اخترق سكون الليل صوت الجيران وأطفالهم يصرخون من الأدخنة السوداء التي تنتشر في أرجاء طوابق البيت، وفزعهم من غموض هذه الأدخنة التي ضاقت بها صدورهم..
أصبحوا جميعهم أمام البناية مراقبين..
النيران التي تتراقص بداخل النافذة وليس خارجها وكأنها مسجونة..
الرعب كان يسكن داخل أجسادهم.. فالمظهر غريب؛ نيران بداخل غرفة في الطابق الرابع، لا تستطيع الفرار من النافذة كما هو حال جميع الحرائق؛ ولكن ظلالها المخيفة وأدخنتها التي تنبعث من كل صوب...
هناك شيء غامض بهذا الحريق بالتأكيد..
قال أحد الجيران وهو يشير بأصابع مرتعشة باتجاه الحريق:
-دي شقة المهندس (يوسف) في الدور الرابع...
هتفت سيدة بجانبه مرتدية جلبابًا منزليًّا وبهلع واضعة كفيها على وجنتيها:
- يا لهوي.. جوز مدام (سمر)!! دي سافرت إمبارح...
همَّ أحد الجيران بقول تفصيلة أخرى ولكن سيارة المطافئ ظهرت.
فقال أحدهم هاتفًا وهو يشير بسبابته:
- أهي عربية المطافي جات.. يا رب سلم.
بدأ حشد رجال المطافئ يتوجهون إلى البناية باحترافية ونظام وقائدهم يوجههم بحزم...
كان أحد الجيران يراقب الأمر وهو يربت على رأس ابنه الصغير محاولًا تهدئته:
- يا جماعة هو حد سمع استغاثة المهندس (يوسف)؟
الرجل الذي بجواره وهو يهز رأسه نافيًا:
- لأ خالص يا أستاذ (شكري)، إنتَ عارف إني ساكن فوقيهم.. دا زي ما يكون نايمين أو ما حدش في البيت!
قال (أحمد) أحد الجيران وهو يعدل منظاره الطبي مبتهلًا:
- يا رب ما يكونش حد في البيت...
تساءلت سيدة يبدو عليها كبر السن وقالت بتوتر وصوت مرتعش وهي تعدل روبها:
- هو (عنتر) البواب فين؟
أجابتها (سهام) إحدى الجارات هي و(منى) جارتها الأخرى في آنٍ واحد:
- مسافر لسَّا ما رجعش من البلد يا مدام (كوثر).
أشار (أحمد) إلى نفسه:
- أنا عشان في الدور التالت وكنت نايم وبدأت أشم ريحة حاجة بتتحرق صحيت واتفاجئنا إن بيتنا فيه دخان أسود في كل مكان زي شبورة، فأخدت (سلوى) والولاد.
(شكري) مؤكدًا:
- صح أنا حصل لي نفس الموضوع.
نظرت (سلوى) وهي تضع خصلة وراء أذنيها بتوتر ثم احتضنت أولادها بحنو وقالت بصوت مبحوح:
- طبعًا الشقتين اللي جنب المهندس (يوسف) ما اتسكنوش لسَّا...
بترت جملتها لأن ما أثار انتباهها أن وهج النيران قد اختفى وآثار الأدخنة تزايدت بغتة في بادئ الأمر...
وهتفت وعيناها تومضان بالأمل:
- طفوا الحريق الحمد لله.
خرج رجال الإطفاء من البناية ومنهم من هبط على سلم المطافئ بخارج البناية وعلامات الأسى ظهرت على رئيسهم. تقدم أحد الجيران بلهفة وسأله:
- ها.. أنقذتوا المهندس (يوسف)؟
خفض رجل الإطفاء رأسه لأسفل بأسف:
- مع الأسف ما فيش حد حي وجثتين متفحمين...
شهق جميع ساكني العمارة وبكت معظم نسائهم والبعض من رجالهم والآخر تماسك...
شهقت (سلوى) باكية من هول ما سمعته:
- الله يرحمك يا باشمهندس (يوسف) ويرحمك يا مدام (سمر).
قاطعتها (سهام) نافية ببكاء:
- لأ مدام (سمر) مسافرة لسَّا ما رجعتش.
