بلدة طيبة
فى صيف 1994 فى منتصف شهر يوليو حيث الحرارة الشديدة ،فى قرية صغيرة من إحدى قرى مركز قلين التابعة لمحافظة كفرالشيخ ،حيث المناخ المعتدل بطبيعتها الجغرافية ، فهى فى شمال مصر ولكن موجة الحر شديدة على أنحاء البلاد.
وهرع الفلاحين بالقرية للغيط لينعموا ببعض النسيم ،وهناك تحت شجرة جميز عتيقة جلس عم إبراهيم وولديه أحمد ومحمد ويحتسي كوب من الشاي أعده أحمد وهو يصب لأخيه وهو يسألهم عن أحوال الجامعه فنظر كلاهما لبعض وأحمد يقول الحمد لله إن شاء الله فى آخر سنه في كلية التجارة ومحمد في السنة التانية آداب إنجليز...قاطعه والده وهو يزفر ويضع كوب الشاي على الأرض هو أنا سئلتك في إيه ... عملتوا إيه في الكتب .
رد أحمد وهو يصب لنفسه كوب شاي أمي باعت طيور في السوق وجبنا بعض الكتب إللى محتاجنها ..
نظر إلى السماء كأنه يناجي ربه على حاله وأن يفرج كربه وهمه ..
وٱستطرد وقال أمكم تعبت كتير ووقفت معايا لحد ما ربناكم وبقيتوا رجاله وكان نفسنا تبقوا أكتر من كده ولكن ....وسكت برهة وقال أمكم جالها مرض في بيت الوِلْدَ (1) منعها من الخلفة بعد كدة والحمد لله ربنا كرمنا بيكم وأختكم صابرين ويعوض صابرها خير فيكم .،قام محمد وتناول فأس بعدما فرغ من شرب الشاى وهو يقول هعزق القطن فأشار له والده نصلي العصر ونقوم علشان الحر ..
******
في منزل عم إبراهيم زوجته في همة ونشاط وهي ممتلئة بعض الشئ وهى تلبس جلباب كحلى فيه بعض النقوش وتغطى رأسها بطرحة وهى تسعى لإنضاج الطعام ووضعت أبرمة(وعاء فخار) ووضعت حمام في قعر البرام ومعه معلقة .
زبدة أو قشطة أسفل الحمام ورشة فلفل أسود وأضافت الأرز .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأرياف تطلق على الرحم بيت الولد بكسر الواو.
فوقه حتى غطى الحمام وسكبت اللبن حتى غطى الأرز ورشة ملح صغيرة ووضعته....
بالفرن البلدي مصنوع من الطوب الحراري والطين وبجانبها قش الأرز وحطب لإنضاج الطعام وهى تنادي يا صابريين هاتي صينية البطاطس...
وترد من الداخل حاضر جاية أهو ..،وتأتى صابرين وتحمل الصينية وتلبس عباية نص كم ملونة وشعرها الأسود منسدل خلفها ووجها مستدير وقمحية اللون وأنفها الدقيق وفمها الصغير وجمالها المحبب للنفوس ، وأعطت لأمها البطاطس وجلست تلعب بعود في الأرض وأمها تقول لها غسلتي المواعين والقلل..،وترد عليها كأنها إعتادت على ذلك أيوة يا أمى طيب يا حبيبتى لمى شعرك علشان الأكل و..،قاطعتها صابرين هقوم أذاكر شوية علشان أنا في الثانوية .
الأم : ربنا يفتح الأبواب في وشك يا بنتي
****
في القرية ذاتها وعلى بعد أمتار قليلة من بيت عم إبراهيم بيت شيخ الجامع بالقرية الشيخ ياسين يجلس على كرسي كبير وتحته وسائد ويلبس قميص (1) أبيض ويعتمر عمامة الأزهر الشريف التي تميزهم وأطفال في أعمار مختلفة في الكُتاب لحفظ القرآن وهو ينادي عليهم ليصح لهم الماضي أو اللوح الجديد وينادي على ابنته عائشه لتأتي له بماء بارد من شدة الحر وهو يقول: موجة الحر دي غريبة على البلد.
