كنت مشدوداً إلى مصر القديمة منذ نعومة أظافري، كانت تستهويني صور ملوكها ومناظرها المختلفة التي أراها على ورقة هنا أو هناك، وكنت كلما وقعت عيناي على مثل تلك الصور تولدت في راسي أسئلة لم أكن أجد لها الإجابة الشافية والمقنعة، فارتضيت بتفسيرات بسيطة من تلك التي ربما قالها لي أبي أو غيره، لكنها لم تكن لتروي لي ظمأي، بل كانت تثير فضولي وتوصلني إلى مناطق مرتبكة تفوق قدرة و استيعاب عقلي الصغير وقتها.
كان من بين ما أثار خيالي من صور الفراعنة الساحرة والغريبة صورة تمثال " أبي الهول " بهيئته المجسدة على هيئة أسد رابض ذي رأس آدمية، وتعجبت من ذلك التكوين، وهذا التناقض، فكيف تكون للأسد رأس إنسان؟، وكنت أشرد وأتخيل أشياء وأشياء حتى أفاجأ بمثل ذلك الأسد وقد تخلى عن رقدته المعتادة وقد هب واقفاً مصوراً على جدار أو مدخل لبيت من بيوت قريتنا البسيطة وهو يمتشق سيفاً وقد أفصحت رأسه الآدمية عن بعض غموضها فصارت أكثر حيوية، ولم يكن لي في تلك السن المبكرة أن أفرق بين تماثيل أبي الهول، وأسود " أبي زيد الهلالي " التي كان يحلو للمصور والفنان الشعبي أن يرسمها على الجدران، وعبر من خلال خطوطها البسيطة والساذجة في أحيان كثيرة عن بطولات خارقة لذلك البطل الذي صرت أستمع إلى معاركه وحروبه وأساطير بطولاته وهي تروى هنا أو هناك.
كنت مغرماً بالتاريخ والحكايات واستهوتني البطولات وربما كان الظرف القومي أحد العوامل التي حفزّت ونمّت فيّ هذا الاتجاه، إضافة بالطبع إلى عامل الاستعداد الشخصي فقد كانت " مصرنا " تخوض في تلك الفترة نضالها الشريف ضد قوى البغي والاستعمار، وكان (الراديو) أحد وسائل إلهاب الحماس، وكنا في شوق للثأر من " إسرائيل " التي استطاعت أن تلحق الهزيمة بجيشنا الأبي.
كان التاريخ غواية أحببتها، وكانت سطوره سحراً يلفني بغلالاته الأثيرية فأقع في أسره لأفهمه، وتعجبت وأنا أمضي وتمضي بي السنون من ذلك المصري القديم، وكيف استطاع تشييد صروح حضارة عظيمة، وكيف أعمل عقله فلم يشأ المجازفة وإن قبل بالتجريب الحذر، فانطلق يشيد أركان حضارته وهو حريص كل الحرص في الوقت ذاته على مكتسباته، انطلق يضيف ولا يهدم، يجرب ولا يغامر بمكتسباته مهما كانت المغريات.
كان المصري قابضاً على أشيائه لا يريدها أن تفلت من بين يديه، فهو الذي استطاع بالفكر وبالصبر من ترويض النهر، وهو الذي زرع الحب وانتظر حتى تنبت البذرة فتصير " فسيلة " لا يكل ولا يمل من رعايتها والصبر عليها حتى تكبر وتثمر، وربما ركن إلى حكمة تقول ما معناه" إن ما باليد خير من الذي على الشجرة مهما كانت كثرته ومهما كان إغراؤه "، كانت القناعة هي كلمة السر، ولأنه – أي المصري -كان قنوعاً فقد استطاع أن يبني ويشيد ويضيف، فتولدت فيه الثقة وملأته فاعتز بنفسه أيما اعتزاز، وعشق أرضه إلى درجة الهيام، فهي الوطن وهي الملاذ، وهي التي تمنحه الحياة سواء بما تثمره، أو بما تمنحه له من أمن وأمان فاستحقت أن تكون الوطن وما عداها أراضي وجبال ورمال!
