يحدث أن يربطك بأحدهم شيء أقوى من الحب و أضعف من الهجر.. يظل القلب عليلا.. يئن من فرط الشوق و يبكي من لوعة الغياب.. يتمسك بثوب الحياة باحثا عن طريق للفرح يأخذه صوب ألوان من البهجة و السعادة.. حتى الحياة تدير له ظهرها و تسحب أطراف ثوبها من بين أنامله..
ألقت نظرة سريعة على جواز سفرها عندما استقرت على مقعدها المريح بالطائرة.. لكن شعورا بالاختناق و عدم الراحة اعتراها عندما أغلقت أبواب الطائرة استعدادا للإقلاع.. هاهي تنجح في الرحيل بعيدا.. ترحل خاوية إلا من جسد متهالك هش كقشة بالكاد يحمل رأسها التي تعج بالأفكار..
انزعجت من تقلب الرجل الذي يجلس بجانبها فوق مقعده.. تريد صمتا يطبق عليها عساها تنزوي مع ذاتها تستمع إليها و تصغي إلى أناتها.. لطالما تناستها و تجاهلت صرخاتها.. و من منا في رحلة حبه لا يحزم حقائب روحه و ذاته و يدفع بها مقابل روح زارتنا فجأة و سلبت منا الراحة في غمضة عين؟!..
ابتسمت في سرها عندما أحكم الرجل بجوارها غلق نافذته.. سمعت أنفاسه الغير المنتظمة و زفراته أحيانا كمن يختنق أو يضيق ذرعا من شيء ما.. حتما يخاف من الإقلاع و إلا لما تململ كثيرا فوق مقعده.. غريبة هذه الحياة.. تملؤنا بمشاعر لا تحصى و لا تعد.. تشحننا بكل الصفات التي نجهل معظمها أحيانا.. ثم تضعنا بمواجهة مع شعور صغير كالخوف.. فالخوف هو ذلك السراب الذي تصنعه أنفسنا الضعيفة و حوله تدور كل أفعالنا و انفعالاتنا.. هو ذات الوهم المخادع الذي يسخر من ضعف حيلتنا إزاءه و يظل يتلاعب بنا يمنة و يسرة.. و لا يشبع.. و لا يضمأ عطشه.. لطالما خوف صغير جر وراءه مخاوف كبرى فصارت الدنيا بأسرها عبارة عن ساحة حرب و ألم بدل مساحة حب و أمل..
تعجبت من فلسفتها عن الخوف و سخريتها منه.. لم ترحل الآن؟ لم تحلق بعيدا نحو أرض ما كانت يوما أرضها؟.. إنه الخوف و ما من شيء آخر سواه.. الخوف من فقدان نفسها.. من السقوط.. من الانهيار و الضياع.. الخوف من أن تتوه عن نفسها فتظل لاهثة متعبة عساها ترتطم بها و ينتهي مشوارها في هذه الحياة و لا تهتدي إلى الراحة و الرضا سبيلا..
أخرجت كتابا من حقيبتها.. كانت على عجلة عندما وضعته.. ربما تحتاجه هروبا من أحد المتطفلين بالرحلة أو من أفكارها المخيفة.. لم تنتبه حتى إن كانت قد قرأته قبلا و تنقلت بين فصوله أو لا.. فتحته بأصابع ترتجف عصبية و توترا دون أن تلقي بالا للغلاف و العنوان.. و هنا جاءها سؤال جارها المتطفل: “ماذا تقرئين؟”
شعور بالغضب و الحنق اعتراها.. لم تتوقع جرأة مثيلة لهذه.. لكنها تمالكت نفسها و قررت تجاهل سؤاله مدعية انغماسها في القراءة..
