مباشرةً كان ثمةَ مبنًى يتكوَّن
من جدارٍ واحد أو سياج طويل للغاية، والذي كان مستديرًا مثل المعسكَر الروماني، ويُشبه
الميناءَ الجوي. لم يكن الحاجز يبدو أنه من الأخشابِ أو الحجارة، وبمزيد من التَّدقيق
اتَّضح أنه من المعدن.
نزلوا جميعًا من السيارة، وفُتح بابٌصغير في الجدار بحذَر شديد، بعد خطوات تشبه
تلك الخطواتِ المتبعة في فتح الخزائن، ولكن ما كان مفاجأةً حقٍّا للأب براون أن الرجلَ
الذي يُدعى نورمان دريدج لم يُبدِ أيَّ رغبة في الدخول، وتركَهما بابتهاج ينمُّ عنشر.
لن أدخل، أعتقد أن الأمر سيكون مثيرًا وممتعًا للغاية لميرتون العَجوز؛ فهو » : قال
«. يُحب رؤيتي للغاية لدرجةٍ ستجعله يموت من الفرَح عندما يراني
سار بعيدًا، بينما سُمح للأب براون، بذهولٍ متزايد، بالدخول عبر الباب الفولاذيِّ الذي
أغُلق على الفَور بعد دخوله. في الداخل، كانت هناك حديقة كبيرةٌ ومتقنةُ التنسيقِ بألوان
مزدهرةٍ ومتنوعة، ولكنها تخلو بالكامل من أي أشجار أو شجيرات طويلة أو زُهور. وفي
وسَطها، كان ثمة منزلٌ ذو معمار جميل، بل مذهل، ولكنه كان مرتفعًا وضيِّقًا للغاية
لدرجة جعلتْه يشبه البرج بعض الشيء. وكان ضوءُ الشمس المتوهج يُومض على السَّقف
الزجاجي هنا وهناك في الأعلى، ولكن يبدو أنه لم تكُن هناك أيُّ نوافذ على الإطلاق في الجزء
السفليِّ منه. وفي كلشيء تجد تلك النظافةَ الناصعة واللامعة التي بدت من السِّمات المميزة
للأجواء الأمريكية الصافية. عندما دخَلا من الباب، وقَفَا وسط الرخام والمعادن اللامعة
والطلاء ذي الألوان الرائعة، ولكن لم يكُنْ في المكان دَرَج؛ فقد كان كلُّ ما هناك عمودًا
واحدًا لمصعد عالقٍ في منتصف المسافة بين الجدران الصُّلبة، وكان الطريق إليه يحرسُه
رجال ضخام الجسم أقوياء البنية مثل رجالشرطة في ملابس مدنيَّة.
حماية مُحكَمة للغاية، على ما أعتقد! ربما تبتسم قليلًا أيها الأب براون » : قال وين
عندما تجد أن ميرتون مضطرٌّ للعيشفي حِصن مثل هذا حتى بلا شجرة واحدة في الحديقة،
يمكن لأحد أن يختبئ خلفها، لكنك لا تعرفُما نواجهه في هذا البلد، وربما لا تعرفُما الذي
يَعنيه اسم براندر ميرتون. إنه رجلٌ هادئ الطباع تمامًا، ويمكن لأي شخصأن يقابلَه في
الشارع؛ على الرغم من أن فرصةَ حدوثِ ذلك ليستْ كبيرة هذه الأيام؛ إذ لا يمكنه الخروج
إلا بين الحين والآخَر في سيارة مغلقة، ولكن إذا حدث أي شيء لبراندر ميرتون، فسيزلزلُ
ذلك البلاد من ألاسكا إلى جزر كانيبال. أعتقد أنه لم يكنْ لملك أو إمبراطور قطُّ مثل هذه
السلطة التي لدَيْه على البلاد. على كل حال، أفترضأنه إذا طُلب منك زيارةُ القيصرأو ملك
إنجلترا، فسيكون لديك الفضول للذَّهاب. قد لا تهتم كثيرًا بالقياصرة أو أصحابِ الملايين؛
ولكن ذلك يعني أن مثل هذه السلطة دائمًا ما تكون مثيرةً للاهتمام. وآمل ألَّا يتعارضمع
«. مبادئك أن تزورَ إمبراطورًا من نوع جديدٍ مثل ميرتون
على الإطلاق؛ فمن واجبي زيارةُ السجناء وجميع الرجال » : قال الأب براون بهدوء
«. البائسين في الأسَْر
ساد الصمت، وعبس الشابُّ بنظرةٍ غريبة بها نوع من المكْر على وجهه النَّحيل، ثم
قال فجأة:
حسنًا، عليك أن تتذكَّر أنَّ من يواجهونه ليسوا المحتالين العاديين أو تنظيم اليد »
السوداء؛ فدانيال دوم هذا يُشبه الشيطانَ بشدَّة. انظر كيف قضَىعلى ترانت في حديقته
«. وعلى هوردير خارج منزله، وفرَّ بفعلتِه
يتكون الطابق العلويُّ من القصر، داخل الجُدران السميكة للغاية، من غرفتين؛
غرفة خارجية وهي التي دَخَلاها، وغرفة داخلية كانت الملاذَ الخاصَّللمليونير الكبير. دخَلا
الغرفة الخارجية في الوقت نفسِه الذي كان فيه زائران آخران يخرجان من الغُرفة الداخلية.
