تسارعت نبضات قلبه، تدفقت الدماء إلى رأسه، سرت قشعريرة في بدنه لم تعد قدماه تستطيع حمله.
سقط على الكرسي، تداخلت الحروف أمام عينه؛ لا يصدق!
هو لا يصدق إطلاقا !!.
لا يمكن أ ن تكون ابنته هي من كتبت تلك الكلمات .
ابنته المتفوقة لسنوات، المحافظة على صلاتها، الحافظة لكتاب الله، كيف لها أن تكون طرفا في ذلك الضياع؟.
أخذ يسأل نفسه هل يمكن أن تكون تنازلت عن سنوات عمره التي أفناها في تربيتها بتلك السهولة؟ .
شعر أ ن جهد العمر يتساقط أمام عينيه مع كل كلمة قرأها في تلك الرسالة التي وصلته على المسنجر من حساب يحمل اسما مستعارا (الصقر الجريء)، رسالة تحمل تفاصيل علاقة آثمة لابنته مرفقة بلقطات (سكرين شوتس) لمحادثات ملتهبة بين ذلك الصقر وابنته (تقى).
توقف عقله عن التفكير، شعر أنه في كابوس سوف يستيقظ منه حتما .
على الجانب الآخر أخذت ندى تعبث قليلا في محمول أخيها بعد أن تمكنت من معرفة مفتاح قفل الشاشة .
فتحت ملف الصور، كثيرا ما كانت تحب أن تشاهد صور أخيها في الجامعة، ذلك العالم المقبلة هي عليه بعد انقضاء هذا العام، وقعت عيناها على ملف صور مكتو ب عليه (تقى)
دفعها فضولها فتحه وكانت المفاجأة لقطات (سكرين شوتس) لمحادثات غرامية ساخنة بين صديقتها تقى عمران وأخيها هيثم من حسابه الاحتياطي " الصقر الجريء " !! .. جحظت عيناها لا تصدق ما قرأته، هي تعلم صديقتها جيدا وحدثت نفسها
قائلة: لا يمكن !، لا يمكن أن تكون هي من كتبت تلك الكلمات ولكن! يا الله هذا اسمها وصورة صفحتها الشخصية على الفيسبوك وهذه ايضا صورة أخي، آه يا تقى كيف خدعك هذا
الملعون أخي؟!
بشكل لا إرادي وجدت ندى نفسها تنقرعلى أيقونة فيسبوك لعلها تجد حساب أخيها الإحتياطي مفتوحا حتى تفهم ما يحدث بالضبط، لكنها وجدت شيئا آخر لم يخطر على بالها اطلاقا…
*****
تقى تقف أمام والدها لا تدري ما الذي فعلته جعله ينادي عليها صارخا كما لم يفعل من قبل، صفعها صفعة شعرت حينها أن نصف وجهها الأيسر ربما أصابه شلل ما، أخذ يصرخ في وجهها قائلا : ماذا فعلنا بك حتى تضعين وحلا على رؤوسنا، لم نقصر معك يوما، كيف لم تنهك صلاتك أو يمنعك قرآنك من فعل العاهرات؟.
أخذت تبكي وتبكي بكاءا حارقا من سيل الاتهامات التي سقطت على رأسها وسحقت روحها ولا تعلم من أي مستنقع جاء ت…
جلس حازم ف ي الكارافان المخصص لاستراحته بعد يوم عمل
حافل في الموقع المخصص لبناء مول ضخم في مدينة أكتوبر، كا ن هو أحد المهندسين المسؤولين عن هذا المشروع، استلقى على سرير الاستراحة وبعين نصف مفتوحة أخذ يتصفح رسائل الماسنجر الواردة، جحظت عيناه، علق ريقه في حلقه، دون أن يتكلم نهض وارتدى ملابسه وأخذ سيارته منطلقا إل ى بيته الذي لم يدخله منذ اسبوع مضى...
*****
وجدت ندى أمام عينيها حساب صديقتها تقى عمران مفتوحاً، أخذت تتصفحه لعلها تحل ذلك اللغز، ما هذا؟!! أين المنشورات!
أين اليوميات؟!
هي تعلم حساب صديقتها جيدا، كان لا يمر يوما دون أن تنشر اقتباس من كتاب تقرأه!
فتحت الرسائل فكانت المفاجأة، وجدت المحادثات الموجودة في
السكرين شوتس، توقف عقلها عن التفكير، هي لا تفهم شيئا
لكن تعرف أن أمراً سيئاً يحدث…
في غمرة دهشتها وحيرتها ومضت في رأسها فكرة شيطانية.
