GilbertKeith

Share to Social Media

أضفى وميضٌ من البرق بياضًا شاحبًا على الغابة الرمادية؛ ليُحدد معالم كل أوراق
أشجارها المُجعَّدة حتى آخر ورقةٍ فيها، كما لو كان ينسخها، وكأنَّ تفاصيلها صارت
مرسومة بقلمٍ فضِّي أو منحوتةً من الفضة. والتقط الوميض الخاطف ذاته، الذي بدا أن
البرق يصوِّر به ملايين الأشياء الدقيقة في وهلةٍ خاطفة، كلَّشيءٍ بدءًا من النُّفايات الأنيقة
للنُّزهة العائلية التي كانت متناثرة تحت الشجرة المتفرعة الممتدة، وصولًا إلى المدى الشاحب
للطريق المتعرِّج، الذي كانت تنتظرُ في نهايته سيارةٌ بيضاء. وعلى مسافةٍ بعيدة، يقبع قصرٌ
كئيبٌ ذو أربعة أبراج أشبه بقلعةٍ، وبدا في المساء الرمادي مُجرَّدَ كومةٍ خافتة بعيدة من
الجدران أشبه بسحابةٍ متداعية، وكأنَّه ظهر فجأةً في مُقدِّمة المنظر الطبيعي، فيما وقف
شامخًا بأسطحه المتراصة ونوافذه البيضاء اللامعة. وفي هذه، على الأقل، بدا أنَّ وميض
البرق ينقل رسالةً ذات مغزًى معيَّن؛ لأنَّ بعضأولئك الذين كانوا مجتمعين تحت الشجرة
كان يظن أن تلك القلعة شيءٌ قد تضاءلت أهميته وكاد أن يُنسى، لكنَّها أثبتت قدرتها على
البروز مرَّةً أخرى فجأةً في مقدمة حياتهم.
وسَطَع الوميضذاته، بالروعة الفضية ذاتها، سطوعًا خاطفًا على قامةٍ بشرية واحدة،
على الأقل، واقفة أسفل هذه الشجرة بلا حراكٍ كأحد الأبراج. كانت تلك قامةَ رجلٍ طويل
يقفُ أعلى من بقية الآخرين الذين كان معظمهم إمَّا جالسًا على العشب وإما منحنيًا لجمع
السِّلال والأواني الفخارية. وقد ارتدى عباءةً قصيرةً مبهرةً أو هي قَبَاء مشبوك من أعلاه
بإبزيمٍ وسلسلة فضيين توهَّجا كنجمٍ حين سطع عليهما الوميض. بينما كانت هيئته الواقفة
بلا حراك تحمل طابعًا معدنيٍّا أبرزته حقيقةُ أنَّ شعره ذا التموُّجات الكثيرة المتقاربة كان
أصفر اللون لامعًا يُمكن وصفه بأنَّه ذهبيٌّ حقٍّا، وبدا أصغر سنٍّا من وجهه، الذي كان
وسيمًا بإطلالةٍ حادة كقسمات النَّسر، لكنَّه بدا، تحت وقع الوميضالقوي، متجعدًا وذابلًا
قليلًا. وربما كان يكابد مشقة ارتداء قناعٍ من مستحضرات التجميل؛ لأنَّ صاحبه، المدعو
هوجو رومين، واحدٌ من أعظم الممثلين في عصره. وفي الوهلة التي سقط فيها هذا الوميض
عليه، بدا أنَّ تموُّجات شعره الذهبية وقناعه العاجي وزينة ثوبه الفضِّية جعلته يلمع كحُلَّةٍ
حديدية واقية، ولكن في اللحظة التالية صارت هيئته أشبه بجسد اختفت تفاصيله وسط
اللون الرمادي الشاحب لسماء المساء المُلبَّدة بالغيوم.
