كان صيف 1998، حينما استودعني أحد جيراني، "كولمن سيلك"- الذي كان، قبل أن يتقاعد عن عمله منذ عامين، أستاذًا في الأدب الكلاسيكيّ لبضعة وعشرين عامًا في كليّة "أثينا" التي في الجوار، بالإضافة إلى عمله لستة عشر عامًا أخرى عميدًا للكلية- حينما استودعني ذلك السرَّ الخطير؛ إنه الآن، وهو في عامه الواحد والسبعين، متورّطٌ في علاقة عاطفية مع عاملة نظافة بالجامعة في الرابعة والثلاثين من عمرها. تلك المرأة التي كانت تقوم أيضًا بتنظيف مكتب البريد بالقرية مرتين في الأسبوع. مكتب البريد ذاك عبارة عن كوخ خشبيّ صغير رماديّ اللون، يبدو وكأنما قد آوى في الثلاثينيات الماضية أسرةً قروية من ولاية أوكلاهوما ليحميها من الرياح والعواصف الغبارية، لكونه يقف وحيدًا مهجورًا ومنعزلاً عن محطة البنزين والمتجر الرئيسي، يرفرف عليه علمُ أمريكا في ملتقى الطريقين اللذين يميّزان المركز التجاري في تلك المدينة المتاخمة للجبال.
كان كولمن قد شاهد المرأةَ وهي تنظف أرضيةَ مكتب البريد حينما ذهب متأخرًا في أحد الأيام، ليلتقطَ بريده، قبل بضع دقائق من موعد الإغلاق- امرأةٌ طويلة نحيلة لها شعرٌ أشقرُ رماديٌّ معقوصٌ للخلف في ذيل حصان، ملامحها قويةٌ منحوتة من تلك الملامح التي عادةً تميّز أولئك الزوجات الفاضلات المتمسكات بقواعد الكنيسة ممَن بدأن كفاحهن مع البدايات الخشنة الأولى لـ"نيو-إنجلاند" ، نساء المستعمرات الصارمات، المُقيّدات بالتقاليد الأخلاقية الشائعة والمنصاعات لها طوعًا. اسمها "فونيا فيرلي"، وأيًّا ما كانت التعاسات التي واجهتها، فقد ظلّت المرأةُ متخفّيةً وراء وجهٍ عَظميٍّ لا يحمل تعبيرًا ولا يُخفي شيئًا، بقدر ما يشي بالوحدة الهائلة. كانت فونيا تعيش في غرفة بمزرعة الألبان المحلية، حيث تساعد في حلب الأبقار، مقابل إيجار السكن. وكانت قد أمضت عامين فقط في التعليم بالمدرسة الثانوية.
الصيفُ الذي قرر فيه كولمن أن يدخلني مجال ثقته فيأتمنني على سرّه مع فونيا فيرلي، كان هو الصيف المناسب لذيوع سرّ "بيل كلينتون" حتى آخر أدق التفاصيل المُهلِكة- آخر أدقّ تفصيلة نابضة، مفعمة بالحياة التي تشبه الموات، تلك الحياة التي نضحت من المعلومات الدقيقة اللاذعة. لم نحظَ في أمريكا بموسم فضائحيّ مثل هذا، منذ عثر شخصٌ على ملكة جمال أمريكا الجديدة عاريةً على صفحات عدد قديم من مجلة بينثهاوس ، في صور اِلتُقِطت لها في وضعيات رشيقة ومثيرة؛ على ركبتيها وعلى ظهرها، الأمر الذي أجبر المرأةَ الشابة، بعدما ضربها الشعور بالعار، على التخلي عن تاجها لكي تمضي في الحياة، وتصبح فيما بعد نجمة بوب عملاقة. العام هو 98 في نيو-إنجلاند. كان صيفَ الدفء الفاتن والشمس المشرقة، في ملاعب كرة البيسبول، كان صيف المعركة الأسطورية بين مسجّل ضربات بيسبول أبيض وبين محترف ضربات بيسبول بُنيّ، وفي أمريكا كان هو صيف هوس التقوى الهائلة، وحفلات التطهّر، حيث الإرهاب- الذي حلّ محلَّ الشيوعية، بوصفه التهديدَ الجديد المخيف لأمن الدولة- حيث الإرهاب تحوّل إلى اعتصار عضو ذكريّ، ورئيس دولة شهواني في منتصف العمر ينضح بالرجولة، وموظفة فاتنة لعوب في الواحد والعشرين من عمرها، يحدث ذلك الإرهاب في المكتب البيضاوي كأنما هما صبيّان مراهقان في موقف سيارات ليعيد الحدثُ الفضائحيّ إلى هوى أمريكا الشائع القديم، أكثرَ بهجاتها ربما غدرًا وتدميرًا: نشوة ادّعاء الورع والتظاهر بالتقوى. في الكونجرس، في الصحف، وعلى شبكات الإعلام المرئيّ والمسموع، يتسلل النظّارةُ الصالحون، توّاقين لإلقاء اللوم، مستنكرين، متوعدين بالعقاب، يخرجون في كل مكان بمواعظهم ليؤدبوا الناس: جميعهم في سُعار محسوب متأجج بما عرّفه هوثورن (الذي كان حول عام 1860 يسكن في الجوار لا يفصل بين منزلينا سوى بضعة أميال)، بما عرّفه في الدولة الأولى منذ قديم الزمن بـ"روح الاضطهاد"؛ كلٌّ منهم متلهّفٌ ليسنّ قوانينَ التطهّر وشعائره الصارمة، تلك التي لها أن تجبي الضريبة العقارية من شعبة المدراء التنفيذيين، ما يجعل الأمور لطيفة وآمنة بما يكفي ليجعل ابنة السيناتور ليبرمان ذات العشرة أعوام تشاهد التليفزيون من جديد مع أبيها المرتبك الخجلان. كلا، إن لم تكن قد عشتَ عام 1998، فإنكَ لن تكون قادرًا على معرفة ماذا يعني ادّعاء الورع. كتب الصحفيُّ النقابيّ المحافظ وليام ف.باكلي يقول: "منذ فعلها آبيلارد ، كان من الممكن منع حدوثها من جديد،" مُلمِحًا بأسلوب لبق إلى أن سلوكَ الرئيس المحظورَ قانونًا- الذي أسماه باكلي في مكان آخر "عدم المقدرة على التحكم في الشهوة الجنسية"- من الأفضل أن يُعالَج دون اللجوء إلى تهمة لا إنسانية مثل تهمة الخيانة الزوجية، بل من الأفضل أن يُعالج بعقاب القرن الثاني عشر قياسًا على كانون آبيلارد باستخدام عقوبة السكين التي دبرها زميلُ آبيلارد في الجامعة الكنسية، كانون فولبرت، جراء إغواء آبيلارد وزواجه السريّ من ابنة شقيقة فولبرت العذراء "هيليز". وخلافًا لفتاوى الخُميني بالحكم بالإعدام على سلمان رشدي، لم يحمل التَوْقُ المحموم للعقاب الإصلاحيّ بالإخصاء لدى باكلري، لم يحمل في طيّاته أيةَ غرامات مالية لمرتكبي الجرائم المحتملين. كان ذلك بدافع من روح ليست أقل قسوة من روح "آية الله"، على أية حال، وبدافع من مثاليات ليست أقل قسوة.
كان فصلُ الصيف في أمريكا حينما عاد الغثيان، حينما كان المزاحُ لا يتوقف، حينما كانت ضروبُ التفكير والتنظيرات واللغو البلاغيّ لا تنتهي، حينما كانت الالتزامات الأخلاقية التي تُفسِّر للأطفال طبيعةَ حياة الكبار تتعطل من أجل الإبقاء على الأوهام الخاصة بطبيعة حياة البالغين داخل أدمغة الصغار، حينما كانت ضآلةُ الناس تُسحَق ببساطة، حينما انطلقت العفاريت من بين جموع الشعب، وحينما كان الناس، على الجانبين، يتساءلون: "لماذا نحن مجانين إلى هذا الحد؟"، حينما كان الرجال والنساء على السواء، عند استيقاظهم في الصباح، يكتشفون أنهم أثناء الليل، في وضعية النوم التي تنقلهم وراء الحسد والاشمئزاز، كانوا يحلمون بجرأة "بيل كلينتون" ووقاحته. أنا شخصيًّا حلمت بيافطة عملاقة، معلّقة على نحو سوريالي مثل أعمال خريستو بطول واجهة البيت الأبيض تحمل عبارة أسطورية تقول: "ثمة إنسانٌ يعيش هنا." كان فصلُ الصيف حينما- للمرّة البليون- كانت اللخبطةُ، والاضطراباتُ، والفوضى تثبتُ نفسَها على نحو أكثر دقّة ومكرًا من أيديولوجية هذا، وأخلاقيات ذاك. كان فصلُ الصيف حينما كان قضيبُ الرئيس موجودًا في ذهن كل إنسان، وحياته، بكل نجسه وصفاقته، ها هي مرّة أخرى أمريكا المرتبكة.
أحيانًا، في أيام السبت، كان كولمن سيلك يهاتفني ويدعوني لأقود سيارتي من بيتي بالجبل بعد العشاء لكي أستمع معه إلى الموسيقى، أو ألعب الورق؛ بِنْس لكلّ نقطة، مع كأس من روم الجين، أو لكي نجلس في قاعة معيشته لساعتين نحتسي فيها بعض الكحوليات من أجل مساعدته على اجتياز الليلة الأسوأ في الأسبوع بالنسبة له. ومع صيف 1998، كان قد أمسى وحيدًا ها هنا- وحيدًا في منزله الأبيض الخشبي الواسع القديم، الذي بين جدرانه كان قد ربّى أطفاله الأربعة مع زوجته آيريس- وحيدًا لما يقارب العامين، منذ أصيبت زوجته بجلطة لتموت في الليلة نفسها بينما كان في غمار معركة شرسة مع الجامعة بعد اتهامه في قضية عنصرية رفعها ضدّه طالبٌ وطالبةٌ في أحد فصوله.
آنذاك، كان كولمن قد قضى كلَّ حياته الأكاديمية تقريبًا في جامعة أثينا، نموذجًا للبروفيسور الودود، ذي الحكمة الثاقبة، القوي اللطيف الساحر، يحمل شيئًا من روح المقاتلين، وشيئًا من روح الإداريين المُناورين، لا يكاد يشبه النموذجَ النمطيّ لأساتذة اللغة اللاتينية واليونانية المتحذلقين (كما تشهد على ذلك محاوراتُ النادي اللاتينيّ اليونانيّ التي كان يخوضها بهرطقة وهو بعدُ معلّم شاب). منهجه الرصين الشامل حول تراجم الأدب الإغريقيّ القديم- عُرف باسم GHM، أي الآلهة، الأبطال، والأسطورة - كان مشهورًا بين الطلاب لما في أسلوبه من مباشرة وصدق وفاعلية، وأيضًا لخلوّه من الأكاديمية الجافة.