كيف؟! كيف وصلت وقاحته وسفالته إلى ذلك الحد؟! قالت محدثة نفسها.
رن جرس الباب، وضعت حجابها على رأسها وفتحت، وجدت أمامها إبنها حازم وعينيه قد اكتست دما، التقت عينيها المفزوعة بعينيه الثائرة ففهمت أن نفس الرسائل وصلته، لم ينطق بكلمة وانطلق صوب غرفة اخته ركل الباب بقدمه، دخل ولم يجدها، جال ببصره في المكان حتى وصله صوت نحيبها صادرا من غرفة المكتب، أسرع نحو الباب وفتحه ليجد تقى ف ي حالة انهيار وأباه عاجزا عن التقاط أنفاسه، لم تمضي ثواني معدودة وسقط الأب أرضاً، مال حازم عليه محاولا إفاقته .
أرادت أن تصرخ، أن تحتضن أبيها، أن تسمع دقات قلبه لتتأكد أنه مازال على قيد الحياة، لكن شلل تام أصابها وأخذ كل شيء من حولها يخفت ويخبو حتى هوى جسدها هي الأخرى معلناً الاستسلام !!
على الجانب الآخر، دفعت ندى باب غرفة أخيها لتجده نائما، أخذت تدفعه بيديها قائلة : أستيقظ سوف تحترق قريبا بالنار التي أضرمتها ، فتح عينيه ليجدها تصرخ في وجهها، ألقت الموبايل بجواره وقالت: لقد رأيت كل شيء، فرك عينيه وقال في كسل:
ليس الآن يا ندى لا طاقة لدى لثرثرتك، أريد أن أنام من فضلك أطفئي النور واخرجي وأغلقي الباب ورائك ولا تُسمعيني صوتك الجميل حتى الصباح، قال جملته الأخيرة تلك وهو يضع المخدة فوق رأسه ليسد أذنيه، رمقته بشرر كاد يخرج من
عينيها، ثم تمالكت نفسها، اقتربت منه، رفعت الوسادة عن رأسه
، واقتربت بفمها من أذنه وهمست
: حسنا لن ازعجك أخي الحبيب لكن أعلم أنني عرفت كل شيء، حساب تقى عمران، ملف صور تقى عمران، وسوف أفضحك وأكشف لعبتك الدنيئة مثلك يا عزيزي، ثم ابتعدت وأعادت الوسادة فوق رأسه مرة أخرى وخرجت بعد أن دفعت الباب خلفها بكل ما أوتيت من غيظ وغضب، انتبهت حواسه، رفع الوسادة عن رأسه وانتصب جالسا يفكر ماذا تقصد تلك البائسة وأي فضيحة تهدده بها!! ثم التقط موبايله ونظر فيه ليجد المحادثات التي بينه وبين حساب تقى عمران، تعجب من نفسه وقال
: يا مخبول كيف تنام وتترك المحادثات مفتوحة هكذا، ثم ألقى الموبايل بجواره مرة أخرى، ليعود للتفكير فيما قالت أخته، ثم اتسعت عيناه، خبط على جبهته بيده وقال
: اه يا غبي لقد رأيت أختك كل شيء وبالتأكيد استطاعت تخمين حقيقة ما حدث !.
وأخذ يسب ويلعن في نفسه وفي أخته.
*****
عنده ذبحة صدرية ويجب نقله للمستشفى فورا، قال الطبيب تلك
الكلمات لحازم بعد أن كشف على أبيه، ثم استطرد قائلا أما بالنسبة لأختك فهي تعرضت لصدمة عصبية وتحتاج إلى راحة وهدوء تام.
ليتها تموت وتخلصنا من عارها ودنسها؛ كلمات اعتملت في صدر حازم، ثم وجه كلامه إلى الدكتور
: حسنا شكرا جزيلا سوف انقل والدي الآن إلى المستشفى .
*****
ظلت ندى في غرفتها لم تتحرك تنتظر حلا يهبط عليها من السماء، لم تشعر كم مضى من الوقت وهي على حالتها تلك..
حتى سمعت صوت المفاتيح في الباب ورنة كعب حذاء أمها، فكرت أن تنطلق لتحكي لها كل ما حدث لعلها تنقذها من دوامات التفكير الغارقة هي فيها، لكنها تراجعت وقالت في نفسها، ماذا عساها تفعل! فهي لن تستطيع أن تفعل شيء، لم تهتم بنا سابقا حتى تهتم بنا الآن، وعادت إلى محراب أفكارها من جديد، ظلت تتخيل مئات السيناريوهات التي يمكن أن تحدث حتى شعرت أن رأسها يكاد أن ينفجر، ثم هتف صوتا داخلها لابد أن أخبره، وقررت أن تتصل به .