غير أنَّ شيئًا ما في ثباته هكذا كالتمثال ميَّزه عن أولئك الجالسين على الأرضبجواره؛
إذ أبدى كلٌّ منهم الحركات الطبيعية التلقائية عند رؤية وميضالبرق المُفاجئ؛ لأنَّ ذلك كان
الوميضالأول في تلك العاصفة الرعدية مع أنَّ السماء كانت مُلبَّدة بغيومٍ كثيفة. فالسيدة
الوحيدة التي كانت في هذا الجَمع — والتي كان مظهرها المتوجُ بشعرٍ رمادي أنيق، وقد
بدت شديدة الفخر به، يشير بوضوحٍ إلى أنَّها امرأة متزوجة وَقورٌ في منتصف العمر من
الولايات المتحدة — أغمضت عينيها وصرخت صرخةً حادةً بعفوية، بينما نَظَر زوجها
الإنجليزي، الجنرال أوترام — الذي كان رجلًا شديدَ تبلُّدِ الإحساس ذا أصولٍ بريطانية
هندية ورأسٍ أصلع وشاربٍ أسود وسوالف ذات نمطٍ قديم — إلى السماء بحركةٍ فجائيةٍ
حادةٍ ثم استأنف انشغاله بتنظيف مكان جلوسهم وترتيب السِّلال والأواني. وكان معهما
شابٌّ ضخم البنيان وشديد الخجل ذو عينَين بُنِّيتَين أشبه بعيني كلب، يُدعى مالو، أسقط
كوبًا من يده عند رؤية الوميض، واعتذر شاعرًا بالحرج، وبصحبتهم أيضًا رجلٌ ثالث أكثر
أناقةً بكثير وذو رأسٍيوحي بعزيمة وإصرار، كرأسكلبٍ فضولي من سلالة الترير، وشعرٍ
رمادي مُصفَّف إلى الوراء بثبات، وهو السير جون كوكسبر المالك الشهير لإحدى الصُّحُف،
الذي تفوَّه عند رؤية الوميضبألفاظٍ نابية بلا حرج، لكنَّها لم تكن بلُغةٍ أو لكنة إنجليزية؛
لأنَّه كان من مدينة تورنتو الكندية. بينما ظل الرجل الطويل ذو العباءة القصيرة ثابتًا
كتمثالٍ في الشفق حرفيٍّا؛ إذ بدا وجهه النَّسري تحت وقع الوميض اللامع كوجه تمثالِ
إمبراطورٍ روماني، ولم يرمش جفناه المنحوتان على الإطلاق.
وبعد برهة، انشقت القبة السماوية القاتمة انشقاقًا مصحوبًا بهزيم الرعد، وبدا أنَّ
الحياة دبَّت في ذلك التمثال؛ إذ التفت مُشيحًا بنَظَرِه من فوق كتفه وقال بعدم اكتراث:
نحو دقيقة ونصف دقيقة تفصل بين الوميض والهزيم، أظنُّ أنَّ العاصفة تقترب، »
ولن تكون الشجرةُ مظلةً نافعةً تَقينا البرق، لكننا سنحتاج إليها عاجلًا كي تحمينا من
«. المطر. أظنُّ أنَّ الأمطار ستغمرنا كالطوفان
ألا يوجد أيُّ » : فنظر الشاب مالو إلى السيدة نظرةً خاطفة بقليلٍ من القلق، وقال
«. مأوًى نحتمي به؟ يبدو أنَّ هناك منزلًا
صحيحٌ أنَّ هناك منزلًا، لكنَّه ليس ما تحسبه فندقًا مضيافًا » : فأحبطه الجنرال قائلًا
«. على الإطلاق
من الغريب أنَّنا سنَعلِق وسط عاصفةٍ رعدية من دون وجود » : فقالت زوجته بحزن
«. منزلٍ قريب سوى ذلك البيت، من بين جميع البيوت الأخرى
وبدا أنَّ شيئًا ما في نبرتها يمنع الشاب الأصغر، الذي كان حسَّاسًا وفطنًا، عن الحديث
بشأن ذلك المنزل، ولكن لاشيء من هذا القبيل رَدَع الرجل الكندي القادم من تورنتو.
