صباح الخير يا بهية، اليوم -رغم غروبك- مشرق، يفزعني كثيرًا أن أراكِ تصارعين وحدتك التي حتى الآن لم تألفيها، وقد ضاعت محاولاتك المتجددة في عمل هدنة بينك وبينها، فجئت لأنهي الصراع ولو مؤقتًا بمؤانستك، كفاكِ بالله عليك، لا تنظري إليَّ هكذا، فأنا لا أمن عليك بمؤانستي؛ لأني أشعر أنني غريب، بل وحيد بينكم أيها البشر، ولا أحد يشعر بوجودي سواكِ، وقد انتهزت فرصة جلوسك كي آنس بك، أعلم أنكِ ستمكثين هنا لبعض الوقت، في الشرفة التي كانت تسعد بجلوسك صباحًا عندما كنتِ في عنفوانك؛ ولكنها الآن تبكي حرقة عليكِ، فجليستك عبير تتحدث مع ذلك الزنديق في المطبخ عبر محمولها، ولن تنتهي حتى تتحقق من خبر قد وصل إليها عبر الواتس آب، فحتَّم عليها التأكد من براءة الزنديق من مرافقة صديقتها مساء أمس، وسيستغرق هذا الاستجواب ساعات.
أما ناصر ابنك فقد خرج مبكرًا، وأنتِ تعلمين أنه يُربط في ساقية العمل طوال يومه؛ ولكنه سعيد بها، كم برع في عمل أبيه! فضلًا عن أن انغماسه في عمله ينسيه ما ألمَّ به من وجع وأسى لرؤيتك وأنتِ تنهارين كل يوم أمام عينيه وهو لا يملك ترميمك، أما زوجته هالة فهي لا تزال نائمة في غرفتها، فالنوم للمسكينة وسيلة هروب أكيدة من واقع لا تستطيع تغييره أو السيطرة عليه، معذرة... لم أقصد بذلك معاناتها في مراعاتك وأنتِ في هذه الحالة، أبدًا فهي تقوم بذلك عن طيب خاطر؛ ولكن أقصد معاناة أخرى صاحبتها منذ زمن، عندما وطئت قدماها ذلك المنزل شاعرة أنها غير جديرة بوجودها فيه، فساعد ذلك على اهتزاز ثقتها في نفسها. وعندما يخسر المرء اعتزازه بنفسه يفقد القدرة على العطاء، والعكس أيضًا صحيح، فعندما يفقد المرء القدرة على العطاء تهتز ثقته في نفسه، واعتزازه بها، وبذلك يحاصر بدائرة يصعب الفكاك منها.
وهالة زوجة ابنك، لطبيعتها الجوادة، حاولت كثيرًا فك قيد الحصار بعطائها المتجدد؛ ولكن لم تعد مؤخرًا لديها القدرة على مواصلة العطاء، وقد ازداد إحساسها بالوحشة، بعد أن تغير أسلوب زوجها معها على مر السنين،
إذ إنه لم ينشز عن طبيعته البشرية، فقد اعتاد النعمة التي حارب يومًا من أجل أن يفوز بها، واعتبر بقاءها من مسلماته، أتستنكرين سلوك ابنك؟ ولكنكِ كنت مثله يومًا حين اعتدتِ حب الدكتور محمود، فهذا دأبكم أيها البشر، اعتياد النعمة، ثم لا تنسي أنك كنتِ أحد أسباب تغيُّر ناصر نحو زوجته.
دعيني أقص عليك بعض الأخبار، فجعبتي محملة بالكثير اليوم، منها المؤلم ومنها المفرح، فلنبدأ بالأوجاع.