"هل تعرفون كيف بدأ الأدبُ الأوروبيّ؟" كان يسأل تلامذته بعد انتهاء الدرس الأول. "بدأ بمعركة. الأدبُ الأوروبيُّ كلُّه انطلق من معركة." بعد ذلك كان يلتقط الإلياذة ويقرأ على طلاب الفصل، السطورَ الافتتاحية الأولى من الإلياذة. "‘أيها الإلهامُ الإلهيّ، يا أنشودةَ غضب أخيل المدمِّر... اِبدأْ من حيث العراك الأول، أجاممنون ملكُ الرجال، وأخيلُ العظيم.’ ثم ما الذي كانت تتصارع من أجله، هاتان الروحان العظيمتان العنيفتان؟ كانت معركةً بدائية مثل مشاجرات الحانات. كان الرجلان العظيمان يتصارعان على امرأة. فتاة، في الواقع. فتاة اِختُطفَت من أبيها. فتاة أُسِرَت في حرب. والآن، أجاممنون يُفضّل تلك الفتاةَ على امرأته كليتيمنيسترا. ‘كليتيمنيسترا ليست جميلةً مثلما هذه الفتاة،’ هكذا يقول، ‘لا من حيث الوجه ولا من حيث التركيب الجسديّ.’ هذا يفسِّر الأمرَ بما يكفي وعلى نحو مباشر لماذا لم يطلق سراحها، أليس كذلك؟ حينما طلبَ أخيلُ من أجاممنون أن يُرجعَ الفتاةَ لأبيها لكي تنطفئ فورةُ غضب أبوللو، الإله الغاضب بعنف جرّاء الظروف المحيطة باختطافها. لكن أجاممنون رفض: سوف يوافق وحسب إذا ما أعطاه أخيلُ فتاتَه بالمقابل. هكذا اشتعل غضبُ أخيل. أخيلُ الثائر: النموذجُ الأكثر اشتعالاً وشراسةً وعنفًا بين كل ما يطيبُ للكُتّاب تصويره عبر العصور؛ لا سيما حينما توضَعُ هيبتُه وشهوته على المحكّ، آلةُ القتل الأكثرُ حساسية في تاريخ الملاحم القتالية. طوبى لأخيل: الذي أقصى نفسَه وعزلها بعدما استُخِفّ بشرفه. البطل العظيم أخيل، الذي في فورة غضبه من هول الإهانة- إهانة عدم استعادة الفتاة- قرر أن يعزل نفسه، يحدِّد لنفسه، بكل تحدٍّ، مكانًا خارج ذلك المجتمع ذاته الذي كان هو حاميَه المَجيدَ أخيل، المجتمع الذي كان في أمسّ الاحتياج إليه. ثمة معركةٌ إذن، وقتئذ، معركةٌ وحشية على صَبيّة شابة وعلى جسدها الصغير وعلى المباهج الجنسية الشبِقة: هناك، وعلى نحو ما، في تلك الإهانة الموجهة لاستحقاق القضيب، كرامة القضيب الذكريّ، الذي هو مكمنُ قوة الأمير المقاتل، هكذا بدأ الخيالُ الأدبيُّ الأوروبيُّ العظيمُ في التشكّل، وهذا يفسِّر كيف أننا اليومَ، بعد ذلك بثلاثة آلاف سنة، علينا أن نبدأ من هناك..."
حينما وُظِّفَ كولمن، كان واحدًا من حفنة يهود قلائل في جامعة أثينا، وكان من بين أوائل اليهود الذين سُمح لهم بالتدريس في قسم الأدب الكلاسيكيّ في كافة أنحاء أمريكا؛ قبل سنوات قليلة، كان اليهوديُّ في جامعة أثينا هو "إي آي لانوف"، كاتب القصة المغمور المنعزل الذي، حينما كنتُ أنا نفسي غلامًا حديثَ العهد بالنشر أعاني الصعابَ وأبحث باستماتة عن اعتراف من أحد الأساتذة، كنتُ قد زرته هنا زيارةً لا تُنسى. خلال الثمانينيات وفي بدايات التسعينيات، كان كولمن أيضًا اليهوديَّ الوحيد والأول على الإطلاق الذي عُيِّن عميدًا لكليّة في جامعة أثينا؛ بعد ذلك، في العام 1995، بعد تقاعده كعميد لكي يعاود مزاولة مهنة التدريس في فصول التعليم، استأنف تدريسَ اثنين من مناهجه تحت رعاية البرنامج الموحّد للغات والآداب الذي كان قد ابتلع داخله قسمَ الكلاسيكيات على يد الأستاذة دلفين روكس. وبوصفه عميدًا للكلية، وبدعم كامل من رئيس الجامعة الجديد الطموح، أخذ كولمن مكانَه في الكلية العتيقة الراكدة الخاملة الكسول، وبشيء من فرض الرأي، وضع حدًّا لكل ما كان يجعل المكان كأنما هو مزرعةُ أحد النبلاء عن طريق التشجيع القسريّ لهيئة تدريس الكلية الشائخين الخاملين عديمي الفائدة على تقديم طلبات بالتقاعد المبكّر لكي يوظِّف مكانَهم أساتذةً مساعدين من الشباب الطموح، وكذا عن طريق تثوير المناهج. من اليقين تقريبًا أنه لو كان قد تقاعد، دون تلك الحادثة، وفي التوقيت المناسب، لكان سيحظى بتكريم لا مثيل له؛ مثل مؤسسة تحمل اسمَ كولمن سيلك تقدم سلسلةَ محاضراته، أو كرسيّ أكاديميّ ثابت في أدب الكلاسيكيات يحمل اسمه، وربما- بسبب اهتمامه بتطوير المكان على نسق القرن العشرين- كان سيُعاد تسمية مبنى العلوم الإنسانية، أو حتى القاعة الشمالية، التي هي العلامة المميزة للكلية، باسمه شرفيًّا بعد وفاته. في العالم الأكاديميّ الصغير ذاك الذي عاش بين أرجائه القسمَ الأعظم من حياته، كان على كولمن أن يكفّ منذ زمن عن إثارة الاستياء والجدل بل وإشعال مخاوُف الآخرين، إن كان يريد أن ينال التكريمَ الرسميّ للأبد.
كان ذلك في منتصف الفصل الدراسيّ الثاني بعد عودته كبروفيسور يعمل كامل الدوام حينما تلفّظَ كولمن بالكلمة التي أوقعته في شَرَك الاتهام بالجريمة وتسببت في أن يمزّق طوعًا كلَّ روابطه بالكلية- الكلمة-الجريمة، الكلمة الوحيدة من بين ملايين الكلمات التي لفظها على الجماهير خلال سنوات تدريسه وعمادته كلية أثينا، والكلمة التي، لأن كولمن عليمٌ بطبائع الأمور، أدّت على نحو مباشر إلى موت زوجته. يتكون الفصلُ من أربعة عشر طالبًا وطالبة. في بداية المحاضرات الأولى كان كولمن يكتب كشف الحضور والغياب لكي يتعرف على أسمائهم. اسمان من بين أسماء الطلاب ظلاَّ غير قادرين على تقديم سبب لتخلفهما عن الحضور حتى الأسبوع الخامس من السيمستر الأول، ما دفع كولمن، في الأسبوع السادس، لأن يفتتح المحاضرة بسؤاله: "هل يعرف أحدكم هذين الطالبين؟ هل هما موجودان بالفعل، أم أنهما شبحان (Spooks)؟"
فيما بعد في ذلك اليوم، أدهشه أن تلقّى مكالمةً من خليفته، عميد الكلية الجديد، يُعلِمه بوصول إشعار بتورُّطه في قضية "عنصرية"، رفعها ضدَّه الطالبُ والطالبة المتغيّبان، اللذان تبيّن أنهما سوداوان، واللذان، رغم تغيّبهما، سرعان ما كانا قد علِما بتلك الكلمة (Spooks) التي أطلقها كولمن علنًا في سؤاله عن تغيّبهما. قال كولمن للعميد: "كنتُ أشيرُ إلى احتمالية أن يكونا من الكائنات الروحانية غير المرئية. أليس هذا واضحًا؟ هذان الطالبان لم يحضرا محاضرةً واحدة. هذا كل ما أعرفه عنهما. استخدمتُ الكلمةَ بمعناها الأوليّ المألوف: ‘Spook’، تعنى: طيف أو شبح. لم يكن لديّ أدنى فكرة عن لون هذين الطالبين. ربما كنت أعلم منذ خمسين عامًا مضت لكنني الآن نسيت تمامًا أن كلمة "Spook" (سبووك) مصطلحٌ مُسيءٌ يوجّه أحيانًا للسود. وإلا، لأنني دقيق جدًّا في مراعاة حساسيات الطلاب، ما كنتُ مطلقًا لأستخدم تلك الكلمة. انتبهْ لسياق الكلام: هل هما موجودان أم هما شبحان؟ تهمةُ العنصرية هذه ملفّقة وباطلة. بل غير معقولة. زملائي يعرفون أنها غير معقولة، وتلامذتي يعرفون أنها غير معقولة. القضيةُ، القضيةُ الوحيدة، هي عدم حضور هذين الطالبين، وإهمالهما الفاضح غير المُغتفَر للواجب. الأمر المزعج هو أن القضيةَ ليست وحسب باطلة- بل هي باطلة على نحو مثير للدهشة." وبعدما قال ما يكفي في دفاعه، معتبرًا أن القضيةَ قد أُغلِقت، عاد إلى بيته.
الآن، حتى العمداء العاديين، هكذا قيل لي، أولئك الذين يؤدون الخدمة كأنما يعملون في الأرض الحرام بين أعضاء هيئة التدريس بالكلية والإدارة العليا، دائمًا ما يصنعون أعداءَهم. فهم لا يضمنون دائمًا زيادةَ الرواتب التي يطلبها الأساتذةُ، ولا أماكنَ صفّ سياراتهم التي يطمعون فيها، ولا مكاتبَ واسعةً يؤمِن الأساتذةُ أنها تليق بهم. المرشحون للوظائف أو الترقيات، خاصةً في الأقسام الضعيفة، عادة ما يتم رفضهم روتينيًّا. وعادة ما تُهملُ التماساتُ القسم لتعيين موظفين إضافيين وطلبات الدعم بالسكرتارية، مثلما تُهمل الطلباتُ بتخفيف أعباء التدريس وببعض التخفّف من فصول الصباح الباكر. مصاريف السفر للمؤتمرات الأكاديمية كانت تُرفض دوريًّا، وهلم جرّا. على أن كولمن لم يكن عميدًا اعتياديًّا، وأولئك الذين تخلّصَ منهم وكذا الكيفية التي تخلَّص بها منهم، ما أبطله من أمور وما كرّسه، ومدى الجسارة التي مارسَ بها وظيفته تحت أنياب المقاومة الهائلة، نجح كل هذا على نحو هائل في تكريس عداء بعض الحاقدين والجاحدين. تحت حماية بيرس روبرتس، رئيس الجامعة الشاب الوسيم البارع الذي جاء وبكل رباطة جأش اختاره للعمادة- والذي أخبره: "ثمة تغيرات سوف تتم، وكلّ مَن لا يروق له هذا، عليه وحسب ببساطة أن يرحل أو يقدم تقاعدًا مبكرًا"- أصبح كولمن الكلّ في الكلّ. وحينما، بعد ثمان سنوات، بينما كان كولمن في منتصف مدة منصبه كعميد، قَبِل روبرتس رئاسة جامعة بيج تِن المهيبة، كان هذا بسبب السمعة الطيبة التي حققتها كلية أثينا في وقت قياسي- حقّقتها، على كل حال، ليس بسبب وسامة الرئيس الذي كان في جوهره يعمل على زيادة رأس المال، والذي لم يتلقَ أيًّا من الضربات وانتقل من أثينا بكل ترحاب سالمًا من أي أذى، بل حققتها بفضل عميد الكلية ذي العزم.