«. ما خطبُ ذلك المنزل؟ يبدو كأنَّه أطلال » : إذ تساءل قائلًا
«. هذا المكان مِلكُ ماركيز مارن » : فقال الجنرال بواقعيةٍ تحمل قدرًا من الدُّعابة
هيَّا! لقد سمعتُ كل شيء عن هذا الرجل المميَّز على أيِّ » : قال السير جون كوكسبر
حال، وهو رجلٌ غريب أيضًا. لقد اخترتُه موضوعًا لتقريرٍ غامض في الصفحة الأولى في
«.« النبيل الذي لا يعرفه أحد » : العام الماضيبعنوان « ذا كومِت » صحيفة
نعم، لقد سمعتُ عنه أيضًا. يبدو أنَّ سبب اختبائه » : فقال الشاب مالو بصوت خفيض
هكذا مُحاطٌ بكل أنواع القصص الغريبة؛ إذ سمعتُ أنَّه يرتدي قناعًا لأنَّه مجذوم؛ لكنَّ
شخصًا آخر قال لي بجديَّةٍ شديدة أنَّ ثَمة لعنةً مُسلَّطة على الأسرة؛ لعنةً أسفرت عن إنجاب
«. طفلٍ بعيبٍ خلْقي مخيف فاضطروا إلى إخفائه في غرفة مظلمة
ماركيز مارن لديه ثلاثة رءوس، ومن النوادر التي » : فعلَّق رومين بجِديَّة حادة قائلًا
لا تحدث سوى مرَّةٍ كل ثلاثمائة عام أن يُزيِّن نبيلٌ ذو ثلاثة رءوس شجرة العائلة، ولا
يجرؤ أيُّ إنسانٍ على الاقتراب من ذلك المنزل الملعون باستثناء موكبٍ صامت من بائعي
وهنا طرأ — «… القُبَّعات، الذين يُرسلَون لإمداد المنزل بعددٍ هائل من القبعات، ولكن
على نبرته أحد تلك التغيُّرات العميقة الرهيبة التي يمكن أن تُثير تشويقًا في المسرح —
«. يا أصدقائي، هذه القبعات ليست كالقبعات التي يعتمرها البشر »
فنظرت إليه السيدة الأمريكية بعبوسٍ وانطباعٍ طفيف من عدم الثقة، كأنَّ حيلته
الصوتية أثارتها رغمًا عنها.
«. لا أحبُّ مزاحك المروِّع. وأتمنَّى ألَّا تمزح في هذا الشأن عمومًا » : وقالت
اللواء » سمعًا وطاعة، ولكن هل ليس من حقي حتى، كمقاتلي » : فأجاب الممثل
«؟ أن أعرف السبب ،« الخفيف
السبب أنَّه ليس النبيلَ الذي لا يعرفه أحد، بل أعرفه شخصيٍّا، أو على وجه » : أجابت
الدقة كنت أعرفه معرفةً قويةً عندما كان مُلحقًا دبلوماسيٍّا في واشنطن قبل ثلاثين عامًا،
حين كُنَّا جميعًا شبابًا، ولم يكن يرتدي قناعًا، أو على الأقل لم يرتدِ قناعًا وهو معي. ولم
يكن مجذومًا، مع أنَّه يعيش شِبه منعزل، ولم يكن لديه سوى رأسٍ واحد وقلب واحد
«. فقط، لكنَّه صار قلبًا مفطورًا
لا شكَّ أنَّ السبب قصةُ حبٍّ تعيسة، أرغب في نشر ذلك في صحيفة » : فقال كوكسبر
«.« ذا كومت »
سأعتبرُ افتراضَك أنَّ النساء دائمًا ما يكُنَّ السبب وراء فَطرِ قلوب » : فأجابت بتمعُّن
الرجال؛ إطراءً لنا. ولكن توجد أنواعٌ أخرى من الحب وفواجع الفقدان. ألم تقرأ قصيدة
التي كتبها الشاعر ألفريد تنيسون من قبل؟ ألم تسمع قَط عن ديفيد « إن ميموريام »
وجوناثان؟ إن ما فَطَر قلب مارن المسكين هو موت أخيه؛ صحيحٌ أنَّه كان ابن عمه في
الواقع، لكنَّه تربَّى معه كأخيه، بل كان كلٌّ منهما أقربَ كثيرًا إلى الآخر من معظم الإخوة.
