لم تدري ما الذي دفعها للمجيء قبل موعد القطار ؛ حيث كانت تتجه إلي الأسكندرية لغسل همومها في بحرها الأبيض كما نصحها الطبيب ووالديها ؛ ولكنها في قرارة نفسها أستجابت لمشيئتهما بدون إرادة منها لأنها كانت علي يقين بأن بحور العالم وأنهارها لن تمحو ما بداخلها ؛ وعند هذا الأحساس سار بها قطار الذاكرة إلي الخلف لتستعرض حياتها التي لم تتجاوز الخمسة والعشرون عاما والتي لا تعد عمراً كاملاً لكهل كبير عاصر الدنيا وعاشها زمن طويل ولكنها بالنسبة لها كانت كمئات الأعوام ؛ تتذكر بأنها طفلة خفيفة الروح والظل تبعاً لكل من شاهدها فوصفها بذلك ؛ مرحة تبتسم لكل من تقابله بدءاً من أمها وأبيها مروراً " بعم عبده البواب " وأخيراً كل من تطالعه عيناها الصغيرتان من أناس بالطريق أو السوق حين كبرت وأصبحت تذهب مع أمها للسوق لشراء الأغراض للمنزل ؛ كان الأطفال من أقرانها يحبون اللعب معها لهدوئها وبساطتها ؛ حتي أن الجيران كانوا يتخطفونها لمداعبتها .
ومضت بها الحياة الدراسية فأظهرت كل نبوغ وذكاء مما جعل معلميها يتنبأون لها بمستقبل كبير ؛ وجاءت الثانوية العامة التي طالما كانت ترهق البيوت بقلقها وتوترها ولكن منزل " الأستاذ / مصطفي السيد " لم يحظ بأي ذرة قلق ومخاوف لأن " ياسمين " مجتهدة وتحب علومها وبالفعل نجحت بل وتفوقت وإلتحقت بالكلية التي ترغبها وهي الجامعة الأمريكية لتدرس علوم العلاقات العامة وإدارة الأعمال حيث حصلت علي منحة بالجامعة مجانية نظرا لتفوقها وإجتيازها أختبارات القبول .
ودخلت عالم الجامعة فلم يبهرها ما تراه بداخلها ولم يغير منها شئ ؛ فحصلت دروسها وأجتهدت لتصبح محبوبة من زميلاتها وزملائها وأساتذتها ؛ ومر العام الأول ؛ وفي بداية العام التالي الجديد ظهر طالب جديد وسيم تهافتت عليه الفتيات لوسامته الواضحة للعيان وإسمه " مدحت" ؛ ولكن " ياسمين " لم يسترعي أنتباهها وجوده نظراً لما رأت من تكبر وغرور منه مع الزملاء والزميلات ؛ وفي يوم من الأيام وهي تجلس تنتظر قدوم موعد محاضرتها وجدته يخطو نحوها فداخلها الشك بأنها المقصودة لديه ؛ حتي آتي وأستأذن منها بهدوء وأدب جم بأن يجلس معها وعندما أجبته بالموافقة بدا علي محياه الأرتياح ؛ وجلس ودار الحديث بينهما عن الكلية والدراسة ؛ وعرفت من " مدحت " بأنه كان ملتحق بكلية الآداب قسم اللغة الأنجليزية ولكنه قرر الألتحاق بالكلية هنا فأصبح زميلها بالجامعة ؛ ولم تدري " ياسمين " كم مضي من الوقت وهما في حديث متصل يتخلله المرح والأرتياح حتي أكتشفت بأن محاضرتها قد قاربت علي الأنتهاء وهي في غفلة عنها وهي لم تترك درساً ولا محاضرة قط طوال حياتها .
تكررت اللقاءات وتعمقت المشاعر رويداً رويداً ؛ إلي أن جاء الوقت وصارح كلاً منهما بشعوره تجاه الطرف الآخر وتعاهدا علي الوفاء والأخلاص ؛ ونجحت" ياسمين " وتفوقت كما إعتاد والديها ولم تغفل عن دروسها بالرغم من حبها لـ " مدحت " ولكن تؤمن بأن مستقبلهما الناجح هو الذي سيجمعهما سوياً ؛ ومرت الأيام والسنوات وتخرجا الحبيبين وفي نهاية عام التخرج كانت الخطبة وفرحة الأهل والجيرة وحسرة الشباب من الجيران والأقارب علي عدم نيل شرف الأرتباط الرسمي بها فهي نموذج الزوجة الصالحة الجميلة في كل شئ ؛ ولكن بالرغم من ذلك تمنوا لها التوفيق والهناء مع من أختاره قلبها.