أحدهما حيَّاه بيتر وين مناديًا إياه بالعم، كان رجلًا صغيرَ البِنْية ولكنه قويٌّ ونشيط،
برأسٍ حليق يبدو أصلع، ووجه مسمَّر يدل لونُه البُنِّي الشديد على أنه لم يكن أبيَضيومًا.
كان هذا الرجل هو كريك العجوز، ويُطلق عليه عادةً هيكوري كريك تيمُّنًا بهيكوري الكبير
الأكثر شهرة؛ وذلك بسببِ شهرته في الحروب الأخيرة مع الهنود الحمر. أما صاحبه، فقد
كان على العكس منه تمامًا؛ فهو رجلٌ أنيق للغاية ذو شعر داكن مثلَ الورنيش الأسود
ونظَّارة لعينٍ واحدة بشريطٍ أسود عريض، وكان يُدعى بارنارد بليك، الذي كان محاميَ
العجوز ميرتون، وكان يناقشمع الشريكين عملَ الشركة. التقى الرجالُ الأربعة في منتصف
الغرفة الخارجية وتوقَّفوا قليلًا ليشاركوا في محادثةٍ مهذَّبة قصيرة تخللَتْها عمليات خروج
وعودة. وخلال هذا، جلس شخصٌ آخر في الجزء الخلفي من الغرفة بالقُرب من الباب
الداخلي، والذي كان ضَخمًا وساكنًا بلا حَراك ومُضاءً نِصفُه بالضوء القادم من النافذة
الداخلية؛ وكان الرجلُ ذا وجهٍ زنجي وكتِفين ضَخْمتَين. كان هذا ما يسمِّيه النقد الذاتي
المضحك في أمريكا هَزلًا بالرَّجُل الشقي، الذي قد يصفُه أصدقاؤه بالحارس الشَّخصي
ويصفه أعداؤه بالقاتل المستأجَر.
هذا الرجل لم يتحرَّك أو يهتم قط لتحية أيِّ أحد، لكن رؤيته في الغرفة الخارجية بدا
أنه استفز بيتر وين لطَرح سؤاله الغاضب الأول.
«؟ هل مِن أحدٍ مع الزعيم » : قال
لا تنزعج يا بيتر، ويلتون السكرتير معه، وآمل » : ضحك عمه ضحكةً خافتة، وقال
أن يكون ذلك كافيًا لأيِّ أحد؛ فأنا أعتقد أن ويلتون لا يغفل أبدًا عن حراسة ميرتون. إنه
«. أفضلُ من عشرين حارسًا شخصيٍّا، وهوسريع وهادئ كالهنود
حسنًا، لا بد أنك تعرفُ ذلك. أتذكر حيل الهنود الحمر التي » : قال ابن أخيه ضاحكًا
كنت تعلِّمني إياها عندما كنت صبيٍّا وأحب قراءة قصص الهنود الحمر، ولكن في قصص
«. الهنود الحُمر التي أعرفها، بدا الهنود الحمر الأكثر معاناةً دائمًا
«. لم يكونوا كذلك في الواقع » : قال الرجل الذي كان يعيش في منطقة حدودية بتجهُّم
حقٍّا؟ أظن أنه لم يكن بإمكانهم إلَّا فعل النَّزْر » : سأل السيد بليك الودود متحقِّقًا
«. اليسير في مواجهة أسلحتِنا النارية
لقد رأيت هنديٍّا يقف صامدًا وسط مائة مسدس ليس معه سوى سكين » : قال كريك
«. صغير للسَّلخ، وقد قتل رجلًا أبيضيقفُ على قمَّة أحد الحُصون
«؟ عجبًا، ماذا فعل به » : سأل الآخر
ألقى به؛ رماه بسرعة البرق قبل أن تُطلق رصاصة. لا أعلم أين تعلَّم تلك » : رد كريك
«. الحيلة
«. حسنًا، آمل ألَّا تكون قد تعلمْتَها » : قال ابن أخيه ضاحكًا
«. يبدو لي أن القصةَ قد تحمل مغزًى » : قال الأب براون مفكِّرًا
وبينما كانوا يتحدَّثون، كان السيد ويلتون، السكرتير، قد خرجَ من الغرفة الداخلية
ووقف منتظرًا؛ وقد كان رجلًا ذا وجهٍ شاحب وشعر أشقر وذقن مربَّع وعينين ثابتتين
بنظرةٍ تشبه نظرة الكلاب، ولم يكن من الصَّعبِ التصديق بأن له صفاتِ كلاب الحراسة.