لقد كان جيمس ماير، وهذا هو اسم الماركيز حين كنتُ أعرفه، هو أكبرهما سنٍّا، لكنَّه دائمًا
ما كان الطرف المُتعبِّد في هذه العلاقة، بينما موريس ماير هو الطرف المعبود. وعلى حد
قول جيمس، كان موريسأعجوبةً من عجائب الزمن.صحيحٌ أنَّ جيمسلم يكن أبله، وهو
يُتقِن أداء مهام وظيفته السياسية، ولكن بدا أنَّ موريس أيضًا يستطيع فعل ذلك بل كل
شيء آخر أيضًا؛ إذ إنَّه كان فنانًا بارعًا وممثلًا وعازفًا هاويًا، وما إلى ذلك. وجيمس نفسه
كان وسيمًا جدٍّا؛ كما أنه طويل وقوي ونشيط وله أنف عالي القصبة، وأتصور أنَّ الشابات
كنَّ يرَيْنه جذَّابًا للغاية بلحيته المشطورة إلى نصفين متَّصلين بسالفتَيْن كثيفتَيْن على نمط
تلك العصور الفيكتورية، لكنَّ موريس كان حليق الوجه، وكان شديد الوسامة بالطبع،
حسب اللوحات التي رأيتُها لوجهه، مع أنَّ مظهره كان أقرب إلى المغنِّين منه إلى المظهر
المفترض للنبلاء. وكان جيمس دائمًا ما يسألني مرارًا عمَّا إذا كان صديقه رائعًا للغاية،
وهل يُمكن لأيِّ امرأة ألَّا تقع في حبه، وما إلى ذلك، حتى أصبح الأمر مملٍّا بعض الشيء،
غير أنَّه تحوَّل فجأةً إلى مأساة؛ لقد بدت حياته كُلُّها مكرَّسة لتعلُّقه الشديد بموريس الذي
كاد يعبده، وذات يوم، انهار ذلك المعبود وتحطَّم كأيِّ دميةٍ من الخزف. انقباضة باردة
«. عند شاطئ البحر، وانتهى كلشيء
«؟ وهل انزوى هكذا بعد ذلك » : فسأل الشاب
لقد سافَر بعيدًا في البداية إلى آسيا وجُزر آكلي لحوم البشروأماكن أخرى لا » : فأجابت
يعلمها إلَّا لله؛ فهذه الفواجع المُهلِكة تزجُّ بالمفجوعين إلى مصائر شتى. وقد دفعته فاجعته
إلى الانفصال أو الانعزال التام عن كلِّشيء، حتى عن التقاليد وعن الذاكرة قدر الإمكان؛ إذ
لم يستطع تحمُّل أي إشارةٍ تُذكِّره بعلاقته القديمة بالفقيد؛ لا لوحة ولا حكاية ولا حتى
علاقة من أيِّ نوع. ولم يستطع تحمُّل إقامة جنازةٍ عامة كبيرة. لقد رَغب بشدةٍ في الابتعاد،
وبقي بعيدًا عشرسنوات. وقد سمعتُ بعضَالشائعات بأنَّه تعافى قليلًا في نهاية وجوده في
الخارج، ولكن حين عاد إلى منزله، انتكس تمامًا، واستقرَّت به الحال إلى سوداويةٍ دينية،
«. وهذا شِبه جنون في الواقع
يُقال إنَّ القساوسة سيطروا عليه. وقد عرفتُ أنَّه تبرَّع » : فقال الجنرال المُسن متذمرًا
بالآلاف لإنشاء دير، فضلًا عن أنَّه هو نفسه يعيش كراهب، أو ناسكٍ، لا فارق بينهما. لا
«. أفهم ما الخير الذي يعتقدون أنَّه سيأتي من وراء ذلك
هذه خرافاتٌ ملعونة، يجب أن تُفضَح مثل هذه الأشياء. فها هو » : فتذمَّر كوكسبر قائلًا
رجل ربما كان سينفع الإمبراطورية والعالم، لكنَّ مصَّاصيالدماء سيطروا عليه وما زالوا
«. يمتصُّونه حتى يجف. أراهنُ على أنَّهم، بمعتقداتهم الشاذة، لا يسمحون له ولو بالزواج
كلَّا، لم يتزوج قط. صحيحٌ أنَّه كان خاطبًا حين كنت أعرفه، لكنِّي » : فقالت السيدة
لا أظنُّ أنَّ الزواج كان ضِمن أولوياته على الإطلاق، وأتصورُ أنَّ مسألة زواجه ذهبت أدراج
الرياح حين ذَهَب كلُّشيءٍ آخر في حياته. فمثل هاملت وأوفيليا؛ فقدَ قدرته على الحب لأنَّه
فقدَ قدرته على الحياة، لكنِّي كنت أعرف مخطوبته، أو على وجه الدقة، ما زلتُ أعرفها.
وليكن هذاسرٍّا بيننا، كانت مخطوبته هي فيولا جرايسون، ابنة الأدميرال المُسِن. ولم تتزوج
«. قَط أيضًا
هذه فضيحة! رجسٌشيطاني! هذه ليست مجرَّد » : فصاح السير جون وهو يهبُّ واقفًا
مأساة، بل جريمة. إنني مُكلَّفٌ بواجبٍ تجاه جمهور القُرَّاء، وأعتزم أن أكشف كلَّ تفاصيل
«… هذا الكابوس السخيف. في القرن العشرين
كاد السير يختنق من فَرط تذمُّره، ثم حلَّصمتٌ لحظي، قبل أن يقول الجنرال المُسِن:
حسنًا، أعترفُ بأنني لستُ على درايةٍ كبيرة بهذه المسائل، لكنِّي أرى أنَّ هؤلاء »
«.« دع الموتى يدفنون موتاهم » : المتدينين يجب أن يتأملوا آيةً تقول
مع الأسف، هذا فقط ما يُعبِّر عن تلك المسألة بالضبط. إنَّها » : فقالت زوجته بتنهيدةٍ
«. كقصةٍ مخيفةٍ عن ميتٍ يدفن ميتًا مرارًا وتكرارًا إلى الأبد
لقد تجاوزتنا العاصفة؛ لذا لن تضطري » : قال رومين بابتسامة غامضة بعضالشيء
«. إلى زيارة المنزل غير المضياف رغم كلشيء
فارتجفت فجأةً.
