بكيتُ حزنًا وأسفًا عليكِ، وأنتِ مستلقية أمامي، لا حول لكِ ولا قوة، على مقعد طويل بطول عرض حائط صالة المعيشة الصغرى في مسكن د. محمود حلمي في الحي القديم بالمعادي، هذا المسكن الذي كنتِ يومًا سيدته، والآمر الناهي في كل صغيرة وكبيرة فيهِ وبسلطات مطلقة؛ ولكن الآن تغير زمانك، وأصبحتِ لا تحركين ساكنًا، وكأنك مِتِّ منذ سنين، ورغم هذا فإني متيقن بحضورك الذي لم يشعر به أحد سواي.
وقفت ذبابة على وجهك الذي لم يتبق منه سوى ملامح ضجر وضيق، وأخذت تزحف لتصل إلى أعلى جبينك وهي ترجف بجناحيها، حتى بدتا كجناحي صقر في عينيكِ، فنظرتِ إليها تستجدينها أن ترحل، فلم يكن بمقدورك إلا تحريك مقلتيكِ وجفونكِ لتفصحي عن نفورك وعذابك؛ ولكن ظلت على وضعها، وكأنها دخلت معكِ في تحدٍّ غير متكافئ، ولم تكن تلك الذبابة أحقر من الجليسة التي فتحت نافذة الحجرة لساعات دون اكتراث ضاربة بتعليمات سيدتها عرض الحائط، ولم تأبه بغلق «سلك الشباك» حتى أدخلتها.
دخلت الجليسة -وهي أشبه ببهلوان في سيرك من كثرة المساحيق التي دفنت بها وجهها- وكانت تحمل صحنًا ممتلئًا بطعام قد تحول إلى سائل بعد فرمه، ثم وضعته على المائدة المجاورة، رائحته النفاذة تجهر بعدم صلاحيته؛ ولكنها أخذت تحقنكِ منه من خلال أنبوبة تخرج من معدتك، ولم تعِر أمر الذبابة اهتمامًا، فكان هناك ما يشغل بالها أكثر من وظيفتها التي كانت تتقاضى عليها مبلغًا لا يحصل على نصفه مدير المشفى الذي كانت تعمل به عاملة نظافة. رن محمولها، فأخرجته على الفور من جيبها، ووضعته -بعد أن شغلت مكبر صوته- على المائدة المجاورة، وصاحت ضاحكة وهي لا تزال تحقنك:
- يا لك من وغد لعين، لا أعلم لِمَ أشغل بالي بأمثالك!
فصاح من خلال مكبر الصوت، ليزلزل بصوته الغرفة:
- لإنكِ وغدة مثلي يا حقيرة.
صدرت منها ضحكة عالية، فأردف:
- عبير.. أنتِ وحدك؟
- وما شأنك؟
- سأمر عليكِ حتى أؤنس وحدتك.
- هل جننت، فأصحاب البيت قد يصلون بين لحظة وأخرى.
قاطعها قائلًا:
- كيف وقد خرجوا منذ ساعة واحدة؟ أراهنك على أنهم لن يصلوا إلا بعد ساعتين على الأقل، فلِمَ نفوت علينا تلك الفرصة يا غبية؟
كان وقع الحديث المتدني عليكِ أكثر إيلامًا من زحف الذبابة على وجهك وأنتِ عاجزة عن إبعادها ولو بحركة رأس، أغمضتِ عينيكِ، وقد ذرفتِ دمعة ثائرة -سالت على خدك- على تلك الأوضاع التي آلت إليكِ رغمًا عنكِ؛ ولكن سرعان ما أحسستِ بتحرك الذبابة ناحية فمكِ، الذي أغلق لأجل غير مسمى، ففتحت عينيكِ من جديد.
