- مش كل حاجة تتحل بالذراع يا ابني… استخدم عقلك!
ـ أعمل إيه طيب؟!
ـ في مواقف لازم تحكم فيها عقلك قبل ما تفكر تمد إيدك.
قاطع الهدوء نداء أنثوي رقيق:
ـ ماما؟ أخويا؟
التفتت الأم نحو ابنتها، وأجابتها بحنان:
ـ نعم يا حبيبتي؟
قالت الفتاة بتردد:
ـ في ولد رخم عليّا… وعايزة آخد حقي منه!
تحولت نظرات الأم فورًا إلى ابنها، الذي اشتعلت عيونه غضبًا، وصاح منفعلًا:
ـ مين اللي عمل كده؟! والله ما هسيبه في حاله!
رفعت الأم حاجبها بحدة، فرجع الشاب خطوة إلى الوراء وحاول أن يخفف من نبرته:
ـ مش قصدي أضربه يعني… بس ليه يضايق أختي أصلاً؟!
ارتبكت الفتاة وأطرقت رأسها خجلًا وهي تهمس:
ـ هو من فترة كان بيرزل على صحبتي… وأنا ضربته… ومن ساعتها وهو حلفلي.
الابن بهُدوء وبنضج:
- انتي اللي غلطانة. لما كان بيرزل على صحبتك، كان المفروض تشتكي للمدرس، مش تروحي تضربيه. ولما يضايقك دلوقتي، برضو تروحي تشتكي... مش تردي بنفس الأسلوب الهمجي.
الفتاة تومئ برأسها بخجل، الأم تبتسم بهدوء وهي فخورة برد ابنها. لكنه يغيّر نبرته فجأة إلى المزاح.
الابن بضحكة:
- بس دا ما يمنعش إني أضربه واجيب حق اختي!
يجري الطفل بسرعة من أمام والدته، فتغضب وتلتقط الشبشب وترميه نحوه. يرتطم الشبشب به فيقع على الأرض، وهو يصرخ متصنّعًا الألم:
- آااه يا عصعصتي!
ينفجر الضحك عاليًا في القاعة، يتعالى التصفيق من الجمهور، وبعض الممثلين في الخلفية يضحكون بلا تحكّم. يبدأ الستار في الانغلاق تدريجيًا، لينتقل المشهد إلى غرفة تغيير الملابس خلف الكواليس.
شاب يضحك وهو يبدّل ملابسه:
- بجد… تأليفك للمشهد تحفة!
فتاة بجواره، وهي تبتسم:
- بس انتي ليه مخلتيهاش كلها ضحك؟
تلتفت إليهما المؤلفة بهدوء، وملامحها تفكّر أكثر مما تتكلم:
- مش كل حاجة لازم تكون ضحك… الناس اللي بتدفع تذكرة، لازم تخرج بحاجة تُعلّق في دماغهم. ضحك بسيط ومعاه رسالة… علشان ميتملّوش يا جودي.
قالت جودي باقتناع مع ابتسامة خفيفة:
- عندِك حق…
التفت الشاب إلى المؤلفة وهو يبدّل حذاءه:
- إحنا هنروح… مش هتيجي معانا المرة دي؟
ابتسمت المؤلّفة ابتسامة هادئة وقالت:
- لا… روحوا إنتو. أنا هبصّ بس على شوية حاجات هنا… لو في حاجة محتاجة تعديل.
ضحك الشاب بخفة وقال:
- ما تتأخريش بقى… يلا يا جماعة!
بدأت المجموعة في مغادرة الغرفة، تعالت ضحكات خفيفة بينهم، ومع ابتعادهم بدأت الإضاءة تخفت تدريجيًا، فيما تعزف موسيقى ختام بسيطة في الخلفية، تاركة المؤلفة وحدها في الكواليس… بين الصمت وما خلف الستار.
--------------------
بعد منتصف الليل…
كان الطريق مهجورًا، لا سيارة تمرّ، ولا أنوار تلوح في الأفق.
لا شيء سوى ضوء خافت صادر من سيارة متوقفة على جانب الطريق، وبجوارها فتاة تقف وحيدة، يعلو أنفاسها الخوف وترتجف يداها تحت برد الليل ووحشته.
وفجأة…
شقّ السكون ضوءٌ قوي يتقدّم من بعيد، يرافقه صوت موسيقى عالية تهتز لها الأرض من شدتها. اقتربت السيارة بسرعةٍ جنونية، فازداد نبض الفتاة وتجمّد الدم في عروقها، حتى ضمّت ذراعيها إلى صدرها محاولةً الاحتماء بنفسها.