وجاء دور البحث عن الوظيفة والألتحاق بالمكان المناسب ولم يطل بهما الأنتظار حتي ألتحقا بأحدي الشركات الأمريكية التي أفتتحت فرعها الجديد بالقاهرة ؛ ولم تسعهما السعادة والفرحة لكونها شركة لها مكانتها وتقديرها عالمياً ؛ فبذلا كل جهدهما لأثبات الجدية والمثابرة ؛ وكان نصيب التحفيز وإثارة الهمة من نصيب " ياسمين " التي كانت تحفز " مدحت " دائماً ؛حتي أرسلته الشركة في مهمة للفرع الأم بأمريكا حيث حلمه الدائم وأمله في الحياة للسفر إليها ؛ وأستشعرت " ياسمين " مدي سعادته بدورها لنيلها بالرغم من أن هي كانت المرشحة الأولي لتلك المهمة ؛ ولكنها طلبت من مديرها إسنادها لخطيبها معللة بذلك ضرورة وجودها للأعداد للمؤتمر الهام في القاهرة والذي يتزامن مع موعد المهمة ؛ وبالرغم من أن الحقيقة خلاف ذلك إلي أن مديرها أستشعر نبلها فتفهم ذلك وحاول ان يثنيها علي الأعتذار عنها ولكن أصرارها دفعه للموافقة علي أسندها إلي " مدحت "؛ وكانت تلك المهمة ستستغرق ثلاثة أشهر بأكملها ؛ إلا أن غيابه طال وأصبحت المكالمات بينهما علي فترات بعيدة ومختصرة ومقتضبة مما أقلقها وكانت لا تستطيع أن تطمئن منه علي موعد الرجوع أو سبب التأخير منه لأنه كان ينهي المكالمة سريعاً معللاً بأنه لديه إجتماع هام ؛ حتي جاء اليوم الذي استدعاها فيه مديرها بصفة عاجلة ؛ وعند دخولها مكتبه بابتسامتها المشرقة والتي تبدلت عندما رأت علي وجهه تعبيرات حزن وأسي علي محياه لينبئها بأن خطيبها " مدحت " قد لقي حتفه في حادثة تصادم بأمريكا ؛ وأخذ يواسيها وينعيها محاولة منه للتخفيف عنها وتقليل حزنها ومحاولته أفاقتها من الصدمة التي حفرت آثارها علي وجهها الجميل فهي من هول الصدمة لم تستطع النطق خاصة عندما لمحت شاشة الكمبيوتر ولازال أيميل يحمل خبر وفاة " مدحت " وبأنه قد لقي حتفه هو وزوجته " سمانتا هيوارد " ؛ وعندما لاحظ مديرها أن ملامحها قد تجمدت وهي تحملق في شاشة الكمبيوتر حاول أن يغلق صفحة الأيميل دون جدوي لانها أسرعت بقراءة الايميل مراراً وتكراراً وفشلت محاولته لنهيها عن أستكمال قراءته ؛ تيقنت من الحقيقة الصادمة بعد أن أجبرت مديرها علي سرد الحقيقة لها ؛ فاعترف لها مرغماً بأن " مدحت " كان يراسل " سامنتا " قبل سفره فنبل أخلاقك في أتاحة تلك الفرصة له جعله يتحرك سريعا نحو هدفه لينسج شباكه حولها فهي أبنة رئيس مجلس إدارة الشركة الأم بأمريكا والمؤسس لها ؛ وعند وصوله لأمريكا أكتملت خطته فلقد سحرها برقته ونعومته التي تضاهي نعومة جلد الثعابين وتزوجها كنت أعلم كل ذلك نعم أعلم لكن لم أستطع أن أخبرك بأي شئ ؛ فأنتي بمثابة أبنة لي وكم أنفطر قلبي مرارا وتكرارا عندما كنت أراكي تضحين بفرص بالعمل أنتي تستحقينها أكثر منه ؛وللأسف قبل سفره أخبرني أن أخبرك بانه لم يستشعر نحوك سوي مشاعر أحترام فقط وبأنه من فترة طويلة كان يريد أن يخبرك وينهي أرتباطكما لكنه لم يستطع ؛ غامت الدنيا أمام عيونها وتحولت لظلام دامس ؛ ولم تفق سوي علي وجه والدتها ووالدها يطالعها بملامح تنضح بالقلق والخوف لحد الرعب عليها ودعوات لا تنقطع حتي تفيق من ظلمات الأنهيار؛ وما كادت أن تستعيد وعيها حتي عاجلها النعاس مرة آخري ؛ ولم تستطع أن تتبين الوقت الذي مر عليها بالمصحة النفسية والعصبية حيث يتم علاجها هل هي أيام أم شهور ؛ ولكن أمام دعاء والدتها ووالدها وقراءة القرآن ليل نهار أستجاب الله لهما وبدأت تتغلب علي إحساس الضعف مع تظاهرها بالأستجابة للعلاج والتحسن من أجلهما ؛ وخرجت " ياسمين " بعد شهرين من المصحة النفسية والعصبية ؛ خرجت ولا تدري ماذا تبقي لها في الحياة ؛ ففجيعة الخيانة كانت أكثر ضراوة من الموت نفسه فلو كان مخلصاً لكانت قد بكت عليه طوال سنوات عمرها وحتي مماتها ؛ ولكن الخيانة كانت تمزق نياط قلبها بدون رحمة أو شفقة ؛ فكتمت أحساسها عن الناس ولكنها لم تتمكن من تكتمه عندما تختلي بنفسها .