هل تذكرين مديحة ابنة المرحوم السفير كامل المحروقي وصديقتك مُهجة؟ تلك الفتاة التي تمنيتِ قديمًا أن يفوز بها ابنك ناصر، وقمتِ بمحاولات عديدة بل وخططت مع والدتها مرارًا لتحقيق تلك الأمنية التي ضاعت أدراج الرياح أمام حبه العنيد لهالة؟ داهم مجموعة من البلطجية بيت فتاة الأمس في كومباوند بالتجمع الخامس، وكانت خارج البيت في ذلك الوقت، قتلوا زوجها وأولادها، وسرقوا متاعها، وهي الآن في حالة يُرثى لها، أعلم أنك ستتألمين لما أصابها، فهي كانت وما زالت قريبة إلى قلبك، فقد آلمني هذا الحدث الشنيع أيضًا؛ ولكن ليقيني من نفاذ القدر، واستحالة هروب المجرم من قبضة عدالة السماء، فإن جزعي من هذه الزاوية ليس كجزعكم أيها البشر؛ ولكن ما يقلقني بالفعل حاجتها لمن يواسيها في الأيام المقبلة، وحاجة ناصر لمن يعيد إليه شبابه، ورغبته في الابتعاد عن منزله بأي وسيلة.
جففي دمعك، فالأزهار ما زالت تتفتح، والشمس لا تزال ترسل إليكِ أشعتها، وابنك فؤاد قادم من السفر في غضون أيام؛ ولكن حدث سوء تفاهم بسيط بين الأخوين، لقد أرسل فؤاد لناصر رسالة مختصرة، كما ذكرتُ لك بالأمس، يبلغه فيها بقدومه مع «صديقة» له، وأنتِ تعلمين أن كلمتي صديق وصديقة شكلهما واحد بالإنجليزية، فهي في الحالتين friend، فخدعت الكلمة ابنك ناصر، فظن أن أخاه قادم في صحبة صديق له، فهذا أقرب لعاداتكم وتقاليدكم، ولا أعلم ماذا سيكون رد فعله عندما يصطدم بالحقيقة، أرى في عينيك سؤالا مُلحًّا.. تسألين عن داليا زوجة فؤاد، وابنته ليندا، أدري أن ما سوف أقصه عليكِ ليس بخبر سعيد، لقد تخوفت من نقله في بادئ الأمر؛ ولكن حان الوقت لكي تعرفي ما حدث بين الزوجين.
مبدئيًّا دعينا نتفق على أنك كنت تباركين زواجه بداليا، فهي السيدة الأنيقة، ذات الحسب والنسب، سيدة الصالون التي كنتِ ترينها مثالًا يحتذى به لكل فتاة في مثل سنها، ولأن فؤاد كان مغلوبًا على أمره؛ انصاع لأمرك، رغم عدم ميله لها وانشغال قلبه بأخرى، وبعد أن هاجر معها إلى بريطانيا بدأ حياته العملية كما تعلمين، واستطاع أن يقترض مبلغًا من البنك، وأضافه إلى المبلغ الذي أخذه من أبيه وأقام مصنعًا للملابس القطنية، ونما هذا المصنع وانتشرت فروعه، وأصبح من أجود مصانع التصدير، أعلم أنكِ لم تتوقعي أن يحظى ابنك بهذا النجاح لطبيعته الهادئة الخجولة؛ ولكن هدوءه هذا أخفى تميزه ومواهبه التي حباه الله بها، فصار كالبذرة التي إن وضعت في تربة صالحة نمت وازدهرت، ولا تنس أيضًا توفيق الله، وعلى الرغم من نجاحه في عمله لم يكن سعيدًا بسبب زواجه البائس، فكان يفر من الحياة الأسرية في أحضان أخريات لفترات ثم يعود يبكي ويطلب الصفح ، وهكذا ظلت العلاقة بين شد وجذب حتى انقطع آخر خيط كان يربطه بداليا ووقع الطلاق البائن بينهما، ولأنهما تجنسا بالجنسية البريطانية، رفعت داليا أو «دولي» كما يطلقون عليها هناك، دعوى طلاق على ابنك واستحوذت على نصف مصنعه، إذ إنه وفقًا للقانون البريطاني للأحوال الشخصية تقسم الممتلكات -المكتسبة خلال فترة الزواج- بالتساوي بين الزوجين في حالة الطلاق، ولأن فؤاد لم يكن مستعدًّا للتنازل عن نصف ثمار الجهد الذي بذله في سني الغربة والضنك؛ اتصل بزوج أخته، ذلك النمرود فتحي ليستشيره، فنصحه أن يبيع له نصف المصنع على الورق وبتاريخ قديم، وبذلك ينقذ نصف المصنع من القسمة، ووعده بأنه سيعيده إليه؛ ولكن هيهات!