توقفت السيارة أمامها بعنف، ثم نزل منها مجموعة من الشباب والفتيات، تتمايل خطواتهم وترتفع ضحكاتهم الصاخبة في المكان، بينما حدّقت هي بهم بعينين مذعورتين… لا تعرف ما ينتظرها.
اقترب منها أحد الشباب، تفوح منه رائحة كحول نفّاذة، وعيناه تلمعان بنظرةٍ غير مريحة، وقال باستهزاء:
- إيه اللي موقفك هنا يا…؟
اهتزّ جسدها كله، وتراجعت خطوة للوراء وهي تحاول أن تجمع أنفاسها، ثم تمتمت بصوتٍ متقطع:
- ع… عربيتي عطّلت.
تقدّم منها أكثر، يقترب حتى كادت تشعر بأنفاسه الثقيلة على وجهها، وقال بخبثٍ واضح:
- يعني محتاجة مساعدة…؟
أومأت برأسها بارتباك، فابتسم ابتسامة مريبة وأضاف:
- أنا أعتقد أننا عندنا مكان فاضي في العربية… ممكن ناخدك معانا.
ضحكت إحدى الفتيات منهن بخفة مصطنعة، وهي تتفحص الفتاة من أعلى لأسفل، ثم قالت بدلع:
- وماله… ليه لأ؟ خليها تيجي معانا…
ارتجفت أكثر، وحين مدّ أحد الشباب يده ليمسكها من ذراعها، دفعت يده بجزعٍ غريزي، ثم تعثرت بحجر صغير وسقطت أرضًا. التفّوا حولها مت تقدمين بنظراتٍ متربّصة، بينما كانت تزحف للخلف وهي تلهث، تحاول الابتعاد رغم سقوطها، والضحكات من حولها تعلو أكثر فأكثر، كأنهم وجدوا في خوفها متعةً إضافية.
وفي اللحظة التي كاد فيها أحدهم يمسكها مجددًا…
أضاء المكان نورٌ حادٌّ اخترق الظلام كالسيف.
توقفت الضحكات.
وتجمّدت خطواتهم.
اقتربت السيارة القادمة ببطء، قبل أن تتوقف على مسافة قصيرة منهم، أبوابها داكنة، ومحركها لا يزال يعمل بصوتٍ عميقٍ يوحي بالقوة.
فُتح الباب الأمامي، ونزل منه رجل طويل القامة، مستقيم الوقفة، تتجسد الهيبة في ملامحه قبل حركاته. لم يبدُ كمن خرج ليفضح قوته بالكلام، بل كمن لا يحتاج إلى ذلك أصلًا.
لم ينظر إلى الشباب أولًا… بل إليها.
حدق فيها بصدمة خفيفة ممزوجة بالاستغراب — كيف لفتاة مثلها، بحجابها المحتشم وملامحها الطاهرة، أن تقف وحدها وسط هذا الظلام… ومع هؤلاء تحديدًا؟
ثم التفت ببطء نحوهم، ونظرته وحدها كانت كافية لتزرع فيهم القلق قبل حتى أن ينطق بكلمة واحدة.
قال الشاب القادم بصوت حازم، يتقدّم خطوة نحوهم:
- في حاجة يا شباب؟
ردّ أحدهم بتلعثم واضح، تفوح منه رائحة الخمر:
- لا... دي أختي! مش عايزة تركب معايا.
أما هي فظلت تراقب الشاب الجديد بنظرة مرتجفة، كأنها تشبّثت بخيط نجاة أخير، بينما كان القادم يحدّق في ملامحها المرتبكة وارتباكهم، ليقول بهدوء قاطع:
- إنت كذاب.
تحرّك أحدهم مستفزًا وقال بحدة:
- واحنا هنكدب ليه!؟
اقترب الشاب من الفتاة ومدّ يده نحو ذراعها وهو يقول بثقة مصطنعة:
- يلا يا أختي... نروح.
انتفضت مبتعدة وهي تدفع يده باشمئزاز، فيتقدّم القادم خطوة أمامها وكأنه يحجبها عنهم، ثم ينظر للآخرين قائلًا ببرود ثقيل:
- إيدك يا حلو... وخد الناس الحلوة اللي معاك دي وامشوا من هنا... أحسن لك ولهم.
ضحكَ أحدهم بسخرية، ينفث دخان سيجارته في الهواء:
- يعني هتعمل إيه؟
اقترب القادم أكثر، ورفع رأسه بثبات:
- هعمل... كده.