وهاهي الآن تنتظر القطار قبل موعد وصوله بساعتين وقد رفضت أن يودعها أحد ؛ فهي تريد الأختلاء بنفسها لتنتزع قناع الشفاء المزيف من علي ملامح وجهها ؛ فلم تجد سوي كافتيريا المحطة لتنتظر القطار ؛ وبينما هي جالسة شاردة وتغوص في بحيرة أحزانها ؛ لم تتنبه للمقعد المجاور لها ولصاحبه الذي أخذ يحدق بها ويتساءل في نفسه عن السر وراء تلك النظرات الحزينة فهي تفيض وتتدفق كفيضان ضاري علي هذا الوجه الملائكي ؛ وطال به التحديق والنظر لوجهها ؛ وأحس بشعور قوي وإصرار لمعرفة سر تلك النظرات الأليمة علي محياها ؛ ولكن حياءه وخجله منعه من أن يتطفل عليها و أن يحاول الأقتراب منها ؛ ولكن تفكيره في تلك الفتاة الحزينة أخذ يزيد حتي أنه تمني ألا يأتي القطار ليتمتع برؤية محياها ومحاولة الأستكشاف والوصول إلي سبب حزنها وبكاؤها الصامت الأليم ؛ وأفاق الأثنان علي صوت مسئول المحطة يشير إلي وصول القطار رقم " 758 " المتجه إلي الأسكندرية علي رصيف رقم " 5 ".
نهضت " ياسمين " تجر حقائبها للوصول إلي القطار وأحست بدوار خفيف ولكن سرعان ما حاولت التماسك حتي تصل إلي قطارها لتقذف بنفسها علي مقعدها المحجوز لها حتي تصل إلي جهتها المقصودة ؛و "المسافر المجهول " كان في تلك اللحظة مراقباً لخطواتها المتعثرة فدفعه دافع الرجولة والشهامة للأسراع لنجدتها متناسياً فضوله أو محاولته التقرب إليها ؛ فبادر بسؤالها عما إذا كانت تحتاج للمساعدة لأنه بالرغم من ولعه لمعرفة ما بها إلي أنه لا يحب أن يتطفل عليها أو يفرض نفسه بالقوة وعند سؤاله لها بالأحتياج للمساعدة لم تجد " ياسمين " سوي نظرات العطف في محياه والرجولة الحقة والرغبة الحقيقية في مساعدتها فاضطرت أمام إزدياد أحساسها بالدوار الشديد فأشارت له بالأيجاب وأعطته تذكرتها ليتبين رقم المقعد فساعدها في حمل حقائبها ؛ وجعلها تستند علي مرفقه حتي أراحها علي مقعدها ووضع الحقائب في موضعها المخصص لها ليجلس قبالتها في المقعد المقابل لها ؛ فبادرت بالتمتمة بعبارات الشكر وأعتذارها له بتأخيره عن سفره فطمئنها بأن وجهة سفره هي الأسكندرية علي نفس القطار الذي يستقلناه الآن وبأنه لا داعي لشكره؛ وبأنه سوف يبدل مقعده مع صاحب المقعد المقابل لها الأصلي حتي يعينها عند وصولهما ؛ وعندما رفضت عرضه رفضاً شديداً تفهم شعورها بالرغم من أنه لا يدري ما بها ؛ولكنه كان علي يقين بأن سبب ضعفها وحزنها أما لفراق حبيب أو لنهاية حب فاشلة ؛ فالمرأة عندما تنطفي ملامحها تكون بسبب تلك الأحتمالات ؛ فأجابها بأنه لن يتطفل عليها ولن يرغمها علي قبول أي مساعدة منه ؛ ولن يتحدث ولن يفرض نفسه عليها ؛ واخذ يرجوها أن يكون بجوراها في حالة الأحتياج لأي شئ وأستأذنها للنهوض لمحاولة الأستبدال وفراقها ؛ ولم تدري " ياسمين " لما