أثارتني أيضاً الجندية في مصر القديمة وتساءلت في مرحلة تالية من عمري عن شكل ذلك الجيش، وكيف كان حال الضباط والجنود؟، لقد كانت الجيوش وستظل هي عامل الحسم في أمور كثيرة وهو الأمر الذي تجلى في مصر الفرعونية،ً مثلما تم في معارك توحيد شطري البلاد التي أنتجت لنا عصر الأسرات المصرية التليد، وحروب التحرير ضد الهكسوس التي انطلق فيها المصريون يجاهدون ذلك الغازي الذي جثم على صدر البلاد لفترة طويلة من الزمن، وأقلق ذلك الإنسان الحضاري بهمجيته، وكان الانتقام منهم عظيماً ومشهوداً.
ويبدو أن الجندية والالتحاق بالجيش المصري القديم كانت له قواعد وأصول، فقد كان ذلك يتم من خلال نظام تجنيد معتمد، وكانت هناك امتيازات تمنح لمن التحق بالجندية ونال شرف الانضمام تحت لوائها وهو شرف سعى نحوه كثيرون على الرغم من إعراض قطاعات أخرى ليست بالقليلة عن الجندية، ذلك أن المصري كان يميل بطبعه ناحية السلم، حتى الذين كانوا يتباهون بقوتهم وعضلاتهم من أبناء هذا الشعب سرعان ما تجد " الدين " قد هذب هذه القوة وأخرجها في ثوبها الحضاري والإنساني، فلم يرصد التاريخ قسوة ما أو ميلاً للحروب والتدمير أو المبالغة في الانتقام إلا مع " الهكسوس " الذين تجرأوا ودخلوا على المصريين وطنهم، تلك الأقوام التي رآها المصري رجساً ونجساً، فلما قضى عليهم عاد إلى طبيعته وإلى رسالته الحضارية بعد أن وعى الدرس فلم يهمل القوة، لأنه رأى ضرورة وجودها، و قد استحدث إلى جوارها قوى أخرى ناعمة، فما لا يأتي بالسيف يأتي بغيره، وكل المصالح تصب في خدمة الوطن.
ولا يعني ذلك أن المصري أهمل جيشه، فسجلات التاريخ المختلفة تخبرنا بمدى اهتمام المصري بالجيش وتقويته لأنه عامل الردع الأساسي ضد كل من تسول له نفسه المساس بأمن المملكة الثرية، والتي كان ثراؤها مصدر طمع المحيطين والمتربصين بها من الأمم الأقل تحضراً وثراء خاصة في الجنوب والشرق، بالإضافة أيضاً إلى أهمية الجيش للفرعون لتثبيت أركان حكمه، والوقوف بحزم في وجه كل من تسول له نفسه العبث بأمن الوطن الداخلي، أو الانقلاب على الحكم الموطد الأركان.
ويمكن القول إنه لولا القوة العاقلة ما كانت " مصر " قد استمرت في محيطها كمركز إشعاع وتقدم، فقد كانت تستخدم القوة بحساب، وترسل الحملات بمقدار وبما يحقق لها أهدافها، وكان الجيش المصري كفيلاً طوال العصور بدرء الأخطار ودحر الأعداء مهما تحصنوا أو تسلّحوا.
وإذا ما تحدث شخص ما عن انكسارات قد حدثت في المسيرة الحضارية لمصر، وعن احتلال قد حدث لبعض الوقت للأرض المصرية أو بعضها، إلا أن المصري لم يركن ولم يسلم، ودليلنا على ذلك ما كان بين البيت الحاكم في طيبة وبين ملوك الهكسوس، والتي انتهت ليس فقط بهزيمتهم بل بمحو أثرهم نهائياً من سجلات التاريخ.