(شكري) بتعجب وحيرة:
- غريبة! طب مين اللي مع المهندس (يوسف) الله يرحمه لو مش مدام (سمر)؟
صمت الجميع وظل التساؤل يردد صداه في عقولهم:
من الشخص الثاني الذي كان برفقة (يوسف)؟
مـــــــــــــن؟
* * *
قام رجال البحث الجنائي بالولوج إلى الشقة المحترقة ثم هتف رجل أتى بعدهم وهو يسعل من أثر الأدخنة:
- يلا يا (علام) وما تبقاش خواف؟
قال (علام)وهو يحاول الدخول من باب الشقة بتوتر وتردد:
- أنا مش خواف يا (حسين)...
ضحك (حسين) بخبث وهو يهز رأسه ساخرًا:
- ماشي ماشي... اتفضل؟
فكان هناك من يراقبهما وقال هاتفًا بصرامة:
- (حسين)... (علام) بلاش هزار، يلا عايز أفهم الليلة دي حصل فيها إيه؟
اعتدل (حسين) قائلًا بعدما كان يمزح:
- حاضر يا (ثروت) باشا.
تمتم العقيد (ثروت)عاقدًا حاجبيه الكثيفين:
- شوية عيال صحيح.
قاطعه الرائد (خالد) ببنيته الرياضية الممشوقة قائلًا:
- سيادة العقيد.. تمام يا افندم، الحريق ما طلعش برَّا أوضة النوم، ونحمد ربنا إن الحريق فضل جوَّا وما طلعش برَّا وإلا كان هيحصل كارثة.
التفت إليه (ثروت) وقال بحدة ساخرة:
- هاأ واللي إحنا فيه دا مش كارثة يا (خالد)؟
تلعثم (خالد):
- آأااه طبعًا قصدي أااا....
قاطعة (ثروت) بلا مبالاة وهو يشير إلى (علام) و(حسين) والغيظ يقطر من فمه قائلًا:
- خلي المهرجين دول يشوفوا شغلهم أنا مش طايق نفسي ومش عايز غباء.
قال (خالد) مومئًا بإيجاب:
- حاضر يا افندم.
في هذه الأثناء دلف (حسين) وهو يتأمل غرفة النوم الرئيسية التي حدث بها حريق قائلًا باهتمام:
- إممم.. واضح إن حصل هنا حريق؟
(علام) بتهكم وراءه وقد نسي توتره عند عتبة باب الشقة:
- لا والله على أساس إن السواد اللي في كل حتة في الأوضه والسرير اللي اتفحم لونهم كدا ليه؟ ديكور مثلًا؟!
تغيرت ملامح (حسين) للعبس:
- يا عم العلوم عارف بس باعيش اللحظة، إيه ما شفتش (سي إس أي ميامي)؟ تلاقي الباحث الجنائي عمال يقول إن فيه هنا مش عارف إيه وإيه؟
عقد (علام) ذراعيه بسخرية:
- وإيه كمان؟
قاطعهما صوت الرائد (خالد)من خلفهما صادمًا إياهم قائلًا بحزم:
- ويا ترى بقا المسلسل دا على (إم بي سي فور) ولا (دبي وان)؟
التفت (حسين) بتوتر مرح:
- باشا حبيبي، ممكن يكون على إم بي سي فور أو ...
قاطعه (خالد) بغضب:
- إنت هتهزر يا (حسين) يلا شوف شغلك؟
فقال (حسين) بسرعة:
- حاضر يا (خالد) بيه.
ثم التفت إلى (علام) وكأنه تقمص جدية (خالد):
- يلا يا (علام) إحنا جايين نهزر؟ اتفضل يا (خالد) بيه وإحنا هنشوف شغلنا علشان ما حدش غيرنا بيدخل مسرح الجريمة، أصل في سي إس أي مي..
حدجة (خالد) بنظرة نارية جعلت (حسين) يبتلع بقية كلامه وتمتم:
- حاضر.
بعدها تركهما (خالد) يبدآن عملهما...
وخلافًا عن هزلية (حسين) وخوف (علام) ولكنهما بدآ يبحثان عن الأدلة باحترافية...
في نفس الوقت ذهب (خالد) إلى (ثروت) يخبره بآخر الأحداث:
- هيبتدوا يا افندم.
(ثروت) باقتضاب: كويس.