وقبل أن يتمكّن الشاب من التقاط أنفاسه، كان القادم قد سدّد إليه لكمة خاطفة أطاحت به أرضًا. تحرك الباقون نحوه في محاولة للهجوم، غير أنّه كان يناورهم بخفّة وثبات، كأن جسده اعتاد هذا النوع من المواجهات.
لم تمضِ سوى لحظات حتى تساقطوا الواحد تلو الآخر، تتعالى منهم آهات الألم بدل الضحكات، فيما الفتيات تراجعن إلى الخلف بخوف وارتباك، يراقبن المشهد وقد انقلبت ملامح المكان من عبثٍ إلى صدمة.
جرّ بعضهم بعضًا بتعثر، ثم هرولوا نحو سيارتهم، يفرّون مسرعين، حتى خلا المكان إلا منه... وإلا هي.
تنفّس الشاب بعمق، ومسح العرق عن جبينه، ثم التفت إليها قائلاً بين أنفاسٍ متقطّعة:
- آنسة؟ إيه اللي موقفك هنا في ساعة زي دي؟
ترددت لحظة، وكأن الكلمات تخونها، قبل أن تجيب بصوت خافت:
- عربيتي عطّلت... وأنا راجعة من الشغل.
اقترب من السيارة، فتح الغطاء وألقى نظرة سريعة داخلها، ثم هزّ رأسه قائلاً:
- دي محتاجة ميكانيكي... ومينفعش تفضّلي في المكان ده لوحدك. زي ما انتي شايفة، المكان خطر عليكِ.
رفعت نظرها إليه بحيرة، وسألت:
- والحل؟
نظر إليها بثبات وقال:
- تركبي معايا.
قالت بتلقائية، كأن الكلمات سبقت تفكيرها:
- عيب... وحرام.
رفع حاجبيه بدهشة خفيفة، ثم ابتسم ابتسامة ساخرة لم تخلُ من الاستغراب:
- عيب وحرام إنك تركبي معايا؟ بس عادي تقفي لوحدك في حتّة زي دي؟ بصراحة... بعد اللي حصل، مستحيل أسيبك هنا. وبالأخص واحدة زيك، بلبسك ده... المفروض ما تكونيش أصلاً برا في الوقت ده!
امتلأت عيناها بالدموع، وارتجف صوتها وهي تهمس بانكسار:
- والله كنت راجعة من الشغل... ماكانش قصدي أتأخر.
تراجع خطوة وهو ينظر حوله، كأنه يحاول إيجاد مخرج آخر:
- طب... ما تتصلي بحد من أهلك؟
انخفض رأسها، وبدت كلماتها مثقلة بالحزن:
- ماعنديش حد... ماما وتيتا ماتوا. بس... ممكن أكلم حد.
أخرجت هاتفها بيد مرتجفة، وبدأت تبحث عن رقم ما، بينما كان هو يراقبها بصمتٍ مختلف؛ صمت يحمل تعاطفًا لم يحاول إظهاره بالكلام... لكن بدا واضحًا في عينيه أنه استشعر وحدتها قبل خوفها.
رفعت الهاتف إلى أذنها وقد اختلطت أنفاسها بالخوف والارتباك، وقالت بصوتٍ مهزوز:
- ألو يا ياسمين... وصلتي إنتي وتيتة؟ الدكتور قال إيه؟... يعني هتفضلوا هناك شوية؟... طيب... اديني تيتة.
ساد الصمت لحظات قصيرة، قبل أن يتبدّد بنبرة أكثر هدوءًا خرجت منها رغم التوتر:
- تيتة... أنا بخير، العربية عطّلت بس... وفي شاب محترم هنا، عايز يوصّلني... متخافيش.
ثم خفضت الهاتف عن أذنها، وترددت لحظة قبل أن تتجه بنظرها نحو الشاب الجالس أمامها. تقدّمت بخطوة صغيرة نحوه، ومدّت الهاتف إليه في حياءٍ واضح، كأنها تستأذن نظراته قبل يدها.
وعلى الرغم من أنها كانت ما تزال خائفة... إلا أن ملامحها هذه المرة حملت شيئًا مختلفًا: ثقة خفيفة، خرجت أول مرة منذ بدأت الأزمة.
أخَذ الهاتف منها بهدوء وقال بنبرة واثقة مطمئنة:
- السلام عليكم... كنت حابب أستأذن حضرتك أوصل الآنسة لحد المكان اللي رايحاه... متخافوش، هي في أمان، ومينفعش تفضل هنا لوحدها. هي أمانة عندي... اتفضلي يا آنسة.
تناولت الفتاة الهاتف مرة أخرى وابتعدت قليلًا لتتحدث بخفوت:
- شكله محترم... من طريقته ولبسه... سيبيها على ربنا.