أرى ملامح الفزع تتعثر وهي تشق طريقها على وجهك لتهدل عضلاته، ولكن لا تنسي أن ما قصصته عليكِ الآن نتيجة حتمية لفؤاد، ففؤاد ظالم ومظلوم في آنٍ واحد، منذ نعومة أظافره كان كالبطة السوداء، وأي مقارنة بينه وبين أخيه، تلفظه خارج المنافسة من قبل أن تبدأ، وذلك ما دفعه إلى الهروب إلى بلد آخر قديمًا، وإلى اللجوء إلى فتحي في محنته حديثًا، بدلًا من اللجوء إلى أخيه ناصر، وأنتِ تعلمين مدى خسة فتحي، فقد أقنعه بالتزوير وها هو الآن يراوغه ليستفيد من الموقف أقصى استفادة، دعينا نرى إلى أين ستؤول الأمور.
أرى في عينيك سؤالًا يخص قرتي عينيكِ، ريهام ونهى، أجل لقد أرجأت أخبارهما عن قصد حتى يكون ختامها مسك، أعلم أن قلبك يرقص لمجرد سماع اسميهما، بارك الله فيهما، فهما بحق مصدر سعادة وبهجة، فكلتاهما تتحلى بأجمل صفات في كل منكم، فقد قطفتا من كل بستان زهرة، و ذلك مع اختلاف شخصيتيهما، فنهى الكبرى صلبة صلابتك، متحفظة كتحفظك، فلا ينفلت زمام أمرها مهما حاول بنات أيامها أن يجرفنها معهن، تهتم بالأناقة والذوق، وتهتم بشكل خاص بالحفاظ على وقارها أمام نفسها ومجتمعها، وهي مثل أمها لا تخون ولا تتلون مهما يكن الأمر، وقد ورثت من جدها السكينة، ومن أبيها الحكمة في هدوئه لأنه كما تعلمين يفقدها عند انفعاله. أما ريهام فزينها جمالك الذي رحل إليها، فأخذت عينيك اللتين تشبهان عيني الغزال، وأخذت من أبيها سرعة البديهة والخفة، ومن جدها العطاء، ومن أمها الحنان، لقد قضتا ليلتهما أمس عند خالتهما في حي مصر القديمة، فأنتِ تعلمين أنهما تستأنسان بابنة خالتهما نورا كثيرًا، أما ريهام.. فلا أدري إذا كان مناسبًا أن أفصح إليك عن أمرها.
آه، أعلم تلك النظرة جيدًا، وكعادتك، أرى في عينيك الفضول، حسنًا، ريهام وقعت.. أقصد وقعت في الحب، ترينها صغيرة؛ ولكن ذلك القلب يملك أن يضم العالم أجمع بداخل غرفه الضيقة، عشقت على حين غرة. تلاحقينني بأسئلة لا حصر لها.. تمهلي.. تمهلي بالله عليك، سأقص عليكِ كل شيء.
تسألينني عما إذا كانت قد أحسنتْ الاختيار، والرد على هذا السؤال محير وليس يسيرًا، ففي عُرفكم في هذا المجتمع البائس لقد أساءت الاختيار، أما في عرفي أنا قد تكون أحسنته، سأسرد عليكِ دوافعي لهذا الإقرار، فشكري، أقصد الرجل الذي وقعت حفيدتك في حبه ليس له أسرة على الرغم من وجودها، وليس له مستقبل تتمنونه، وليس لديه أي شيء يبعث الفخر إليكم إذا ما اقترنت نجلتكم به، فالرجل يعمل مدرسًا للموسيقى، اختلف مع أهله لتمسكه بموهبته إلى حد طرده من المنزل، فأبوه لم يكن يومًا أبًا عادلًا أو حنونًا، بل كان جهولًا، فلم يتفهم حاجة ابنه إلى أن يحقق حلمه؛ ولكن شكري على
ما يبدو نقي نقاء الذهب الخالص، ويحب حفيدتك حبًّا جمًّا، أرجو ألا تصبِي لعناتك على المسكين كما فعلتِ قديمًا مع هالة، لعلك أدركتِ الآن كيف تقيمين المرء، بخلاف عُرف مجتمعكم الذي يقيِّم المرء بحذائه وساعته، ومدى تمسكه بالإتيكيت وطلاقة لسانه بلغة أجنبية وإن أغفل قواعد لغته العربية!