أحست بفراق هذا " المسافر المجهول " وعند تأخره أخذت تنظر للجهة الخلفية لعله قادم ثم أخذت توبخ نفسها علي فعلتها هذه فهي لم تفق بعد من تجربتها الأليمة التي دفعتها للأحساس بعدم جدوي الحب وأن كلماته ما هي ألا شعور مزيف يستغل بها الرجل ضعف المرأة وأفتقادها للحنان ف " مدحت " قد خانها أولاً بأدعاءه الحب وذلك عكس ما يبطنه بداخله بل تخطي ذلك باستغلاله لعواطفها نحوه للوصول إلي أغراضه بما في ذلك زوجته الأمريكية والتي لقت حتفها معه وهي تحبه ولا تستشعر بحبه الزائف لها هي الآخري ؛ وبينما هي مستغرقة في أفكارها وأستنتاجاتها وجدته قد أتي ولم تدري لما استقبلته بأول أبتسامة صادقة علي محياها منذ وقت إبتلاءها وهي التي كانت تبتسم لأمها ولأبيها بأبتسامات زائفة حتي لا ترهقهما بقلقهما عليها ؛ وعندها لامت نفسها بشدة علي تلك الأبتسامة ؛ ولتخفف عن نفسها حدة سوط اللوم المتملك روحها فعللت بانها أبتسمت أعترافا بفضل الله أنه أرسله لها لمساعدتها في عز ضعفها وحرصه علي أن يظل بجوراها وقد آثر الصمت لمجرد الأطمئنان عليها بقربه منها ولكنها بدلا من شكره إلا أنها قابلت عرضه السخي بالمساعدة بالرفض وبينما تهم أن تنطق بكلمات الشكر مع الاعتذار عن رفضها مساعدته بكل حدة تمتلكها ؛ قاطعها قدوم مفتش القطار لمراجعة التذاكر فصمتت وهي تتلهف علي شكره والأعتذار علي حدتها في رفض عرض مساعدتها لتريح ضميرها الذي أخذ يؤنبها علي حدتها بعكس طبيعتها السمحة ؛ وبأنتهاء المفتش من الفحص بادرها هو بابلاغها أنه قام دون أستئذان منها فلقد سمح لنفسه بطلب كوبان من العصير المثلج حتي يروي عطشهما من حر أغسطس القاتل فلم يسعها سوي الأبتسام وتمتمت بكلمات الشكر العميق والأعتذار له عما بدر منها ؛ فرد عليها قائلاً : " لا داعي للشكر " ثم أثر الصمت مرة آخري إلي أن جاء النادل يحمل العصير وانتهيا من إحتساؤه ؛ ولم ينطق بأي كلمة آخري ؛ عكس ما هو متوقع من رفقاء السفر حيث يبادرون بقطع ملل سويعات السفر في التحدث بأي شئ لقتل الملل وبدلا من إجترار الماضي البالغ سواد الحزن وجدت نفسها تفكر في هذا " المسافر المجهول " وتصرفه الغريب فهي في البداية فسرت عرض مساعدته بحبه للتطفل عليها كما هو المعتاد من الرجال عندما يجدون فتاة بمفردها وامام تفسيرها هذا دفعها للحدة معه ؛ ووجدته أنشغل عنها بأحد الكتب الأجنبية وبمطالعتها للعنوان وجدته عن علم الفلك والأجرام السماوية والكتاب صادر من إحدي الجامعات البريطانية الشهيرة فبادرت بهدم جدار الصمت بمعول الأستفسار عن فحوي الكتاب وإذا كان هو مهتم بعلم الفلك وهنا أتصل الحديث و أسترسل وتناست " ياسمين " حزنها وأخذت تستقي بالحديث معه بمعلومات ثمينة وقيمة لم تعلمها من قبل ؛ مما ينم عن ثقافته وعلمه الغزير.