أنهت المكالمة وعادت إليه بخجلٍ لطيف:
- وافقت.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يقول:
- تمام... شوفي لو في حاجة عايزة تاخديها من العربية، واقفليها كويس وتعالي.
- حاضر.
ذهبت إلى سيارتها، أخذت حقيبتها وأغلقت الباب باتقان، ثم التفتت نحو سيارته. توقفت لحظة أمام الباب، كأن عقلها يهمس لها بالخوف مرةً أخرى… هل تركب بجانبه؟ أم الخلف؟
ترددت ثوانٍ، قبل أن تستجمع شجاعتها وتفتح الباب الخلفي لتجلس هناك، محاولةً الإبقاء على مسافة أمان تُطمئن قلبها المرتجف.
ابتسم وقال مازحًا:
- هو أنا سواق عند حضرتك؟!
قالها بمزاح جعلها تبتسم بحرج، فأشار لها:
- تعالي اركبي جنبي.
جلست بجواره في صمت. كسر هو الصمت وثم قال بفضول:
- مين اللي كنتِ بتكلمي؟
أجابت:
- دي صاحبتي ياسمين... مامتها الله يرحمها، بعد وفاة مامتي هي اللي ربتني ورضّعتني وكمان جدتها، بعد ما تيته توفت، اهتمت بيا ورعتني.
رأى في عينيها حزنًا عميقًا، فتردد في استكمال الأسئلة، لكنه لم يستطع كتمان فضوله:
- بتشتغلي إيه؟
ابتسمت ابتسامة صغيرة:
- مش بشتغل... أنا بشغل!
ردت باستغرب:
- يعني إزاي؟
ردت بثقة وخجل:
- عندي مسرح صغير....... بكتب وبشغّل شباب او بنات عندهم موهبة، بس أنا مش بمثّل فيه.
ابتسم بإعجاب، لكنها أكملت بحذر:
- بس..... لما نقرب من منطقتي، نزلني بعيد شوية، علشان الناس ما تتكلمش.
هز رأسه بابتسامة:
- لا. إنتي أمانة عندي، ولازم أوصلك لحد باب بيتك. الناس بتتكلم على أي حال، ولو عشنا نخاف منهم، مش هنعرف نعيش.
أومأت له بهدوء، فابتسم وسأل:
- يعني بردو مش هتقوليلي عنوان بيتك؟
نظرت له بصدمة بسيطة، ثم بدأت تصف له الطريق. وبعد فترة قال:
- بكرة هاجي أخدك، ونروح لمكان عربيتك ونصلحها.
قالت بسرعة:
- لا.... متتعبش نفسك.
رد بتلقائية وهدوء:
- تعبك راحة.
أحمرت وجنتاها، وأدارت وجهها للنافذة بصمت... أما هو، فخفض عينيه وأدار وجهه في الجهة الأخرى، يخفي ابتسامته.
قالت بصوت خافت:
- بردو... متجيش بكرة عند البيت، كفاية انهارده، وناس نايمة.
أحمرت وجنتاها، وأدارت وجهها للنافذة، وقال بلطف:
- طيب اديني رقمك، ونتفق على مكان نتقابل فيه بكرة.
ترددت قليلا، ثم قالت:
- 010...
- أسجِّلك بإيه؟
قالت بخجل وهي تطرق بنظراتها:
- ليل.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة دهشة خفيفة:
- اسمك جميل يا ليل.
لم تُجب، واكتفت بابتسامة رقيقة، ثم أدارت وجهها نحو النافذة، وأسندت رأسها إلى الزجاج. أغلقت عينيها رويدًا... وما مرّت دقائق حتى غفت بملامح هادئة.
أما هو فظل يقود على الطريق، يتفقدها من حين لآخر بنظرة تحمل شيئًا من الدهشة... والإعجاب الصامت.
—---------
كان الليل قد ازداد سكونًا حين دخلوا منطقة شبه ريفية؛ بيوت متلاصقة، متوسطة المساحة، أغلبها بطابق أو اثنين، تتسلل من شبابيكها القديمة أضواء صفراء خافتة. الشارع ساكن، لا يُسمع فيه سوى نباحٍ متقطع لكلاب بعيدة.
أوقف السيارة أمام بيت صغير بسيط، ثم التفت إليها وقال بهدوء:
- اصحي يا آنسة…
لم تُجب، فناداها مرة أخرى، بصوت أخف:
- ليل... اصحي يا آنسة…
فتحت عينيها بتثاقل، وما زالت بين النوم واليقظة همست بنبرة ناعسة جدًا:
- صحّتني ليه يا وحش…
تجمد لثانيتين، ورفع حاجبه بدهشة، مشيرًا لنفسه:
- أنا؟... وحش؟
انتبهت لكلامها فجأة، فاستقامت في جلستها واتسعت عيناها بحرجٍ بالغ قبل أن تفتح الباب سريعًا:
- آسفة! والله ما كنتش قصدي!