كدت أنسى أن أزف إليك خبرًا سارًّا، لقد اشترى المهندس ممدوح الأنصاري المسكن المجاور لكم، هل تعلمين أن ممدوح الأنصاري هذا رجل أعمال ناجح، وهو شهم وصالح، سينتقل وعائلته قريبًا بإذن الله، وله ابن زين الشباب؟ آه.. أرى لمعة عينيك، وأوافقكِ تمامًا، فالشاب يناسب نهى تمامًا، فلندعُ الله أن يوفق قلبيهما.
ياه.. أرى أشعة الشمس قد غيَّرت زاويتها، وأصبحت مركزة عليكِ! دعيني أحاول أن أقف حاجزًا بينها وبينك، لعلي أخفف عنكِ وطأة حدتها، ترينني أحاول جاهدًا أن أحميك منها دون جدوى، آسف حبيبتي، وسامحيني، كعادتي أنسى طبيعتي كلما ازددتُ لهفة وخوفًا عليكِ، فأنا كغربال تخترقه الأشعة وتصل إليك مهما حاولت أن أحول بينك وبينها، ماذا أفعل لصدها؟
الحمد لله، أراكِ وقد تنفست الصعداء عند وصول قرتي عينيكِ في الموعد، ترينهما وقد دخلتا حجرة المعيشة وتقتربان من الشرفة، مرحبًا نهى، مرحبًا ريهام، لقد أثلجتما صدري وصدر جدتكما بقدومكما، أحييكما ولا أنتظر منكما رد التحية، ولا أبالي، فأدرك جيدًا محدودية جسديكما البشري، فالعين لا ترى إلا العالم المادي؛ ولكن أملي أن تشعرا بي يومًا لما تحملانه من شفافية ونقاء،
لا عجب أن تتألما وتغضبا لرؤية وجه جدتكما يشتعل وينصهر وهي ملقاة في عين الشمس، أخذت ريهام منديلًا مبللًا ووضعته على وجهكِ على عجل، معذورة، فليس بمقدورها إلا ذلك، أما نهى فصاحت تبحث عن عبير، لأنها الوحيدة التي تملك القدرة على حملكِ، فهي تمتلك قوة تعادل قوة ثلاثة رجال مضروبة في عشرين.. معادلة رياضية، أليس كذلك؟ ولكنها تعطي نتيجة صحيحة لقوة عبير البدنية!
- يا عبير أين أنتِ؟ كيف تركتِ جدتي في الشرفة كل هذه المدة؟
وجدت عبير تجلس على مائدة الطعام الصغيرة التي تتوسط المطبخ، وتتحدث عبر محمولها، فصاحت:
- ماذا تفعلين؟
قالت لمن معها عبر المحمول:
- انتظرني دقيقة.
ثم نظرت إلى نهى ببرود:
- أتحدث إلى أخي الصغير، فأمي المسكينة مريضة، وأطمئن عليها، هل لديكِ مانع؟
طبيعي ألا تجد الحقيقة طريقًا للسانها، فالكذب سكنه ولا يبرحه، أمعنت نهى النظر فيها ثم صاحت:
- كيف تجرؤين على لبس قلادتي؟!
- لقد وجدتها ملقاة جانب سلة المهملات، فظننت أنكِ قد استغنيت عنها.
صاحت نهى:
- هذا شيء قد زاد عن حده، اختفت إكسسوراتي وكثير من إيشارباتي وملابسي في وجودك..