تحديدًا مع الشهر الأول الذي نُصِّب فيه عميدًا، كان كولمن قد دعا جميع أعضاء هيئة الكلية للنقاش، بمَن في ذلك كبار الأساتذة المنحدرون من العائلات العريقة في المقاطعة التي بالأساس كانت قد وهبت الأرض لتشييد الكلية وأسهمت أيضًا في تأسيسها، أولئك الذين لم يكونوا بحاجة إلى المال، على أنهم كانوا يقبلون مرتباتهم بسعادة. طُلب من كل واحد منهم سلفًا أن يقدم سيرته الذاتية، وإن تقاعس أحدهم عن تقديمها؛ لأنه مثلاً ذو مكانة رفيعة، يكون كولمن جاهزًا بها أمامه على المكتب على كل حال. لساعة كاملة كان يحتجزهم هناك، وأحيانًا أكثر، إلى أن يتركهم يتصببون عرقًا، ليكون على يقين من أن كل شيء في أثينا قد تغيّر تغيّرًا حاسمًا ونهائيًّا. ما كان ليتردد بافتتاح الاجتماع بتقليب صفحات السير الذاتية قائلاً: "خلال الأحد عشر عامًا الأخيرة، ماذا كنتم تفعلون بالتحديد؟" وحينما كانوا يخبرونه، مثلما فعل غالبية أعضاء هيئة التدريس، بأنهم كانوا يصدرون بانتظام "منشورات أثينا"، أو حينما سمع في إحدى الجلسات الكثير جدًّا حول منشورات فِقه اللغة التاريخيّ، وعِلم الببليوجرافيا، وعلم الآثار، تلك التي كانوا يعيدون انتقاءها سنويًّا من بين أطروحات دكتوراه قديمة، لكي "ينشروها" أربع مرات في العام على الآلة الناسخة على ورق رمادي لم يُدرج في مكان فوق الأرض إلا في مكتبة الجامعة، كان مشهورًا بجرأته في كسر بروتوكول أثينا بقوله: "في كلمات أخرى، فأنتم أيها السادة تعيدون إنتاج نفاياتكم." لم يكتف بعد ذلك بإغلاق "منشورات أثينا" بأن أعاد المنحة التافهة للمتبرع- والد زوجة رئيس التحرير- بل أنه، لكي يشجّع التقاعد المبكر، أخرج من المناهج كلَّ المواد الميتة العقيم تلك التي ظلوا يدرِّسونها روتينيًّا على مدار العشرين أو الثلاثين عامًا الماضية، ضمن مناهج السنة الأولى في الإنجليزية والمسح التاريخيّ وبرامج الدراسات الشرقية التي تُعقَد في أيام الصيف الأخيرة الحارة. ألغى جائزة العام سيئة السمعة وخصص الألف دولار المخصصة لها لشيء آخر. ولأول مرة في تاريخ الكلية، جعل الناس يتقدمون رسميًّا، مع كتابة وصف تفصيليّ للمشروع المقدم، من أجل نيْل إجازة تفرغ مدفوعة الأجر، وهو ما كان يُرفض دائمًا فيما مضى. تخلّصَ من قاعة الطعام الفاخرة بالكلية، التي كانت تزهو مداخلُها في حرم الكلية بأثمن أنواع خشب البلوط، وأعاد تخصيصها كقاعة مؤتمرات شَرَفية كما كان مقررًا لها في البدء، وجعل أعضاء هيئة التدريس يتناولون وجباتهم في الكافيتريا مع الطلاب. كان يصرُّ على اجتماعات هيئة التدريس- تلك التي أبدًا لم يكن يعقدها العميدُ السابق ذو الشعبية الفائقة. كان كولمن يجعل سكرتارية الكلية يدوّنون أسماء الحضور في تلك الاجتماعات لكي يضمن حضور الصفوة من الأساتذة الذين كان جدول محاضراتهم عبارة عن ثلاث ساعات فقط في الأسبوع. أسّس بندًا في نصّ دستور الجامعة يقول إنه لن تكون هناك لجان تنفيذية، وجادلهم حول أن العوائق الجامدة التي تعرقل التغييرات الجادة قد استفحلت بسبب الأعراف التقليدية البالية، ثم قام بإبطالها، وكان يدير اجتماعات الكلية تلك بأسلوب حاسم، معتبرًا كل اجتماع مناسبةً يعلن فيها عمّا ينوي فعله تاليًا مما كان متأكدًا من أنه سوف يثير المزيد من الاستياء. تحت قيادته، غدت الترقيات عسيرةً- وتلك كانت الصدمة الكبرى ربما للجميع: لم يعد المدرسون يترقّون تلقائيًّا بالتقادم على قاعدة أنهم ذوو شعبية، ولا عادت مرتباتهم تزيد ما لم تكن مرتبطة باستحقاق للعلاوة. باختصار، رسّخ كولمن روح المنافسة، جعل من المكان ساحة تنافس، مثلما علّق العدو المبكر: "هذا ما يفعله اليهود." ووقتما كان يُدبَّجُ إعلانٌ غاضب يؤدي إلى انعقاد لجنة شكوى إلى بيرس روبرتس، كان رئيس الجامعة يناصر كولمن ولا يخذله.
في عهد روبرتس كان كل المدرسين الشباب اللامعين الذين تم تعيينهم يحبون كولمن بسبب الصلاحيات التي منحها لهم، وبسبب توظيفه مدرسين ممتازين من خارج برامج خريجي الكلية من جامعات جونس هوبكنز وويل وكورنيل- "ثورة الكفاءات"، كما كان يحلو لهم أن يصفوها. كافأوه لاستبعاده النخبةَ المسيطرة من ناديهم الصغير وتهديده تكريسهم الدائم لأنفسهم، الأمر الذي لم يخفق أبدًا في إثارة جنون الأساتذة الصفوة. كل الكهول كبار السن الذين يشكلون الحلقة الأضعف من هيئة التدريس كانوا يعيشون طويلاً بسبب الأسلوب الذي يفكرون به في أنفسهم- البروفيسور الأعظم لآداب عام 100 ق.م، وهلمّ جرّا- وما أن تمت مواجهة هؤلاء وتحدّيهم من أعلى، بدأت ثقتهم بأنفسهم تتآكل، على النحو الذي جعلهم خلال أعوام قليلة يختفون تقريبًا. أوقاتٌ عصيبة! لكن بعد انتقال بيريس روبرتس إلى وظيفة أكبر في ميتشجن، ليحلّ محلّه هاينز، الرئيس الجديد، الذي لم يكن يحمل أي ولاء خاص لكولمن- وعلى نقيض سلفه، لم يُظهر أي تشجيع لتوجّه الصارم في تجريف روح الغرور والأنا الأوتوقراطية المستبدة، ذلك التوجّه الذي كان قد نجح في تطهير المكان في وقت وجيز- وما إن استقرّ المدرسون الشبابُ في هيئة التدريس، سواءً مَن استبقاهم كولمن في وظائفهم أو مَن استجلبهم من الخارج لتوظيفهم من ذوي الخبرة المحنكين، حتى بدأت ردود الفعل تشتعل ضد العميد سيلك. لم يكتشف كولمن قوة ذلك حتى أحصى عدد الأشخاص، في كل قسم على حدة، الذين أبدوا استياءهم العنيف من الكلمة التي اختارها العميد القديم ليصف بها تلميذيه غير الموجوديْن، ذاهبين إلى أن الكلمة ليست وحسب مُعرَّفةً عبر دلالة القاموس الابتدائي التي أصرّ كولمن أنها الدلالة الواضحة التي يقصد، بل كذلك مُعرَّفةٌ عبر المعنى العنصريّ التحقيريّ للزنوج الذي دفع بالطالبين الأسودين لرفع شكواهما ضدّه.
أذكرُ بوضوح ذلك اليوم من أبريل قبل عامين من موت آيريس سيلك ليضرب كولمن الجنونُ. حينما كانت تتقاطع طرقُنا في المتجر العام أو في مكتب البريد، لم أكن في الحقيقة أعرف آل سيلك أو أي شيء عنهما، اللهم إلا عبر إيماءة عابرة منه أو منها. لم أكن حتى أعرف أن كولمن نشأ في مكان يبعد عني نحوًا من أربعة أميال أو خمسة في مقاطعة إسيكس الصغيرة بأورانج الشرقية، ولاية نيو جيرسي، وأنه، كخريج مدرسة إيست- أورانج الثانوية عام 1944، كان يسبقني بما يقرب من ست سنوات بمدرستي الثانوية نيو-آرك المجاورة. لم يبذل كولمن جهدًا في التعرف عليّ، ولا أنا كنتُ قد تركتُ نيويورك وانتقلتُ للسكنى في كوخ بغرفتين معزول عند نهاية حقل على طريق ريفيّ في مرتفَع بيركشاير من أجل لقاء أناس جدد ولا للمشاركة في تجمعات جديدة. بتهذُّب كنتُ أرفض جميع الدعوات التي كنتُ أتلقاها في شهوري الأولى هنا عام 1993- لحضور عشاء، لتناول الشاي، لحفل كوكتيل، لرحلة جماعية بالعربة إلى الجامعة عند أسفل الوادي لحضور محاضرة أو، إذا راق لي، لأتحدث بشكل غير رسمي في فصل مادة الأدب- وبعد ذلك تركني في حالي الجيرانُ وأعضاء هيئة تدريس الجامعة لأعيش في عزلتي وأتفرغ لعملي.
ولكن بعد ذلك، في ذلك الأصيل قبل عامين، بعدما عاد كولمن مباشرة من إجراءات مراسم دفن آيريس، كان يقف عند مدخل بيتي، يطرق الباب بعنف ويسألني الدخول. وبالرغم من الأمر العاجل الذي جاء في طلبه، إلا أنه لم يستطع أن يبقى جالسًا لأكثر من ثلاثين ثانية ليوضح ما يريد. نهض، ثم جلس، ثم نهض مجددًا، ثم راح يطوف ويطوف في أنحاء غرفة مكتبي، يتكلم بصوتٍ عالٍ وباندفاع، وبشيء من التهديد راح يطوّح بقبضته في الهواء إذ كان يظن خطأً، أن كلامه بحاجة إلى التشديد. كان عليّ أن أكتب شيئًا من أجله- هذا هو كل ما طلبه مني. فلو أنه كتب حكايته بنفسه، بكل سخفها ولا معقوليتها، دون أن يعدّل في وقائعها، فإن أحدًا لن يصدقها، أحدًا لن يأخذها مأخذَ الجِّد، سيقول الناسُ إنها أكذوبة مضحكة، مبالَغةٌ تخدم مصالحه الشخصية، سيقولون إنه بعدما تلفّظ في الفصل بكلمة "أشباح" Spooks، كان مضطرًا أن يكذب ليخفيَ سقوطَه. لكن، إذا ما كتبتُها أنا، إذا ما كتب الحكايةَ كاتبٌ محترف...
راحت تنهار داخله جميع الكوابح، فيما أراقبه، وأنصتُ إليه- كنتُ أرى رجلاً لم أعرفه، لكنه، كما هو باد، رجلٌ ذو ثِقَل وحيثية، سوى أنه الآن متهاوٍ وفاقدُ العقل- بدا الأمر مثل أن تكون شاهدًا على حادث مروِّع في الطريق العام، أو حريق ضخم، أو انفجار مخيف، شاهدًا على كارثة عامة في المشاع، فتغدو مثل المنوَّم مغناطيسيًّا من هول غرائبيتها ولا معقوليتها. الطريقة التي كان يترنح بها في أنحاء الغرفة، ذكّرتني بالدجاجة التي تظلُّ تمشي وهي مقطوعة الرأس. كان رأسه متدليًّا، هذا الرأس الذي يغلِّفُ المخَّ المثقفَ الرصين بالعِلم، المخ الذي كان يومًا لعميد كلية منيع، وبروفيسور في الكلاسيكيات القديمة، ما كنتُ أشاهده الآن ليس إلا بقاياه المبتورة تدور وتتهاوى دون أدنى سيطرة.