ضحك بخفة وهو ينزل من السيارة، يتأمل المكان حوله.
قالت بتوتر خفيف:
- المكان على قده يعني…
نظر إليها باستغراب صادق:
- عادي، بس مستغرب... عندِك مسرح وعايشة هنا؟
ردّت بابتسامة خفيفة، واقفة أمامه ببساطة لا تتكلف:
- مش معنى إن عندي مسرح وبكسب شوية فلوس، يبقى أول حاجة أعملها إني أشتري مكان كبير لنفسي... بالنسبة لي، الأهم إني أساعد الناس الغلابة والمحتاجين. وبعدين المسرح بقاله فترة بيخسر، لأني كنت مشغولة بامتحاناتي وقفّلته. غير إني كنت بصرف على علاج ناس ظروفها صعبة، واللي بيحتاج حاجة... عمري ما بقدر أتأخر عنه. المسرح مش كبير دلوقتي... بس إن شاء الله يكبر يوم من الأيام.
ظل يحدّق فيها للحظة... ملامحه فاضت بدهشة حقيقية، وإعجاب لم يحاول إخفاءه:
- برغم كل اللي مريتي بيه... ولسه قلبك بيفكر في الناس! بجد... حاجة ترفع الراس.
خفضت عينيها بخجل، وارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة تليق بروحها.
أكمل، محاولًا يوازن بين إعجابه وهدوء نبرته:
- بكرة إن شاء الله، نتقابل ونشوف موضوع العربية…
رفعت رأسها بسرعة صغيرة، وكأنها لم تتوقع تحديد موعد قريب، ثم أومأت بخجل وقالت بصوت واطي:
- إن شاء الله…
حلَّ صمت قصير بينهما... صمت مريح، خفيف، لكنه أبلغ من الكلمات.
هو ظل ينظر إليها بإعجاب لا يحتاج إلى تصريح، وهي تحاشت عينيه بخجل طفولي لا إرادي.
بعد لحظة، استدار عائدًا إلى السيارة، فتح الباب بهدوء، ثم قاد مبتعدًا ببطء.
وقفت هي أمام بيتها تتابع الضوء الخلفي للسيارة وهو يتلاشى في عمق الطريق المظلم... كأنها تراقب شيئًا جديدًا يبدأ في حياتها دون أن تدري.
ومن تلك اللحظة... بدأ أول حرف يُكتب في صفحة جديدة، نقية كقلوب البدايات، وأول سطر في كتاب آخر... كتاب ما زال يُكتب، وقد يكون كل سطرٍ فيه خطوة نحو قدرٍ مختلف... وبداية لا تشبه ما قبلها.
--------------
في صباحٍ داخل القصر، تعالت الأصوات وملأ الصراخ أرجاء المكان.
كان الشاب يقف في وجه عمه، محاولًا منعه من التقدّم وهو يمد ذراعه أمامه:
- اهدأ يا عمي، المواقف دي مش بتتحل كدا!
لكن العم دفعه بعنف وهو يصرخ وقد تعلّق الغضب بصوته:
- سبّني أربي بنت الـ...! كانت هتضيع شرفنا وشرف العيلة! الحمد لله إن ولا صحفي شافها!
صُدم الجميع من كلماته، وصرخت زوجته وهي تحاول الإمساك به قبل أن يفلت منها:
- البنت هتموت في إيدك!
فالتفت إليها بغضبٍ لا يخلو من خيبة وانكسار:
- كله بسبب دلعك! ربنا ينتقم منك! بنت كانت هتضيع…
ثم غادر وهو يتحسّر على ابنته كأن الصدمة لا تزال تخنقه.
اقتربت والدة البنت من شهناز وسألتها بذهولٍ ممزوجٍ بالقهر:
- عملتي إيه يا مقسومة الرقبة؟
رفعت شهناز عينيها المرتعشتين، وردّت ببراءة ساذجة ونبرة متوسّلة:
- والله يا مامي... كنت سهرانة مع أصحابي في بار، واتقّلنا شوية في الشُرب... بس كدا والله!
شهق الجميع في القاعة غير مصدّقين جرأتها أو تهاونها.
اقترب الشاب من جده، والحنق يطفح من صوته وهو يشير إليها:
- شفت يا جدو؟ دي اللي كنت عايز تجوزها لأخويا؟ كانت هتجيب لنا العار!