ثم زفر (ثروت) بقوة وقال:
- هو البواب فين بتاع العمارة؟
أجاب (خالد) بسرعة وكأنه ينتظر سيل الأسئلة:
- مش موجود يا افندم مسافر.
همهم (ثروت) وهو يتحرك بقامته الفارهة وقوته الجلية رغم كبر سنه:
- إممم طيب...
ثم أشار إلى صورة زفاف معلقة في منتصف الحائط ومزينة بإطار فخم:
- أكيد دول أصحاب الشقة المهندس (يوسف) ومدام (سمر) صح؟
قال (خالد) بتأكيد:
- دا صحيح يا افندم، بس اللي عرفته إن مدام (سمر) مسافرة.
عقد (ثروت) حاجبيه بشدة متسائلًا:
- مسافرة؟
أومأ (خالد)برأسه إيجابًا:
- أيوة مسافرة إمبارح.
أشار (ثروت) بيده باتجاه الغرفة المحترقة:
- طب مين اللي اتحرق مع(يوسف) أنا عرفت من تقرير المطافي إن فيه جثتين متفحمين؟
(خالد) بحيرة: لسَّا ما نعرفش يا افندم، آدينا مستنيين تقرير البحث الجنائي.
ضحك (ثروت) بتهكم: إبقى قابلني..
* * *
- «ليه غير متاح يا (يوسف)؟».
قالتها امرأة في منتصف العشرين وهي تتحرك جيئةً وذهابًا بتوتر.
- «اهدي يا (سمر) يا بنتي أكيد تلاقيه نام ولا الشبكة واقعة ولا حاجة كدا؟».
التفتت (سمر) إلى والدتها وقد تطايرت خصلات شعرها البني القصير على عينيها الذهبيتين قائلة بعصبية:
- إزاي يا ماما بس إزاي؟
قالت والدتها بعصبية مماثلة:
- يوووه هو إيه اللي إزاي؟ كل شيء ممكن.. نامي يا بنتي والصباح رباح.
هتفت (سمر): أهدا إزاي يا ماما؟ دي خامس مرة أكلم (يوسف) وبرضه غير متاح!
ثم هوت على أقرب مقعد بجوارها وقالت وهي تضع يدها على صدرها بقلق:
- أنا قلبي مش مطمن يا ماما، حاسة إن فيه حاجة حصلت.
ربتت والدتها على كتفها قائلة بنبرة حانية:
- اهدي يا حبيبتي، أكيد الشيطان بيلعب بيكِ؟ انتِ عارفة إن أكتر حاجة بتجنن الشيطان الزوجين اللي بيحبوا بعض، بيبقى عايز يقلقهم ويوقع ما بينهم.
قالت (سمر) وكأنها بدأت تقتنع:
- تفتكري يا ماما؟
أومأت والدتها بأمومة:
- أيوة يا قلب ماما، قومي يا حبيبتي صليلك ركعتين واقري قرآن وربنا هيطمنك، الفجر قرب يدن وانتِ ما نمتيش!
(سمر)وهي تقوم من مجلسها مصطنعة الاستسلام:
- حاضر يا ماما هاقوم أهو.
وما كادت (سمر) تتجه خارج الغرفة إلا وقاطعها صوت هاتفها فهرولت إليه بلهفة وقالت:
- صح يا ماما كان عندك حق.
والدتها بسعادة وهي تتجه بقربها: شفتِ بقى.
عقدت (سمر) حاجبيها ناظرة إلى شاشة الهاتف الذي ما زال يصدر رنينه:
- ماما دي نمرة غريبة.
فقالت والدتها وهي تشير إليها:
- ردي يا حبيبتي أكيد (يوسف) هيكون مين يعني؟
مطت (سمر) شفتيها بعدم ارتياح:
- ممكن؟
وما إن وضعت الهاتف على أذنها حتى سمعت المتحدث قائلًا بصوت أجش بعض الشيء:
- ألو مدام (سمر)؟
(سمر) بريبة وهي تنظر إلى والدتها قائلة بقلق:
- أيوة يا افندم، مين معايا؟
قال صاحب الصوت الأجش:
- مع حضرتك الرائد (خالد).
(سمر) وهي تبتلع ريقها بصعوبة:
- أيوة خير؟
(خالد) بصوت آسف:
- الحقيقة مش عارف أقول إيه لحضرتك.. البقاء لله.