وأخيراً تم التعارف بينهما بأسماؤهما الأولي دون الدخول في تفاصيل شخصية كمجال العمل أو نوعية دراستهما وعرفها بأن اسمه " نور " كاتب واكتفي بذلك ؛ واسترسل الحديث بينهما ليسابق الزمن وصوت عجلات القطار الحديدية ليتنبهوا إلي الوصول إلي وجهتهما الأخيرة وقرب الفراق دون أمل في اللقاء ؛ وخيم الحزن علي وجهها مرة آخري ولم يكن ذلك بسبب أحزانها السابقة ولكن لأحساسها بالفراق الذي سوف يخلف شعور بأفتقاد لشئ مبهم لا تدري ما هو كنته ؛ وكان بداخل " نور " هو الآخر تنامي شعور بالأنقباض يعتصر قلبه وآخذ في التزايد ألم الفراق ل " ياسمين " يتزايد دون تحجيم منه ولا يعلم سر هذا الألم ؛ فبالرغم من أعتياده علي السفر بحكم عمله ومقابلته لأشخاص عديدة لم يتذكرهم أو يتذكر ملامحهم أبداً بعد الأفتراق والأنزلاق في دوامة العمل والحياة لإصراره الدائم علي الوصول إلي مستقبل ناجح محفور بيديه وأظافره في مجال الكتابة والأدب ؛ وأفاق " نور " علي أختفاؤها من أمامه ؛ فأخذ يجري كالمجنون ويلوم نفسه لشروده عنها وعدم التمتع برؤية وجهها ولو لآخر مرة حيث لا يعلم ما يخبئه القدر من لقاء آخر بها أم لا ؛ وعند وصوله إلي الشارع الخارجي لم يلمح سوي باب التاكسي يغلق خلفها وتناهي إلي سمعه صوتها الرقيق للسائق بواجهتها ؛ فأغتم للحظات ولكنه عاد لتدب أشعة السعادة لداخل قلبه لتنيره لانه أصبح يعلم الفندق الذي أتجهت إليه وستقيم فيه وأسمه ؛ رباه ولكن ما الجدوي من ذلك فاللحاق بها سيكون تطفلاً غير مقبول وغير محمود عواقبه معها ستشعر أنه يفرض وجوده عليها وجلياً أنها تريد الأختلاء بنفسها لمعالجة ما ألم بها!! أن هذا التصرف سوف يكون أهوج وينم علي طيش منه كبير بعكس شخصيته الرزينة ؛ وظل يفكر إلي أن وصل إلي الفندق بالفعل والذي يقيم فيه بصفة شبه أسبوعية دائمة ؛ حتي أن موظف الأستقبال أندهش لشروده علي غير عادته فهو دائما يبادره باسلوبه المرح ويداعبه ولكن اليوم وكأنما تبدل؛ ولم يدري " نور " كيف ملء الأستمارة للفندق أو كيف دخل للغرفة المخصصة له فهو لم ينتبه لذلك إلا عند أغلاق باب الغرفة من بعد دخوله ؛ وظل طوال الليل لا يفكر سوي في " ياسمين " تلك الفتاة الحزينة الساحرة وكيفية اللقاء بها مرة آخري ؛ هل يذهب إليها وينتظرها بقاعة الأستقبال للفندق الذي تقيم فيه إلي أن تأتي ويمثل مفاجأة رؤياها خاصة أنها لا تعلم بأنه تنامي لمسامعه صوتها وهي تنطق بأسم الفندق المتجهة إليه؟!! ؛ لا هذا ليس بتصرف عاقل سرعان ما تكشفه هي نظراً لما استشعره في حديثه معها من ذكاء لديها متقد فلن يخفي عليها ذلك ؛ إلي أن توصل مع خيوط الفجر البازغ بأنه سوف يرسل لها باقات الزهور يومياً ويراقبها من بعيد رد فعلها عند استلامها إياها أهو بالأيجاب أم بالسلب وحتي يعلمها بأهتمامه بها وانه اهتدي لمعرفة مكانها وحرصه علي الأطمئنان عليها وطمأنتها بوجوده الخفي في هيئة باقاته من الزهور؛ وعندما أراحه هذا التفكير نام قرير العين وفي مخططه التوجه إلي أكبر محل زهور بالأسكندرية .
وبالفعل في الصباح نهض نشيطاً بالرغم من أرق الليل ؛ ووجد نفسه يدندن بلحن عاطفي سعيد وأستقبل كل من يقابله بسعادة ومرح ؛ وأرسل الورد وكأنه قد أرسل باقة شوق وتلهف ولم يدري " نور " ما السر وراء ذلك الشعور الجارف نحوها وهو لا يعلم عنها شئ ؛ ولكنه لم يتوقف عند ذلك كثيراً حتي لا يفسد ذلك الشعور الغامض المتولد داخله خاصة أنه لا يعلم شعورها نحوه وهل هي تفتقده مثلما يفتقدها ؟ أم أن أحزانها قد أنستها الحديث وما دار بينهما ؟ وأستمر " نور " في أرسال الورود لها يومياً وأكتفاءه بتذييل بطاقة الباقة معنونة بـ " رفيق القطار " دون أمل أو طلب أستجابة منها ؛ بل أكتفي بالأختفاء وراء الجريدة عند قدومها وهو ينتظر في صالة الأنتظار ويملي ناظريه من حسنها بشوق دفين دون أن تلحظه ؛ واستمر حواره الصامت بالورود شهورا واستمر للعديد من السنين فهو كان يراقبها حتي بعد رجوعها للقاهرة وتعرف علي مسكنها وأيضاً مقر عملها والذي كان المقر الدائم لباقة ورودوه إلا أن علم بزواجها فأنقطع عن أرسال الورود أحتراما لقدسية زواجها برجل آخر وحتي لا يتسبب في أضطراب بينها وبين زوجها أو يهدم بيتها لمجرد الشعور بالعاطفة الجياشة نحوها ؛ فمضي هو الآخر في طريقه وتزوج إلي أن أطل وجه " ياسمين " المحبب إلي نفسه بعد تلك السنين وذلك من خلال تحقيق صحفي يتناول كيفية تربية الأطفال تربية سليمة وعلم من خلال التحقيق بأن لديها طفل وطفلة يمتلكان الكثير من حسن أمهما ؛ وبالرغم من مرور السنين وزواجه واستقراره العائلي في ظل ولديه وزوجته الحنون ونجاحه في مجال الكتابة وبزوغ أسمه " نور صالح "وتسابق دور النشر علي التعاقد معه لطباعة كتبه وقصصه الرومانسية الرائعة والبالغة العذوبة مما جعل لديه جمهور محب عريض من الجنسين ولكن الجنس الناعم كان الأغلب الأعم ؛ بالرغم من كل ذلك إلا أنه لم ينسي محياها فبمجرد رؤيته لصورتها تعرف عليها علي الفور كأن ما مضي يعد ساعات أو أيام قلائل وليس سنوات طويلة .
