أَتذكُر كيف يمتطي قمرُ الصيف غُروب شَمسنا؟ بَياضٌ ناصِعٌ تَزَوَّج من احمرارٍ يَشوبه اصفرارٌ يَنتعلُ السَواد.
مَسارٌ رَبَّاني لكوكبٍ يُزاحِمُ كَوكبًا آخر. لا اعرِفُ كيف يَتعَجَّب بَعض الناس من أجدادنا الذين حَولوهما إلى آلهةٍ تَسْتَحِقُ العِبادة! على الأَقل وفاءً لِزَمنٍ عاشوه.
أتّذكر هَدير البَحر يا مازِن؟ الصِدام مع الرياح؟ الرَقص تحت المَطر كَشخصيةٍ في مَسرحيِّة “ الهروب المُحال من البلل”؟ أَتَذكر ما قيمة صعود الجبل؟ أما زِلت تشتم رائحة التراب في الشتاء؟ رائحة الدواخين والحَطب المشتعل؟ أَتذكر الخريف؟ أَتعرف الربيع؟ أَلا ترغب في الخُلو؟ أَلا تريد أَن تَسْكَر؟ أن تُجَرّب أحد أنواع المُخدرات مثلًا؟ أَلا تُريد تَمزيق جَسَد؟ أو تَقبيله إذا أَمكَن؟
آسفة على طوفان الأسئلة، لَم أقصد أن أُحرجك يا مازن. لكنني لم ُقابل شَخصًا منذ زمنٍ لَم أَعُد أُحصيه. مُذ وَضعتني الوحوش في هذه العُزلة الجليدية في الشتاء والملتهبة في الصيف، لَم أُقابِل أحدًا وَقد خِلتُ أَنني قَد فَقدت القدرة على التواصل.
***
مازن: لا عليك يا مريم. احمدي الله على أَنّكِ ما زلتِ على قيد الحياة. فإن يُصيبك الهذيان أرحم من الجنون.
مريم: ماذا تَقصِد؟
مازن: المسي جَسدي لتعرفي ما يفعل بك عقلك. هذا الذي يَدَّعي أَنه إله العَصر، حينما يَصطَدِم بالواقع الكُحلي يَلجأ دائمًا الى الخِداع، فيخلقُ وهمًا لن يكون سهلًا إذا اعتدتِ عليه. وهو مَجنونٌ لدرجة أَنّه قَد يَذبح نفسه بنفسه. خُذيني مثالًا، ستُريدين أَن أبقى معك هنا في هذه العزلة وستُفضّلين بقائي على أَن أنول حُريتي أو أَن يتم نقلي الى زنزانة عادية. وها أَنا أَقول لك من الآن: لا تتعلّقي بالسراب يا جميلة. وَفري هذا العناء على نفسك.
****
إختفى مازن قبل أن يسمع رَدَّ مريم، أو ربما أن عقلها قَد تخلّص من جنديه الخائن في مهمة الحفاظ على حياة مريم قدر الإمكان، داخل غُرفة التحقيق الجليدية والتي تُنافس مصطلح الصقيع في معجم اللغة العربية.
منذ نِصف ساعة، وُضعت مريم في هذه الغرفة. قُيِّد كاحلاها برجلي كُرسيٍّ فلسطيني قديم يَمتاز في قِصَرِ أرجله وسقفه المكوّن من حبالٍ مَشدودة الأطراف ووسطٌ يَقبلُ الإرتخاء. رُكبتاها مُنفرجتا الزاوية، يَداها مُعَلَّقتان خلف ظهرها، مَشدودتان كأَنهما تحاولان لَمس قاعِ العنق من الخلف. جَنزيرٌ صَدِئ يَلتفُ كالأفعى حَول أَسفل كَفيْها ويُدخِلُ رَأسَه داخل الدائرة، لِيَسقط الى الأَسفل ويتشبث بأحد أَعناق الكرسي.
في الواقع، تَملك مريم جسدًا قويًا ساعدها على تحمّل ثلاثة ساعاتٍ من الضرب المبرح والصراخ والتحرّش الجنسي. ولأنها كانت قادرة على المقاومة ولأن مَزاج المحقق اليوم كان عاليًا بَعد ما شعر بفحولته ليلة الأمس، كان مَصير التحقيق أَن يستمر.
بَعد نصف ساعة، دخل المحقق مع أَفرادٍ من السَجّانين يَضعون أسلحتهُم في مؤخراتهم. كان تعويلهم الأخير على هذا النوع من التحقيق. كانوا يعرفون أَنهم لا يجابهون الآن مريم الجسد، بل دماغ مريم مُرَصعًا بذكرياتها وأصدقائها وطيّشها ونكساتها وإضطراباتها وقراءتها الشرهة لكُتب التاريخ. كانوا يريدون اقتحام حصن الأسير الأخير، مَصنع أفكاره وقيَمِه. لذا نزع شُرطيٌ قَميصها ومَزَّقه بأسنانه، أّخذ قِطعةً ملائمةً من القميص وغَطّى بها عَيْنا مَريَم ذوات الزَراق القاتم. نَظر شُرطيٌ آخر الى جسدها المحارِب ولم تَرُق له لوحة الصمود المتمثلة في جسدٍ صَمَد ثلاثين عامًا من الحرب الباردة، فَقام بقَطع الخيط الذي يَمنع ثَدييها من الهروب بأَنيابِه، فَضحك جميعهُم الّا سَجّانٌ عَربي كان معهم. وأعطى المُحَقِّق إشارة بَدأ التحقيق.