أنا- صاحبُ البيت الذي لم يدخله أبدًا من قبل، أنا صاحبُ الصوت الذي بالكاد كان قد سمعه من قبل- كان عليَّ الآن أن أطرحَ جانبًا كلَّ ما كنتُ أفعله لأكتب كيف أن أعداءه في جامعة أثينا، في أثناء تظاهرهم ضده، طرحوا زوجته أرضًا بالضربة القاضية بدلاً من أن يطرحوه هو. وأنهم حين رسموا له صورةً باطلة، ورموه بكل ما كان مستحيلاً أن يكونه، فإنهم لم يسيئوا وحسب لسمعة رجل في منصب قياديّ احترافيّ كان يدير الأمور بكل جهد وجدية- بل قتلوا أيضًا السيدة التي ظلّت زوجته لأربعين عامًا. قتلوها كأنما صوّبوا الرصاصةَ إلى قلبها ثم أطلقوا النار. كان عليَّ أن أكتب عن هذا "العبث"، ذاك "العبث"- أنا، الذي لم يكن حتى وقتها يعلم أي شيء عن محنته في الجامعة ولم يستطع حتى متابعة التسلسل الزمني لذاك العذاب الذي استمر للآن خمسةَ أشهر، العذاب الذي غمره حتى ابتلعه هو والراحلة آيريس سيلك: عذاب الغرق في الاجتماعات، الإشاعات، المقابلات الصحفية، الوثائق والمخاطبات المُرسلة إلى موظفي الجامعة، إلى مجلس الكلية، إلى المحامي التطوّعي الأسود الذي يمثّل الطالبين... التُّهم، الإنكار، التهم المقابلة، تبلّد الذهن، الجهل، السخرية والاستخفاف، إساءة الفهم المتعمّدة، التفسيراتُ المكررة المجهِدة، الأسئلة الاستجوابية- ودائمًا وأبدًا الشعور العميق المستمر بأن ما يحدث غير حقيقي. "جريمةُ قتْلِها!"، صرخ كولمن باكيًا، وهو ينحني ليدقَّ بقبضته على مكتبي. "أولئك الناس قتلوا آيريس!" الوجه الذي بدا لي، الوجه الذي كان لا يبعد عن وجهي أكثر من قدم واحد، أصبح الآن منبعجًا وغير متناسق- وبالنسبة لوجه كهل وسيم متأنق يفيض شبابًا- بدا مُنفِّرًا وبغيضًا على نحو غريب، كان مشوَّهًا للغاية بسبب التأثير المسموم لكل المشاعر التي كانت تفور داخله. بدا الوجه، عن قُرب، مهدَّمًا ومُزرقًّا مثل ثمرة فاكهة أُلقي بها على الأرض من كشك الفاكهة بالسوق فظلّت تُركَل بأقدام المارة هنا وهناك. ثمة شيء ساحر فيما بوسع الصراعُ المعنويّ أن يفعله بشخص، على نحو غير ملحوظ، واهن وضعيف. ينتشر ببطء على نحو غادر أكثر مما يفعل المرضُ العضوي، إذ ليس من حقنة مخدِّرة أو دعامات عمود فقاري أو جراحة دقيقة بوسعها أن تعالجه. ما إن تقعَ في قبضة الألم المعنويّ، فإنكَ لن تتحرر منه إلا بعدما يقتلك أولاً. واقعيته الفجُّةُ لا شيء يشبهها.
لقد قُتِلَت. بالنسبة لكولمن كان هذا هو التفسير الوحيد، ولا شيء غيره، الذي يفسّر المصير الذي انتهى بامرأة في الرابعة والستين من عمرها في كامل لياقتها وتمام صحتها، فنانة تشكيلية تجريدية تهيمن لوحاتُها على المعارض الفنية المحلية، المرأة التي كانت مديرةً حاسمة لجمعية الفنانين بالبلدة، الشاعرة التي تنشر قصائدها في صحف المقاطعة، الطالبةُ التي قادت في الجامعة نشاطًا سياسيًّا احتجاجيًّا مضادًا لقرار إيواء القنابل الإشعاعية المحتوية على مادة سترونتيم90، التي تخلّفت من حرب فيتنام، عاصفةٌ هادرة لا تلين ولا تخضع لامرأة عنيدة، غير دبلوماسية، شرسة يمكن تمييزها من بُعد مئة ياردة بشعرها الأشعث الأبيض المهيب الذي يكلل رأس تلك الشخصية القوية، التي من الواضح، أن كولمن، بالرغم من هيبته، وهو العميد ذو السمعة الخارقة والطاقة الهائلة التي قادت الناس، العميد الذي صنع المستحيلَ الأكاديميَّ وجلب الحريةَ لكلية أثينا، لم يكن قادرًا على هزيمة زوجته في أي شيء سوى في لعبة التنس.
بمجرد أن وقع كولمن تحت مطرقة الهجوم- حينما وُضِعَت تهمةُ العنصرية على طاولة التحقيق، ليس وحسب من قِبل عميد الكلية الجديد، بل كذلك من قِبَل المنظمة الصغيرة للطلاب السود، وكذا من قِبل النشطاء السود في بيتسفيلد- بمجرد أن وقع كولمن تحت المطرقة حتى محا انفجارُ غضبهما معًا المليونَ مشكلة التي اعترت حياة آل سيلك الزوجية، استبدادُ الزوجة الذي كثيرًا ما تصادم على مدار عقود أربعة مع عناد الزوج واستقلاليته ما تسبب في احتكاكات حياتية لا تنتهي بينهما، كل ذلك تجاوزته آيريس في لحظة لكي تقف جوار زوجها وتسانده.
ورغم أنهما لم يناما في فراش واحد لسنوات، وما عاد أحدهما يتحمل كثيرًا حوارَ الآخر- أو حتى حوار أصدقاء الآخر- إلا أن آل سيلك قد عادا إلى جوار بعضهما البعض من جديد، يلوّحان بقبضتيهما معًا في وجوه أولئك الذين كرهاهما بعمق، أكثر مما كانا، في أعنف لحظاتهما خصومةً، يواجهان عداءهما الشخصيّ، كلٌّ منهما للآخر. كل ما كان مشتركًا بينهما كرفيقين متحابين قبل أربعين عامًا في قرية جرينويتش- حين كان كولمن ينهي درجة الدكتوراه في الفلسفة بجامعة نيويورك، بينما كانت آيريس للتوّ قد هربت من أبوين فوضويين متسلطين في بازيك لتعمل موديلاً في فصول الرسم الحيّ لطلاب قسم الفنون، مُسلّحةً بشعرها الكثّ المميز، بملامحها الكبيرة المثيرة للشهوة، بنظرتها المسرحية كأنما هي كاهنة بمصوغاتها الفلكلورية، كاهنة إنجيلية من العهد ما قبل الكَنسي- كل ما كان مشتركًا بينهما في أيام القرية تلك (فيما عدا العاطفة الجنسية) راح ينفجر بشراسة على الملأ مجددًا... حتى كان الصباح الذي استيقظتْ فيه آيريس على صداع فظيع وانعدام في الإحساس بإحدى ذراعيها. أسرع بها كولمن إلى المستشفى، ولكنها ماتت في اليوم التالي.
"كانوا يقصدون قتْلي أنا، لكنهم قتلوها بدلاً مني." هكذا أخبرني كولمن أكثر من مرة خلال تلك الزيارة المفاجئة لبيتي، مثلما كان يحرص على أن يخبر كلَّ شخص حضر الجنازة في أصيل اليوم التالي. وهذا ما ظلّ يؤمن به أبدًا. ولم يكن ليقبل أية تفسيرات أخرى. منذ موتها- وحين عرف أن محنته لم تكن الموضوع الذي أودّ أن أتناوله في روايتي استرد مني كل الوثائق التي ظلت مطروحةً فوق مكتبي ذلك اليوم- ثم عكف على تأليف كتاب يتناول أسباب استقالته من أثينا، كتاب واقعي غير إبداعي عنوانه: " Spooks".
ثمة محطة صغيرة على FM كانت تُبَثُّ في سبرنجفيلد في ليالي السبت، من السادسة مساءً حتى منتصف الليل، تأخذ استراحة من البرامج الكلاسيكية المعتادة وتذيع عزفًا لفرقة موسيقية كبيرة على مدار الساعات الأولى من المساء، ثم موسيقى جاز فيما بعد. عند جانبي من الجبل لم أكن أسمع شيئًا على ذلك التردد سوى تشويش منتظم، ولكن عند المنحدر حيث يعيش كولمن يكون الاستقبال جيدًّا، وفي المناسبات، حين كان يدعوني إلى شرابٍ في أمسيات السبت، كانت تنسابُ تلك النغمات العذبة الراقصة التي كان الأولاد في جيلنا يسمعونها باستمرار عبر الراديو ويعزفونها على صناديق الموسيقى في الأربعينيات، كان يمكن سماعها آتيةً من منزل كولمن بمجرد نزولي من سيارتي في مرآبه. كان كولمن يديرها على أعلى صوت ليس وحسب في مستقبِل الاستريو بقاعة المعيشة، بل كذلك عبر راديو موضوع جوار سريره، ومن راديو جوار الدُّوش، ومن راديو جوار محمِّص الخبز في المطبخ. أيًّا ما كان يفعل في بيته مساء السبت، وإلى أن تغلق المحطة في منتصف الليل- متبوعةً لمدة نصف ساعة بنشرة الطقس الأسبوعية بواسطة بيني جودمان- أبدًا لا يكون كولمن لدقيقة واحدة بمنأى عن مجال السمع.
وللعجب، كما كان يقول، فإن كل المقطوعات المهمة التي كان يسمعها طوال مرحلة شبابه لم تكن تضعه في حال الفوران العاطفيّ على النحو ذاته الذي كانت تفعله الآن تلك المقطوعات القديمة الراقصة: "كلُّ جزء جامد داخل جسدي يرتخي ويتأجج رغبةً لا تموت، مستحيل أن تموت، بل تغدو أعلى مما يفوق مقدرتي على التحمّل. كل هذا يحدث إثر استماعي إلى فوجن مونرو." في بعض الليالي، كان كل سطر من كل أغنية يحمل دلالةً فريدة طاغية، حتى ينتهي به الحال منتفضًا، ليراقص نفسه بفوضوية واندفاع وبغير نظام، ولكن بجمال رائع، كأنما يستعيد مزاجه القديم حين كان يرقص رقصة فوكس تروت مع فتيات أورانج الشرقية اللواتي كان يضغطهن إليه، عبر بنطاله، مع أول انتصاب فعليّ يحدث له؛ وبينما يرقص، تكون مشاعره، كما كان يخبرني، لا شيء يضاهيها، لا الرعب (عند الخمود) ولا النشوة (عندما تقول الأغنيةُ: "تتنهّدُ، فتبدأ الأغنية. تتكلّمُ، فأسمعُ الكمنجات"). كانت الدموع تنساب بتلقائية، والدهشةُ تغمره من انعدام مقاومته لكل من هيلين أوكونيل وبوب إلبيرلي في تناوبهما مقاطع أغنية "العيون الخُضر"، وتعجّبه من مقدرة جيمي وتومي دورسي على تحويله إلى رجل عجوز مهاجِم لم يتوقع أبدًا أن يكونَه. "ولكن دع أي إنسان مولود عام 1926 يحاول أن يمكث وحده بالبيت ليلة السبت عام 1998 ويستمع إلى ديك هايمز يغني ‘تلك الأكاذيب البيضاء الصغيرة’، فقط دعه يفعل ذلك، ثم اجعله يخبرني بعدها إذا لم يفهم أخيرًا الطقوسَ الاحتفائية التطهّرية المتأثرة بالتراجيديا." هكذا كان يقول.