ومرت سنين آخري وطوت في جعبتها أحداث كثيرة في محيط عائلة " ياسمين " فلقد شب أبنها وأبنتها وأصبحا ثنائيهما الحبيب إلي قلبها هما كل حياتها ؛ فضحكتهما بالنسبة لها كفرحة أسراب العصافير الفرحة بقدوم العيد فيحملان كل الدفء والحب ليغمراها بلا حدود ؛ وكانت " ياسمين " حريصة كل الحرص علي أن تكون لهما الصديقة الحنون التي تنصت دائماً وابدا لأحلامهما ومشاكلهما فلا يجدا من يشاركونه الفرح أو الحزن سواها نظراً لغياب رب الأسرة دائما في أسفاره المتعددة مكافحا ليلبي مطالبهم دائماً ويوفر لهم سبل الراحة والامان ؛ وكانت " ياسمين " دائماً تعتنق فكر خاص بها بأن الأطفال ينبغي أن نحميهم ونراعاهم من مخاطر الأهواء والأنفس الغير سوية عن طريق تسليحهم بالقوة وليس بالضعف وأن يتولد لديهم شعور تلقائي بوجوب مشورة الأهل ولا يخلف ذلك لدي نفوسهم شعور بالقهر أو فرض الرأي من الامهات والآباء ؛ ولكنهم يعوا بأن ما يتلقوه منهم ما هو الا أرشادات وتعليمات يتعكزون بها في دربهم وأن يتدبروا تلك الأراء ؛ فلقد كانت أحد مبادئها بالتربية ؛؛
" مصادقة الأبناء هي سفينة النجاة لتصل بهم إلي مرسي الأمان "
فيشقون مستقبلهم بعدها بسواعدهم الحرة وتملؤهم الثقة بأنفسهم وقدراتهم ومهارتهم ومقدرتهم علي السير في طريق الكفاح الملئ بالأشواك وكلهم صبر وإيمان وعزيمة .
ولا تنسي أبداً " ياسمين " يوم أن جاءت " آنجي " أبنتها في أولي سنواتها الدراسية الجامعية لتسرد لها أول لقاء بينها وبين زميل لها علي قدر عالي من الرجولة والشهامة والذي ساعدها علي حمل أمتعتها الكثيرة التي تتطلبها " كلية الفنون الجميلة " من لوح وأدوات هندسية وخلافه ؛ مما يمثل لها عبء كل يوم ينتظرها بسبب ثقلهم الدائم ؛ لكن بالرغم من أنشغال الكثير من الزملاء بجوراها بحمل أمتعتهم للحاق بالأمتحان ؛ وبالرغم من أن أيضاً زميلها " شريف " المعني بالحديث يحمل أدوات تعادل ثقل أمتعتها بل قد تفوقها ثقلاً ؛ ولكنه بالرغم من ذلك بادر بمساعدتها نظراً لإجهادها الواضح للقاصي والداني نتيجة لنزلة البرد الحادة التي أصابتها مؤخراً ؛ ومع مرور الأيام أخذ حوار " آنجي " وجلستها مع أمها لا تدور سوي في فلك شخصية زميلها " شريف " ؛ وأستشعرت الأم بخبرة السنوات والزمن مدي تعلق أبنتها به ؛ وكم من لحظات كثيرة راودها الشك حول تلك الزمالة التي تستشعر بأنها تطورت إلي مشاعر بينهما ؛ فاستيقظ الماضي بين أضلع " ياسمين " ليقبض علي قلبها كقبضة مارد عتيد ؛ وتذكرت " مدحت " وتلاعبه بها وبمشاعرها وأفزعها هذا الهاجس ؛ وفزعت لما قد يؤول إليه مصير أبنتها كما آل لها مصيرها وتعذبها لسنوات من جراح الماضي الأليمة .