«! آه، لن أزوره مرة أخرى أبدًا » : وصاحت
كان مالو يُحدِّق إليها.
«؟ مرَّة أخرى! هل حاولتِ زيارته من قبل » : ثم صاح قائلًا
حسنًا، لقد فعلت ذلك مرَّة واحدة، لكننا لسنا مضطرين إلى العودة إلى ذلك » : فقالت
«. الموضوع. لم تعُد السماء تُمطر، وأظن أنَّنا من الأفضل أن نعود إلى السيارة
وبينما تحرَّكوا صفٍّا نحو السيارة، سار مالو والجنرال في المؤخرة، وقال الأخير فجأةً
بصوتٍ خفيض:
لا أريد أن يسمعنا ذلك النذل القصير كوكسبر، ولكن بما أنك قد سألت، فمن »
الأفضل أن تعرف. إنَّه الشيء الوحيد الذي لا أستطيع أن أسامح مارن عليه، لكنِّي أظن
أنَّ هؤلاء الرهبان درَّبوه على ذلك. لقد ذهبت زوجتي التي كانت أفضل صديقةٍ حظي بها
على الإطلاق في أمريكا، بالفعل إلى ذلك المنزل، حين كان يتمشَّى في الحديقة، وهو ينظر
إلى الأرض كراهبٍ، وكان مستترًا بقلنسوةٍ سوداء سخيفةٍ كأيِّ قناع، وقد أعطت زوجتي
الخادم بطاقتها التعريفية عند البوابة، ووقفت في مسار مارن مباشرةً، لكنَّه تجاوزها بلا
أيِّ كلمة أو نظرة حتى، كأنَّها مجرد حجر. لم يكن بشرًا، بل بدا كإنسانٍ آلي مُخيف. ويحق
«. لها أن تصفه بالرجل الميت
هذا الأمر برُمته شديد الغرابة، إنَّه ليسک… كما كنت » : فقال الشاب ببعضالغموض
«. أتوقَّعه
وحين غادر السيد مالو الشاب تلك النزهة الكئيبة، ذهب للبحث عن أحد أصدقائه
مستغرقًا في التفكير. ولم يكن يعرف أيَّ رهبان، لكنه كان يعرف قسٍّا، وكان متلهِّفًا
لإخباره بالمعلومات الغريبة التي سمعها عصر ذلك اليوم. حيث شعر بأنَّه يودُّ معرفة
حقيقة الخرافات القاسية التي خيَّمت على منزل مارن، كالسحابة الرعدية السوداء التي
رآها تحوم فوق ذلك المنزل.
وبعدما ظلَّ يُحال من مكانٍ إلى آخر، عثر أخيرًا على صديقه الأب براون في منزل
صديقٍ آخر كاثوليكي روماني ذي عائلةٍ كبيرة؛ إذ دخل باندفاعٍ مفاجئ بعضالشيء ليجد
الأب براون جالسًا على الأرضبقسَماتٍ جادة، ويحاول تثبيت قبعةٍ مزهرة خاصة بدُميةٍ
شمعية على رأس دُميةِ دبٍّ.
شعر مالو بتناقضٍطفيف، لكن المسألة كانت تستحوذ عليه بشدة حتى إنَّه لم يستطع
تأجيل المحادثة ما دام قادرًا على تجنُّب تأجيلها، وظلَّ عقله يترنَّح كأنَّه تعثَّر بعقبةٍ في
لاوَعْيه بعض الوقت. ثم سَرَد تفاصيل مأساة منزل مارن كاملةً كما سمعها من زوجة
الجنرال، مع إضافة معظم تعليقات الجنرال ومالك الصحيفة.