واصل تطفله قائلا:
-القارئ أفضل منصت على وجه الأرض.. يصغي للكلمات و للجدران المخفية خلف لوحات العبارات.. يستمع لحركات الشخصيات بين الأسطر و بين حفيف الأوراق.. ينصت لما لم يُقل و لم يُكتب.. يخاطبهم بحواسه.. يعيش أفراحهم و معاناتهم و يتعايش مع أحرفهم و صمتهم.. ما عرفت قارئا أجاد الاصغاء إلى كتاب و تجاهل صوت شخص حي..
صعد الدم إلى عروقها.. كلمات أطاحت بتماسكها و تداعيها عدم الإنصات.
أغلقت كتابها بعصبية و التفتت إلى الرجل عازمة على الرد.. لكن شيء ما استوقفها لتهدأ عصبيتها فورا..
سحابات حزن تخيم على وجه جارها.. للحظة ظنت أنه قد حان موسم الدمع.. كان مغمض العينين و كأنه يحاصر ذكرى فارة بين مآقيه و على ملامحه ارتسمت خارطة ألم تاهت بين طرقاتها و تجاعيدها..
فتح عينيه المثقلتين فجأة و بنبرة راوحت بين السخرية و المرارة قال لها: "بلغت الستين من عمري
و أمضيت آخر عشرين سنة محلقا طائرا متنقلا بين أصقاع الأرض و أرجائها.. تخليت عن عادات و اكتسبت أخرى.. غيرني الترحال و عند المنافذ و المعابر أشرعت نوافذي لناس جدد و ذكريات جديدة و مغامرات عديدة.. في كل رحلة كنت كجواد جريح فارّ ما يلبث أن ينطلق كالسهم حتى تسقط من فوق صهوته آثار الماضي و خطوات الذاكرة.. لكنني في كل مرة أقع مهزوما أمام خوفي من الإقلاع.. "
و بالرغم من ضحكته العالية المصطنعة وقع مهزوما أمام الألم الغائر الذي كاد أن يتعرى أمامها..
لاحظ فضولها و شفقتها الممزوجة بالوجع و المرارة.. يفهم سكوتها و شرودها.. عصبيتها و قلة صبرها.. حتى عجزها عن مواساة غيرها.. لذلك استكمل حديثه :
-مسافر مثلي يعاني رهاب المرتفعات.. لا أعلم إن كنت أنتشي بعذاباتي و خوفي في كل مرة يزور مدينتي الخوف و أنا بين السماء أتخبط.. أو أنني أناشد موتا رحيما عاليا.. فليس كل مرة أتجاوز نوبتي بقلب و نفس سليمين..
هاهو رفيقها في درب الحزن..عصرة خنقت قلبها المهزوم المكلوم.. حاولت أن تستجمع آخر ما تبقى لها من قوة و سألته لتكشف عن فضول أخفته حتى عن نفسها:"ما السبب وراء رهابك؟"
- اسأليني عن عمر رهابي.. خوف عظيم احتل مدينتي قسرا منذ عشرين سنة.. اغتصب أرض روحي و راحتي و حرق مروج قلبي و ذاتي و أراه ينصب مشنقتي كثائر متمرد يجب أن يُعدم..
- لم تستسلم للخوف و المستعمر؟ لم تقبل بإعدام و أنت عن وطنك و أرضك تذود؟ مت في ساحة المعركة و لا تعتلي مشنقة معصوب العينين مكتوف اليدين..
أطلق زفرة عالية جريحة قبل أن يكمل بوحه الأليم :
- أسرع نحو المشنقة و أرتضي الإعدام لأنني خائن.. و خيانة الوطن لا شفاعة لها و لا غفران..
عمر خيانتي و خوفي عشرين سنة.. حط الرهاب بين أوصالي و استقر يوم رأيتها تهوى من الشرفة.. هوت أرضا و هوت معها رجولتي.. سبحتْ في نهر دمائها و سبحتُ من يومها في بحار الندم و العار.. مشهد خيانتي لها كان أكبر من أن تتحمله امرأة أحبتني كآخر عهد لها مع الفرح و الأمان.. كانت تراني رهانها الأخير و فوزها الكبير.. رحلت و صرت للحزن و الأسى نعم الأسير.. ألست بالخوف و العقاب جدير؟
دمعة ألم و حنق و غضب تجمدت فوق وجنتها و هي التي أخذت على نفسها عهدا بأن لا تذرف مزيدا من الدمع.. فكفاها دموع القلب النزيف حرقا و احتراقا..