حاولتُ جاهدًا أن أهش الذبابة، ونسيتُ حدودي، فاخترقت يداي الذبابة دون جدوى، فتذكرتُ أنني لن أستطيع على تفاهة مطلبي تحقيقه، ولو حاولت مائة عام، فأنا لا أنتمي إلى هذا العالم المادي؛ ولكني سجنتُ في هذا الزمان الممتد والمكان رغمًا عني، ربما لأكون شاهدًا على جرائم البشر، بل لأعُدَّ خطاياكم فأحقق بإحصائي رقم اللا نهاية الذي حولتم به فرع الرياضة ومعدلاتها إلى فلسفة غير مجدية.
عاد صوت عبير المثير للاشمئزاز يخترق سمعي وهي تقول للمتصل:
- اسمع، قد يكون الجمعة مناسبًا، سأترك باب سلم الخدم مواربًا بعد صلاة الجمعة، لولا ضغطك عليَّ ما طاوعتك.
قلبي موجوع عليكِ يا بهية.. عذرًا حبيبتي، فالآلام التي اجتاحت قلبك المنهك أكثر شراسة من آلام المرض الذي يلتهم جسدك ببطء كل يوم قطعة قطعة، فأنت تواجهين عجزك كل لحظة، غير قادرة عن دفع الشر، الذي يجهر بنفسه ليل نهار على مرأىً ومسمع منكِ، ظنًّا منه أنك أصبحت قطعة من أثاث المنزل.
حقًّا، ليس هذا زمانك، وما ذلك لوهن عظمك وضمور أطرافك وتساقط جلدك وخصلات شعرك الأبيض كتساقط أوراق الخريف؛ ولكن لأنه زمن كثر فيه الرويبضة، فضاق ولم يعد يسع أهل الفضل والسعة الذين عهدتِهم قديمًا.
في الماضي البعيد بالنسبة لكِ، والقريب بالنسبة لي، كنتِ كالغزال في حركاتك، وقد جمعت بين ما يميز النساء من حيوية وجمال، وما يميز الرجال من قوة وصلابة، وصممتِ أن تحصلي على أعلى درجة في السلم التعليمي، في حين لم تجرؤ الكثيرات على الالتحاق بالتعليم العالي، فأقنعتِ أباكِ المستشار.. معذرة لا أتذكر اسمه، فهذا كان لقبه الذي كان يُدعى به، ورغم تصلب أبيك وتمسكه بأفكاره وقرارته مهما كانت؛ كنتِ الوحيدة التي لها تأثير مروع على قراراته بخلاف أمك وإخوتك، فكان هو قبطان السفينة التي تحمل عائلتك، وكنت أنتِ دفتها.
أتذكر أيضًا يوم أن التقيت فارسك، وذلك عندما اتجهتِ إلى عيادة طبيب الأسنان ليعالج آلام ضرس العقل، وهناك.. وقع في حبك الطبيب المداوي من أول نظرة، ولِمَ لا.. وأنت سيدة حسن، وشيمة زمانك الرومانسية والجمال؟! بعد عدة زيارات قرر طبيبك أن يعيد إليكِ ثمن الكشف بعد أن أصبح أسير هواكِ، رفضتِ ولكنه أصر، فغضبتِ وتركتِ عيادته وهو في حالة يرثى لها.
بعد شهور تلت، مرت عليكِ وعلى أسرتك أيام عصيبة، فقد مرضت أختك الصغرى بالمرض اللعين، الذي تدعونه أنتم السرطان، واشتد عليها، وقد حاول أبوك أن يهزمه بكل السبل، سافر بها إلى أكثر من بلد بأوروبا للعلاج ثم عاد بها وبخفَّي حنين، وماتت أختك زهرة في غضون شهور، وبعدها مات أبوكِ المستشار فجأة، فاشتدت معاناتكم، ليس فقط لحزنكم على فراقهما؛ ولكن لاكتشافكم أنتِ والعائلة أن أباكِ قد استدانَ لسداد تكلفة علاج أختك الباهظ، وقد رهن مسكنكم لسداد جزء من ديْنه، وكعادة هذا الزمان، عندما تستحكم حلقات نازلة؛ تفرج بظهور الفارس المغوار، فظهر طبيب أسنانك، الذي كان ينتمي لعائلة ثرية وعريقة؛ ليدفع ما تبقى من دين، ويفك رهن مسكنكم، دون قيد أو شرط، وهكذا فاز برضاكِ وقلب عائلتك، ولم تمر بضعة أعوام من عقد قرانكما إلا وأنجبتِ له ذريته ناصر وفؤاد وزهرة.