وعائشه تحمل قلة لها رقبة طويلة وعليها خطوط عريضة جميلة مجرد النظر لها تروى الظمآن وهى تقول شهر سبعة وتمانيه حر على طول يا أبي ..تناول القلة بس المرة دى حار جاف وهو يرفعها ويشرب منها بنهم ويترك بعض الماء ينساب من شدقيه على صدره ليرطب نفسه ويشعر بشيء من النسيم ..،
ضحكت عائشه، حارجاف صيفاً دافئ ممطر شتاء، جو مصر معروف في كتب الدراسات .
فأعطاها القلة وأخذ منديلًا من القماش ورفع عمامته وهو يمسح العرق المتصصب من رأسه ، وٱستوقفها بعدما همت بالإنصراف وهو يتحدث لها عاوزين نجيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)القميص لبس الرجال وليس جلباب وذكر للنساء جلابيبهن.
مروحة ضرورى إن شاالله بالتقسيط .
عائشه : ماشي فيه محل هنا بيقسط بتاع اولاد مرعى.
الشيخ ياسين: بس هيزود فايدة كتير ولا إيه؟!
عائشه : ممكن تسأل ولو معجبكش بلاشه خالص ونجيب من قلين .
الشيخ ياسين: إممم ويضع عمامته على رأسه ربنا يسهل خلي والدتك تحضر الغدا علشان نصلي العصر ونتغدا .
*******
الشمس تميل بعد العصر وتكسر الحرارة قليلًا وعم إبراهيم وولديه يتصببون عرقاً وهم يعملون بعزق القطن وتنقية الحشائش منه، والقلة الكبيرة تحت
ظلال الأشجار ويشربون منها وملابسهم مبللة بالعرق بالكامل من الأمام والخلف والشمس تنزل رويداً رويداً فتوقف عم إبراهيم ورمى فأسه جانباً وقال لمحمد روح بقى دور المكنة وٱفتح المطالق وحول المية علشان نسقى الجو بقي كويس شوي...
قاطعه محمد لا يا أبي روح إنتي تعبت وهكمل أنا وأحمد بقية الأرض ..
فٱبتسم إبتسامة واهنة وٱنصرف لرى الأرض..
أحمد يجلس ليأخذ أنفاسه ويقول لمحمد يلا نتسابق ونشوف مين يخلص الأول ..
محمد: ماشي وسحب نفساً عميقاً وأحمد يقول يلا نبدأ وأخذوا فى تمشيط الأرض سريعاً وهم يضحكون ويهرولون من مكان لمكان حتى ٱنتهوا من الأرض ، والماء من ورائهم دخل المضمار في السباق معهم،، والوالد يفتح للماء لينساب برفق للأرض التى تشققت من العطش والماء يجرى فتغلق الشقوق ، ونباتات القطن تنتشي وتتمايل بشعورها بالماء الذي يتخللها وصدق الله وجعلنا من الماء كل شئ حي..الأنبياء
وقال عز من قائل( لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)الفرقان..
ومالت الشمس للغروب وتلونت السماء بشفق جميل وتناثرت السحب بمنظر بديع يخطف الألباب والعقول يحتاج لريشة فنان أو كاميرا تسجل لحظات الغروب ، ومع ذلك ٱنشغل عم إبراهيم وولديه في العمل وإيصال الماء لكل مكان بالأرض ولم يلتفتا لسحر الغروب وجماله ،وبديع صنعه جل جلاله،
و ينادي الوالد على أحمد ليفك البهائم ويحمل أشيائهم على الحمار وينطلقوا للبيت ومحمد يعاونه في جمع الأشياء ووضعها في غرفه صغيره ملحقة فيها الفؤوس والمناجل ويد المكنةوزيت وسولار المكنه وخلافه ..