- ولِمَ لا تكون أم سيد هي التي أخذت ما فُقد؟ فهي التي تدخل حجرتك باستمرار لترتيبها.
- أم سيد تعمل لدينا منذ زمن، ولم نرَ منها إلا الأمانة والإخلاص، علاوة على ذلك فهي مُسنة وتزهد في كل هذه الأشياء.
صاحت وهي وتبكي بكاء التماسيح:
- ماذا تعنين؟ هل وصل بكِ الحال إلى أن تتهميني بالسرقة؟! سألملم متاعي وأرحل في الحال، كله إلا أن يمس شرفي ولو بكلمة. فنحن غلابة ولا نملك إلا شرفنا.
كانت تعلم أنهم في أمس الحاجة إليها، ولا يستطيع أحد من أفراد العائلة أن يتجرأ ويزيحها مهما بلغت من تجاوزات، وبالفعل تراجعت نهى إثر تهديدها، وهمت لتترك المطبخ بعد أن أمرتها أن تخرجك من الشرفة وهي تخرج كل الأكسجين بداخلها من خلال زفير حاد، وفي ذلك الحين دق جرس باب المنزل.
* * *
فاصل يا بهية مصاحب بأحلى النغمات، بعد أن نقلتكِ عبير إلى صالة المعيشة كما أمرتها نهى، وتركتك كعادتها لتواصل حديثها مع صاحبها الذي لم ينقطع لحظة عبر المحمول، حتى وهي تحملك إلى الداخل؛ ولكن ألا تطربين لسماع عزف ريهام في حضور حبيبها، أقصد في حضور مدرس الموسيقى الذي وصل للتو واللحظة؟ إنه عزف أكثر من رائع، ليس فقط لموهبتها المغروسة فيها منذ الصغرأو لبراعة المدرس، أو حتى لجمال اللحن؛ ولكن لمشاعرها التي سبقت أصابعها بالرقص على مفاتيح «الأورج».
أراكِ تبحثين بعينيك عن هالة، فلا تطمئنين إلا في وجودها، ولقد كانت قديمًا وهي في عنفوان شبابها وصحتها وقمة نشاطها تمثل لك كل خيبة أمل، والآن أصبحت صمام أمانك، حتى بعد أن أنهكتها العلاجات النفسية التي تتلقاها، وأصبحت عاجزة عن الاستيقاظ مبكرةً كحالها في الماضي. اطمئني ها هي ستهل علينا الآن، سوف تدخل وفي يدها فنجان من القهوة الساخنة لعلها ترفع به جفنيها المطبقين على عينيها، معذرة.. بل ستتأخر قليلًا عن الدخول لحديثها مع الحبيب، فقد انتهى درس الموسيقى الآن، وخرج المدرس مصاحبًا تلميذته من الصالون فقابلها، إنها حقًّا فرصة ذهبية لشكري، أرجو أن يقتنصها.
- السلام عليكم سيدتي.
وضعت هالة فنجان القهوة جانبًا، وصافحت يد شكري الممدودة، وقالت بابتسامة:
- وعليكم السلام أستاذ شكري، أشكرك على مجهوداتك مع ريهام، فمستواها في تحسن مستمر، ما هذا اللحن الرائع الذي كنت أسمعه للتو؟
ردت ريهام بفرحة:
- مقطوعة لشوبان.
- عظيم!
همت لتتجه إلينا ولكنه قال:
- سيدتي هل أستطيع أن ألتقيكِ والدكتور ناصر في أي وقت يناسبكما؟
تعجبت من طلبه وقالت:
- بخصوص؟
تلعثم قليلًا، ثم قال:
- سأبلغكما في وقتها، أستسمحك في أن تبلغيني بالموعد المناسب من خلال ريهام.
هزت رأسها هزة خفيفة وهي في حيرة من أمره، تابعته بعينيها وهو يبتعد وكان بصحبة تلميذته حتى خرج من المنزل، ثم عادت ريهام، فسألتها أمها:
- هل تعلمين ما وراء أستاذك؟
هزت كتفيها، وقالت بثبات يخفي الهلع الذي أرجف قلبها:
- لا أعلم يا أمي.