وبدا أنَّ ذِكرَ مالك الصحيفة خلق جوٍّا جديدًا من الاهتمام. لم يكن الأب براون يعرف
أنَّ تصرُّفاته آنذاك كانت مثيرةً للضحك أو تافهة، ولم يُبالِ بذلك؛ إذ ظلَّ جالسًا على الأرض،
حيث جعله رأسه الكبير وساقاه القصيرتان يبدو كطفلٍ يلهو بالدمى، ولكن ظهرت في
عينيه الرماديتَين الواسعتَين نظرةٌ شوهدت في أعين رجالٍ كثيرين في عدة قرون على مرِّ
تاريخٍ عمره ألف وتسعمائة عام، باستثناء أنَّ أولئك الرجال عادةً ما كانوا لا يجلسون
على الأرض، بل إلى طاولات مجالس، أو على مقاعد اجتماعات رجال الكنائس، أو عروش
الأساقفة والكرادلة؛ نظرةٌ شاردة مؤرَّقة مُثقَلة بتواضعٍ أمام حِملٍ ثقيل يفوق طاقة
الرجال، ويُمكن القول إنَّ بعض النظرات المهمومة المُتطلِّعة من هذا القبيل قد ظهرت في
أعين بعضالبحَّارة وأولئك الذين قادوا سفينة القديسبطرسعبر كمٍّ هائل من العواصف.
أحسنت صُنعًا بإخباري بذلك. أنا ممتنٌّ جدٍّا لك؛ لأنَّنا قد نضطر إلى فعل » : قال القس
شيء حيال الأمر. لو كانت القضية تقتصر على أمثالك أنت والجنرال، لربما كانت مجرد
مسألة خاصة، ولكن إذا كان السير جون كوكسبر سينشرقصصًا مرعبة عنها في صحيفته
… حسنًا، إنَّه عضوٌ في الأخوية البرتقالية البروتستانتية في تورنتو، ولا يمكن ألَّا نتدخل في
«. هذه القضية
«؟ ولكن ما قولُكَ فيها » : فسأله مالو بقلق
أول ما ينبغي قوله عنها إنَّها لا تبدو حياة، حسب روايتك. لنفترض » : قال الأب براون
جدلًا أننا جميعًا مصاصو دماء متشائمون يفسدون سعادة الإنسان كلَّها، ولنفترضأنني
وبينما حكَّ أنفه بدمية الدب، أدرك ذلك التناقض الموجود في «. مصاص دماء متشائم
ولنفترضأننا نمزِّق الروابط البشرية والعائلية كلها. » : هيئتها وتركها من يده. ثم أضاف
فلِمَ عسانا أن نعاودَ إقحام رجلٍ في رابطةٍ عائلية قديمة في الوقت الذي بدا فيه أنَّه بدأ
يتحرَّر من أغلالها؟ من المؤكَّد أنَّه ليس من الإنصاف اتهامنا في آنٍ واحد بسحقِ مثل هذا
التعلُّق الشديد وتشجيع مثل هذا الوله. ولا أفهم حتى لماذا يوصف هذا النوع تحديدًا من
الهوسبأنَّه هوسٌديني، أو كيف يمكن للدين أن يزيد هذا الهوسإلَّا إضاءةً ببصيصٍمن
«. الأمل
«. أودُّ التحدُّث إلى ذلك الجنرال الذي ذكرتَه في كلامك » : ثم قال بعد سكوتٍ لحظي
«. إنَّ زوجته هي التيسَرَدت القصة » : فقال مالو
هذا صحيح، لكنَّ اهتمامي بما لم يقُله لك الجنرال يفوق اهتمامي بما » : قال القس
«. قالته زوجته
«؟ أتظنُّ أنَّه يعرف أكثر ممَّا تعرفه زوجته » : سأله مالو
بل أظنُّ أنه يعرف أكثر ممَّا قالته. لقد قُلتَ إنَّه تحدَّث عن » : فأجاب الأب براون
مسامحته مارن على كلِّ شيءٍ باستثناء فظاظته تجاه زوجته. فما الأشياء الأخرى التي
«؟ سامَحه عليها
كان الأب براون قد قام من فوق الأرض ونَفَض ثيابه الفضفاضة العديمة الشكل،
ووقف ناظرًا إلى الشاب بعينين مُدقِّقتين وقسماتٍ متحيِّرة قليلًا، ثم استدار والتقط مظلته
العديمة الشكل أيضًا وقبعته الرثة الكبيرة، وسار في الشارع بخطًى صاخبة قوية.