وجاء عم إبراهيم وركب على الحمار ويسحب بخطام الجاموسة والبقرة والعجل الصغير وهو يتهادى في مشيته ومن ٱن للآخر ينادى عاااا... حِييِيي ...حا مشي حا
وأولاده يمشون وهم يتسامرون ...
*****
يلا يا صابريين أبوكي وإخواتك على وصول ..،
نادت زوجة عم إبراهيم عليها لتحضير الماء للغسيل في الحمام لوالدها وإخوتها والأم في تحضير الطعام ،ونزلت للفرن وأخرجت الأرز والبطاطس وسكبت بعض الماء على النار لتنطفئ وحملتهم وصعدت للبيت، وملحق بالبيت غرفة كبيرة بها المعاش من تخزين للحبوب والدقيق والسمن واللبن والفرن ، وبعض الطيور والحمام والبط في غرفة ، وفي الغرفة الملحقه بالأسفل التي تطل على الشارع توجد الزريبة أكرمكم الله وعلى سطح المنزل قش الأرز والحطب لكى يشعلون به الفرن .،
وجاء عم إبراهيم ومعه أولاده وأخذوا منه خطام البهائم ليربطوها على أمكان أكلها وكذلك الحمار ،..ونزلت صابرين لتحلب اللبن في طاجن كبيرمن الجاموسة وطاجن آخر من البقرة وعلت رغوة اللبن مع الحلب المستمر وقامت بوضعه فى النملية وأمها تحضر الطعام حتى يفرغوا من الغسيل وإستبدال ملابسهم المتسخة بأخرى نظيفة وجلسوا على الطبلية ليتناولوا طعامهم وعم إبراهيم يحدث صابرين عامله إيه في المذاكرة .
صابرين : الحمد لله .
الوالد : إجدعني إنتى شاطرة وأحسن من الخناشير دول فضحكوا جميعاً و لم يضحك وقال أنا مش بهزر دول خناشير بجد فٱزدادوا ضحكاً وأمهم تقول بقى دول خناشير دا تمر يا خويا..،فضحك وقال القرد في عينه أمه ...ولم يكمل المثل،..
وأحمد يقول بتهكم بقي الواحد قرد ..
محمد هو إنته ناسي نظرية داروين إن الإنسان أصله قرد .
ضحكت صابرين وقالت مع إن الكلام دا غير صحيح، بس شكلى هقتنع لما بشوف بعض البنىي أدميين .
فقال الوالد من ضاروين ده !؟
محمد : دا تشارلز داروين بريطاني إتكلم عن أصل الأنواع ونظرية التطور
خلاصتها إن الإنسان أصله قرد.
الوالد: الراجل دا أصله حمار .
فضحك الجميع وقال أنا مش بهزر لأن دا مخالف للنص القرآنى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) الإسراء.
أحمد: دا طبعاً لا خلاف فيه ولكن ممكن يكون ٱستند أن الإنسان والقرود من البشرنيات طائفة الثدييات (حقيقة) فهناك تشابه بينهما مع تطور دماغ القرود وتشبيهها بإنسان الغابة.
الأم: ما بلاش سيرة القرود والحكاوى دي وخلينا في المهم ،..
الوالد : وهو يتعجب هو فيه مهم؟!
الأم: أختى عاوزة تاخد صابرين لإبنها طارق فنظرت صابرين بدهشة
حقيقية وقال أحمد هو شغال إيه دلوقت .
الأم : نقاش قد الدنيا وبيكسب حلو .
الوالد : حلو خالص بس مش متعلم يدوب واخد الإعدادية.
الأم : معيبوش حاجه إنما بيشتغل وبيكسب بالحلال .
الوالد: الكلام والرأى لصاحبة الشأن هى إللى هتعيش معاه ولا أنا ولا إخوتها ولا إنتى لينا دخل .
وسكت الجميع كأن على رؤسهم الطير والكل تحولت عيونهم لصابرين ولم تنبث ببنت شفه ,حتى فرغوا من العشاء .