- ما من رجل أحبته امرأة كرهانها الأخير إلا و سرق من قلبها ناظريه و رماه على أرصفة الحياة كضرير..
قلب المرأة رغم ضيقه إلا أن أشرعته مداد السماء والأرض.. قلب المرأة وطن لا يُخان و لا يُحرق إلا عندما يهوي عشقا..
- كلماتكِ تزيد من اتساع رقعة جروحي لكن لن ألومكِ.. عساني بالألم أتطهر من دنسي عندما لا ينفع الندم.. فقدتها و لكنني من يومها فقيد و بين الأوطان شريد.. ظننت أن السفر و الترحال كفيلان بأن ينسياني لوعتي و حسرتي لكنني في كل رحلة أهوى خوفا و تيهانا.. أجول الطرقات و الشوارع خاوي الروح مثقلا بالجراح.. ألاحق سراب خطوة و رائحة عطر و كمّ فستان.. ثم أعود إلى ذات الشرفة أحيا و أحترق بالذكرى.. أضيع في ضحكات من الماضي منبعثات و أغرق في يم الفقد و الندم..
أنتِ مثلي تهربين من ألم يشبه الموت.. أشتم رائحة خيبة و خذلان خلف هالاتك الرمادية و عصبيتك الفوضوية و كلماتك المريرة.. عندما تحطين بتلك الأرض لا تعودي.. استمعي إلى نصيحتي أرجوك..
ضحكت ملء سخرية و مرارة و غضب و اندفعت بعصبيتها المعهودة قائلة:"و كيف للمذنب أن يقدم نصيحة؟!"
أجاب كمن لم يتأثر بغضبها و هجومها.. فهو الذي يتطهر بالوجع و بالألم يحاول تكفين ذنبه:" لأنني تجرعت ألم الفقد حدّ الثمالة أقدم النصيحة لعاشقة خُذلت و من كف الخيبة ارتوت و نحو أرض لا تعرفها فرّت.. أنا يا ابنتي بشر و لست نبيّا لأقدم صلوات عند محراب جرحك الطاهر.."
-إذن من أنتَ؟
-أنا الفاقد السقيم الذي لم يظفر إلا بندم أليم و ذنب عظيم.. و لأن الموت ليس بكريم حرمني موعدا مع الصفح و وعدا بالوفاء..
-في الحب كلنا مفقود.. يأخذنا سحر الوعود و يخدعنا سراب الفرح الموعود.. نمني النفس بعشق أشبه بالخلود.. لتنتهي رحلتنا بقلب كسير موؤود ففي الحب كلنا مفقود.
-لا تقايضي اليأس على ألمك.. و لا تزايدي على خيبتك بالقنوط.. فمن لم يجرب فقد الموت ليس بمفقود.. الموت يا ابنتي الحقيقة الوحيدة التي وقفت أمامها عاجزا عاريا أعزل.. أمامك حياة بجميع فصولها.. ودعت خريفا و الآن تستقلين الطائرة نحو الربيع.. إياك و العودة للخريف.. إياك و فصل الحنين.. اقتنصي من الحياة حبا جديدا و أملا واعدا.. أن تواري التراب على آلام و خيبات أرحم من مواراة روح أحببتها و بأنفاسها نبض القلب و طرب.. أحبي نفسك كل يوم أكثر و ارأفي بليل أناتها.. و اضربي لها موعدا مع الفرح الوفي و الأمل المخلص..