شق صوت إنذارات عربة الإسعاف هدوء الحي، نزل المسعفين لنقل أستاذ عمران إلى المستشفى، رافقه ابنه حازم ووقفت الحاجة زينب زوجته تبكي، هي تبكي زوجها وتبكي ابنتها التي لم تفتح عينيها بعد منذ أن سقطت وتبكي سنوات عمرها التي يبدو أنها ضاعت هباء في تربية حبة قلبها تقى، سمعت ندى صوت إنذارات عربة الإسعاف، فتحت الشباك من غرفتها لترى أستاذ عمران جارها ووالد صديقتها تقى تحمله النقالة ويرافقه حبيبها حازم وتنطلق سيارة الإسعاف .
لم تشعر بنفسها ونزلت السلم ركضا لتعرف ما حدث بالضبط من الحاجة زينب، وجدت باب الشقة مفتوحا، دخلت لتجد أم تقى تبكي حد الانهيار، احتضنتها وقبلت يديها، طالما كانت ترى فيها أما بديلة عن أمها التي تهربت من مسئولياتها منذ زمن، بحثت بعينيها عن تقى، فتحت غرفتها وجدها مستلقية على سريرها والمحاليل عالقة بجوارها، دق ناقوس الخطر والغضب في قلبها، هي تعلم أن كل هذا بالتأكيد من جراء ما فعله الشيطان المدعو هيثم أخيها !!
عادت سريعا إلى بيتها بعد أن فجع قلبها ما رأت في بيت صديقتها تقى وحبيبها حازم والحاجة زينب أمها البديلة، فتحت غرفة أخيها لم تجده، ضربت الحائط بقبضتها ثم جلست معلقة عينيها على باب الشقة، لم تنتظر كثيرا، عاد أخوها باكرا على غير عادته هذا اليوم، ما إن رأته حتى انتصبت واقفة وقالت له :
لقد عرفت تفاصيل لعبتك الشيطانية وإن لم تخبرهم أنت سوف أخبرهم أنا بكل شيء، ضحك ساخرا وقال
: لقد تأخرتي يا حلوة، ولتضعي في حسبانك أنه ليس عليك إخبار أسرتها وحسب بل عليك أيضا إخبار أقاربها وجيرانها وصديقاتها لأن الجميع يعرف الآن، شهقت وجحظت عيناها، واستطرد قائلا : الموضوع بسيط عزيزتي، مجرد نقرات بسيطة من أصابعي على اللا ب؛ قالها وعلى وجهه ابتسامة صفراء ولا مبالاة قاتله، لم تشعر بنفسها وهي تنهال عليه بسيل من السباب واللعنات، يا حقير، يا نذل، يا جبان، يا سافل، يا ملعون؛ تقى منهارة بصدمة عصبية وعم عمران في المستشفى وطنط زينب تنوح وقد اجتمعت أسباب نواحها، حين يكون على زوجها الذي لم يتحمل قلبه وحينا آخر على ابنتها التي لم تفتح عينيها منذ أن سقط أبيها وحينا آخرعلى الفضيحة التي لا تعلم من أين جاءت ولا إلى أين ستنتهي وأحيانا كثيرة يتغلبون جميعا على فؤادها فيقتلونه نحيبا.
غريب حقا في فجرك ولا مبالاتك وكأن شيئا هينا قد حدث ، واعلم أ ن لعنة الله وغضبه عليك سوف يحلان آجلا أو عاجلا.
*****
فتحت عيونها، أخذت تجول ببصرها في أرجاء غرفتها، تملكتها
الرهبة عندما رأت تلك الإبرة المغروسة في وريدها، رأت أباها يصفعها ثم رأت أخاها يهم عليها ربما ليقتلها ثم رأت أباها يسقط وتوقفت الأحداث التي تتدفق في رأسها عند تلك اللحظة، نزعت الخرطوم عن يدها، وتحاملت على نفسها وخرجت من غرفتها تبحث عن أبيها ، وجدت أمها جالسة تقرأ قرآن وقد غسلت الدموع وجهها، انقبض قلبها وقالت: ماذا حدث يا أمي؟ !!، أخبريني أنا لا أفهم شيء مما يحدث ، أين أبي الآن؟، وما الذنب العظيم الذي فعلته أنا وبسببه رأيت الكراهية في عين أخي وسقط أبي، نظرت لها أمها نظرة تحمل مزيج عجيب من العتاب والغضب والحزن والحسرة والشفقة، اقتربت تقى من أمها وقبلت يديها وهي تبكي وقالت أخبريني يا أمي، أخبريني يا أمي، سحبت أمها يديها منها ودخلت غرفتها واغلقت عليها، ثم سمعت نحيب أمها المكتوم، وقفت عند الباب واخذت تتوسل لها كثيرا أن تفتح الباب ولم تشفع لها توسلاتها، وظل الباب موصدا !