****
فَتحت مريم عيناها القاتمتان. نظرت حولها باحثةً عن شلال تَسمع صَوت سقوطه. وَجدت نفسها في بُحيرة دلافين مُختبئة. حَملها دولفينٌ شاب وقادها إلى شلال من الخمر في آخر البحيرة، هُناك بين أَشجار ثِمارها مَعرفة وجُذورها تراث وجذوعها رَيّعان الشباب بِحَد ذاتِه.
رَقصت مريم مليًا تَحت شلال الخمر وصَعدت قِمة الهاوية التي يَنحدِر منها الشال. كانت كل الدلافين في الأسفل، تُزَقْزِق منتظرةً قَفزتها كأَنها الأخيرة، كَأَنها انتحار الفَرح.
بعد الانتحار، نَهضت مريَم لتستريح تحت شجرةٍ يدعونها “ شَجرةُ الشعب”. استمتعت بِخُلوتها ثلاثين سنة. بعد هذا الاعتكاف الطويل، مَدَّت أَنظارها لترى سَماءً خَضراء يَسبحُ تحتها أصدقائها الدلافين وأَرضًا زَرقاء تَأكُل الخيول سَحابها.
قَمرٌ وشمسٌ يَدعوان أقرانهما مِن الكواكب بمناسبة ذكرى زواجهما الأخير، لأنهما قَرّرا الإنتحار من الملل.
تَفَكَّكت حُزَم الجبال وصار مِن حَق التلال الصغيرةِ أَن تذهب وحدها الى ساحة الرقص لتبحث عن حُبٍّ تحت رايات الكمنجات الباكية، تَحتضنها الأشجار لتعزف بها لَحنًا بسيطًا يَتخلّى عن حُليِّه ليكون خفيفًا حينما يَخترِقُ القَلب.
تُقَرِّرُ مريم المشاركة في هذه الجنّة المجنونة وعندما نَهضت لَمَحت شابًا وسيمًا يَسبَحُ من بعيد. ولكيلا تُعيد الخطأ التاريخي، تَعَلَّمت مريم من حواء وتأكّدَّت حينها أَن هذه الجَنَّة فانية، فَسَقَطت في حضن هذا الشاب الخالي من الملامِح. مَزَّقَت جَسَدَه الشهي وإنهالَت عليه بالقُبَل… سَمِعت صوت لَكمة المُحَقِّق دون أَن تَشعر بألمها. يَقول لها: “ للمَرَّةِ الأخيرة، اعترفي أين خَبَّئ جارُ إبنُ خالُكِ السلاح النووي منذ عام 1936 وإلّا فَلَن تَسلم عائلَتُكِ من شَلّال الدم يا شرموطة”.
****
كان الشلّال صوتًا يَنبعث من سماعات الغرفة شَغَّله أحد السجّانون وما البركة الا كلِمةً أُخرى هَدَّد بها المحقق. سُقوط شلال الخمر على رأسها مصدره أُنبوبٌ مُعَلّقٌ فوق رَأسها ينزف قَطرةَ ماءٍ كُلّ نصف دقيقة، وما كان من جنون مُخيّلتها الّا وهمًا يُعينها على الصمود في معركتها الأخيرة.
استسلمت الوحوش أَمام صمود مريم، فَقرّروا الإفراج عنها. في كل الأحوال هي معتقلة هنا منذ أُسبوعين ولا مكان لديهم لجسدٍ هامدٍ يُكَلِّفُهُم عِبئًا أكثَر من أي شيءٍ آخر.
منذ أن أعادوها إلى زنزانتها الانفرادية حتّى تترتّب أوراق خُروجها من “ مصلحة إعادة التأهيل”. عادَت مريم الى جَنّتها وبقيت مُستلقيةً تحت شَجرة الشعب، تَسنِدُ ظَهرها الى الوراء، تَمد ساقيها الطويلتين وعيناها مُثَبَّتتان بزاويةٍ تَستطيع منها رؤية طَرف البحيرة وشلال الخمر.
عُقودٌ من السلام مَرَّت، حتّى أتَت سبعُ سنواتٍ كادت أَن تتيه عن نهايتها لو لَم تَشنق الحرب نفسها. كانت خلالها مريم شاهدةً على صمود الدلافين في معارك طاحنة ضد الغُزاة الجدد. بَعد ما وَجدوا هؤلاء البحيرة صُدفةً فَصَدّقوا أنها لهُم. ثارت الدلافين وأَقسمت أَن لا تعيش تحت رَحمة الغُزاة أَبدًا ولو كان الموت مَصيرها، فاستمرّت الحرب سبعة أَعوامٍ من قَتلٍ وذَبحٍ حتى تَحَوَّلت البحيرة الى بركة دمٍ مَخلوطٍ بالأصالَةِ والقُبح.
أمّا مَريم فقد كانت كتابَ تاريخٍ كما أَرادت، شاهدةً على الحرب ومؤلفة ملحمتها والمخولة الوحيدة لتروي أَحداثها.
****
لا نعرف حتى الآن مَصير مَريَم.. فَقد خَرَجت مُحملةً على الأكتاف لأن المسؤولين لَم يُخبروا أهلها بأنها بحاجةٍ الى سيارة إسعاف، وَقد تَم الدفعُ بجسدها الهزيل بَعيدًا عن القفص الكبير في الصحراء.
أمَّا خِلال حرب الدلافين الأخيرة، فَلم تَبرح مريم أريكتها. قَيَّدت نَفسها بها كما اعتادت، وتَمَتَّعت بحريتها.. هُناك في جَنَّةِ المُخَيّلَة.
بَشَّار علي — 31/08/2021