في بيت فارسك كنتِ أكثر تحكمًا وسلطة، فكنتِ العقل المدبر والآمر الناهي، فصرت القبطان والدفة لسفينتكم، وقد سلَّم لك فارسك الريادة عن طيب خاطر، ربما لطبيعته المسالمة الكريمة المعطاءة، وربما لثقته العالية فيكِ مع انشغاله في عمله ليل نهار.
ولأن زوجك الطبيب كان متسامحًا إلى أقصى حد؛ ترك لإخوته من أمه بعض حقوقه في ميراث أبيه، ربما كان ذلك لكونه الأخ الأكبر فشعر بمسؤوليته الكاملة تجاههم، وخاصة تجاه أخيه المعاق ذهنيًّا، فكان أحيانًا يتهاون في حقوقه خشية أن تستفحل مشاكلهم أو أن تندلع نيران لا تُبقي على صلة رحم، وفي عرفه الكنوزُ تقبع في القلوب لا البنوك، وقد دفعكِ سلوكه -الذي قد يصل في عرفك إلى الضعف- إلى بعض الضغط عليه والتدخل في أموره المادية؛ حتى لا تتبدد ثروته وثروة أولادك من بعده. لم يكن الأمر سهلًا، فالخلافات توالت بينك وبينه بسبب عطفه على إخوته؛ ولكن سرعان ما كانت تزول وتختفي للهفته على إرضائك، وفي النهاية صارت الأمور وفقًا لما كنتِ ترينه مناسبًا،
ألم ينقل أخاه المعاق من مدرسته المتخصصة في حالته بالقاهرة إلى مدرسة عامة في طنطا؟ بعد أن أقنعتِه أن النقل أفضل له حتى يوفر له التكاليف ويكون في نفس الوقت تحت رعاية أشقائه الذين هم في عينيكِ أولى منه برعايته وكانوا يسكنون آنذاك هناك؟! وقد انصاع لرغبتك انصياع شاة تنساق إلى الذبح،
فكم كره أن يتخذ قرارًا يضر بمصلحة أخيه المعاق؛ ولكن خوفه من غضبك كان أحيانًا ذلك الطوق الذي يسحبه رغمًا عنه إلى ما يكره. بخلاف ذلك كان زوجك قانعًا وسعيدًا بتركه قرارات حيوية أخرى لكِ مثل تغيير المسكن واختيار مدارس الأولاد التي التحقوا بها والنوادي التي اشتركتم فيها، وتحديد الأصدقاء والمعارف الذين خالطتموهم، ورغم إسناده كل هذه المهام إليكِ فما كان دوره في الأسرة الصغيرة بسيطًا كما يُخَيَّل للرائي؛ فمع انخراطه في مهنته التي أجادها، خصص وقتا غاليًا لأولاده فأصبح صديقًا محببًا إليهم، بل كان أقرب إليهم منكِ رغم انشغاله، كما أنه كان متميزًا في محيط العائلة والأصدقاء، إذ عُرف باسم حمامة السلام وطوق النجاة، فلو تجسد العطاء والإيثار لتمثل في جسدٍ واحدٍ، ألا وهو زوجك وحبيبك الدكتور محمود حلمي.
هل تذكرين عودتكم من نزهة في يوم من أيام أكتوبر في سبعينيات القرن الماضي؟ اتجهتم إلى السيارة، وركب أولادك الثلاثة في المقاعد الخلفية، وركبتِ أنتِ في المقعد الأمامي، ثم جاءت سيدة في منتصف العمر تطلب إعانة، فأخرج دكتور محمود بعض النقود من حافظته ليعطيها إياها، فنظرتِ إليه من داخل السيارة باستياء حتى ركب، ثم بدأتِ تلومينه قائلة:
- لِمَ تهدر نقودك يا محمود؟
- إنه ليس إهدارًا كما تتصورين حبيبتي، فهي تجارة مع الله.