لذا حرصت " ياسمين " كل الحرص علي أن تستمع لابنتها باستمرار في محاولة لأن تستشف منها مدي جدية مشاعر " شريف " نحو أبنتها " آنجي " ؛ ولكي لا تقضي علي فرحة أبنتها عند التحدث عنه نحبها ؛ لم تبوح أمها لها بهواجسها ومخاوفها الفزعة ؛ وشاءت الظروف عند ذهابهما سوياً للنادي أن تلتقيه وتتعرف عليه حيث أنه أحد أعضاء النادي الرياضي معهم حيث شاهدته " آنجي " مصادفة وأستأذنت " ياسمين " في دعوته حتي تتعرف عليه ؛ فرحبت " ياسمين " أيم ترحيب نظراً لما لمسته من نظرات الرجاء في عينيها بقبول دعوتها له إلي مجلسهما ؛ فجاء " شريف " والقلق يعتريه من هذا اللقاء المفاجئ ؛ ولكن بعد لحظات قليلة ذاب الجليد وعم المرح المكان وظهرت السعادة علي وجوه الشاب والشابة البريئين كأنهما يطلا علي نافذة السعادة بالحياة من خلال قربهما ؛ وروح " ياسمين " المرحة أضفت المزيد من البهجة والسعادة علي القلوب الغضة ؛ وتعالت الضحكات كترانيم تخشع لمحبة الرحمن وتفيض بالسعادة الغامرة ؛ حتي أنهم تمنوا إلا ينتهي اللقاء ويستمر لزمن طويل ؛ تبددت شكوك " ياسمين " ومخاوفها وأطمن قلبها بمن أختاره قلب أبنتها ؛ وكم ضحكت كثيراُ " ياسمين" في سرها علي موقفها السابق منه ؛ ولا تدري لما في تلك اللحظة تجسد وجه " نور " أو " رفيق القطار " الذي حير عقلها لسنوات طوال ؛ وطفت ذكراه في تلك اللحظة أمام عينيها كأنه مشهد سينمائي يتجسد إليها لها وحدها ؛ فهو الشخص الوحيد الذي لم تنساه بالرغم من لقائهم العابر حتي أنها لا شعوريا أسمت أبنها وفلذة كبدها " نور " تيمنا بأسمه فهو كان كقبس من نور أضاء أكثر فترة مظلمة بحياتها ؛ وعند تساؤل الأهل والأحباب بالسؤال التقليدي لها عند ولادته عن تسمية المولود لفظت اسم " نور " وكأن الاسم أفاض علي وجهها الملائكي بمزيد من النور والجمال ؛ كم تمنت أن تحظي بلقاؤه أثناء أقامتها بالفندق بالأسكندرية بالماضي البعيد ؛ وعند انقطاع زهوره التي كانت تغلف بصمت مطبق لشهور وسنوات عدة وتساؤلات داخلية عما إذا كان شعر نحوها بمشاعر حتي وان كانت تحمل معني الألفة بسبب حديثهما بالقطار ولكن صمت الورود المرسلة إليها منه و كأنما تتحدث خفية بمعاني تحمل الكثير من مشاعر النبل والرجولة كعصور الفرسان بالروايات وأنقطع الأمل بداخلها لرؤياه ؛ ولطالما تساءلت هل هو سعيد في حياته؟ وسعادتها بما حققه من نجاح باهر في مجال كتاباته ؛ فهي بادرت بأقتناء كل كتبه بعد ان بحثت عن أسمه كثيرا بين الكتاب وكانت كتاباته كبزوغ شمس العذوبة فكانت رواياته تحمل رومانسية أفتقدتها البشرية وكأنما أعادها مرة آخري للأرواح والنفوس المعذبة؛ كم تمنت له السعادة الغامرة مع من يحبها وتحبه نظراً لما لمسته فيه من صفات الوفاء والاخلاص الدفين والمتأصل فيه فهي تجيد قراءة ما تخفيه السرائر فهي موهبة تملكها حباها بها الرحمن .
وأنتهت دراسة " آنجي " الجامعية ؛ وتخرج ولدها قبلها بعام " نور " من كلية " الأقتصاد والعلوم السياسية " والتي أستهوته الدراسة بها وولعه بالعمل والألتحاق بالسلك الدبلوماسي نظرا لما أظهره من نبوغ وتفوق أثني عليه كل أساتذته كما هو حال والدته " ياسمين " من قبل ؛والتحق " نور " بوظيفة مرموقة في وزارة الخارجية ؛ وجاء الدور علي " آنجي " والتي أجتهدت لتعمل بكبري الشركات المختصة بأعمال الديكور .