ولكن «. يمكن للسيد ميرتون رؤيتُكم خلال عشردقائق تقريبًا » : ولم يقل سوى الآتي
كان ذلك بمنزلة إشارةٍ من أجل إنهاء حديثِ المجموعة. قال العجوز كريك إنه لا بد أن
يخرج، وقد خرج معه ابنُ أخيه وصاحبه المحامي تاركين الأب براون في هذه اللحظة
بمُفرده مع سكرتيره؛ لأن ذلك العملاق الشبيه بالزنوج في الطرَف الآخر من الغرفة بالكاد
يمكن النظرُ إليه كإنسان أو كائن حي؛ إذ كان يجلسُ بلا حراكٍ وظهره العريض لهما
يحدِّق في اتجاه الغرفة الداخلية.
أعتذر عن كون التدابير مشدَّدةً جدٍّا هنا. ربما سمعت بكل هذه » : قال السكرتير
الأمور التي ارتكبها دانيال دوم هذا، وبالسبب الذي يجعلُ من غير الآمن تركَ الزعيم
«. بمفرده تمامًا
«؟ ولكنَّه بمُفرده الآن، أليس كذلك » : قال الأب براون
لمدة خمس عشرة دقيقة، لمدة » : نظر إليه السكرتير بعينين رماديَّتين وقورتَين، وقال
خمس عشرة دقيقة من أربعٍ وعشرين ساعة. هذا هو وقتُ العُزلة التامَّة الوحيد الذي
«. يحصُل عليه، ويصرُّعليه لسببٍ عجيبٍ بعضَالشيء
استمرَّ السكرتير ويلتون في النظر بثبات، لكن فمَه، «؟ وما هذا السبب » : سأل الزائر
الذي كان جادٍّا للغاية، أصبحَ متجهمًا.
الكأس القبطية. ربما نسيت الكأس القبطية، لكنه لم ينسَ ذلك أو أيَّ شيء » : وقال
آخر. إنه لا يثق في أيٍّ منا عندما يتعلَّق الأمر بالكأس القبطية؛ فهي محفوظة في مكان ما
وبطريقة ما في تلك الغرفة حتى لا يتأتَّى لأحدٍ غيره العثور عليها، ولن يخرجها إلا عندما
نبتعدُ جميعًا عنه؛ لذا علينا المخاطرة في ربع الساعة هذا أثناءَ جلوسه وتقديسه لها؛ وأعتقدُ
أنها العبادةُ الوحيدة التي يؤدِّيها. هذا لا يعني أن هناك أيَّ خطر حقيقي؛ لأنني حوَّلت
هذا المكان بالكامل إلى فخٍّ لا أعتقد أن الشيطان نفسه يمكنه أن يدخل إليه، أو بأي حال،
أن يخرج منه. إذا زارنا هذا اللعين دانيال دوم، فسيبقى إلى وقتِ العَشاء وإلى ما بعده
بوقتٍ كبير، يا إلهي! أجلسُ هنا على أحرَّ من الجمر لمدة خمس عشرة دقيقة، وفي اللحظة
التي أسمع فيها طلقة أو صوتَصراع سأضغط على هذا الزرِّ وسيعمل تيار كهربائي في
حلقةٍ دائرية حول جدار الحديقة؛ ومن ثم يموتُ من يعبره أو يتسلَّقُه. بالطبع لا يمكن أن
تسمع طلقاتِ نار هنا؛ لأن هذا هو السبيل الوحيد للدُّخول، والنافذة الوحيدة التي يجلس
بالقرب منها تقع بعيدًا أعلى البرج الذي يصعُب تسلُّقه كالأعمدة الزَّلقة، ولكن، على أي
حال، نحن جميعًا مسلَّحون هنا بالطبع؛ وإذا دخل دوم إلى تلك الغرفة فسيموت قبل أن
«. يخرجَ منها
كان الأب براون ينظر بعينين طارِفتين إلى السَّجادة بنوع من التأمل العميق، ثم قال
آمل ألَّا تمانعَ في ذكري لذلك، ولكن واتَتْني فكرةٌ في هذه اللحظة » : فجأة بشيءٍ من الرجفة
«. للتو، وهي عنك