كان كولمن يغسل صحون العشاء حينما أتيتُ إلى بابه ذي الشراعة المُفضي إلى المطبخ في جانب البيت. ولأنه كان واقفًا عند الحوض والماء يجري، ولأن الراديو عالي الصوت وكولمن يغني مع فرانك سيناترا "كل شيء يحدث لي"، فإنه لم يسمعني وأنا أدخل. كانت ليلة حارة جدًّا؛ وكولمن يرتدي شورتًا من الجينز وحذاءً خفيفًا، ولا شيء آخر. من الخلف، لم يَبدُ هذا الرجل ذو الواحد وسبعين عامًا أكبر من الأربعين- بدا ممشوقًا ومتناسق الجسم وأربعينيًّا. لم يكن طول كولمن ليزيد عن خمسة أقدام وثماني بوصات، وبذا فلم يكن ذا عضلات ضخمة، على أن به وفرةً من القوة، وآثار الرياضة التي كان يمارسها في المدرسة الثانوية مازالت بادية للعين، السرعة، الميل للحركة والعمل، ما اعتدنا أن نسميها اختصارًا: pep. شعرُه المقصوص قصيرًا ذو الالتفافات الدقيقة تحوّل إلى لون دقيق الشوفان، وبرغم أنفه الصبيانيّ الأفطس، لم يكن ليبدو شابًّا مثلما لو ظلّ شعره غامقًا. كذلك، كان ثمة تجويفان طوليان ضيقان منحوتان عميقًا على جانبي فمه، وفي عينيه البُندقيتين اللتين تميلان للاخضرار، كان ثمة، منذ موت آيريس واستقالته من الجامعة، الكثير، الكثير من الإرهاق والاستهلاك المعنوي. كان لكولمن نظرة متنافرة محببة تشبه الدُّمى تلك التي قد تصادفها في وجوه ممثلي السينما الكهول الذين يلمعون على الشاشة مثل أطفال متلألئين، أولئك الذين تركوا بصمات لا تنمحي على النجوم الشباب.
بشكل عام، ظل كولمن رجلاً جذابًا وأنيقًا حتى في عمره المتقدم، بأنفه الصغير يهوديُّ السمت مع ثِقَلٍ ظاهر في الفكّ، كان واحدًا من أولئك اليهود ذوي الشعر الجعد والبشرة الفاتحة المخضّبة بالصُّفرة ممن لديهم ذلك الملمح الغامض للسود ذوي البشرة الفاتحة الذين يظنهم المرء أحيانًا من البيض. حينما كان كولمن بحّارًا في قاعدة البحرية بفرجينيا قرب الحرب العالمية الثانية، ولأن اسمه لم يكن يدل كثيرًا على أنه يهودي- يمكن بسهولة أن يكون اسمًا لزنجي- فقد تعرّفوا عليه مرةً في بيت دعارة كزنجيّ متجاوز يحاول المرور، وطردوه. "طُرِدتُ من ماخور في نورفولك بوصفي زنجيًّا، وطُردتُ من جامعة أثينا بوصفي أبيض!" تعودتُ منه خلال العامين الأخيرين على سماع كلمات مثل تلك، وهو يهذي بكلام حول السود المُعادين للسامية، وحول زملائه الخونة الجبناء الذين شكّلوا في كتابه أوضحَ الخطوط العريضة غير القابلة للتعديل.
"طُرِدتُ من أثينا، لكوني يهوديًّا أبيض ممن يسمونهم أولئك الجهلةُ الأوغادُ: ‘الأعداء’". أولئك الذين صنعوا مأساتهم الأمريكية. أولئك الذين سرقوهم من الفردوس. وأولئك الذين أرجعوهم إلى الوراء كل تلك السنوات. ما هو المصدر الرئيسي لمعاناة السود فوق هذا الكوكب؟ هم يعرفون الإجابة دون الاضطرار للذهاب إلى الفصل. يعرفون دون الاضطرار إلى فتح كتاب. دونما قراءة يعرفون- هم يعرفون دون تفكير. مَن المسئول؟ وحوش العهد القديم الأشرار هم المسئولون عن معاناة الألمان.
"لقد قتلوها يا ناثان. ومَن كان يظن أن آيريس لن تتحمل؟ امرأة قوية مثلما كانت، صاخبة مثلما كانت، آيريس لم تقدر على التحمل. غباؤهم القياسيّ الفائق كان أقوى من إلهة عنيدة مثل زوجتي. Spooks. ومَن عساه هنا يدافع عني؟ هيرب كيبل"؟ أنا الذي جلبتُ هيرب كيبل للجامعة، حين كنتُ عميدًا للكلية. وظّفتُه بعد شهور قليلة من تسلّمي العمادة. جلبته ليس فقط كأول زنجيّ في قسم العلوم الاجتماعية، بل كأول أسود في أي شيء عدا مواقع الحراسة. لكن هيرب أيضًا كان متطرفًا في عنصريته نحو اليهود من أمثالي. "لن أستطيع مساندتك في هذا يا كولمن. مضطرٌ أن أكون معهم." هذا ما أخبرني به حينما ذهبتُ إليه ليدعمني. قالها في وجهي. أنا مضطر أن أكون معهم. معهم!
"لابد أنك شاهدت هيرب في جنازة آيريس. مهشَّمًا. محطّمًا. كأنه شخصٌ ميت؟ هيربرت لم يقصد أن يموت أيُّ إنسان. تلك مناوراتٌ وحِيَل خداعية من أجل السُّلطة. إطلاق أقاويل ضخمة حول كيف تُدار الجامعة. كانوا يستغلون الأمر لخلق موقف بطوليّ. كان أسلوبًا لحثّ هاينز وإدارة الكلية على فعل شيء، ما كانوا ليفعلوه أبدًا. المزيد من السود في الحرم الجامعي. المزيد من الطلاب السود، المزيد من الأساتذة السود. التمثيل- ذاك هو الموضوع. الموضوع الوحيد. الربُّ يعلم أن أحدًا لم يُقصَد أن يموت. ولا أن يستقيل أيضًا. تلك أيضًا فاجأت هيربرت. لماذا كان يتحتم على كولمن سيلك أن يستقيل؟ لم يكن ليطرده أحد. ليس ثمة مَن يتجاسر على فصله من الجامعة. كانوا يفعلون ما يفعلون فقط لأنهم كانوا قادرين على فعله. كانوا ينتوون فقط أن يربطوا قدميّ في اللهب مدةً أطول قليلاً- فلماذا لم أكن صبورًا وأنتظر؟ مع الفصل الدراسيّ التالي، مَن عساه كان سيتذكر أي شيء من ذلك؟ الحادثة- الحادثة!- أمدّتهم بـ"موضوع تنظيميّ" من النوع المطلوب لمكان متخلف عنصريًّا مثل جامعة أثينا. لماذا خرجتُ؟ في الوقت الذي استقلتُ فيه كان الموضوع قد انتهى تمامًا. فلأي سبب بحق الجحيم قدّمتُ استقالتي؟
بالضبط عند زيارتي السابقة، كان كولمن يلوّح في وجهي بشيء ما، في اللحظة التي دلفتُ فيها من الباب، ولم تكن إلا وثيقةً أخرى ضمن مئات الوثائق المؤرشفة في صندوق عليه ورقة لاصقه مكتوب عليها: " Spooks". "هنا. إحدى زميلاتي الموهوبات. تكتب عن واحدة من الاثنين اللذين رفعا القضيةَ ضدي- الطالبةُ التي أبدًا لم تحضر محاضراتي، رسبت في كل المواد عدا أحد المناهج التي كانت تدرسها زميلتي ونادرًا ما حضرتها. كنتُ أظنّ أنها رسبت لأنها لم تستطع استيعاب المادة، ناهيك عن تحضير دراسات عُليا فيها، لكن تبيّن أنها رسبت لأنها كانت خائفة من تهديد عنصرية أساتذتها البيض، فلم تمتلك الشجاعة لتحضر المحاضرات. هي ذاتها العنصرية التي كنتُ أوضِّحُها أنا. في أحد تلك الاجتماعات، الشائعات، سمها ما شئت، سألوني: ‘ما العوامل، في تقييمك، التي أدّت إلى إخفاق هذه الطالبة؟’ ‘ما العوامل؟’ قلتُ. ‘الإهمال، الجهل، اللامبالاة، العُقد والإحباطات النفسية، مَن يدري؟’ سألوني: ‘ولكن، في ضوء تلك العوامل، ما هي التوصيات الإيجابية التي أوصيتَ بفعلها لهذه الطالبة؟’ أجبتُ: ‘لم أوصِ بشيء. عيناي لم تقعا عليها أصلاً. لو أتيحت لي الفرصة، لكنت أوصيتُ بأن تترك التعليم.’ ‘لماذا؟’ سألوني. ‘لأنها لا تنتمي إلى التعليم.’"
"دعني أقرأ عليك من هذه الوثيقة. أنصتْ إلى هذه. مكتوبة بيد إحدى زميلاتي تساند بها تريسي كامينجز بوصفها طالبةً علينا ألا نتسرع أو نندفع في الحكم عليها، وبالطبع ليست الطالبة التي يجب أن نطردها ونرفضها. تريسي يجب أن نحتضنها ونربيها، تريسي يجب أن نفهمها- ‘يجب أن نعلم،’ تخبرنا تلك الزميلة الأكاديمية، ‘من أين أتت تريسي.’ دعني أقرأ عليك الجُمل الأخيرة. ‘تريسي آتيةٌ من ظرف اجتماعيّ صعب بعض الشيء، حيث انفصلت عن أسرتها وهي في الصف العاشر لتعيش مع أقاربها. نتيجة لذلك، فإنها لم تكن مؤهلةً للتعامل مع الواقع نظرًا لظروفها. أعترفُ بهذه النقيصة. لكنها جاهزةٌ، راغبةٌ، وقادرةٌ على تغيير طريقها في الحياة. وما رأيته يظهر للوجود في شخصيتها خلال الأسابيع الأخيرة، هو اكتشافها خطورة تجنّبها الواقع.’ تلك كلماتٌ كتبتها دلفين روكس، رئيس قسم اللغة والآداب، التي تدرِّسُ، ضمن مواد كثيرة أخرى، منهجَ الكلاسيكيات الفرنسية. اكتشاف خطورة تجنّبها الواقع. آه، يكفي. يكفي. هذا مقزّزٌ. هذا مقزز للغاية."