تنهد الجد بمرارة، واضعًا يده على جبينه كأن الثقل لا يحتمل، ثم قال بصوتٍ متعب:
- بنت وغلطت... ومين فينا مبيغلطش؟! وبعدين هي عملت كدا علشان بتحب أخوك... علشان يرجع. لكن هو؟ معندوش قلب... مش حاسس بيها!
ارتفع صوت الشاب فجأة، وقد اشتعل الغضب في ملامحه:
- إيه الكلام اللي بتقوله دا يا جدي؟!
أجابه الجد بنبرة صارمة، كسيفٍ قُطع به الحوار:
- ما تعلّيش صوتك عليّا!
تراجع الشاب خطوةً للوراء، يكتم غيظه في صدره، ثم استدار وغادر القصر بخطواتٍ حادة.
أما شهناز، فظلت واقفة كجماد، تتلقى نظرات إخوتها التي انقسمت بين الخذلان والاحتقار.
وبعد لحظاتٍ صامتة، اقتربوا من زوجة عمهم، وبامتنانٍ خافت لكنه صريح قالوا:
- إحنا بنشكرك على تربيتك لينا.
اتسعت عينا والدتهم غيرةً وقهرًا، والتفتت إليهم بحدة:
- هي كانت أمكم؟!
فأجابتها "هدية" بثقةٍ هادئة أشد وقعًا من الصراخ:
- تربيتك الأولى واضحة قدّامنا... كويس إني ما سبتهمش ليكي.
همّت الأم بالكلام، لكن الجد قاطعها بصوت صارم لا يقبل الجدال:
خدي بنتك واطلعي فوق.
أمسكت بابنتها من ذراعها بقسوة، وسحبتها نحو الدرج حتى اختفت عن الأنظار.
عمّ الصمت لثوانٍ قبل أن يقول مالك، ابن بكنام:
- هستأذن منكم... نلحق زين قبل ما يمشي يوصلنا الكلية.
ابتسمت هدية بحنان ودعت لهم بدفءٍ أمومي واضح:
- روحوا يا حبيبي، ربنا يوفقكم.
خرجوا، وبمجرد أن أُغلق الباب خلفهم، التفت حامد ـ زوج هدية ـ نحو والده متسائلًا بقلق:
- بابا... هتعمل إيه في موضوع شهناز؟
لكن قبل أن يجيب الجد، قطعت هدية التوتر بابتسامة وهي تنظر إلى ابنتها الجالسة بجوارها:
- عملتي إيه عند الدكتور يا حبيبت ماما؟
ضحك أدهم ـ ابنها ـ وهو يرفع حاجبه مازحًا:
- الدكتور بيقول إنها بتتدلّع.
شهقت هدية بخفة، في تمثيلٍ ظريف للمفاجأة، ثم قالت:
- متسبها يا واد تتدلّع! ما تشوفي ابنك يا سحر!
سادت لحظة صمت مشحونة في القاعة قبل أن تنطق سحر بسخرية متعالية:
- وماله ابني يعني؟!
لم تستطع ريم منع ضحكتها الخفيفة، وقالت وهي تجلس:
مش وقت كيد الحموات... قعدوني بس!
أجلسها أدهم برفق، لكن ملامحه كانت تحمل قلقًا واضحًا، ثم قال بجدية:
- أنا قابلت زين من شوية... وشكله مش طبيعي. هو ومالك ومليكة، والقصر هادي بطريقة مش مريحة... أكيد في حاجة كبيرة حصلت.
توترت سحر وهي تجيب:
- بنت خالك... شهناز... رجعت سكرانة. وحصلت خناقة.
شهقت ريم بضيق:
- تاني؟!
تدخّل الجد بنبرة ثقيلة:
- هو كان في ولاني؟
أجابت ريم بصوت منخفض لكنه حاد، كأنها تعيد فتح جرح قديم رفض أن يلتئم:
- في يوم رجعت متأخرة... وسكرانة، وقاعدة تهذي وتقول: "بحبه... نفسي يتجوزني، وهو مش راضي"... وكانت تقصد أخويا الكبير.
ولما شافها بالحالة دي... قالها بصراحة:
"مش هقدر آمنها على حياتي... ولا على عيالي."
كان القرار نهائي... ما فيهوش رجوع. وعشان كده سافر... يبعد عن اللي بيحصل هنا.
قالت هدية بارتياح واضح وكأن حملاً نزل عن صدرها:
- كويس إن ابني رفضها.
