عبده علي الفهد

Share to Social Media

قضم الإنوف
بقلم: عبده علي الفهد
[email protected]

في شعب من الشعاب، تقابل فأر وثعلب وغراب؛ تعاهدوا على إسداء المعروف وإيواء الملهوف. فهمشوا ما عداهم، ولم يشركوا بالقرار سواهم. وذات يوم حط الغراب على ظهر جمل؛ نقر، ثم نقر، أعاد وكرر، فلما شاهد الدم انهمر، شرع برشفه؛ هاج الجمل ملتفتًا نحوه، فنعق الغراب وطار، في السماء حلق، فشاهد فأرًا يقرض كعب حمار. اغتاظ الغراب، فحط على ظهر الحمار، وهم بنقره. فنهق الحمار وركل، كاد أن يهلك الفأر لولا أنه فر. نظر الفأر إلى الغراب، نظرة تعجب واستغراب. فخاطبه بتعنيف، قائلاً: أيها السخيف! كيف لك أن تنقر الحمار قبل أن أقضي غرضي؟ رد الغراب فقال: رأيتك مسرورًا، حول كعب الحمار تلف وتدور. تنال مبتغاك، وهو ساكن دون حراك، فأثار ذلك غيظي. ألم ترَ ما حل بي، كاد الجمل أن يفتك بي. رد الفأر: إنك تنقر بإصرار، وكان بينك وبينه ثأر. قال الغراب: دعك من ذا وذاك، أخبرني عن سرك. أخبرني كيف تقرض الحيوان دون أن يبدي أي حراك؟ رد الفأر: أراك كثير الفضول؟ ربما كنت كما تقول، إلا أني سبق و رأيتك وأنت تقرض أذن إنسان، حتى التهمت الصيوان، وكان يغط في سبات عميق، لم يحس ولم يفيق.
رد الفأر: والآن ها قد رأيت يا نعاق، من أين تبدأ الجرذان، وهل هناك مكان غير الصيوان لطلب الاستئذان؟ الغراب تكدر، ومزاجه تعكر. فقال: احترت لأمرك، إن لم تجبني عما سألتك، في الحين، أبلغت عنك الحيات والثعابين والقط السمين. ارتعب الفأر، فقال: أمهلني حتى أعود، وسأخبرك بسري. إلى أين الذهاب؟
سأذهب لاستشير أحد الأصحاب.
من يضمن عودتك؟
حماري بعهدتك إن لم أعد فهو لك. ذهب الفأر مسرعًا إلى الثعلب فوجده نائمًا، وفمه يعج بالذباب. أيقظه؛ فتثاءب مرتين، فاتح عين، مغمض عين، فقال: هذا أنت أتيت أيها الغائب، ألم تعدني بأن تدلني على وكر الأرانب! غبت فطال غيابك، فما سرنا بإيابك؟
حدث بيني وبين الغراب إشكال، فقد سألني سؤالًا، كان جوابه محالاً.
عن ماذا سألك تكلم؟
كيف أقرض الحوانات دون أن تشعر بالألم؟
أصاب الغراب، فقد سبق و سألتك نفس السؤال ولم تعطني جوابًا. لكن، سأدلك على سر من أسرار الطيور.
جلس الفأر أمام الثعلب، واضعًا يديه خلف أذنيه، مستمعًا إليه، فقال: يا فقيه الفقهاء، زدنا مكرًا ودهاء! رد الثعلب: من علمك الأدب وإلقاء الخطب؟ رد الفأر: وهل هناك معلم غيرك؟ يا بليغ البلغاء، وفصيح الفصحاء.
فقال الثعلب: والآن استمع وع ما أقول، إنها حيلة تجعل الغراب يحرم الفضول. قال الفأر بتلهف: أخبرني!
انتصب الثعلب فقال: أنت تعلم أني لست بالزنان المنان، وإنما أسدي إليك ذلك من باب البر والإحسان. عليك أن تذهب إلى الغراب الآن، وتطلب منه العهد والأمان، وصداقة الإخوان، والاشتراك الدائم في الوجبات والولائم. فإن رأيت الغراب استجاب أجبته عما سأل. قال الفأر: وبماذا أجيبه، إن كنت أنا لا أعلم!
نظر إليه الثعلب فتبسم وقال: اطلب منه الحضور أمامك، وأن يضع منقاره في فمك، لتعلمه علمًا من علمك المنوط بالغموض، وأن لا ينهض قبل أن تطلب منه النهوض. فإذا عمل الغراب ذلك بإختياره، بادرت بقرض منقاره وقضم أظفاره. ثم أيقظه واسأله عما جرى له.
: منقاره حاد، ربما اقتلع لساني؟ : أريدك أن تعلم أن ما يسري على ظفر الحمار يسري على المنقار.
تبسم الفأر وتقوّست أنيابه، تعبيرًا عن سعادته وإعجابه. عاد الفأر نحو الدار، فوجد الغراب على ظهر الحمار. فباشره الغراب بالسؤال، فقال: سررت أيها الفأر بعودتك، هل أجبت عما سألتك؟
تبسم الفأر، وأطلع الغراب على ما جرى وصار. فلبى الغراب المطلب، وعلى ظهره أمام الفأر انقلب. فنفخه الفأر نفخ كير، فساخ الغراب وداخ، فقرض الفأر منقاره، وقضم أظفاره. ثم أيقظه. فوقف الفأر نصب عينيه، رافعًا ذيله، فقال متشفّيًا شامتًا: هل فهمت السر، حذاري حذاري أن تنساه!