حازم جالس بجوار والده في غرفة المستشفى يراقب أنفاسه
وصعود صدره شهيقا وهبوطه زفيرا ، لا تتركني يا أبي الآن أحتاجك معي أكثر من أي وقت مضى، أخذ يردد في نفسه، ثم لاحظ وميض موبايله الذي تركه على وضع الصامت ففهم أن هناك اتصال وارد.
: آلو حازم أنا في المستشفى الآ ن .
أريد الاطمئنان على عم عمران، لابد لي من ملاقاتك الآن وللضرورة، أنا واقفة في انتظارك عند الاستقبال.
رد حازم :تمام سوف آتي حالا وأغلق الاتصال وتوجه إلى الاستقبال، وجدها وجهها شاحب وعينيها كمن أكلها الطير !
قالت له: كيفك؟ وكيف عم عمران
: الحمد لله على كل حال هو تحت الملاحظة حاليا
: هناك أمر مهم لابد أن تعلمه الآن وأعتقد أن بعده أمورا كثيرة ستتغير، نظر حوله يبحث عن مكان يمكنهما التحدث فيه حتى لمح مكان انتظار للمرضى في العيادات الخارجية التي لم تفتح بعد، ذهبا هناك وجلسا، لم تكن تعرف ندى من أين تبدأ، فحكت له كل شيء ووضعت الأمر كله بين يديه وتركته وذهبت.
قبل أن تذهب إلى بيتها فكرت أن تمر لترى كيف حال صديقتها الآن، تفاجأت عندما وجدت أن تقى هي من تفتح لها ولكن كأنها خارجة من القبر للتو .
أخذتها في حضنها وقالت كيف حالك حبيبتي، سامحيني، والله لم أكن أعرف شيئا عما يفعله هذا الملعون، مازالت تقى لا تفهم شيئا، أخذتها ندى من يديها واجلستها وقالت لها اسمعيني سوف تفهمين الآ ن كل ما حُجب عنك، في تلك اللحظه دخلت أم تقى وقالت وأنا أيضا أريد أن أفهم، أخبرينا يا ندى ماذا عندك مازلنا لم نعلمه .
حكت لهم كل تفاصيل لعبة أخيها الدنيئة، أخبرتهم عن حب أخيها ل تقى وولعه بها وكيف كان يتودد إليها وهي تصده في كل مرة حتى أنه هددها في مرة أنه سوف يدمرها إن لم تستجب له، لكنها لم تأخذ كلامه على محمل الجد وقالت له أفعل ما شئت، اشتعل الحقد في قلبه حتى أعمى بصره وبصيرته، ثم حكت لهم كيف أنه عمل حساب مزيف يحمل صورة واسم ونفس البيانات الشخصية ل تقى وبدأ يكتب رسائل حميمية متبادلة بين حسابه المزيف الصقر الجرئ وحساب تقى عمران المزيف وأرفق ذلك بصور خليعة عملها على برنامج الفوتوشوب وبالطبع عليها وجه تقى، ثم أرسل لقطات من المحادثات بالإضافة إلى الصور الوضيعة لعم عمران وأخيك حازم، كل ذلك وهم يسمعونها وكأن على رؤوسهم الطير! انفجرت تقى في بكاء يتقطع له نياط القلب وهي تردد، ماذا أفعل يا ربي، انقذني يا ربي، أقبلت عليها أمها وأخذت تقبل رأسها ويديها وتحمد الله أن تربيتها وسنوات عمرها لم تذهب هباء، وقالت لها اطمئني يا ابنتي، لن يتركنا الله .