إلي أن جاءت " آنجي " يوما تخبرها بأن " شريف " يرغب بالأقتران بها رسميا ويريد تحديد موعد لمقابلة والدها للتقدم رسميا في حضور والده وعائلته ؛ ولم تشعر " ياسمين " سوي باحتضانها وهي تذرف دموع الفرحة وتقبلها ومداعبتها كأنها لازالت طفلتها الوليدة قائلة : أنني أصغر من أن تتزوج أبنتي ؛ ولن يصدق أهل " شريف " بأنني والدتك بل شقيقتك الصغري " وضحكا سويا ووعدتها بان تفاتح والدها وأن يتفرغ للموعد المشهود.
وجاء اليوم المنتظر والذي أستهل فجره وبزوغ مطلع شمسه بغناء " آنجي " بل بحركاتها الراقصة والتي تفيض بسعادة تضاهي ضياء الشمس ضياءا وبهاءاً ؛ كانت الفرحة تغمرها لأن هذا اليوم التاريخي سوف يتحدد موعد أتمام الخطبة رسميا ؛ وفي الموعد المحدد دقات قلب " آنجي " تعالت فوق دقات جرس الباب ؛ وساد المرح وعم المكان وتعالت الضحكات فتفاءلت وأستبشرت " ياسمين " خيراً بتوافق الأبوين وتيسير الأمور من رب العالمين ؛ وجاء دورها في الترحيب بالضيوف وعند أقبالها علي باب الصالون وبعد أن كانت تنطق بعبارات الترحيب توقفت عن إتمام الجمل ونسيت الكلام كله نظراً للوجه المألوف الذي طالما طاف في خيالها لسنوات عدة ؛ وقد أصبح مجسداً أمام عينيها الآن أنه ليس درب من دروب الخيال أو تهيؤات يحيكها لها عقلها ؛ السنين لم تغير فيه سوي القليل فهو " نور " أو " رفيق قطارها " الذي تمنت رؤيته وتلهفت علي معرفة أخباره من سنين ؛ هاهو الآن يمزح مع زوجها ويحضر لخطبة أبنه لأبنتها ؛ أبنه الذي يحمل من صفاته الكثير ؛ فتدراكت الأمر سريعاً حتي لا يلحظ أو يشك أحد ؛ وتعللت بأن تأثير أن تكون أم العروس قد طغي عليها بالفرحة فألجمت كلماتها ؛ فضحك الجميع وبدأ التعارف بينهما وكأنما تلك هي لحظات تعارفهم الأولي ؛ فلا يدري أحد من الحاضرين هذا المشهد بلقائهم المتقد من سنوات طوال ؛ ولم تجد " ياسمين " في عيون " نور " سوي نظرات أحترام وتقدير لها لرؤيتها بلمعة مستقرة في عينيه وسعادة صامتة لا يستطيع أن يبوح بها حتي لنفسه ؛ وحتي لا يشعر بمشاعر جلد الذات للخيانة لزوجته حتي وان كانت بنظرة سعادة أو أن تري " ياسمين " سعادته بلقاء طالما تمناه من سنين ؛ خاف عليها من نفس الاحساس تجاه زوجها الذي رأي فيه الأب الحنون والزوج المخلص خاصة بعد علمه بأن شقيق العروس اسمه " نور " مثله ففرح قلبه بالخفاء .
وجري اللقاء رسميا في البداية ليتحول لجلسة عائلية حميمة كانهم دائمي الأجتماع مما أضئ في النفوس بكل البشر والألفة والسرور ؛ وأتفقوا جميعاً علي موعد للخطبة ويليه الزواج نظراً لأرتباط " شريف " بعقد عمل هام للغاية للخارج وتمنيه أن يصحب زوجة المستقبل معه لينهلا معا من رحيق الكفاح حلوه ومره سوياً.
وفي حفل الزفاف تلاقي " ياسمين " و " نور " سوياً في أحد الأركان وقد طغت سعادة غامرة علي وجهيهما يراها البعض بسبب زفاف الابناء ويعلم الله أنها بسبب اللقاء دون ميعاد ؛ وأفاضت أبتسامتها الملائكية كفيضان من نور ذكرته بأول أبتسامة منها له في القطار وكأنه كما رآها أول مرة وأزدادت سعادته أضعاف فهي لم تزد عن قولها ...
" ولا تزال زهورك في قلبي ؛؛؛؛ "
" تمت "
بقلم : رشا سالم