هالة كما عهدناها، دخلت علينا للاطمئنان، تنظر إليكِ يا بهية، تتفقد أحوالك، تنظر إلى ملابسك، وتحملق في وجهك ويديك وقدميك الممدودتين، لتتأكد أن كل شيء على ما يرام، وعندما لاحظت اتساخ ملابسك نادت عبير لتأمرها أن تستبدل بها ملابس نظيفة، وسألتها عما إذا كانت قد حقنتك بالأدوية الموصوفة في موعدها، ثم خرجت بهدوء إلى حجرتها.
بالله عليك صبرًا، أراك تعانين وأنتِ في يد عبير، فليس في قلبها ذرة رحمة، تحركك بخشونة بالغة وكأنها تغير ملابس دمية، يا ليت بمقدوري أن أخلصك منها، ترى هل أبواب السماء مفتوحة الآن؟ لقد جاءت من تخلصك بالفعل.
- اخرجي يا عبير.. أريد أن أمكث مع جدتي وحدنا.
انتهزت عبير الفرصة قائلة:
- إذن أكملي أنتِ تغيير ملابسها.
أخيرًا تحررتِ من قبضة عبير، والآن أصغي جيدًا لحفيدتك التي جاءت تشكو إليك، لعلها تجد سلوانًا بحديث تعلم جيدًا أنه سيكون من طرفها، وتدرك أيضًا أنك ستكتمين سرها، ليس ثقة فيكِ وإنما ثقة في وهنك وعدم قدرتك عن النطق ولو بحرف واحد.
- جدتي، لقد كذبت اليوم على أمي حين سألتني عن بغية شكري، قلت لها لا أعلم، ولكن أعلم جيدًا ما يريده منها ومن أبي، لا أدري من أين أبدأ.
أراها تنظر إليكِ لتلملم أطراف شجاعتها ثم تستطرد:
- أحبه، أحبه يا جدتي من كل قلبي، ولا أدري كيف عشت قبل لقائه، ولا أتخيل كيف تكون الحياة بدونه! فشفتاي تزدادان عذوبة وهما تحكيان سيرته أو تنطقان باسمه، أتدرين ما هي خير أيامي؟ يوم أن اعترف لي بعشقه وكان ذلك من خلال لحنٍ ألفه خصيصًا لينقل إليَّ لوعته، آه يا جدتي لو تعلمين كيف تكون الدنيا حين تتلون بلون الزهور! عشقته، بل عشت به، دليني يا جدتي ماذا لو رفض أبي الزواج منه؟
رثيتُ لحالِ حفيدتك كرثائي لحالك يا بهية، وأعلمُ أنكِ لستِ سعيدة بهذا الإقرار منها، ربما لم تتغير روحك كتغير جسدك. والآن أسمع خطوات ثقيلة تقترب من باب المنزل لتقطع خلوتكما، لقد جاءت زهرة ظنًّا منها أنها ستخرسني بلقائك، وأن التفنن في إظهار بعض الاهتمام بطريقة فظة سوف يشعرها أن لها دورًا في رعاية أمها، وإن كان دورًا مزعومًا، حقًّا لقد اختلط عليَّ الأمر بخصوص ابنتك، فلا أدري ما إذا كانت حزينة ومقهورة فعلًا لعدم قدرتها على رعايتك بسبب موقف زوجها الرافض لذلك، أم إن أنانيته بهتت عليها، فأصبحت تتلذذ بالهروب من مسؤوليتها تجاهك؟ دنت منكِ وقالت دون أن ترفع نظرها إلى ريهام:
- كيف حال أمي؟ يا خبر! من وضع ذلك الغطاء الثقيل عليها؟! ألا ترين يا ريهام أن جدتك تتصبب عرقًا منه؟ بالله عليكم راعوا الله في أمي المسكينة.