وقف الغراب، على عود أخشاب، يعاني من الألم والعذاب. نظر الحمار إلى الغراب، فهز رأسه، تعبير عن سعادته، وهاج الجمل، واحتفل، مبديًا ابتهاجه بما حصل. وأطلت الحمامة، الراقدة على بيضها، من عشها، فقالت: يا نعاق؛ لم يعد بمقدورك نقر البيض ونقر الزقزاق. في هذه الأثناء، وصل الثعلب يتبختر، بعد أن شاع الخبر. استقبله الفأر بالترحاب، فقد أضحى لديه من أعز الأصحاب. فوقف الثعلب خطيبًا، وعلى كل من سأل يجيب، ثم قال: اعلم أني طال انتظاري، ولم تف بوعدك الذي صار! رد الفأر بإحسان، فقال: أمهلني؛ فقد استعنت بعدة جرذان. وبينما كان الفأر يبحث عن الأرنب، شاهد أفعى مهولة في جحر تحت كوم حطب محشورة. تبسم الفأر ودار في رأسه الأفكار، كي يتخلص من الثعلب المكار. وبعد أن أحاك الحيلة، ذهب إلى الثعلب في حينه؛ فأخبره، ثم اصطحبه، ودله، وإلى كوم الحطب أوصله، فقال: إن صغار الأرانب تقبع هنا تحت كوم الحطب، عليك أن تحفر، أليس لديك مخلب! وعلي أن أترقب، إن رأيت الأرنب، أبلغك في الحين، كي يكون صيدك سمينًا. استمر في حفر الجحر حتى انفتح، فظهرت أفعى تترنح. ضخت على وجهه سمها، فأصيبت عيناه بالعمى. انسحب الثعلب وتقهقر، مناديًا: ألم أطلب منك أن تتوخى الدقة والحذر عند نقل الخبر؟ رد الفأر وهو يرتعد: لم أكن يومًا كاذبًا، ربما كانت الأفعى قد سبقتنا؛ فابتلعت صغار الأرانب. لم يعد الثعلب قادرًا على الإبصار، فتردى من شاهق. استغل الفأر الفرصة، لحق به، فقرض شفتاه وقضم أنفه، وكحل عينيه بذيله. أفاق الثعلب، فوجد حاله؛ ضرير البصر، مجذوع الأنف والمشفر. فعرض الفأر عليه مساعدته، في دواء علته. إلى تحت جمل ذهب به، فبال الجمل على وجهه. عاد إليه النظر فاستبشر، وبعد أن ندم وتحسر، قال: ماذا جرى؟ أحس أنفي مبتور! رد الفأر لم يكن طول أنفك لائقًا، أضحيت من أجمل الخلائق. قال الثعلب: لقد مكرت أيها الماكر، أحس الريح يدخل فمي دون ساتر. رد الفأر: لا مكر ولا خيانة، وكل ما في الأمر أنك بعد أن نويت الاستقامة؛ ذهب عن وجهك العبوس والقتامة، فغدوت ضاحكًا دائم الابتسامة. رد بغضب: إن لم تخبرني بما حل بي، صببت عليك غضبي! قال الفأر باستهتار: أراك ضاحكًا باستمرار، لا علم لي بما جرى وصار. ذهب الثعلب إلى بئر ماء، نظر إلى صورته، فزاد ذلك من حزنه. توخى الفأر الحذر، بعد أن انكشف أمره. قبع الثعلب في ظل شجرة، مغلوبًا على أمره. تجمع حوله الزواحف والطيور، الكل يسأل عن ما حل بالثعلب المغرور؟ كذبوه بالإجماع، فما يدعيه لا يعقل ولا يستساغ. فقال الأرنب: كيف لفأر أن يحدث للثعلب المكار كل هذه الأضرار؟ وقال الصرصار: لماذا كل هذا الاستصغار، ألم يفر الأسد الجبار إذا رأى القط نحوه سار؟ وقالت الحمامة: لا مبرر لهذا الانزعاج؛ فليس هناك من هو من آذاه ناج. أرى أن ما جرى عمل استباقي، بغرض دفع بلا آتي، الهدف منه إجبار هذا الصعلوك على حسن السيرة والسلوك. انفض الجميع من حوله، فرثاء حاله. ثم توجه إلى السنجاب، بغرض المداواة والاستطباب. فلم يجد سريرًا فاضًا، فهناك مريض يرقد عليه من الشهر الماضي. تساءل الثعلب عن من يكن هذا المريض، فدخل غرفة الاستطباب، فتفاجأ بالغراب، يعاني من الألم والعذاب. فتغرغر الغراب محاولاً أن يشمت، إلا أن منقاره لم ينبت. فأفسح له جواره مقرًا، وبعد أن استقر. سأله: هل الفأر من قرض أنفك والمشفر؟
: كيف عرفت ذلك؟
: استشفيت ذلك من ما آلة إليه أحوالك. أخبرني أيها الثعلب، هل سألت الفأر سؤالًا غير مألوف، أوصلك إلى قضم الأنوف؟
: هو ليس سؤالًا، بل قمت بتكليفه ببعض الأعمال، فحدث منه التقصير والإهمال، وفي النهاية مكر واحتال، فحدث منه ما هو حال على جسدي من أفعال. لكن ألا ترى أنه آذاني وآذاك، وأعطاني درسًا مثلما أعطاك؟
: كيف لا أعلم وأنت معلمه والكاهن؟ إن الخيانة بعضها من بعضها، والكل فيها خائن للخائن.
: دعني وشأني، لا تزيد من أحزاني، أسديت النصح والإرشاد لغيري، فذقت وبال أمري. انتهى.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Story Chapters

قضم الإنوف
Write and publish your own books and novels NOW, From Here.