قلتِ وأنت تهزين كتفيك باستنكار:
- لست ضد عمل الخير؛ ولكن نعطي من يستحق، فهي نصَّابة، تتمتع بكامل صحتها وبإمكانها أن تعمل؛ ولكنها اختارت أن تستغفل أصحاب القلوب الرحيمة.
قال بهدوئه المعهود:
- حبيبتي، هل دخلنا في قلبها لنعلم سريرتها؟ فهي تقف ذليلة أمامنا، ولا يبدو منها سوى احتياجها وقلة حيلتها.
قلتِ في ضيق:
- لقد سئمت.. نقاشٌ متكررٌ وغير مجد، فافعل بأموالك ما يحلو لك.
التزمتما الصمت برهة، ثم قال وهو يضع يده على كتفيك آملًا في أن يغير مزاجك الذي تعكر صفوه:
- هل تعرفين أن عبوسك لا ينال من جمالك شيئًا؟
أساءتكِ مغازلته لكِ أمام أطفالك، فأنزلتِ يده من فوق كتفيك وأنتِ تخرجين زفيرًا حادًّا، ما كنتِ تدرين كم أساء أولادك -وخاصة ناصر الابن الأكبر- رؤية أبيهم الحبيب وهو يتودد إليكِ وأنتِ مصرة على صده. لم ينبس زوجك المسكين ببنت شفة حتى وصولكم إلى المنزل.
وقتها تعجبتُ منكِ، فقد منَّ الله عليكِ بزوج تحلَّى ببعض من صفات الملائكة، كل غايته إسعادك، وحركته في الحياة مرهونة بابتسامة منكِ؛ ولكن لم تكن طيبته في عينيكِ إلا ضعفًا وهوانًا، فوجد الشيطان مكانًا ينزغ بينكما كلما شاء. صرخت فيكِ بأعلى صوت:
لا تأخذي النعم مسلمات، فكلها مؤقتة وكل من على وجه الأرض زائل!
أراكِ وقد وصل إليكِ صدى صوتي المنبعث عبر السنين، فتنبهتِ له وأنتِ في جسد هامد، دموعك تنهمر ونظراتك ثابتة على صورة حبيبك الغائب،
فلم يبقَ منه إلا تلك النظرة التي تطل عليك من هذه الصورة وتلك الذكريات التي تداهمك بين حين وآخر، يا ليتك أطلعته على مدى عشقك له!
لماذا يفوت البشر إظهار حبهم ومودتهم؟! فحبيبك رحل عن عالمكم دون أن يتصور قدر الحب الذي حمله قلبك له، وما دار بخلده لحظة أن قوتك مستمدة منه، فانهيارك يا حبيبتي بدأ منذ أن وافته المنية؛ ولكن.. قد رحمه الله بموته، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فحبيبك كان يتألم إذا ما رأى عبوسًا يُشكل ملامحك، فكيف كان يطيق أن يراك وأنتِ لا تقوين حتى على هش ذبابة تعربد على وجهك؟
هل تسمعين صوت صلصلة المفاتيح كما سمعته؟ يبدو أن أحد أصحاب المنزل قد وصل.
أغلقت عبير محمولها على عجل، وجرت نحوكِ لتتصنع الاهتمام بوضع غطاءٍ عليك.
دخلت هالة زوجة ابنك ناصر بوجهها البشوش، نظرتْ إليكِ فتحولت بشاشتها إلى عبوس وهي تهش الذبابة بضيق، ثم قالت بلهجة حادة:
- ماذا دهاكِ يا عبير؟ ألا ترين تلك الذبابة على وجه طنط؟ ثم كيف دخلت تلك الذبابة ومنذ متى؟
اهتزت عبير لثوان ثم عاد إليها ثباتها، فهي تعلم جيدًا حاجة هالة الملحة إليها، فقالت بابتسامة عريضة:
- والله يا مدام هالة لقد دخلت الذبابة للتو واللحظة معكِ وأنت تفتحين باب المدخل، فما ذنبي إذن؟!