ونزلت دموع التماسيح التي نعرفها جيدًا أنا وريهام على يدك تبللها وهي تقبلك، دخلت هالة وهي تبحث عن ابتسامة لتضعها على وجهها العابس؛ لتستقبل ابنتك بها؛ ولكن يبدو أن الابتسام قد غادر البيت بلا رجعة، فقالت واجمة:
- مرحبًا بك يا زهرة.
- أهلًا هالة.
نظرت هالة إلى ريهام قائلة:
- قدمي صينية الشاي وبعض الحلوى لعمتك.
هربت ريهام، وكأنما جاء أمر أمها طوق نجاة تتمسك به؛ لينقذها من وجه عمتها ولو لدقائق، ثم دخلت عبير وأخذت تجر كرسيكِ المتحرك قائلة وهي تتصنع الاهتمام:
- موعد الاستحمام يا مدام، لا بد من نقلها.
قالت هالة:
- اتركيها لبعض الوقت، فمدام زهرة قطعت كل هذه المسافة لزيارتها.
قالت زهرة بنبرة لوم:
- أهكذا تدار الأمور؟! هل يعقل يا هالة أن يتعطل جدول أمي المريضة من أجل زيارة وإن كانت زيارتي؟! خذيها يا عبير على الفور.
قالت عبير بتلعثم لتفر من عملها ولو لوقت الزيارة، فمكالمة العشيق أقرب إلى نفسها من أن تأخذك للاستحمام وهي لا ترى فيكِ إلا جثة تعفنت، فلن يُصلح الاستحمام منها ولن يغير شيئًا:
- لا يزال لدينا وقت سيدتي زهرة، لا تقلقي، فالاستحمام يمكن أن يؤجل إلى ما بعد الزيارة. بعد إذنكما.
بحثت زهرة في حقيبتها عن نقود لتدسها في يدِ عبير، تحاول مجددًا بها إخمادي؛ ولكني لم أستطع السكوت هذه المرة وصحت:
المال وحده لا يصنع الرعاية وإن كان قناطير من ذهب، فما بالك ببضع جنيهات زهيدة توضع في كف امرأة بلا ضمير. وكان الأحرى بك أن تشاركي أخاك في مصاريف علاج أمكما، فهذا أضعف الإيمان.
أدرت عيني عن ابنتك ونظرتُ إليكِ يا بهية، اتأملك وأنتِ راقدة أمامي، فالغريب أنك تملكين ثروة في مقدورها أن تخفف حمل مصاريفك عن كاهل ناصر المسكين، تلك الثروة التي تضخمت في البنوك لعدم إنفاقك منها إلا الزهيد، فلقد حرصتِ حرصًا شديدًا ألا تبدِّدينها، ذلك الحرص الذي انقلب وبالًا عليك حين حجبتِ أموالك عن أولادك، ورفضتِ تمامًا فكرةً اقترحها عليكِ بعضُ الأصدقاء في بداية مرضك، وهي توزيعُ بعض ثروتك على أولادك، أو إعطاء أيٍّ منهم توكيلًا لإدارتها، وبدلًا من ذلك ازداد حرصُك على الثروة؛ فقررتِ حجبَها بلا رجعة، فلا يستطيع أحدٌ منهم-الآن- أنْ يمسَّ حتى مقتنيات الزِّينة من ألماس وأحجار كريمة، والتي حرص زوجك رحمة الله عليه على جمعها لك بمناسبة وبدون مناسبة، لعلمه بعشقك لهذه الأحجار، على الرغم من كونها مجرد أحجار.
أتفهم جيدًا موقفك تجاه ولديك زهرة وفؤاد، لقد خشيتِ من إعطاء التوكيل لزهرة خوفًا من تأثير زوجها الخسيس عليها، وامتنعتِ من إعطائه لفؤاد لأنه بعيد عن البلاد فضلًا عن أنه هوائيٌّ رغم طيبته؛ ولكن رفضك أن تعطيه لناصر أذهلني، فهل كان بغضك القديم لهالة سببًا في ذلك؟ أم إنَّ هناك شيئًا آخر تخفينَه عنِّي؟! أرى على وجهك ملامح توتر وانزعاج، قد تُفصح عن ندمٍ على هذا القرار، فقد يكون مُنَى عينيكِ الآن أنْ تدبَّ الحياةُ في أطرافك ولو للحظات حتى يتسنى لكِ التوقيع على التوكيل بدلًا من حجبِ ثروتك نهائيًّا عن أولادك؛ ولكن الأمنيات المستحيلة لا تحقق لأصحابها إلا الحسرة والندم!