هذا ما كنتُ شاهدًا عليه، معظم الأحيان، حينما كنت أحضر لأجالس كولمن في ليالي السبت: خُذلانٌ مُذِلٌّ كان لا يفتأ يأكل شخصًا لم يزل ممتلئًا بالحيوية. الرجل العظيم جيء به إلى الحضيض فظل يصارع عارَ الإخفاق. شيء يشبه ما يمكن أن تكونوا قد شاهدتموه مع نيكسون في سان كليمنت، أو مع جيمي كارتر في جورجيا، قبل أن يبدأ في التكفير عن هزيمته بأن يصبح نجارًا. أمر محزن للغاية. ولكن، وبالرغم من تعاطفي مع محاكمة العذاب التي مرّ بها كولمن، وكل خساراته غير العادلة واستحالة تخلّصه الوشيك من مراراته، كانت تمر علينا أمسيات، بعد احتساء قطرات قليلة من البراندي الذي يقدمه لي، تتطلب مني عملاً بطوليًّا أو تعويذة سحرية لأبقى يقظًا.
ولكنه في الليلة التي أعنيها، حينما دلفنا الشرفة الجانبية الباردة التي كان يستخدمها كغرفة مكتب وقت الصيف، كان قد أصبح مغرمًا بالعالم بأقصى ما يمكن لرجل أن يكون. سحب من الثلاجة قارورتَي بيرة قبل أن نغادر المطبخ، ثم جلسنا متواجهيْن على طرفي طاولة طويلة كان يستخدمها كمكتب في الشرفة، حيث عدد من كتب التعبير مكوّمة فوق أحد أركان الطاولة، ما يقرب من عشرين كتابًا أو ثلاثين مقسمة على ثلاثة أكوام.
"حسنٌ، ها هي ذي،" قال كولمن، ها هو الآن إنسان هادئ، غير مضطرب، إنسان جديد تمامًا. "هذا هو. ها هو الـ Spooks. انتهيتُ بالأمس من مسودّته الأولى، وأمضيتُ نهار اليوم في مراجعته، كلُّ صفحة فيه جعلتني أشعر بالغثيان. العنف البادي في خطّ اليد كان كافيًا ليجعلني أحتقر المؤلف . لا يستحق الأمر أن أهدر ربع ساعة فقط في ذلك الكتاب، ناهيك عن عامين! ماتت آيريس بسببهم؟ مَن سيصدق هذا؟ أنا نفسي الآن لا أكاد أصدق ذلك. من أجل أن نحوِّل هذا الركام إلى كتاب، من أجل أن نبيّض المأساة الموجعة ونحولها إلى شيء كتبه إنسانٌ عاقل، فسوف يستغرق هذا على الأقل عامين إضافيين. وماذا عساي أجني حينئذ، غير عامين آخرين من التفكير ‘فيهم’؟ سوى أن أكون قد سلّمت نفسي للغفران. لا تُسء فهمي: أنا أبغضُ الأوغاد. أكره الأوغاد أولاد السِّفاح مثلما كَرِه جاليفر كلَّ الجنس البشري بعدما ذهب وعاش مع تلك الخيول. أبغضهم بُغضًا بيولوجيًّا حقيقيًّا. برغم تلك الخيول التي دائمًا ما أراها كائنات سخيفة. ألا تراها كذلك؟ اعتدتُ أن أفكر فيهم بوصفهم ينتمون لمؤسسة دبابير كانت تدير هذا المكان حينما أتيتُ إليه أول مرة."
"أنت في حال جيدة يا كولمن- بالكاد ثمة وميض خفيف مازال يبدو من جنونك القديم. منذ ثلاثة أسابيع، أو شهر مضى، حينما رأيتك آخر مرة، كنتَ لا تزال غارقًا لركبتيك داخل دمك."
"بسبب هذا الشيء. لكنني قرأته ووجدته هراء فانتهيتُ منه. لن أستطيع أن أصنع ما يصنعه المحترفون. أن أكتب عن نفسي، لم أستطع مراوغة غياب الإبداع. صفحة بعد صفحة، بقيتْ كما هي مادةً خامًا. إنها لون من محاكاة مذكرات محاكمة النفس التهكمية. إنها اليأس من التفسير." ثم قال مبتسمًا: "بوسع كيسنجر أن يكتب ألف وأربعمائة صفحة من هذا الهراء كل عامين، لكن هذا الكتاب هزمني. كنتُ مُحصّنًا بعماء كأنما كنتُ محبوسًا داخل فقاعة النرجسية، لستُ ندًّا له. لذلك توقفت."
الآن، معظم الكُتّاب الذين وصلوا إلى طريق مسدود بعد إعادة قراءة عمل استغرق عامين- عمل استغرق حتى عامًا واحدًا، أو حتى مجرد نصف عام- ووجدوه مضلِّلاً على نحو تعس فأوقعوا عليه المقصلة النقدية ثم هبطوا إلى حال اليأس القاتل حيث تأخذهم شهورًا لكي يبدءوا في التعافي. لكن كولمن بتخلّيه عن مسودة كتاب في رداءة مسودته التي انتهى إليها، كان على نحو ما قد نجح في السباحة متحرّرًا ليس فقط من حُطام الكتاب، بل أيضًا من حطام حياته. من دون ذلك الكتاب كان يبدو الآن بلا أدنى توق لوضع الأمور في نصابها؛ نقيًّا من شغفه في تبرئة اسمه وتجريم خصومه القتلة، لم يعد جثّة محنّطةً داخل صندوق الجَوْر. باستثناء مشهد نيلسون مانديلا في التليفزيون، وهو يسامح سجّانيه لحظة مغادرته المعتقل بينما لا تزال وجبة السجن التعسة بعد في معدته لم تُهضَم، فإنني لم أر أبدًا من قبل تحوّلاً يبدّل قلبًا شهيدًا على هذا النحو المفاجئ. لم أقدر على استيعاب هذا، وفي البدء لم أقدر حتى على إجبار نفسي على تصديق ذلك.
"بابتعادك عن الأمر على هذا النحو، وأنت تقول ببهجة: ‘لقد هزمني الكتاب،’ بإقصائك كل هذا العمل، كل هذا القرف- حسنٌ، كيف ستملأ فراغ الانتهاك؟"
"لن أفعل." تناولَ أوراقَ الكوتشينة ودفترًا صغيرًا ليدوّن مجموع النقاط وجذبنا مقعدينا إلى حيث مكان على الطاولة كان فارغًا من الأوراق. خلط ورق اللعب، وقسمتُها أنا، ثم قام هو بالتوزيع. بعد ذلك، في تلك الحال الهادئة الفريدة من الرضا التي جلبها الانعتاقُ الظاهريّ من ازدراء كل الناس في أثينا، أولئك الذين، بكل تؤدة وتأنٍّ وسوء طوية، أساءوا إليه ولوّثوا سمعته- تلك الحال التي غمرته، على مدار عامين، في لجّة النقمة على الناس ورؤيتهم مشوهين- بدأ يستعيد حماسه للأيام العظيمة الخوالي حين كانت كأسه تفيض وموهبته الضخمة ذات الضمير اليقظ تمنحه البهجة. الآن، حين لم يعد مُكبّلاً بأرض البغضاء، آن لنا أن نتحدث عن النساء. كان هذا هو كولمن الجديد. أو ربما كولمن القديم، الشاب كولمن الأكبر سنًّا، كولمن الأكثر رضًا على الإطلاق. ليس كولمن ما-قبل-Spooks، غير المتأذي بتهمة العنصرية، بل كولمن الموصوم بالرغبة وحدها.
"برحتُ سلاح البحرية، وحصلتُ على بيت في البلدة،" راح يخبرني وهو يضم قبضته، "وكان كل ما عليّ فعله هو الذهاب إلى الطريق الجانبيّ. كان شيئًا يشبه الاصطياد. النزول إلى الطريق والعودة بفتاة. وبعد ذلك"- توقف ليلتقط ورقة كوتشينة ألقيتُها- "في لمح البصر، حصلتُ على شهادة التخرج، حصلتُ على زوجة، على وظيفة، أطفال، وكان ذلك نهاية الاصطياد."
"لم تعد للصيد أبدًا."
"تقريبًا لم أعد. بصدق. واقعيًّا لم أعد. أو كأنما لم أعد. أتسمع تلك الأغنيات؟" كانت أجهزة الراديو الأربعة تصدح في أرجاء البيت، ومن ثم كان من المستحيل عدم سماعها أيضًا من الطريق بالخارج. "بعد الحرب، كانت هناك تلك هي الأغنيات،" قال لي. "أربعُ سنوات أو خمس من الأغاني، الفتيات، وكان ذلك يحقق كل مثالياتي. اليومَ وجدتُ خطابًا. بينما أنظّف أوراق هراء الـSpooks تلك، وجدت خطابًا من إحدى الفتيات. الفتاة. بعدما ذهبت إلى موعدي الأول، بعيدًا في لونج-آيلاند، بعيدًا في آديلفي، كانت آيريس حُبلى في ‘جيف ’، وصلني هذا الخطاب. فتاة طولها حوالي ستة أقدام. آيريس كانت فتاةً طويلة أيضًا. لكنها ليست في طول "ستينا". كانت آيريس متينة التكوين. وستينا كانت شيئًا مختلفًا. أرسلت لي "ستينا" هذا الخطاب عام 1954، وعثرتُ عليه اليوم وأنا أقلّب في الملفات."
من الجيب الخلفي في شورته، سحب كولمن المظروف الأصليّ الذي يضم خطاب "ستينا". لا يزال من دون تي-شيرت، وكنّا الآن خارج المطبخ في الشرفة فلم أتمالك أن لاحظت- كانت ليلة دافئة من يوليو، لكن ليست دافئة للغاية. لم يثر كولمن دهشتي هكذا أبدًا من قبل كرجل يمتد زهوُه الهائُ بنفسه إلى مستوى تشريحه الداخلي أيضًا. لكنه الآن يبدو لي أكثر من مجرد رجل في بيته يلمع زاهيًا في بشرة جسده الذي لوّحته الشمس. تبرز للعيان تلكما الكتفان، الذراعان، الصدر، كلها كانت لرجل ضئيل مازال أنيقًا وجذابًا، البطن لم تعد مستوية، لكي نكون صادقين، لكن شيئًا بعد لم يخرج عن السيطرة- كل شيء في تكوينه الجسدي بدا لشخص كان متسابقًا رياضيًّا داهية، أكثر منه لرجل مستبد بقوته. وكل هذا كان خافيًا عني في السابق، لأنه يلبس قميصه دائمًا، وكذلك لأنه كان دائمًا مستهلَكًا في غضبه بعنفٍ.
أيضا فيما سبق كان خافيًا هذا الوشم البارز الأزرق الصغير المرسوم أعلى ذراعه اليمنى، تمامًا عند مفصل الكتف- الكلمات: "سلاح البحرية الأمريكي" منقوشة بين صاريتي مرساة صغيرتين على شكل خطافين خفيفين وممتدة حتى وتر مثلث عضلة الكتف. رمزٌ ضئيل، إذا ما احتجنا إليه، لملايين الظروف في حياة الرجل الأخرى، رمزٌ لتلك العواصف الثلجية من التفاصيل التي تشكّل ارتباكَ سيرة حياة الجنس البشري وتشوّشَه- رمز ضئيل ليذكّرني لماذا يكون دائمًا فهْمُنا للناس في أحسن الأحول مغلوطًا.
"تحتفظ به؟ الخطاب؟ أمازال معك؟" سألتُه. "لابد ثمة خطابٌ ما."