ظلَّ القسُّ يسير هكذا عبر عدة شوارع وميادين واسعة حتى وصل إلى منزلٍ حسن
حيث طلب من الخادم رؤية الجنرال أوترام، ،« ويست إند » المنظر قديم الطراز في منطقة
وبعد قليلٍ من الثرثرة التي سمعها بينما كان منتظرًا، رافقه الخادم نحو غرفةٍ مكتبية لم
تكن تحوي كُتُبًا بقدر ما تحوي من خرائط ومجسَّماتٍ للكرة الأرضية؛ حيث كان الجنرال
ذو الأصول البريطانية الهندية والرأس الأصلع والشارب والسالفتين السوداوين يجلس
وهو يُدخِّن سيجارًا طويلًا رفيعًا أسود اللون ويعبث بالدبابيس على إحدى الخرائط.
آسفٌعلى التطفُّل، بل أنا أشدُّ أسفًا لأنني لا أستطيع أن أجعل هذا التطفل » : قال القس
لا يبدو تدخُّلًا. أريد أن أتحدث إليك عن مسألةٍ خاصة؛ من أجل إبقائها خاصة ليس إلَّا.
وذلك لأنَّ بعض الأشخاص سيكشفونها لعموم الناس على الأرجح. أظنُّك، أيُّها الجنرال،
«؟ تعرف السير جون كوكسبر
كانت الكتلة السوداء التي يُشكِّلها شعر الشارب والسالفتين بمثابة قناعٍ يُغطِّي
النصف السفلي من وجه الجنرال المُسِن؛ لذا دائمًا ما كان من الصعب رؤية ابتسامته من
عدمها، لكنَّ عينيه البُنيتين كثيرًا ما كانتا تلمعان ببريقٍ مُعيَّن.
«. أظنُّ أنَّ الجميع يعرفه، لكنِّي لا أعرفه معرفةً قوية » : فقال
حسنًا، إذن فأنت تعرف أنَّ الجميع يعرف كلَّ ما يعرفه » : فقال الأب براون مبتسمًا
السير، حين يراه مناسبًا للنشر. وقد فهمتُ من صديقي السيد مالو، الذي أظنُّك تعرفه، أنَّ
تحت ،« لغز مارن » السير جون سينشر مقالاتٍ لاذعة ضد رجال الدين بناءً على ما يُسمِّيه
«. أو ما شابه ،« الرهبان يدفعون الماركيز إلى الجنون » عناوين على غِرار
إذا كان سيفعل هذا، فلا أفهم لماذا أتيتَ إليَّ بخصوصذلك. يجب » : فأجاب الجنرال
«. أن أخبِرَك بأنِّي بروتستانتي متعصب
إنني شديد الإعجاب بالبروتستانت المتعصبين؛ لقد أتيتُ إليك لأنني » : فقال الأب براون
واثقٌ في أنَّك ستقول الحقيقة، وآمل ألَّا تكون قلةُ ثقتي في السير جون كوكسبر فظاظةً
«. منِّي
فتلألأت العينان البُنيتان مرَّة أخرى، لكنَّ الجنرال لم يقُل شيئًا.
أيُّها الجنرال، لنفترض أنَّ كوكسبر أو أحدًا على شاكلته كان » : ثم قال الأب براون
يعتزم أن يملأ الدنيا بقصصٍرنَّانة ضد بلدك ورايتك. ولنفترضأنَّه قال إنَّ كتيبتك فرَّت
في المعركة، أو إنَّ مقاتليك متواطئون سرٍّا مع الأعداء، فهل كنت ستتركُ أيَّ شيءٍ يحول
بينك وبين معرفة الحقائق التي تدحضادِّعاءاته؟ أم كُنت ستبحث عن الحقيقة مهما كان
الثمن الذي سيتكبَّده أيُّ شخص؟ حسنًا، ها أنا أيضًا لديَّ كتيبةٌ وأنتمي إلى جيش، وسمعة
هذا الجيشستُدنَّسبقصةٍ أنا متيقنٌ من أنَّها زائفة، لكنِّي لا أعرف القصة الحقيقية. فهل
«؟ ستلومني على محاولة معرفتها
كان الجنرال صامتًا، بينما واصل القسُّ كلامه قائلًا:
لقد سمعتُ القصة التي سُرِدت على مالو البارحة عن انزواء مارن بقلب مفطور »
بسبب وفاة ابن عمه الذي كان أقرب إليه من أخيه. وأنا متيقِّنٌ من وجود مزيدٍ من
«. التفاصيل الخفية في تلك القصة؛ لذا جئتُ لأسألك عمَّا إذا كنت تعرف المزيد
«. كلَّا، لا أستطيع إخبارك بالمزيد » : فقال الجنرال باقتضاب
كنت ستصِفني بأنني يسوعيٌّ لو استخدمتُ » : فقال الأب براون بابتسامةٍ عريضة
«. هذه التورية
فضحك الجنرال بفظاظة، ثم زمجر بعدوانيةٍ أشد بكثير.