سمعوا صوت غلق باب الشقة فقالت الأم لابد أنه حازم، رفعت الأم صوتها من داخل غرفة تقى وقالت، تعال يا حازم ادخل، فتح الباب ووقف على عتبته ليجد الأم وقد تهلل وجهها بعلامات البشارة وعلى الجانب الآخر تقى وقد كست الدموع وجهها وملأ الهم والحزن عينيها وندى بجوارهم تتابع ما يحدث، كحال تلك الغرفة كان حاله فقد اجتمع عليه الفرح لبراءة أخته أمامه على الأقل والهم والحزن من الفضيحة التي انتشرت ليس بالأمر السهل تبرئة أخته منها عند الجميع بعد أن انتشرت، أقبل على اخته، طوقها بيده ثم قبل رأسها وقال : تلك الدموع التي أراها في عينيك سوف تكون نار عظيمة يحترق بها قلب من ظلمك
*****
كان يريد أن يصرخ، أو يبكي، لا يصدق ما تراه عيناه، هل هذه حقا ملاكه الطاهر، هل هو ساذج غبي لم يستطع إدراك حقيقتها، هل هي ممثلة بارعة خدعته حتى الثمالة، كالمسحور خرج من بيته لا يعرف إلى أين يذهب، فقط أخذ يمشي ويمشي بلا وجهة ولا شعور حتى صادفه مقعد خشبي بالٍ في مواجهة النيل، إرتمي بجسده عليه، وضع رأسه بين كفيه، وأخذ يضغط عليها بكل ما أوتي من قوة لعل يتوقف السؤال، كيف فعلت تقى كل هذا العبث، كيف اغتالت أحلامه التي أسسها وبناها فقط من أجلها بهذه السهولة، رن هاتفه طويلا دون أن يجيب، فلا متسع في روحه الآن، يكفيه ضوضاء الأسئلة داخله، يريد الآن أن يكون وحيدا وفقط، رن هاتفه مرة ثانية وثالثة ، حتى أجاب، على
الجانب الآخر كان حازم، لم يقل أكثر من أربع كلمات، أريد أن أراك الآن يا مُحمد .
فتح عينيه ثم شعر أنه لم يكن يريد أن يفتحها فأغلقها مرة ثانية، لاحظت تلك الحركة الحاجة زينب، نادت على حازم وقالت : أبوك فتح عينيه وأغلقها مجددا.
:لابد وأنه يتهيأ لك يا أمي.
: لا .. أنا متأكدة لقد رأيته.
اقتربت منه وهمست له افتح عينيك يا حاج، افتحهما لتعرف ان ابنتنا شريفة وأن النبتة التي سقيناها بروحنا لم يستطع أحد اقتلاعها، فتح عينيه مرة أخرى بإرادته تماما لتلتقي عينيه رفيقة الرحلة الطويلة، قالت ودموع الفرح تملأ عينيها، نحمد الله على سلامتك يا حاج، اطمئن لم تخذلك نبتتك، لم تخذلك ابنتك، تقى بريئة وشريفة وعلى طريقها الذي ربيتها عليه، تمتم قائلا، الحمد لله، لك الحمد يا الله.
*****
وقف أمام صفحة النيل الهادئة في ليلة باردة بينما كانت أعماقه تغلي كالمرجل، وجد يدا امتدت على كتفه فانتفض من مكانه، ليجد حازم أمامه بعد عشر دقائق من مكالمته معه، لم يستطع أن ينظر في عيني ظل شاخصاً في تلك الظلمة الممتدة أمامه لصفحة النيل وسأله دون أن ينظر إليه، هل سقطت اختك؟، هل هذا الجنون حقيقي؟، جذبه حازم من كتفه وجعل وجهه في مواجهته وقال له
: إن كنت تقول عنه جنون فهذا يعني أنك تعرف أنه غير حقيقي، بالطبع لا، ابنة خالتك لا تضع الدنس علينا أبدا.
وضع محمد عينيه في عين حازم محاولاً سبر أغوارها ، يريد أن يسأله عن المحادثات وعن الصور التي أصبحت على موبايل الجميع، التقط حازم طرف الأسئلة التي تدور في خلده وقال له حسنا ستفهم الآن كل شيء، بكلمات مختصرة حكى له عما حدث، الآن فهمت يا محمد الأمر برمته وعلينا أن نفكر كيف نحضر ذلك الكلب نجبره على الاعتراف بـ لعبته القذرة ونشر اعترافه على كل الصفحات التي وصم فيها اختي بالعار، نظر إليه محمد وقد نفرت عروق رقبته وقال : أقسم بالله لأقتلنه بيدي بعد أن نأخذ منه اعتراف
: علينا أن نفكر جيدا الآن في الخطوات القادمة…
*****
ارتفعت الضحكات وغشاهم الدخان الأزرق بعد أن حكى لهم عما فعله بتلك البائسة المدعوة تقى ، قال أحدهم : شيطان أنت يا هيثم ، ابتسم بمكر وقال ساخرا متحديا
: لم تخلق بعد من يمكنها آن ترفض هيثم وإن خُلقت فعليها أن تتحمل عاقبة عصيانها.