وصابرين سرحت بأفكارها وطارق يذهب معها للمدرسة في المرحلتين الإبتدائي والإعدادي ، طارق يكبرها بعامين ولكنها تميل له ، وتحبه منذ الصغر ، ولكنها اليوم في الثانوية العامة ولعلها تدخل كلية من كليات القمة فتجد من هو أفضل منه ، كانت تفكر بعقلها في تلك المرحلة ، ونحت قلبها جانبًا ، فالقلب له سلطة عجيبة على الشخص ، وتجد فتاة جميلة حسناء وتحب شاب لا يتمتع بشئ من الوسامة ، ولكن جذبها إليه برجولته ، بعفته، بحنانه الجارف وتلك مميزات تقدرها المرأة ، وعقدت النية حتي تحصل على الثانوية ويقدر الله ما يشاء.
*****
ياترى هيرضوا بيا يا أمى...،
أم طارق : طبعاً يا حبيبي إيه إللى ناقصك بيتك متشطب لوكس وكسيب ولا دخان وملتزم ومحترم هتلاقى زيك فين ..
طارق : التعليم يا أمى ،،وصابرين ممكن تجيب كلية عالية ومترضاش بيا .
أم طارق : هو التعليم بيجيب حاجه دى ورقة الجرنال أغلى من شهادة الجامعة إنما وقتنا بيتكلم في المادة معاك قرش تساوى قرش .
وسكتت وقالت وإنتى يا حبيبي أى بنت تتمناك.
شرد طارق في أفكاره وهو يسترجع ذكرياته مع صابرين هو واقع في
غرامها منذ الصغر ويهيم شوقاً إليها ومجرد رؤيتها يرفرف قلبه كالطير في السماء محلقاً ، أرواحهما تتلاقى فتئتلف وتتعانق قلوبهم فى الإثير، وصعد على سطح البيت وٱستلقى على ظهره، وينظر للنجوم ويديه وراء رأسه لينعم ببعض الهواء ، لعل نسمة تلطف الجو وحرارته وحرارة قلبه المتوقدة وو...سبح في نوم عميق ...
ورأى نفسه مع صابرين في حديقة غناء وهى تلبس فستان أبيض جميل ونظر لنفسه فإذا هو يلبس بدلة سوداء وربطة عنق على شكل الفراشة (بابيون) وأخذ بيدها وطبع قبلة رقيقه على أناملها ووضع يده الأخرى على خصرها وهو يرقص بها ويطير نعم يطير وٱختفى العالم من حوله ولم يبقى إلا هما يحلقون في سماء الخيال ....
وأصوات كالملائكة تغنى وتزفهم ...
وأولاد صغار يلبسون نفس ملابسه وبنات تلبس فساتين فرح كالعروسة ويصدحون على مسرح يطير معهم ، ورجل وبجانبه فتاة جميلة محجبة يغنون سويًا بصوت ملائكي..
يغردون بأغنية جميلة ...
والكل في جو السماء يحلقون...
ويرقص هو وصابرين على شئ مستدير مضئ...
وتعلو بهم ومن حولهم النجوم...
والأطفال تصدح بالغناء معهم...
ويسمع صوت عالى يصيح ..
ثم صرخات عاليه مختلطه مع صوت الغناء ...
ما هذا ....
من ذا الذي يصرخ في يوم فرحه....!!
أفاق من سباته ...،
فنزل سريعاً للأرض وأفاق من نومه على أصوات من كل إتجاه ونظر حوله فإذا ألسنة النار تتصاعد للسماء من بيت حبيبته ..
من بيت عم إبراهيم ..
وهرول سريعاً والقرية كلها تطفئ النيران التي ٱشتعلت في القش والحطب وصوت طقطقة الخشب وهو يشتعل ...
ويرفع وعاء من الماء ويسكبها على النار والدخان يملئ الجو، والنساء تناول الرجال من هنا وهناك والكل يسرع لإخماد النار ...وهو يبحث عن صابرين فى تلك الحالة ...
ورأها وهي تجرى بوعاء مليئ بالماء وتناول أخوها محمد منه ،