أراكِ وقد شعرتِ بحنان هالة وهي تطبع قبلة على جبينك، ثم أدارت رأسها إلى عبير وأردفت:
- على أي حال، حذاري أن أرى ذبابًا مرة أخرى في هذه الغرفة.
لم تكن هذه المرة الأولى التي حذرت فيها هالة عبير من دخول الذباب، وكانت تعلم أنها ليست الأخيرة، دخلت غرفتها، وضميرها يدغدغها لاسبتقائها تلك الجليسة ترعاكِ؛ ولكن ما كان بيدها حيلة، فقد عينت قبلها عددًا غفيرًا من الجليسات، ومع الأسف، لم تجد في كثير منهن ذرة ضمير.
أما أنتِ حبيبتي، فقد تمنيتِ أن تعبري عن امتنانك لهالة بأي شكل ولكن لم تستجب أعضاؤك، فلما استجديت لسانك لينطق بكلمة عرفان لم يطاوعك، وأبت أي من يديك أن تشير إليها رغم إلحاحك عليهما، فطلبتِ من رقبتك أن تحرك رأسك بإيماءة شكرٍ دون جدوى، سبحان مغير الأحوال! أليست هذه هي هالة نفسها التي تجاهلتها دومًا بينما كان غايتها أن تنال منك نظرة رضا؟ أتذكرين حين جاءك ابنك ناصر ليفاتحك في رغبته الزواج بها؟ أعلم أن رغبته كانت على غير هواكِ، كان زوجك وقتها يسقي زرع حديقتكم من يوم جمعة، وكنتِ تقرئين الجرائد في شرفة منزلكم هذه وتتابعينه بين حين وآخر، لمحتِ ولدك ناصر - استيقظ باكرًا، حيَّاك ونزل مسرعًا إلى الحديقة حيث كان أبوه، ثم أخذ يحدثه، لم تتمكني من سماع حديثهما لبعد المسافة بينك وبينهما؛ ولكني كنت معهما، أتابع حديثهما بدلًا منكِ، قال ناصر:
- أبي، أريد أن أفاتحك في أمر ما.
توقف زوجك عن سقي زرعه قائلًا بابتسامة عريضة:
- أمر يخص قلبك، أليس كذلك؟
فتح ناصر فاه دهشة وهو يقول:
- كيف عرفت؟
- العشاق يُعرَفون بسيماهم.. شرودك.. استماعك لأم كلثوم كثيرًا في الفترة الأخيرة، تقلب مزاجك وأحوالك .. اسمع يا ناصر، لقد تزوجت أمك عن هوى اجتاح قلبي، وأعلم كيف يكون حال العاشق؛ ولكن من هي سعيدة الحظ؟
- هالة، بنت صديقك الدكتور رفعت فتح الله.
غمرت دكتور محمود سعادة تضاهي فرحته بتفتح زهرة زرعها وسقاها، فقال وهو يحاول أن يحبس دمعة فرح:
- ونِعم العائلة.
ولكن تغيرت ملامحه فجأة وكأنه رأى وحشًا كاسرًا يهجم عليهما وهو يقول:
- ولكن لن يروق أمك هذا الاختيار.
- بلدي.. قهوة بلدي، لقبتهم أمي بذلك منذ زمن؛ ولكن يا أبي، القلب وما يهوى.
- أخبرني، كيف التقيتها، ونحن لا نختلط بهم منذ سنين رضوخًا لرغبة أمك؟
- هالة كانت زميلتي في الجامعة.
صمت الوالد هنيهة، ثم أردف:
- مبارك يا بني.. ولكن أمامك مهمة شاقة جدًّا، وهي أن تقنع أمك بها.