لقد أردت في هذا الكتاب الحديث عن العسكر في مصر القديمة، وعن المؤسسة العسكرية التي ينتمون إليها، وكيف كان الجيش أداة الملك لضبط أمور الدولة وفرض أمور الانضباط الداخلي مثلما كان أيضاً الدرع في الذود عن الحدود ودحر المعتدين والطامعين، وكيف استطاع هذا الجيش الحفاظ على العرش، بل وفي فترات مختلفة من التاريخ من الدفع ببعض قادته ممن لا ينتمون أصلاً إلى البيت الحاكم لاحتلال كرسي العرش، وليصيروا فراعنة وهو ما تجلى بوضوح مع الملك "حورمحب " وكل الملوك " الرعامسة " الذين حكموا في عصر الدولة الحديثة.
كما يلقي الكتاب بالضوء على أن القوة كانت في كل الأحوال هي الأداة لتحقيق السلطان وبغيرها لم يتحقق ذلك السلطان ولا السيادة سواء في الداخل أو الخارج على السواء، وهو ما تجلى في الفترة التي تمكن فيها الهكسوس من الوطن، وفي الفترة المتأخرة التي أصبحت فيها البلاد عرضة لمطامع القوى الجديدة واللاعبين الجدد على ساحة المسرح الدولي، فقد فقدت مصر في تلك الفترات القوة التي سادت بها، ولم يشفع لها ثقلها الحضاري لا في السيطرة ولا في النفوذ، وكأن الحكمة التي تقول بأن " الحق لابد من قوة تحميه " كانت متجلية وهي تشير إلى ذلك إشارة لم تخل من دلالات، حتى في عصرنا الراهن، هل استطاعت دولة ما من بسط نفوذها وإظهار حضارتها دون قوة؟!
الإجابة معروفة بالطبع، القوة هي الأساس وهي المنطلق، أما غيرها من القوى الناعمة فيأتي دورها تاليا أي في المقام الثاني، وهذا لا يقلل من شأن تلك القوى المساعدة فهي تلعب أدواراً مساندة أو بمعنى آخر: هي ذاتها في حاجة ماسة إلى القوة المادية لكي تتحقق على أرض الواقع!.
تلك الحقائق عرفها المصري القديم وعمل بها، ولعل في سيرة " تحوتمس الثالث " ما يشير إلى ذلك بوضوح، فهو خبر القوة التي استطاع بها تحقيق مجد الوطن، وبها استطاع أن يؤكد القوى الناعمة الأخرى التي لجأ إليها وأحسن استثمارها، لكنه في كل الأحوال وبعد فرضه لكل قوى مصر لم يغفل عن الجيش الذي كانت أداة الحضارة في كل الأوقات.
لقد حرص الملوك الفراعنة على ضمان ولاء القوة لهم، أي ضمان ولاء الجيش فأحسنوا معاملة القادة وقربوهم وأسبغوا عليهم من النعم والمزايا الكثير لاضطلاعهم بتحقيق سلطان الفرعون، وتأكيد سياسة البلد التي يحكمها سواء وهم في الخدمة أو حتى بعد تقاعدهم وفاء لإخلاصهم وتعاونهم، كما أن الطبقة العسكرية بلغت نضجها وأحست بقوتها وأهميتها زمن الدولة الحديثة في فترتين، الأولى قبل فترة العمارنة، والثانية كانت مع قيام الأسرة التاسعة عشرة، وكانت هذه الطبقة العسكرية قد سعت في عصر الدولة الحديثة أن تكون دائماً في قلب الأحداث وفي مطبخ الإدارة، وقد تحقق لهم ما أرادوه فكانوا لاعباً رئيسياً في المسرح فهم وإن ظلوا على ولائهم للقصر الملكي إلا أنهم بذلوا ما في وسعهم ليزاوجوا القوة بالنفوذ، فعمدوا ومن خلال مناصبهم الرفيعة وشرف الجندية الذي ينتسبون إليه غلى ضرورة مصاهرة البيوت العريقة خصوصاً تلك البيوت المرتبطة بعلاقات وشيجة مع القصر الملكي، وكان لهم ما أرادوا، بل ووصل الأمر فيما بعد لأن يعتلوا العرش كما حدث مع كل من آي و حورمحب الذي قد يكون العرش قد سعى إليه لما افتقر البيت المالك للشخص الذي يستحق أن يكون ملكاً ولو حتى في وجود وصاية عليه، وأضطر " حورمحب " إلى الزواج من الأميرة الوراثية التي يحق لها العرش وتجري في عروقها الدماء الملكية ليقطع أي كلام قد يتبدى خصوصاً وأنه كان يود رأب الصدع الذي حدث للإمبراطورية المصرية في الفترة التي حكم فيها كل من " أمنحتب الثالث " الذي لم يكن ميالاً للعسكرية، وفترة العمارنة والانشقاق الداخلي الذي حدث أثتاءها وانعكست آثاره على المسرح العالمي.