ثم أردف قائلا : دعونا من هذه السيرة ونستمتع، لم أهرب منهم لأتحدث عنهم يا شلة ضياعي الجميل، قالها وهو ينفث الدخان الأزرق في السماء السوداء…
يا الله، أين ذهب هذا الملعون، قالت ندى وهي تحاول الاتصال بأخيها، بعد ثلاث أو أربع محاولات للاتصال رد عليها أخيرا لتخبره أن والدهما سوف يسافر إلى القاهرة يوم السبت القادم لقضاء إجازته السنوية معهم وأن عليه الذهاب للمطار حتى يكون أحد في استقباله، وأخبرته أنها عنده امتحان مهم في نفس الوقت وأمها حتما ستكون إما في النادي مع صديقاتها أو عند الكوافير أو في جلسة مغلقة مع لابها اللعين، سمعها حتى أنهت كلامها ثم انقطع الاتصال، حاولت معاودة الاتصال بعد انقطاعه عدة مرات فجاءها الرد تلك الرسالة الصوتية المسجلة غير متاح أو ربما يكون مغلقا.
وهي تصارع دوامات التفكير داخلها رن هاتفها فأجابت فورا، أهلا حازم، وأخذت تطمئن عليه وعلى ندى وعلى والديه، رد عليها ردا سريعا الحمد لله تمام وسألها أين هيثم؟ ، أخبرته بأنها لا تعلم وأنها اتصلت به فأجابها ثم انقطع الاتصال دون أن تعرف مكانه، حاولت الاتصال به بعدها أكثر من مرة لكن دون جدوى.
انتظرت رد من حازم لكن الاتصال انقطع معه هو الآخر، فنظرت إلى الموبايل متعجبة ثم ألقته بعيدا وقالت في دهشة
: ما بال هذا الخط، ينقطع معهم جميعا، تبا لهم !
لقد هرب، هرب حتى يقطع علينا خيوط الوصول إليه، قالها حازم وهو ينظر إلى الأرض بقوة وشراسة، في نفس الوقت ضرب محمد الأسفلت بيديه وكأنه يريد أ ن يخرج هيثم من باطن الأرض يلقنه درسا ثم يدفنه بيديه في ذلك الأسفلت، ثم قال وهو يحاول تهدئة نفسه : علينا أن نحاول الوصول إلى رفاقه ومعرفة خط سيرهم و حتما سنصل…
بدأوا رحلة البحث، ذهبوا إلى أصدقائه في بيوتهم، تعقبوا شلته الفاسدة حتى أمسكوا طرف خيطها وعرفوا أنهم في شرم الشيخ منذ حوالي أربعة أيام تقريبا وهو نفس الوقت الذي اختفى فيه هيثم، إذاً بنسبة كبيرة هو في شرم الشيخ مع رفقة الشيطان تلك، قالها حازم وبرقت عيناه ببريق ما !
*****
حاولت أن تتماسك، أن تبدو قوية، تحاملت على نفسها حتى تبُقي رأسها مرفوعة وهي تمر وسط زميلاتها، لكنها كلما مرت على مجموعه منهن، سمعت همسهن، رأت نظرات الازدراء في عيون بعضهن، و نظرات الريبة في عيون أخريات، بينما اقتربت منها تلك الفتاة المعروفة لكل من في المدرسة، الجميع يعرف سوء أخلاقها، حاولت تلك الفتاة أن تمد خط مودة وصداقة مع تقى، تجاهلتها تماما ومضت في طريقها، لكن الأخرى لم يعجبها بالطبع ذلك التجاهل، جذبتها من كتفها وقالت، ماذا تظنين نفسك ؟!، ألم يترامى إلى مسامعك أجراس فضيحتك، صورك على هواتفنا جميعا، بل اسألي جدران المدرسة ستخبرك بما يعرفه الجميع، كفاك تمثيل دور صاحبة الصون والعفاف، لم يعد يجدي التمثيل والادعاء لم يعد يجدي حبيبتي، أرادت تقى أن تصفعها، أن تركلها، لكن دموعها غلبتها، أشاحت بوجهها عنها حتى لا تستمتع تلك العابثة بانكساراتها، مضت تقى دون أن تنطق كلمة واحدة نحو مكتب أستاذة " اعتدال " مديرة المدرسة، طرقت الباب فأذنت لها بالدخول، كان ل تقى مكانة أثيرة في قلبها لطالما أعجبت باجتهادها والتزامها ومثاليتّها، كانت تشعر دائما أن هناك حلقة مفقودة في ذلك الموضوع غم اكتمال كل دلائل إدانة تلك الفتاة المسكينة، رق قلبها بشدة عندما رأت تقى وقد احترق وجهها بنار دموعها، قالت لها اهدئي حبيبتي واجلسي وأحكي لي كل ما بداخلك بالتفصيل …
أخذت تقى تحكي كل شيء، حكت عن نظراتهم وهمساتهم ونزف روحها، وأخبرتها بتفاصيل اللعبة الحقيرة، ساعة كاملة وأستاذة " اعتدال " تستمع لها بكل ما أوتيت من حواس، إلى أ ن قطعت حديث الفتاة وفاجأتها بسؤال، تق ى أخبريني هل أنت أفضل من السيدة عائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذت تقص عليها حادثة الإفك التي فيها قذفت السيدة عائشة في شرفها بالباطل حتى جاءت براءتها من عند الله سبحانه وتعالى، وقالت لها في حزم، عليك أن تثقي في تقدير الله واعلمي أن هذا ابتلاء عظيم ليختبر الله صبرك ويقينك أن الله لا يتركنا أو يهملنا، ثم وضعت يدها على كتفها ونظرت في عينيها وعلى فمها إبتسامة حنونة وقالت، اصبري حبيبتي ففي العتمة الشديدة سينبت الفرج، فتجلدي لها وكوني على قدرها، تلك هي الحياة...