(سمر) وعيناها تتسعان بذهول وفزع:
- في مين؟
والدتها بخوف:
- فيه إيه يا (سمر)؟
أكمل (خالد) ببطء:
- في المهندس (يوسف).
صرخت (سمر) بلوعة وقد وقع الهاتف من يدها:
- (يـــــــــــــــوسف).
ثم وقعت مغشيًّا عليها...صرخت والدتها بلوعة وهي تجلس بجانب ابنتها على الأرض:
- (سمر) بنتي.. ردي عليَّ..
ثم التفتت إلى هاتف (سمر) الذي صدر منه صوت (خالد) وهو يقول:
- ألو، ألو، مدام (سمر)؟
فأخذت والدتها الهاتف وهي تنظر لابنتها بخوف قائلة بصوت مرتعش:
- ألو معاك والدة (سمر) الحاجة (سهير)، هو إيه اللي حصل؟
ردد (خالد) بأسف:
- البقاء لله يا حاجة (سهير) المهندس (يوسف) تعيشي انتِ.
صرخت (سهير) وهي تضرب على صدرها بلوعة:
- يا مصيبتي!
* * *
تحاور(حسين) و(علام) أثناء بحثهما عن الأدلة، فقال(علام) وهو يرتدي قفازه المطاطي الأبيض مثل صديقه (حسين):
- استعنا على الشقا بالله.
ثم بدآ يفحصان الجثتين المتفحمتين و(علام) يفحص جثة و(حسين) يقوم بفحص الأخرى.
(علام) مفكرًا:
- واضح إن دي الست.
(حسين) وهو يدقق بعمق:
- ودا الراجل، يعني من الآخر دا الراجل ومراته أصحاب الشقة.
ثم أكمل (علام) فحص:
- بس اللي لاحظته إن فك الست مش مطيول كدا؟
(حسين) بسخرية بعد أن ترك الجثة:
- مطيول! اسمها طويل يا فالح.
(علام) بغضب:
- أهو هتفضل على طول هايف.. افهم يا غبي، أنا لما دخلت لفت نظري الصورة بتاعة الفرح اللي في الأنتريه، بص كدا.
ثم خلع حامل الكاميرا التي يستعملها في عمله من على عنقه مشيرًا إلى بعض الصور:
- شايف صورة الفرح؟
عقد (حسين) حاجبيه:
- إيه يعني؟ ما توضح..
أشار (علام) إلى الصورة وهو يقربها أكثر مكبرًا إياها بفخر:
- بص يا (حسين) الست دي اللي في الصورة وشها مدوَّر، فكها قصير مش طويل زي الجثة دي.
وأشار إلى جثة الأنثى. ثم أشار (علام) إلى الدبلة التي في أصابع الجثة وهو يسحبها بعناية ويرفعها للأعلى متفحصًا إياها قائلًا:
- والدليل الدبلة كمان، وطلع مكتوب عليها (سامح) من جوَّا.
هتف (حسين) مستنكرًا:
- انت أحول يا عم إنتَ، اسم جوزها (يوسف) مش (سامح).
عبس (علام) وقال مزمجرًا وهو يعطي الدبلة إلى (حسين):
- خد إقرا يا ظريف وانت هتعرف.
هتف (حسين) بعد أن قرأ الاسم بتأنٍ:
- يا نهاااار فضيحة.. يعني دي مش مراته؟ كان معاه واحدة..
وضع (علام) يده على فم (حسين) بقلق وهو يتلفت حوله:
- (حسين) يخرب بيتك، وطي صوتك.
تفوه (حسين) بصوت هامس من خلال أصابع (علام):
- طيب خلاص.
ثم أشار (حسين) إلى جثة الرجل المتفحمة مشيرًا إلى وجهه:
- بس الراجل زي ما هو، فك مدبب بعض الشيء، نفس الشكل وكمان فيه دبلة في إيده وبرضه معملنا هيبين صحة كلامنا.
ثم سحب (حسين) الدبلة من أصبع جثة الذكر بنفس احترافية (علام) وقال:
- مكتوب عليها من جوَّا اسم (سمر).
(علام) مستنتجًا:
- يبقى دا المهندس (يوسف).
أردف (حسين) بملاحظة:
- فيه حاجة كمان..