وهناك آراء تدعي أن ما حدث في عهد " إخناتون " كان أمراً متفقاً عليه، وأن المؤسسة العسكرية كانت تقف وراءه من أجل الحد من نفوذ كهنة آمون وكف أيديهم الممدودة في كل أمور الدولة، ودليلهم في ذلك أن القادة العسكريين لم يعارضوا الملك بل انتقلوا معه إلى عاصمته الجديدة، لكن هذا الرأي على الرغم من وجاهته تعوزه أدلة كثيرة، فلم يكن الحال قد وصل بالجيش في تلك الأزمنة وطبقاً لقواعد العرش والنظرية التي يحكم بها الملك الفرعون أن يشقوا عصا الطاعة على مليكهم الذي هو في كل الأحوال إما ابناً للإله أو هو الإله، فهل كان القادة العسكريون يمتلكون من الجرأة البشرية ما يشقون به عصا الطاعة على ربهم ؟
لكن والحق يقال إن هذه المؤسسة العسكرية هي التي استطاعت أن تخرج بالبلاد من النفق المظلم الذي كانت قد دخلت إليه، واستطاعت أن تعقد صفقة مع ممثلي آمون والبيت الحاكم لما كادت الأمور تأخذ مناحي جديدة، وبدا الشرق الخاضع للتاج الملكي المصري ينفك لواؤه وينفرط خصوصاً وأن قوى إقليمية جديدة كانت قد بدأت تظهر على الساحة، وكانت وسيلتها لإثبات ذاتها أن تنقض على الممالك التابعة لمصر لما أحست حينذاك بانشغال مصر وربما ضعفها عن متابعة أحوال ممالكها البعيدة عن العاصمة التي احتضنت الملك الحالم بعقيدته التوحيدية الجديدة.
إنني إذ أكتب هذه السطور لأود أن تأتي جلية ومزيلة لأي غموض يكتنف تاريخ هذه المؤسسة العريقة عراقة البلد الذي تنتمي إليه، وأريدها كذلك منصفة لهؤلاء الجنود والقادة الذين سطروا بدمائهم وشجاعتهم ملاحم خالدة في تاريخ وطنهم وكانوا بحق درعاً وسيفاً لمصر الحبيبة إلى قلوبنا جميعاً.
وأرجو في النهاية ألا تخونني أمانة المؤرخ فأميل، صحيح أنا مصري عاشق لمصر، لكنني سأحاول التجرد وأنا أكتب، وزادي كثير من الكتب والمراجع التي أشارت لموضوع العسكرية المصرية بين متونها، لكنني أردت في هذا البحث أن يخرج الموضوع في كتاب لتنال العسكرية المصرية حقها من الاهتمام وليلقي البحث بمزيد من الضوء على جيش مصر وأحواله وحال أفراده طوال عصور الفراعنة، والله من وراء القصد.
محمد جراح
مدينة منشاة القناطر
مايو 2009 م