«؟ حسنًا، لن أخبرك إذن. فما قولُك في ذلك » : وقال
«. سأكتفي بالقول إنني أنا الذي سأخبرك في هذه الحال » : قال الكاهن بلُطف
فحدَّقت العينان البنيتان إلى القس، لكنَّ البريق تلاشىمنهما. ثم أضاف:
أنت تجبرني —ربما بأسلوبٍ أقل تعاطفًا ممَّا كُنتَ ستُخبرني به — على ذِكر الأسباب »
التي تشير بوضوحٍ إلى وجود مزيدٍ من التفاصيل الخفية في هذه القصة؛ فأنا على يقينٍ
تام بأنَّ وراء اكتئاب الماركيز وانعزاله سببًا أوجَه من مجرَّد فقدان صديقٍ قديم. ولا أظنُّ
أنَّ القساوسة لهم علاقة بذلك؛ إذ لا أعرف حتى ما إذا كان قد اهتدى أم أنَّه محضرجلٍ
يريح ضميره بالصدقات، لكنِّي واثقٌ في أنَّه أكثر من مجرد شخصٍ مكلوم على صديقه.
ونظرًا إلى أنَّك تُصِرُّ، فسأخبرك بسببٍ أو أكثر من الأسباب التي جعلتني أظن ذلك.
أوَّلها: قيل إنَّ جيمس ماير كان خاطبًا، لكنَّه، بطريقةٍ ما، لم يعد خاطبًا ولم يتزوج
قَط بعد وفاة موريس ماير. فما الذي قد يدفع رجلًا فاضلًا إلى فسخ خطبته لمجرد اكتئابه
بسبب موت طرفٍ ثالث؟ إذ كان من الأرجح أن يُتِم زواجه لعلَّه يجد في ذلك عزاءً لروحه
المكلومة، ولكن على أي حال، كان لزامًا عليه، بحُكم الآداب والأصول، أن يفي بوعده
«. لمخطوبته ويُتِم زواجه رغم كلشيء
كان الجنرال يعضشاربه الأسود، وأصبحت عيناه البُنيتان منتبهتَين جدٍّا بل قلقتَين
أيضًا، لكنَّه لم يرد.
وثانيها: أنَّ جيمس ماير كان » : فيما أضاف الأب براون مُحدِّقًا إلى الطاولة بعبوس
يسأل صديقته دائمًا عمَّا إذا كان ابن عمه موريس رائعًا للغاية، وهل يُمكن لأيِّ امرأة ألَّا
تقع في حبه. ولا أعلمُ ما إذا خَطَر على بال السيدة آنذاك أنَّ ذلك السؤال ربما يتضمَّن مغزًى
«. آخر
وهنا قام الجنرال وبدأ يمشي في أنحاء الغرفة أو على وجه الدقة يقرع الأرضبخطًى
عنيفة.
«. آه، سحقًا » : وقال بدون أيِّ عداء في نبرته
وثالثها: هو أسلوب الحِداد الغريب الذي اتَّبعه جيمس » : واستطرد الأب براون قائلًا
ماير، بما يشمله من تدمير كلِّ الآثار المتبقية، وتغطية كلِّ الصور، وما إلى ذلك. أعترف بأنَّ
هذا يحدث أحيانًا، وأنَّه قد يكون بسبب فُقدان أحد الأحباء، لكنَّه قد يحدث لسببٍ آخر
«. أيضًا
«؟ أنت تزعجني. إلى متى ستواصل تكديس ظنونك هكذا » : فقال الآخر
أمَّا السببان الرابع والخامس، فهما قاطعان جدٍّا، لا سيما إذا » : فقال القسُّ بهدوء
ربطتهما معًا. أولهما: أنَّ جثمان موريس ماير لم يُشيَّع في جنازةٍ خاصة على ما يبدو، مع
الأخذ في الاعتبار أنَّه كان ابنًا أصغر في عائلةٍ كبيرة؛ لذا فلا بد أنَّه دُفِن باستعجال، وربما
سرٍّا. والآخر: أنَّ جيمس ماير توارى فورًا عن الأنظار برحيله إلى بلدان أجنبية؛ إذ فرَّ في
«. الواقع إلى أقاصيالأرض
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.