نظر إليه (علام) متسائلًا:
- إيه هي؟
أشار (حسين) إليه متساءلًا:
- انتَ لو كنت ماسك عود كبريت ومولعه والنار جات على صباعك هتعمل إيه؟
ضحك (علام):
- أكيد هاقول يح وأرجع ورا...
(حسين) مشيرًا إليه:
- بالضبط كدا، فعايز تقولي إن إتنين ولعوا والشباك مفتوح وما اتحركوش من سريرهم واتفحموا.. دا زي ما يكون...
قاطعه (علام) وعيناه تلمعان:
- زي ما يكون نايمين نوم عميق أو...
أردف (حسين) مبتسمًا بفخر:
- أو كأنهم واخدين منوم.
أومأ (علام) وقال مفكرًا باستغراق وهو يحك ذقنه:
- الحادثة دي بفعل فاعل.
(حسين) مؤكدًا:
- أكيد طبعًا...
ثم تنهد وهو يكمل:
- الدليل على كدا إن مفيش ماس كهربي مثلًا، واشمعنى الأوضة بس هي اللي اتحرقت؟ أكيد بفعل فاعل.
ثم نظر إلى خزانة الملابس وقال ملاحظًا:
- فيه حاجة كمان.
(علام) باهتمام:
- إيه؟
(حسين) وهو يشير إلى الخزانة التي لم يمسها شيء:
- إن النار كانت حوالين السرير بس، زي ما يكون فيه محيط اتعمل مخصوص بس عشان تتحرق الحاجات دي.
انفرجت أسارير (علام):
- صح يا (حسين).
ثم نظر (حسين) بالمحيط الذي حول الفراش وهبط في وضع القرفصاء بقربها ولاحظ الطلاء الأبيض حول الفراش والأرض الخشبية المنتفخة من أثر الحريق ولكن لم يمسها شيء.
هبط (علام) بجانبه وقال متفهمًا:
- مادة لونها أبيض و الحريق ما جاش ناحيتها ويا دوب الأرض بس حصلها انتفاخ بالرغم إنها خشب.. لاحظت القشرة بتاعة الأرضية منتفخة؟
(حسين) بجدية وهو يشير إلى الطلاء:
- مادة عازلة للحريق ولو تاخد بالك مافيش حاجة لازقة في السرير، زي ما يكون المقصود حرق السرير بس...
(علام) بتعجب:
- فعلًا السرير بس اللي اتحرق.
قام (حسين) بأخذ قطعة من أرضية الغرفة المحيطة بالفراش المنتفخة والمشبعة بالمادة البيضاء بإحدى أدواته الخاصة، ثم قام ومعه (علام) وأكملا فحص بقية الغرفة ولم يجدا شيئًا...
وبعد فترة من الوقت قال (علام) متنهدًا بإجهاد:
- طب يلا إحنا خلصنا الأوضة، تعالى نكمل بقيت الشقة.
اتجها إلى الردهة ورأيا زجاجة خمر وبجانبها كأسان.
اشتما رائحة الكأسين بعناية ثم نظرا إلى بعضهما نظرة خاصة وكل منهما فهم المقصود من هذه الرائحة..
وضع كل منهما الأدلة في أكياس خاصة بها بعناية وظلا يبحثان إلى أن وجدا حقيبة نسائية ملقاة على الأريكة، ورجحا أنها ملك الضحية المحترقة بالداخل، كما وجدا حذاءً نسائيًّا مُلقًى بإهمال، ثم لم يعثرا على شيء آخر إلى أن انتهيا من عملهما...
مسح (حسين) جبينه مرهقًا:
- يلا يا (علام)، إحنا كدا خلاص خلصنا لسَّا ورانا شغل كتير.
ذهبا إلى الرائد (خالد) وقالا بإرهاق وهما يمسكان حقائبهما:
- خلصنا يا (خالد) باشا.
(خالد) بجدية:
- إمممم.. ولقيتوا إيه؟
(حسين) بجدية على عكس شخصيته المسرحية:
- الجثتين اتفحموا. لكن نحمد ربنا إن المطافي جات بسرعة ولحقت الجثتين قبل ما يبوظوا علشان نعرف نفحصهم وتكون أشكالهم واضحة بعض الشيء، بس...