*****
:ألو حازم ، مات هيثم.
أغلقت هاتفها وأخذت تبكي وتنتحب وهي تردد لماذا يا هيثم؟ لماذا رحلت هكذا دون وداع، لماذا رحلت تاركا لنا ذنبك الذي علينا أن نثبته عليك لا أن ندفعه عنك، لماذا جمعت علينا حرقة فراقك وحرقة فعلك المشين، يــــا لله هون، يـــا الله هون.
لقد مات، قالها حازم لأمه، مات هيثم في حادث سيارة على الطريق السريع وهو في حالة سُكر هو وأصدقائه بعد قضائهم ليلة رأس السنة بأحد الملاهي الليلية، لطمت على صدرها وقالت آه يا ابنتي، آه من هذا العار، كيف لنا أن نثبت براءتك !!.
رد حازم بكلمات واثقة سنصل يا أمي، سنصل إلى حساباته الوهمية وسنعلن براءة تقى أمام الجميع، ثقي في الله ثم فيّ أنا.
شعر أنه في حلم بل كابوس مريع وهو ينقل خطواته داخل البيت ليجد الجميع يرتدي أسودا وذلك الصوت المميز للقارئ عبد الباسط، ذلك الصوت الذي ارتبط كثيرا بالمآتم وأصونة العزاء قد غطى على أي صوت آخر في تلك اللحظة، يقولون أن ابنه مات، جميعهم يقولون أنه مات، مات في حادثة على الطريق، تداخلت حروف القرآن واختفى كل شيء من حوله، لا بشر ولا جدران ولا ألوان، أصبح كل شيء م ن حوله أكثر عتمة وسوادا وتهاوى جسده، موت ابنه ذبح الوتين، سقط أمام قدمي حازم الذي كان قادما لتقديم واجب العزاء، وتكررت نفس الأحداث التي حدثت منذ بضعة أيام، ذبحة صدرية، عربة إسعاف، مستشفى، ولكن هذه المرة بطل الأحداث والد ندى، يتبادل البشر الأدوار في تلك الحياة وتتشابه المصائر ويدور الكأس !!
*****
رن هاتف ندى .
: آلو ندى أريد مقابلتك عل ى وجه السرعة.
: تحت أمرك يا حازم حدد المكان والزمان وسوف تجدني في انتظارك، أعلم أنك تريد غلق جرح اختك المفتوح حتى لا يتقيح.
:حسنا أنا وأمي في انتظارك الآن في البيت.
دقائق وسأكون عندكما…
: البقاء لله يا ندى وحمدا لله على سلامة والدك، ربنا يرده إليكم سالما معافى ومن ورائه رددت الحاجة زينب، اللهم آمين.
طبعا تعلمين المأزق الذي نحن فيه الآن والوحل الذي غمسنا فيه أخوك قبل أن يرحل، أومأت ندى بعينيها وقالت نعم أعلم وأنا على استعداد لمساعدتكم في أي شيء تريدونه، نريد أن نفتح ذلك الحساب الوهمي لأختي لنعلن للجميع حقيقة ما حدث ويكون معنا دليل قوي على كلامنا وبعد ذلك نحذفه تماما، حتى نقتلع ذلك الأمر من جذوره
*****
تقى: هذا ما حدث يا حازم مع مديرة المدرسة، كلامها بث كثير طمأنينة في روحي. دق جرس الباب، قال حازم هذا محمد، قال أنه سيمر علينا بعد انتهاء محاضراته، دخل محمد و انزعج بشدة للحالة التي كانت عليها تقى، لم يكن رآها خلال الفترة الأخيرة، وجدها ذابلة وحزينة، بمجرد أن رأته ارتسمت على شفتيها ابتسامة عذبة في ظاهرها، ولا يعلم أحد مدى الحزن والكسرة خلفها سوى صاحبتها، شعر في تلك اللحظة بحنين جارف، أراد أن يضمها بشدة، قال في سريرته، يــا الله، إن كان حرام ضم الجسد للجسد دون عقد و زواج فهل حرام ضم الروح للروح، أراد أن يضم روحها بشدة، أراد أن يمسح عنها وجعها، أن يلملمها ثم يرممها .