خرجت عبير، ثم خرجت هالة من ورائها متحججة بصداع، ثم خرجت ابنتها ريهام بعد أن دخلت مرة أخرى صالة المعيشة، وقدمت لعتمها واجب الزيارة، ولم يتبق في الحجرة إلا أنا وأنتِ وابنتك، ترى كم من الوقتِ سوف تستغرقه بجانبك؟ تتكلم دون أن تخرج صوتًا ظنًّا منها أننا لا نسمعها؛ ولكن هيهات، فصوتها في عالمي غير المرئي يدوي دوي الرصاص في عالمكم.
- أمي.. هل تشعرين بوجودي؟ وهل يمكن لأحد أن يتنبأ بما تشعرين به الآن؟ ولولا أنفاسك لظننا أنكِ رحلت عن دنيانا منذ زمن. أخشى من سخطك عليَّ؛ ولكن يعلم الله كم أتألم من أجلك، ربما يشفع هذا لي عندك، لأنه سبب وجيه لقلة زياراتي لكِ، يصعب عليَّ رؤيتك وأنت في هذه الحالة. هناك سبب آخر لزياراتي القليلة، سبب في نفسي لا أستطيع وصفه، فمن تتزوج رجلًا عظيمًا مثل فتحي الرواس تتعثر بعض الشيء، لأنه لا سبيل لفهمه واحتوائه وتلبية احتياجاته، ولأني أعاني، لا أستطيع أن أتحمل المزيد من المعاناة برؤيتك وقد تحولتِ تدريجيًّا إلى صورة باهتة من أمي التي كنت أعرفها، ألا تصدقينني؟ إذن دعيني أصارحكِ بالسبب الحقيقي، فأنا يا أمي ألومك في نفسي كل يوم وكل ساعة، لقد امتنعتِ عنْ توزيع ثروتك علينا كما أشارَ عليكِ بعض العقلاء، وكان الأحرى بك أن توزعيها قبلَ أن ترحل عنكِ معالمُ الحياة، أو كنتِ- على الأقلّ- أعطيتنا جزءًا منها بدلًا من تجميدها في البنوك بغير نفْع، ولو كنتِ فعلتِ هذا لتضاعفت الأرباح، فبمنعك هذا لم يتسنَ لزوجي إبرام كثير من الصفقات التي كانت سوف تنقلنا إلى مستوى معيشي آخر؛ ولكن لا أدري لِمَ امتنعتِ عن إعطائنا بعض حقنا الذي سيؤول إلينا عاجلًا أم آجلًا، هل يعجبك حالي مع زوجي، وكلما رآني لامني على فعلتك هذه؟
كفاكِ يا زهرة، وعودي من حيث أتيت، لقد أصبحتِ ضيفًا ثقيلًا على أمكِ وعليَّ أنا أيضًا، فضلًا عن أهل البيت اللاتي تسللن واحدة تلو الأخرى، فأنتِ ابنة عاقة، ولكي تبرري عقوقك تشبثت بخطأ وقعت أمك فيه في مفهومك، فكل ما تتذكرينه لأمك رفضها إعطائك جزءًا من مالها الذي سوف يؤولُ إليكِ، ونسيتِ كل ما قدمته لك طوال حياتك، وأكثر ما أبغضه فيكم أيها البشر أنكم لا ترون أخطاءكم، وقد ترون أخطاء غيركم بسلاسة وإن لم تكن أخطاء، ولقد قمتِ بذلك بحرفية تامة، ومن لا يرى خطأه لن يصلح من أمر نفسه شيئًا، فالخطأ وارد ومقبول؛ ولكن الإصرار عليه مقبوح ومذموم.