غير أن الجد لم يبدُ مقتنعًا، بل نظر إليها بعناد راسخ وهو يقول:
- حتى لو رافض... هيتجوزها! هو ابن عمّها، وأولى بيها، وهي بتحبه... وهو هيحبها مع الأيام.
تقدم حامد خطوة، ونبرته حملت رفضًا قاطعًا:
- لا يا بابا! ابني يختار اللي هو عاوزها.
رمقه الجد بنظرة حادة قبل أن يرد بضيق:
- مانا سِبت أخوك الكبير يختار... وفي الآخر طلعت خاينة!
انتفضت هدية كأن كرامتها طُعنت فجأة:
- لا يا حاج! رزان عمرها ما كانت خاينة! هو اللي ظلمها... ورماها في الشارع!
أومأ حامد مؤيدًا كلامها، وقال وهو يضغط على كلماته:
- صح... ومين عارف؟ يمكن ابنك هو اللي خاين... ورزان بريئة!
اشتعل الغضب في عيني الجد، وارتفع صوته وهو يضرب بعصاه بقوة على الأرض:
- مسمحلكش تقول على أخوك الكبير كده! أنا أكتر واحد عارف مصلحتكم فين!
قالت سحر بسخريةٍ ثقيلة، تحمل في باطنها وجعًا مكتومًا عبر السنين، ثم تابعت بصوتٍ مخنوقٍ بالبكاء المكبوت:
- آه... أنا عارفة قصدك! قصدك إزاي تدمرنا… إنت ما سبتش حد فينا إلا ومشيت حياته على مزاجك!
لمع الألم في عينيها وهي تتابع:
- أنا أولهم… بعدتني عن اللي بحبه لأنه فقير، وجوزتني لواحد غني…
ولما سألتك: ليه؟
قلتلي: علشان أرتاح!
أخذت شهقة موجوعة وهي تتابع:
- وفي الآخر؟ طلع إنسان مش كويس... واتطلقت منه، ورجعتلك وأنا مكسورة… بس اللي أنا بحبه؟ مات من القهر عليّا! مات وهو فاكرني بعته… وبرغم ده كله… ربنا عوّضني بأدهم.
مسحت دمعة سالت على خدها ثم أكملت:
- وبعدين... أخويا حامد؟ كنت عايز تجوزه واحدة تانية… مش اللي قلبه اختارها! وشوف ربنا عمل إيه؟ اللي كان بيحبها… هي نفسها اللي كنت حضرتك مختارها له من الأول!
تنفست بمرارة:
- وأما أخويا الكبير؟ حب واحدة من قلبه… لكن أول ما حصل سوء تفاهم، اتهمها بالخيانة! ورماها… وقلنا يمكن يرجع لعقله… بس لأ… نسيها، واتجوز بعدها بيومين! وإنت؟ وافقت… بس علشان مستوى أهل العروسة عجبك.
رفعت رأسها نحوه، بعينين دامعتين متحديتين:
- إحنا مش عرايس في إيدك… ولا حياتنا ورق شطرنج تتحكم فيه! لم تتحمل أكثر، فانفجرت باكية… بكاءً حقيقيًا كأن روحها تنزف، تنهيدة خرجت محمّلة بسنين من القهر.
اقترب أدهم منها وضمها بقوة، صوته مكسور أشبه باعتذار عن ذنب لم يرتكبه:
- يااااه… كل دا كان في قلبك يا أمي؟ أنا ما توقعتش أبويا يطلع كدا… ليه ما قلتيليش؟ ليه خبيتي عني؟
مسحت دموعها بارتجاف وقالت بصوت واهن:
- علشان… ما تكرهوش.
ساد الصمت للحظة، لكن نظرات أدهم اشتعلت بالغضب المكبوت، قبل أن يهمس بحزمٍ لا رجعة فيه:
- لأ… ولازم يشوف العذاب اللي عمله فيكي.
قالت سحر، بصوت مكسور، وكأن الكلمات تخرج من صدرٍ أثقله الوجع طيلة سنوات:
- أنا ماعرفش هو فين دلوقتي... واللي حصل، خلاص حصل.
ساد الصمت... صمتٌ ثقيل، كأن البيت كله يحبس أنفاسه.
نظر الجد إليها طويلًا، ثم قال بنبرة ممزوجة بالدهشة والصحوة المتأخرة:
- كل دا... في قلبك؟!
تقدّم حامد خطوة نحوه، وصوته مبحوح من القهر:
- ولسه! وكمان مش عايز ترحم أحفادك؟ مش عايز حد يتجوز من برا علشان الورث؟! ولما أدهم قالك عايز يتجوز بنتي، وافقت على طول... لأن الموضوع كان على مزاجك!