"خطابٌ قاتل. شيء كان قد حدث لي لم أفهمه حتى جاء هذا الخطاب. كنتُ متزوجًا، موظفًا مسئولاً، وكنا على وشك إنجاب طفل، لكنني لم أكن قد فهمت أن آل ستينا قد انتهوا. وصلني هذا الخطاب لأكتشف أن الأمور الخطيرة قد بدأت بالفعل، أن الحياةَ الجادة مرهونةٌ للأمور الجادة. كان والدي يمتلك صالونًا قبالة شارع "جروف" في أورانج الشرقية. أنتَ ابن "ويكوا" ، ولا تعرف أورانج الشرقية. كانت هي الطرف الفقير من البلدة. أبي كان واحدًا من أولئك اليهود مُلاّك الصالونات، الذين انتشروا في كل أنحاء جيرسي، وبالطبع، كانت لهم علائقهم مع رينفيلدز ومع عامة الناس- كان يجب عليهم ذلك، لكي يبقوا على قيد الحياة وسط الغوغاء. لم يكن أبي رجلاً فظًّا لكنه كان خشنًا بما يكفي، وكان يرجو لي حياة أفضل. سقط ميّتًا في آخر عام لي بالمدرسة الثانوية. كنتُ كأنني الطفل الوحيد. الابن المحبوب. لم يدعني حتى أعمل في دكانه حينما بدأت تستهويني النماذجُ البشريةُ هناك. كل شيء في الحياة، بما في ذلك الصالون- بل بدءًا من الصالون- كان أبي دائمًا ما يدفعني لأكون تلميذًا جادًّا، في تلك الأيام القديمة، رحتُ أستذكر مادة اللاتيني في المدرسة الثانوية، ثم لاتيني متقدم، ثم إغريقي، وهو ما كان لا يزال جزءًا من المناهج القديمة، ابن صاحب الصالون لم يدخر وسعًا في العمل الشاق لكي يصبح أكثر جدية."
حركة اللعب بيننا غدت متسارعة، ووضع كولمن كروت الكوتشينة على الطاولة ليريني يده المنتصرة. وحين بدأتُ أوزّع الورق، استأنف الحكاية. لم أكن قد سمعتها من قبل. لم أكن قد سمعت أي شيء من قبل فيما عدا كيف حدث أن امتلأ بُغضًا لمجلس الجامعة.
"حسنٌ،" استأنف قائلاً، "بمجرد أن حققتُ حلمَ أبي وأصبحتُ أستاذًا جامعيًّا فائق الاحترام، كنت أعتقد، كما كان والدي يعتقد، أن الحياة الجادة منذ الآن لن تنتهي أبدًا. ذاك أنها لا يمكن أن تنتهي مادمتَ تمتلكُ أوراق اعتمادها. لكنها انتهت يا ناثان. أم إنهم كانوا ‘Spooks’؟ وأنني فقدتُ عقلي فأُطيحَ بي. حينما كان روبرتس هنا كان يحب أن يخبر الناس أن نجاحي كعميد تولّد من تعلمي الأخلاق في الصالون. الرئيس روبرتس ابن سلالة الطبقة العليا كان يحب أن يرى مشاكس الحانات هذا قابعًا بالقرب منه في القاعة المجاورة له. أمام الحرس القديم بصفة خاصة، كان روبرتس يتظاهر بإعجابه بي بسبب خلفياتي الاجتماعية، بالرغم من أنالأشخاص من غير اليهود، كما نعلم، كانوا دائمًا يكرهون بالفعل تلك القصص عن اليهود وصعودهم الملحوظ من حضيض الأحياء الفقيرة. أجل، كان بالتأكيد ثمة قدر من التهكّم لدى بيرس روبرتس، وحتى ذلك الحين، نعم، حينما أفكر في الأمر، أبدأ حتى في..." لكنه هنا كبح جماح نفسه. لم يشأ أن يمضي قدمًا في هذا. كان قد انتهى من حال التشويش التي يتصور فيها نفسه ملكًا مخلوعًا. الشكوى التي لن تموت أبدًا ها هي الآن تعلن وفاتها.
عودٌ إلى موضوع ستينا. فإن تذكُّري ستينا يساعد الآن على نحو هائل.
"قابلتها عام 48،" قال. "كنتُ في الثانية والعشرين، مجندًا أمريكيًّا بجامعة نيويورك، في سلاح البحرية المجاور لنا، وكانت في الثامنة عشرة وأمضت شهورًا قليلة فقط في نيويورك. تعمل في وظيفة ما هناك وتدرس أيضًا في الجامعة، لكن في الليل. فتاة مستقلة من مينيسوتا. فتاة واثقة من نفسها، أو هكذا كانت تبدو. جانب منها دنمركي، والآخر أيسلندي. نشيطة. أنيقة. جميلة. طويلة. طويلة على نحو فاتن. كانت تستلقي كتمثال بديع. لم أنس هذا أبدًا. ظللت معها سنتين. كنت أناديها فولوبتس. ابنة سايكي . تجسيد البهجة الحسيّة عند الرومان."
الآن كان قد وضع أوراق اللعب، والتقط المظروف من حيث كان قد ألقاه جانبًا جوار الكومة المهملة، ثم أخرج الخطاب. خطاب مكتوب بالآلة الكاتبة في ورقتين طويلتين. "التقينا صدفةً فيما بعد. أنا كنت عائدًا من آديلفي، لأمضي النهار في البلدة، وستينا كانت وقتها في حوالي الرابعة أو الخامسة والعشرين. توقفنا وتكلمنا. أخبرتُها أن زوجتي حامل، وهي أخبرتني عما كانت تفعله، ثم قبّلتُها قبلةَ الوداع، وهذا كل ما في الأمر. بعد أسبوع وصلني هذا الخطاب على عنوان الجامعة. كان مؤرخًا. هي التي أرّخته. هنا- ‘18، من أغسطس، 1954.’ ‘عزيزي كولمن، سعدتُ للغاية أن أراك في نيويورك. وبقدر ما كان لقاؤنا قصيرًا، إلا أنني بعد لقائنا شعرتُ بحزن خريفيّ، ربما لأن السنوات الست منذ التقينا لأول مرة أوضحت لي على نحو بشع كم من الأيام ضاعت من عمري. تبدو في أحسن حال، وأنا مسرورة لأنك سعيد. كما أنك تصرفتَ بنبالة. لم تنقضّ عليّ. وهو الشيء الذي فعلته (أو يبدو كذلك) حينما التقيتك أول مرة وكنتَ قد استأجرتَ غرفة بدروم في شارع سوليفان. هل تذكر ذلك؟ كنتَ ماهرًا في الانقضاض على نحو لا يُصدق، تقريبًا مثلما يفعل الطائر حينما يطير فوق أرض أو بحر ويراقب شيئًا يتحرك، شيئًا يتفجّر بالحياة، يهبط الطائر، يركّز بصره جيدًّا، ينقضُّ عليه- يتعلّق به- ثم يلتهمه. حينما التقينا أدهشتني طاقتك المُحلّقة. أذكرُ حينما دخلتُ غرفتك للمرة الأولى، حينما وصلتُ، جلستُ على مقعد، وأنت رحتَ تمشي عبر الغرفة من مكان إلى آخر، تتوقف بين الحين والحين لتجثم فوق مقعد أو أريكة. كانت لديك أريكة مليئة بالفئران تشبه أرائك المنظمات العسكرية، كنتَ تنام عليها قبل أن نقرر التبرع بها إلى الماتريس. قدّمتَ لي شرابًا، ناولتني إياه وأنت تتفحصني بنظرة ملؤها العجب والفضول، كأنني نوعٌ من المعجزات لها يدان تقدران على أن تحملا الكأس، ولي فمٌ على وشك الاحتساء، كأنني تجسّدتُ على هيئتي تلك فقط في غرفتك، قبل يوم واحد من لقائنا في الطريق الفرعي. كنتَ تتكلم، تسأل، وأحيانًا تجيب الأسئلة، بطريقة جادة للغاية لكن جزلة، وأنا كنت أبذل كل جهدي لكي أتكلم أيضًا لكن الكلام لم يكن يأتيني بيسر. لذلك رحتُ أحدّق فيك بالمقابل، مستغرقة في الانتباه والإدراك أكثر كثيرًا مما كنت أتوقع أن أفهم. لكنني لم أستطع أن أجد الكلمات لأتكلم وأملأ الفراغ الذي شكّلته حقيقةُ أنكَ بدوت جذابًا بالنسبة لي وأنني كنتُ جذابة بالنسبة لك. رحتُ أفكر: أنا لستُ مستعدة. لقد وصلتُ للتوّ إلى هذه المدينة. ليس الآن. لكنني سوف، مع مرور بعض الوقت، أتبادل معه الحديث، إذا ما فكرتُ فيما أود أن أقوله. (‘مستعدةٌ’ لأي شيء، لا أعرف. ليس وحسب ممارسة الحب. بل مستعدةٌ لأن أكون.) لكنك بعد ذلك ‘انقضضتَ’ يا كولمن، تقريبًا من منتصف الغرفة، إلى حيث كنتُ أجلس، أصابني الذهول لكنني كنتُ مبتهجة. كان هذا سابقًا لأوانه، لكنه لم يكن.’"
توقف كولمن عن القراءة حينما سمع، عبر الراديو، المقطع الأول من أغنية "مسحورًا، قلقًا، وحائرًا" بصوت سيناترا. "أريدُ أن أرقص،" قال كولمن. "أتودّ أن ترقص؟" ضحكتُ. لا، لم يكن هذا هو الشخص الشرس، الممرور، المستعد للعراك والانتقام، رجل الـSpooks، المنصرف عن الحياة والمهووس بها- لم يكن هذا حتى رجلاً آخر. بل أن هذه روحٌ أخرى. روحُ صبيّ صغير. حصلتُ اليوم إذنْ على صورة قوية، من خلال خطاب ستينا وأيضًا من خلال كولمن، بلا قميص، وهو يقرأ الخطاب، صورة ترسم لي بوضوح كيف كان كولمن سيلك فيما مضى. قبل أن يغدو العميد الثائر، قبل أن يغدو بروفيسور الكلاسيكيات الجاد- وقبل دهر من أن يصبح منبوذَ جامعة أثينا- لم يكن وحسب تلميذًا مجتهدًا في الدراسة بل ولدٌ جذاب ومُغوٍ أيضًا. مثير. ماكر. وبه شيء من الشيطنة كذلك، له أنفٌ أفطس، وقدمُ نعجة. كان كولمن سيلك كلَّ ذلك ذات مرة، في قديم الزمن، قبل أن تحدث تلك الأحداث الخطرة.
"بعدما أسمع الجزء المتبقي من الخطاب،" هكذا أجبتُ على دعوته للرقص. "اقرأْ عليَّ بقيةَ خطاب ستينا."
"حينما التقينا كان لها ثلاثة شهور خارج مينيسوتا. فقط نزلتُ إلى الطريق الفرعي وعدتُ بها معي. حسنٌ، كان عام 1948، تذكّرْ هذا." أخبرني، ثم عاد إلى خطابها: "‘كنت مأخوذةً تمامًا بك، سوى أنني كنتُ قلقة لأنك ربما تراني صغيرة جدًّا؛ نوعًا من فتيات أواسط أمريكا غير المثيرات، غير الملفتات للنظر، بالإضافة إلى أنكَ كنت بالفعل تواعد واحدة ‘أنيقة ولطيفة وجميلة’، رغم أنك أخبرتني، بابتسامة مكتومة: ‘لا أظن أننا سنتزوج.’، ‘لمَ لا؟’ سألتُكَ. ‘ربما أضجرُ،’ أجبتَ، لكي تتأكد من أنني لن أفعل أيَّ شيء يضجرك. حسنًا، هذا كل شيء. هذا يكفي. يجب ألا أزعجك أكثر. أعدك ألا أفعل مجددًا. انتبه لنفسك. انتبه لنفسك. انتبه لنفسك. انتبه لنفسك. المُغرمةُ بك، ستينا’"
"حسنٌ،" قلتُ له، "ذاك هو عام 1948 بالنسبة لك."