- أريد دعمك يا والدي الحبيب، وأدعو من الله أن تبارك أمي زواجي بهالة كما باركت زواج أختي، رغم عدم رضاك عن زوجها.
لقد صدق ناصر، لم يبارك الدكتور محمود لحظة زواج ابنته؛ لعلمه أن زوجها فتحي الرواس قد ترك أمه تصارع المرض في مصر، متحججًا بانشغاله بالدراسة في الخارج، وماتت أمه دون تحقيق أغلى أمنية لديها وهي رؤية ابنها قبل الوفاة، أما أنتِ يا بهية فباركتِ الزواج؛ وذلك لعشق ابنتك الشديد لفتحي، فضلًا عن أنه كان من علية القوم.
صِحتُ بأعلى صوت: أصغي لزوجك الحبيب، فقوله والله من ذهب: فمن ليس له خير في أمِه؛ لن يكون له خيرٌ في أهله بعد ذلك، بل لن يكون له خير في أحد.
ولكنك لم تسمعيني، أو بالأحرى لم تحاولي الاستماع إلي، رغم إصغائك لآرائي بعض الأحيان، فإنكِ تتجاهلين ما لا يحلو لكِ عن عمد.
استطرد ناصر قائلًا لأبيه:
- أرجو أن يكون نصيبي من رضا أمي على زواجي كنصيب أختي زهرة على زواجها، ربما ترحب بهالة زوجة لي حين تعلم مدى حبي لها وتعلقي بها.
قال هذا مع علمه هو وأبيه أن المقارنة غير متكافئة، وذلك لعاملين أساسيين لا ثالث لهما، أحدهما متعلق بالتباين الواضح في المستوى العائلي لكل من هالة وفتحي، أما العامل الآخر فيتعلق بميلك الشديد لزهرة على حساب أخويها ناصر وفؤاد.
اتجه ناصر إليكِ بعد أن استمد من أبيه شحنة إيجابية، صعد إلى الشرفة واتخذ مجلسًا بجانبك وقال لك وهو يحمل فنجانك:
- ألا ترغبين في مزيد من القهوة؟
قلتِ باسمة:
- ما وراءك يا ناصر؟ هات ما عندك.
- أمي.. أريد أن أتزوج.
هللتِ بفرحة:
- كم كنت مشتاقة لسماع هذا القرار منك! ولقد اخترت لك زينة البنات، بنت الحسب والنسب والأصول و.. مديحة.. مدي..
قاطعكِ:
- هالة يا أمي.. هالة فتح الله هي التي أريدها زوجة لي.
وقع عليكِ الخبر كالصاعقة، فصحتِ:
- هالة فتح الله!! التي لا تعرف أمها إلى الآن كيف تأكل بالشوكة والسكين؟! هالة فتح الله! التي أقصى بلد زارتها هي زيارة أهلها بدمنهور؟! هالة فتح الله التي..
قاطعك ابنك:
- أحبها يا أمي، وأرى منها ومن أهلها ما لا ترينه، وأعلم أنكِ تريدين سعادتي، ولذلك ستباركين زواجي بها.
قمتِ غاضبة بعد أن وضعتِ الصحيفة التي كانت بيدك بعصبية على المائدة المجاورة وقلت:
- ولكن لا تشرفني هذه الزيجة!
صاح ناصر من ورائك:
- ولكنك لم تعارضي زهرة حينما اختارت شريك حياتها، رغم عدم تقبل والدي زوجها، فلماذا تعارضينني الآن؟
- أختك ظروفها مختلفة، فأنت شيء وأختك شيء آخر.
لقد حذرتك يا بهية.. حذرتك مرارًا وتكرارًا من التفرقة بين الأبناء وصرخت فيك:
حذاري أن تصنعي من الإخوة أعداء.
لم تسمعيني، والآن تنظرين إليَّ بعينين يطلان من وجهٍ ضاعت ملامحه، تحاولين تزيين موقفك تجاه أبنائك، تقولين لي، ولا يسمع لغة عينيك غيري، كلهم أولادي، فكيف لي أن أفضل أحدهم على الآخر؟!