اقترب أكثر، وكأن الكلمات كانت طلقة خرجت بعد كتمانٍ طويل:
إحنا طول عمرنا ماشيين زي ما انت عايز… بس كفاية! إنت استغنيت عن اللي بتحبها أول ما مشت مع رزان! عادي... عندك كل حاجة سهلة! ترميها لما تزهق… وتاخدها وقت ماتحب… على مزاجك! بس احنا؟ إحنا مش زيك…. إحنا وعيالنا مش لعبة!
تركه وانصرف، وزوجته لحقت به، بينما صعدت سحر إلى غرفتها وهي تضغط على صدرها محاولة حبس ما تبقى من دموعها.
أدهم احتوى ريم، التي كانت تبكي في صمتٍ موجوع، وأسند كتفها وصعدا معًا ببطء إلى الأعلى.
أما في الطابق العلوي...
فكانت بكنام واقفة عند السلم، تتابع المشهد بالكامل من البداية، وابتسامة باردة تتسلل على وجهها... استمتاعًا بالفوضى التي كانت تنتظر انفجارها منذ زمن.
---------------
في أحد بيوت الريف، كان صوت الطرق على الباب عاليًا بشكل غير معتاد، فاهتزّ معه هدوء الصباح. ارتبكت ليل، أسرعت تلتقط طرحتها من على السرير ولفّتها بسرعة فوق رأسها وهي لا تزال نصف نائمة، ثم خرجت مسرعة لتفتح الباب.
وما إن فتحته حتى اتسعت عيناها بدهشة:
- إنت؟!
ابتسم الشاب ابتسامة خفيفة وقال بهدوء:
- كنت برن عليكي، ولما ما ردتيش، قلت أجيلك بنفسي.
تلعثمت وهي تحاول ضبط نفسها وتدارك ارتباكها:
- أنا... مش برد على أرقام غريبة... وبعدين كنت نايمة ولسه صاحية…
لكن فجأةً، جاء صوتٍ حادّ من الداخل، قاسٍ ومشحون بالاتهام:
- الله يا ست هانم! جايبة راجل غريب البيت؟! يا "محترمة"!
اتسعت عينا ليل من شدّة الصدمة، واستدار الشاب ليرى مصدر الصوت... ليجد شابًا آخر يقف عند المدخل، يرمقهما بنظرات احتقار واضحة.
قال الأخير وهو يشير إليها باستهزاء:
-شوفتي يا ماما؟ الست "المحترمة" اللي كنت هتجوزها... بتدخل رجّالة البيت! مين عارف دا أول واحد ولا كام واحد قبله؟!
شهقت الأم وهي تضع يدها على صدرها وتهز رأسها بأسى:
- كويس إنك ما اتجوزتهاش يا ابني!
ارتفع الصراخ، وبدأ الجيران يخرجون واحدًا تلو الآخر، وأصدقاء ليل من المسرح وصلوا لحد الباب، ملامحهم مصدومة لا تستوعب ما يحدث.
ليل مسمّرة في مكانها، وجهها ممتلئ بالخوف والارتباك، وعينيها ترجفان بين الناس... ثم التفتت بطرف عينها نحو الشاب الواقف أمامها، وكأنها تستغيث بنظرة واحدة، غير قادرة حتى على الكلام.
هو الآخر كان مذهولًا... لا يعرف ما الذي يجري، ولا لماذا الأمر خرج عن حدّه بهذه الطريقة.
قطع التوتر صوت زميلها من المسرح، تقدّم وهو يقول بحدة:
- استنّوا! متظلموهاش! أكيد عندها تفسير... وهي هتقولنا مين الراجل دا.
لكن الأغلبية لم تهتم... العيون كانت معلّقة بـ ليل وحدها. نصفها ينظر بشماتة، والنصف الآخر بقرف...
أما أصحابها، فكانت نظراتهم مكسورة، تفيض بالخذلان والحزن... لأنهم يعرفون أخلاقها، ويدركون أنها مستحيل تعمل حاجة زي دي.
ومع هذا... الكل ينتظر كلمة واحدة منها.
في تلك اللحظة…
هو رأى الخوف في ملامحها، وارتباكها، واهتزاز أنفاسها… فعرف أن لو سكت ثانية واحدة، سمعتها هتضيع أمام عينها.
فرفع رأسه بثبات، وقال بصوت واضح وحازم:
- أنا... خطيبها.
تجمّد المكان.
ثوانٍ...
ثم انتشرت الشهقات، تباينت الوجوه بين مصدوم، ومندهش، ومكذّب.
--------------------
يا تري اي ليحصل لليل؟ و مين الشاب ده؟ انتظروني