(خالد) متساءلًا:
- بس إيه؟
أكمل (علام) بثبات:
- بس اللي لاحظناه يا افندم إن السرير بس اللي اتحرق وباقي الحاجة اسودت بس من أثر لهب النار.. وحاجة كمان.
ضاقت عينا (خالد) البنيتان وتساءل:
- إيه هي؟
أكمل (حسين):
- الجثة التانية لواحدة ست بس مش مدام (سمر)؛ لأن شكل الوش مختلف عن وش مدام (سمر).
(خالد) بضيق:
- أيوة عارف إن مش هي مدام (سمر) لأني لسَّا مكلمها ومعرفها خبر المهندس (يوسف)، وتأكيدكم إن الجثة اللي جوا هوالمهندس (يوسف) الجيران قالوا إنه ما راحش في حتة في اليوم دا. إلا مشوار جاب حاجة للبيت ورجع ودا كلام جاره الأستاذ (شكري).
فقال (علام):
- تمام يا افندم، نستأذن حضرتك عشان نكمل اللي بدأناه.
(خالد) بهدوء:
- تقدروا تتفضلوا، وابعتولي التقرير بمجرد ما تخلصوا.
قال (حسين):
- أكيد يا افندم.
بعد أن ذهب (علام) و(حسين) اتجه (خالد) إلى العقيد (ثروت) وقال:
- تمام يا افندم.
(ثروت) بصرامة:
- ها خلاص خلصوا؟
أومأ (خالد) إيجابًا:
- أيوة يا افندم، ومجرد ما يخلصوا التقرير هيبعتوه، وأنا اتصلت بمدام (سمر) وفعلًا ردت عليَّ وعرفتها الخبر، بس طبعًا حالتها كانت وحشة جدًّا، بس والدتها قالت لي إنهم هييجوا بكرة الصبح عشان الوقت متأخر.
قال (ثروت) بضيق:
- معنى كدا إن (يوسف) كان معاه واحدة غير مراته.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* * *
بعد سماع (سمر) لهذا الخبر المفجع بموت زوجها لم تشعر بشيء سوى الظلام الدامس وصراخ والدتها؛ ولكن عند إفاقتها وجدت أنها على فراشها مدثرة وبجانبها أخوها ووالدتها من الناحية الأخرى..
صرخت قائلة:
- (يوسف).. أنا عايزة (يوسف)...
حاولت (سهير) تهدئتها وهي تبكي:
- اهدي يا (سمر)، اهدي يا حبيبتي.. لا حول ولا قوة إلا بالله...
ربت أخوها على رأسها محاولًا التخفيف عنها:
- (سمر) حبيبتي، لازم يكون إيمانك قوي وترضي بقضائه.
هزت (سمر) رأسها بهستيرية قائلة وهي تحاول أن تقوم من مرقدها:
- لأ انت بتقول إيه يا (هاني)؟ أكيد اتصلوا غلط.. أيوة اتصلوا غلط.. (يوسف) ما ماتش.
ثم صمتت ثانية والدموع تغرق وجهها بلوعة:
- أنا باحلم.. لأ دا كابوس كابوووس.
وانهارت باكية فأخذتها والدتها في حضنها قائلة بصوت ملتاع:
- وحدي الله يا بنتي، انتِ مؤمنة.. يا رب صبرنا يا رب.
التقط (هاني) كوب الماء من جانبه وأخذ حبة دواء وأعطاها إلى (سمر) قائلًا بحنو:
- خدي يا حبيبتي الدوا دا واستهدي بالله.. دا مهدئ...
رفضت (سمر)؛ ولكن بعد محاولات أذعنت للأمر، فلعل هناك مفرًّا في هذا المهدئ.. حاولت (سمر) الجلوس وبدأت تسبل عينيها بعد فترة وهي تشهق من حزنها...
تأملتها والدتها وقالت والدموع تنحدر من عينيها بغزارة:
- كان مستخبي لك فين دا يا بنتي؟
احتوى (هاني) والدته بذراعه:
- استغفري ربنا يا ماما.. قدر الله وما شاء فعل، يلا قومي نسيب (سمر) تستريح عشان السفر كمان شوية، الفجر أدن. ساعتين كدا تكون فاقت ونتكل على الله.
قامت (سهير) وهي تتأمل ابنتها بحزن:
- استغفر الله العظيم يا رب.. حاضر يا ابني