مهما حاولتِ خداع العالم، لن تخدعيني، لقد رق قلبك لزهرة لسبب في نفسك، وأعلم جيدًا دوافعكِ؛ ولكن لا أجد ذلك مبررًا، فزهرة تشبه إلى حد كبير أختك الصغرى التي سميتها على اسمها، والتي توفيت بعد صراع مخيف مع المرض، تشبهها حتى في حركاتها وطريقة غضبها وضحكها، ولو كنت ممن يؤمنون بتناسخ الأرواح لاعتقدت أن أختك نزلت مرة أخرى على الأرض في جسد ابنتك؛ ولكن الجينات أعطتنا تفسيرًا آخر لهذا التطابق الشديد، فلماذا صرتِ تعاملين زهرة على أنها أختك التي عانت؟!
ويا ليتك فرَّقتِ بين زهرة وأخويها فحسب؛ ولكنك فرقتِ أيضًا بين ولديك ناصر وفؤاد، أعلم أن ناصر كان يملك كاريزما عالية، سريع وفطن، وممتلئ بالحيوية والنشاط، على عكس فؤاد الذي كان هادئا خاملًا، يميل إلى السكون والمكوث في الظل، وكان طفلًا كالنسمة، لا يشعر بوجوده أحد تمامًا مثل أبيه، ولذلك كرهتِ فيه هذه الصفات، وأصبح ناصر هو مصدر فخرك على حساب أخيه.
أطبقتِ جفنيكِ؛ فقد اكتفيت بهذا القدر من حديثي، مُنى عينيك أن تصرخي في: كفى بالله عليك، لا أريد سماع المزيد. ربما أردتِ أن تنهي حديثي لأنك تنشدين الراحة وصوتي يزعجكِ، أو لأن قول الحق يرهقك، أيًّا كان، يعلم الله أنني ما أردتُ أن أثقل عليك؛ ولكن لا أملك وأنا حبيس زماني ومكاني إلا قول الحقيقة.
وصل ناصر، ابنك الذي أصبح لا يطيق دخول المنزل حتى لا يراكِ بهذه الحالة، نظرتِ إليه تستجدينه بكل ذرة كونتك أن يمكث بجانبك ولو لبعض الوقت؛ ولكنه استدار ليخرج بعد أن طبع قبلة سريعة على جبينك، فصرختُ فيه:
أمك كنز في بيتك، خذ منها واملأ قبل أن تنفد.
لم يسمعني، كعادتكم أيها البشر.. وآثر الابتعاد.. فقُبلة على جبينك سكَّنته، واختفى إلى غرفة نومه.
ظلت عيناكِ شاخصتين على باب الغرفة؛ أملًا في أن يشرق عليكِ من جديد، حتى جاءت عبير لتصحبك إلى سريرك، فقد جاء موعد نومك، كم تمنيتِ أن ينشرح صدرك برؤية ناصر مجددًا، أو حتى ريهام أو نهى قبل أن تخلدي إلى نومك! ولكن لم يأتِ أحد منهم حتى غادرتِ.
* * *
أراكِ راقدة في غرفة نومك، وذراعك اليمنى مشدودة من تحتك في وضع مؤلم بعد أن طرحتكِ عبير على الفراش ، تحاولين بشتى الطرق تغيير وضعك، أو الإفصاح عن أوجاعك لعل عبير تتنبه؛ ولكن دون جدوى، فباتت أقصى آمالك أن تطل عليكِ هالة لإنقاذك كما تعودت في الماضي؛ ولكن مع الأسف، لم تعد هالة كما كانت حتى تأتي، والآن بدأت سيمفونية شخير عبير تعلو تدريجيًّا تمامًا في موعدها، تكاد تخرق طبلتي أذنيك كدأبها كل ليلة، ولا تخرقهما رغم رجائك حتى لا تسمعيها ثانية، ما رأيك في أن أقص عليكِ ما دار بين ناصر وهالة الليلة حتى تلهيك عن واصلة الشخير السخيفة هذه؟ ربما أهون عليكِ بقصصي الساعات الطويلة.