أشاحت بوجهها عنه و أغمضت عينيها للحظات تحصو خساراتها في سباق حبه.. و هو أيضا كان رهانها الأخير و بين كفيه سقطت كنجمة من علوها الشاهق.. ارتضت بضيق راحة كفيه و تركت السماء بوسعها.. و لأن سقوطها لم يرض غروره أحرقها كفراشة اعتادت نار قربه و وجلت نسمات بعده.. و هاهي اليوم تحلق بعيدا كفراشة خسرت رهان حبها و كسبت جولة التحليق بجناحين ينزفان ألما و عزة..
صوت المضيفة يعلن انتهاء الرحلة.. قامت منهكة مثقلة من فوق مقعدها.. قاومت التفاتة للرجل الذي يجلس بجانبها ثم أخيراً قالت له :"حاول أن تغفر لنفسك فكما قلتَ منذ قليل أنت بشر و البشر عُجن في الخطأ.. كفاك سفرا و ترحالا فهروبك لن يعيد فقيدتك و الرهاب لن يميتك قبل الأوان.. إلى اللقاء."
-أتمنى لكِ لقاء مع السعادة و الراحة.. حاولي أن تغفري لهم خطيئتهم و انسينهم كذنب تكفرين عنه بحب جديد.. افتحي الباب لقلبك المتألم و اسلكي به دروبا لم تطأها خطوات عشقك الأولى.. سامحي لتحيي روحك الندية و لتظفري بحياة على هذه الأرض..
تصافحا كفقد و ظفر.. كيأس و أمل..كموت و حياة.. و مضيا بطريق لا ملامح لنهايته..
كانت تنتظر وصول حقائبها بعصبيتها المفرطة و قلة صبرها المضني عندما تسللت رائحة نفس العطر خلايا قلبها و وجدانها قبل أنفها.. تخدرت أوصالها و انتشت ثملة بعبق شوقها.. جالت بعينيها باحثة عن صاحب العطر.. توقفت فجأة ساعة قلبها البيولوجية.. "هو هنا و منها قريب".. موسيقى و ألحان تُعزف بين أرجاء القلب الفقيد.. له نفس الطول و نفس القامة و عرض الكتفين..
و دون تفكير مضت مسرعة نحوه و نادته باسمه كمن تغني لحن هوى بعد طول غياب.. التفت الرجل إليها لتكون صدمتها بعمق خيبتها.. لم يكن هو.. إنه ليس هنا.. تأسفت منه و عادت مكانها خائبة كسيرة النفس أسيرة الذكرى.. لم تفهم ما الذي يحدث معها.. هل كان العطر حقيقيا أم أنها رغم الفرار ستظل حبيسة ذات القفص و رغم التحليق ستظل جارية ذات النار.. و هاهي تخسر الرهان للمرة الثانية..
انتهت..
لحن الفقيد 1:
قالت باكية رهانها الأخير
أبعثر أوراقي مراقبة خيلا و ليلا َ..
و من الدمع ما فاض سيلاَ..
ذكريات تتسابق لا ترتدي نعلا َ..
فيصرخ القلم و يصهل صهيلاَ..
جواد أصيل ينطلق كالرّماح..
ليسابق في العشق الرّياح..
يرنو إلى فوز باكتساح..
جواد أصيل عصيّ الجماح..
أعتلي صهوة القلب..
و نمضي مسرعين في الدّرب..
درب الهوى قاتل كالحرب..
قلبي عنيد يهوى من الدّروب الصعبِ..
يعتصر جواد القلب اشتياقا..
فتعلو جلجلة تشكو فراقا..
و تئنّ من الفقد احتراقا..
يسقط الجواد خاسرا السباقا..
يعود جوادي مهزوما..
يخفي دمعا و وجوما..
يختفي في عزلته مهموما..
مكابدا أنينا مكتوما..
يا من كنت رهاني الأخير..
أضاعني هواك في ظلم العسير..
منحتك جوادا يسابق الأثير..
في صهيله إيقاع و عبير..
هزمتني و غدى القلب كسيرا..
يبكي جوادا في عزلته أسيرا..
خسرت رهاني الأخير..
سقوطي من صهوتك فقدٌ لا يُضير..
***