محمد .. أين ذهبت؟، قالها حازم قاطعا عليه حديث الروح للروح .. ها! .. هنا، ما زلت هنا يا حازم، لم أذهب في أي مكان آخر، قالها محمد ونبرته تحمل شيئا من مزاح على استحياء…
:لا بد أن تتناول معنا طعام الغداء اليوم، خمن ماذا صنعت خالتك اليوم؟
أخذ محمد يطالع وجوههم في حيرة من أمره
فقال الحاجة زينب قاطعة عليه حيرته: صنعت من أجلك حمام محشي تماما كما تحب .
تهلل وجهه وقال: حسنا بالطبع لا أستطيع أ ن اصمد أمام تلك الدعوة، هذا هو طعامي المفضل…
رن جرس الباب، فتحت الحاجة زينب الباب لتجد ندى أمامها وقد التمعت عيناها ببريق لم تراه منذ فترة، قالت: أين حازم وتقى يا طنط؟
: موجودان يا بنتي تفضلي، وعمك عمرا ن كذلك هنا، خرج من المستشفى الحمد لله، قالتها بفرحة واضحة .
دخلت ندى لتجد الجميع موجود تقى وحازم وابن خالتهم محمد وعم عمران، مدت يديها إلى حازم بالموبايل وعلى وجهها ابتسامة تحمل معان الظفر والراحة، نظر حازم إلى الموبايل وقد اتسعت عيناه لا يصدق ما يراه وقال في دهشة وفرحة غامرة.
:يا إلهي هذا حساب اختي المزيف، كيف وصلتي إليه؟ أخبريني يا ندى، قالت: كنت أفتش في أغراض أخي لعلي أجد شيئا ذو أهمية، يساعدنا فيما نريد، لكن لم يلفت انتباهي شيئا وهممت بغلق الدرج الذي يحوي أغراضه، فالتقطت عيناي شريحة موبايل مهملة فأخذتها واستخدمتها وعملت محاولة لم أكن أعول عليها كثيرا ، لكني عملتها من با ب الأخذ بالأسباب، فكثيرا ما يأتي الفرج من أهون سبب…
ضغطت على أيقونة الفيسبوك الزرقاء وأدخلت رقم الشريحة التي وجدتها، ظهر لي خيار (هل نسيت كلمة السر؟)، ضغطت عليه وأنشأت كلمة سر جديدة بعد أن أرسلت إدارة الفيسبوك رقم كودي في رسالة على رقم الشريحة التي وجدتها فأدخلت الكود وأكدت كلمة السر الجديدة وفتحت الحساب، قالت كلمتها الأخيرة وهي تتصفح وجوههم جميعا.
خرج عم عمران من غرفته وكأن الله أراده أن يشهد تلك اللحظة، استطردت ندى كلامها قائلة، لقد فكرت أن أسجل بث مباشر على الحسا ب الزائف وأحكي فيه كل ما حدث وسوف أرسل هذا الفيديو لكل أصدقائنا ومعارفنا وبالطبع سوف أضعه أيضا على صفحة تقى الحقيقية، وجد حازم ومحمد كلام ندى معقول جدا، وبدأت أمامهم جميعا في تسجيل البث المباشر…
دون أن يشعر أحد انسحبت تقى، دخلت غرفتها، امسكت هاتفها، ضغطت على أيقونة الفيسبوك الزرقاء وكتبت، تلك الأيقونة الزرقاء قبل أن تضغط عليها تمهل فقد تكون بوابتك لجحيم ما فاتق الله الذي يراك وإ ن عمي عنك الجميع، توضأت وصلت ركعتين شكر لله قرأت فيهم، آيا ت من سورة النور، بسم الله
الرحم ن الرحيم، {إِن الذِين يحُِبُّو ن أن تشِيع الْفاحِشة ُ فِي الذِين آمنوُا لهُمْ عذاب أليم فِي الدُّنْيا والْآخِرةِ و اللُّه يعْلمُ وأنتمُْ لا تعْلمُون}