جلس ابنك على فراشه يخلع حذاءه في ضجر، وعندما نظرتْ إليه هالة لاحظتْ عبوسه وكانت تقرأ رواية كعادتها، فسألته وهو يخلع ملابسه:
- هل هناك ما عكر صفوك الليلة؟
- وصلتني رسالة إلكترونية من أخي فؤاد.
- وما الجديد؟
- سيأتي في غضون أيام إلى القاهرة مع صديق له.
- ولكن لا أرى سببًا لما أنت فيه من ضجر، فهو يريد الاطمئنان على صحة والدته، وهذا حقه.
- كنت أتمنى ذلك؛ ولكنه آتٍ على إثر مشكلة تفاقمت بينه وبين فتحي زوج زهرة كما أشار في رسالته، وأخبرني أنه سيطلعني عليها فور وصوله، وأنتِ تعلمين أن فتحي هذا جلاب المصائب.
مدد جسده بجانبها، ثم سألها:
- هل عادت نهى وريهام من عند خالتهما؟
قالت بقلق:
- سيبيتان الليلة هناك.
اعتدل ناصر في جلسته قائلًا بحدة:
- قلت مائة مرة لا داعي لمبيتهما خارج المنزل.
- ما الذي يغضبك في قضاء ليلة واحدة عند خالتهما؟ فهما يستمتعان بصحبة ابنة خالتهما نورا، فما الضرر إذن؟
- تعلمين أن أمي معاقة تمامًا، ووجودهما في المنزل ضروري لخدمتها إن لزم الأمر. تصورت أن تكون لرعاية أمي عندك أنتِ وابنتيكِ الأولية على أن تقضيا ليلة مع ابنة أختك.
إلى متى يجور ابنك على زوجته ويتهمها أن رعايتها لكِ منقوصة؟ لقد فاض بها المسكينة، فاعترضت في نفسها بكلمات تكاد تكون مسموعة:
- من حق البنتين أن يستمتعا بوقتهما مع ابنة خالتهما ولو لليلة واحدة فقط. إنهما دائمًا تهتمان برعاية جدتهما وخاصة أثناء إجازة عبير.
التفت إليها قائلًا بحدة:
- هالة، احذري غضبي، وإياكِ أن لا ترضخي لأوامري مرة أخرى.
- لا تغضب هكذا، ستعودان غدًا بعد صلاة الجمعة، في موعد درس الموسيقى.
- درس الموسيقى.. هذا أيضًا لا يروقني، حتمًا يعطل ريهام عن دراستها.
ما الضرر في أن تصقل ريهام موهبتها بالدراسة؟! هذا ما دار بخلد هالة، فهي أيضًا كانت تهفو لتعلم الموسيقى منذ صغرها، ولم تسنح الظروف، ولا تريد حرمان ابنتها مما حُرمت منه؛ ولكنها لم تشأ المجادلة، فاكتفت بقولها:
- لا تبالغ.. إنه مجرد درس إسبوعي.
- أبالغ!! هل خوفي على مستقبل ابنتي مبالغة؟!
استطرد بعد أن أشعل سيجارته:
- أعلم منذ البداية أن لا فائدة من الحوار.
كانت تكره حديثه معها بهذه الطريقة؛ ولكنها كانت تفتقد شجاعة المواجهة، فاكتفت بهز رأسها بأسى وإخراج زفير خفيف حتى لا تشعره باستنكارها لسلوكه، أما هو فضغط على زر النور ليطفئه بعد أن أطفأ سيجارته، غير مبال بالرواية التي كانت في يديها، فوضعتها جانبًا، وقالت بصوت خافت:
- تصبح على خير.
أشفقتُ على تلك المسكينة وهي نائمة، فمجهوداتها ضائعة، لقد حاولت جاهدة لسنين أن تذيب الجليد الذي حال بينها وبينك.. والآن بدأ جدار جديد يتكون بينها وبين زوجها.. ابنك.