"تعال، هيا نرقص."
"على ألا تغنّي داخل أذني."
"تعالَ. انهضْ."
ماذا بحق الجحيم، رحتُ أفكر لنفسي، سرعان ما سنموت، ولكنني نهضتُ، وهناك في الشرفة بدأنا كولمن سيلك وأنا نرقص معًا رقصة فوكس تروت . كان هو الذي يقود، وأنا، بأفضل ما يمكنني، رحتُ أتبعه. تذكرتُ ذلك اليوم الذي اندفع فيه داخل الاستوديو الخاص بي بعدما أتمّ مراسم دفن آيريس وأخبرني، وهو فاقد عقله بسبب الغضب والحزن، أن عليّ أن أكتب من أجله كتابًا يفضح كل السخف الجنوني في قضيته، ذاك الذي انتهى بمقتل زوجته. ظنَّ المرءُ وقتها أن هذا الرجل أبدًا لن يتذوق لجنون الحياة طعمًا بعد ذلك، وأن هذه الروح اللعوب داخله والقلب المرح قد تدمرا وفُقدا نهائيًّا، مع ضياع الوظيفة، والسمعة، والزوجة الهائلة. ربما لذلك لم يدُر بخلدي حتى أن أضحك وأن أدعه، إذا ما أراد، يرقص حول الشرفة وحده، فقط أن أضحك وأستمتع بمشاهدته- ربما لذلك أعطيته يدي وتركته يضع ذراعه حول ظهري ليدفعني على نحو حالم حول الأرضية ذات البلاط الأزرق، لأنني كنت هناك ذلك اليوم حينما كان جثمانها لا يزال دافئًا ورأيته كيف كان يبدو يومها.
"أرجو ألا يمر أحدُ سائقي شاحنات إطفاء الحريق الآن،" قلتُ.
"نعم،" قال. "لا نريد أيّ إنسان ينقر على كتفي ويسأل: هل لي أن أقاطعكما؟"
وشرعنا في الرقص. لم يكن من شعور فيزيقيّ في الأمر، ولكن، لأن كولمن كان لا يرتدي سوى شورت الجينز وحسب ويدي كانت مستقرةً على ظهره الدافئ كأنما هو ظهرُ كلب أو حصان، فلم يكن الأداء مازحًا تمامًا. ثمة صدقٌ نصفُ جاد في قيادته الرقص على الأرضية البلاط، ناهيك عن الفرح الطائش بأنك لا تزال على قيد الحياة، عَرَضًا وعلى نحو أخرق وبلا أي سبب وجيه حدث واكتشفتَ أنكَ على قيد الحياة- ذلك النوع من البهجة التي سبق وجرّبتها وأنت طفل حينما بدأت تتعلم للمرة الأولى أنك تعزف نغمةً بالمشط وورق التواليت. كان ذلك حينما جلسنا ليخبرني كولمن عن المرأة. "لديّ علاقةٌ عاطفية يا ناثان. لدي علاقة مع امرأة في الرابعة والثلاثين من عمرها. ليس بوسعي أن أخبرك ماذا فعلت بي هذه العلاقة." "للتو انتهينا من الرقص- ليس عليك أن تحكي."
"كنتُ أظنُّ أنني لم أعد قادرًا على فعل أي شيء في أي شيء. لكن حينما انبعث ذلك الشيء للحياة في لحظة متأخرة، من مكان مجهول، وعلى غير توقع على الإطلاق، وحتى على غير رغبة، أن يعود إليك مجددًا ولا شيء بوسعه أن يخفف من سطوته، حينما لم تعد شابًّا يكافح في الثانية والعشرين من عمره، ولم تعد منخرطًا بعمق في صخب الحياة اليومية وفوضاها... حينما يكون هكذا الأمر..."
"وحينما تكون هي في الرابعة والثلاثين."
"ومشتعلة. امرأة مشتعلة. حوّلت الجنسَ إلى رذيلة من جديد."
"الحسناءُ الجميلة دون رحمة جعلتك عبدًا."
"يبدو هذا. سألتُها: ‘كيف يبدو الأمرُ بالنسبةِ لكِ مع رجل في الواحدة والسبعين؟’، فقالت لي: ‘الجنس ممتازٌ مع رجل في الواحدة والسبعين. يؤدي الأمرَ بأسلوبه الخاص ولا يقدر أن يغيّره. بوسعك أن تعرف ما هو بالضبط وماذا سيفعل. لا مفاجآت.’"
"من أين أتت المرأةُ بكل تلك الحكمة؟"
"المفاجآت. أربع وثلاثون سنةً من المفاجآت الهمجية أكسبتها الحكمة. لكنها حكمةٌ ضيقة جدًّا ولا اجتماعية. بل وهمجية أيضًا. حكمة مَن لا ينتظرُ شيئًا. تلك هي حكمتها، وذاك هو كبرياؤها، لكنها حكمة سلبية، ليست من النوع الذي يبقيك على المسار يومًا بعد يوم. هي امرأة حياتُها تحاول أن تسحقها طالما هي حيّة. أيًّا ما كان ما تعلمته نتج عن ذلك."
رحتُ أفكر، لقد وجد كولمن أخيرًا شخصًا يستطيع أن يتكلم معه... ثم فكرت، وأنا أيضًا. في لحظةَ أن يشرع رجل في الحديث معك حول الجنس، فإنما يخبرك بشيء يخصكما معًا. تسعون بالمائة من الوقت لا يحدث هذا، وعلى الأرجح هذا موجود لأنه لم يحدث، رغم أنك لو لم تستطع أن تحقق قدرًا من الصراحة في الكلام عن الجنس، واخترت أن تتصرف كما لو كان غير موجود حتى في ذهنك، ستكون الصداقة الذكورية بذلك غير مكتملة. معظم الرجال لا يجدون مثل هذا الصديق. فهذا ليس شائعًا. على أنه لو تحقق، حينما يجد رجلان نفسيهما على اتفاق حول هذا الجزء الحيوي في أن تكون رجلاً، غير خائف من المُساءلة، من الشعور بالعار، من الحسد، أو الانهزام، واثقًا من أن ثقتك لن تُخان، فإن علاقتكما الإنسانية ستكون متينة جدًّا، وسوف يتحقق نوعٌ من الألفة غير المتوقعة. هذا على الأرجح لم يكن معتادًا بالنسبة له، كنت أفكر، ولكن بما أنه جاء إليَّ في أسوأ لحظاته، محتشدًا بالكراهية التي رأيتها تسمّمه على مدار شهور، فقد شعر بالحريّة التي تشعر بها حين تكون مع شخص ما قد شاهدك لحظةَ مرض بشع من زاوية فراشك. لم يشعر برغبة ملحّة في التفاخر بكمّ الراحة الهائلة المتولدة من عدم إخفائه شيئًا جديدًا مربكًا جَدّ في ميلاده الجديد، ذاك الذي حدث في شيخوخته.
"أين وجدتها؟" سألتُه.
"ذهبتُ لآخذ بريدي في نهاية اليوم وكانت هناك، تمسح الأرضية. إنها الشقراء النحيلة التي تنظف مكتب البريد أحيانًا. هي من مجموعة الحرّاس النظاميين في كلية أثينا. حارسة بوابة المكان الذي كنت يومًا عميده. امرأة لا تملك أي شيء. فونيا فيرلي. ذاك اسمها. فونيا لا تملك شيئًا على الإطلاق."
"لماذا لا شيء لديها؟"
"كان لديها زوجٌ. كان يضربها بفظاعة حتى انتهى بها الأمر في غيبوبة. كان لديهما مزرعة ألبان. وكان يديرها على نحو سييء للغاية حتى أفلست. كان لديها طفلان. تسرب الغازُ من السخان، وتسبب في حريق، فاختنق الطفلان. فيما عدا رماد الطفلين الذي تحتفظ به في علبة صغيرة تحت سريرها، لا تملك شيئًا عدا سيارة تشيفي موديل 83. المرة الوحيدة التي شاهدتُها فيها تكاد تبكي كانت حينما أخبرتني: ‘لا أدري ماذا أفعل بالرماد.’ كارثة قروية عصرت فونيا حتى جفّت من دموعها. بدأت حياتَها كطفلة ثرية. نشأت في بيت كبير رحب بجنوب بوسطن. مدفأة في كل غرفة من غرف النوم الخمس، تحفٌ قيمة، لوحات صينية فخمة- كل شيء عتيق وفخم، بما في ذلك العائلة. كان من الممكن أن تكون راقيةَ الحديث على نحو مذهل إذا ما أرادت ذلك. لكنها سقطت إلى أدنى مراتب الحضيض على السُّلّم الاجتماعي، سقطت من أعلى العُلا حتى غدت الآن حقيبة مدهشة من الخليط اللفظي. خسرت فونيا اللقبَ الذي كان ينتظرها. هبطت طبقيًّا. ثمة ديمقراطيةٌ حقيقية في معاناتها."
"ما الذي فعل بها ذلك؟"
"زوجُ أمها هو الذي فعل. شرُّ البرجوازية العليا فعل. انفصل أبواها وهي في الخامسة. الأبُ الناجح ضبط الأمَّ الحسناء في علاقة غرامية. كانت الأمُّ تحب المال، بعد طلاقها تزوجت المال، وزوجُ الأم الثري لم يكن يدع فونيا في حالها. راح يتحرش بها منذ اليوم الأول. لم يقدر أن يمسك نفسه عنها. تلك الطفلة الشقراء الملائكية، يتحرش بها- حاول أن يضاجعها فهربت. كانت في الرابعة عشرة. أمها لم تصدقها. أخذوها إلى الطبيب النفساني. فأخبرت فونيا الطبيبَ بما حدث، وبعد عشر جلسات كان الطبيب في جانب زوج الأم. ‘أخذ جانب أولئك الذين يدفعون أتعابه،’ تقول فونيا: ‘مثله مثل الجميع’ أقامت الأمُّ علاقة مع الطبيب فيما بعد. تلك هي الحكاية، كما حكتها لي، عما ألقى بها إلى الحياة الخشنة لكي تصنع طريقها على طريقتها. هربت من البيت، من المدرسة الثانوية، ثم نزحت نحو الجنوب، وعملت هناك، عملت كل ما يمكن عمله، وفي العشرين تزوجت هذا الفلاح، الأكبر منها سنًّا، فلاح في مزرعة ألبان، طبيب بيطري في فيتنام، كانت تفكر أنهما لو عملا بكد، وربيا طفليهما وأنجزا أعمال المزرعة سيمكنها أن تعيش حياة طبيعية مستقرة، حتى وإن كان الزوج في الجانب الخامل. بل خاصةً لو كان الزوج في الجانب الخامل. ظنّت أن بوسعها أن تكون أفضل بما أنها ذكية. ظنت أن هذه ميزتها. وكانت مخطئة. كل ما صنعاه معًا لم يكن سوى المشاكل. أفلستِ المزرعة. وكان يضربها طوال الوقت. يضربها حتى تُثخَن بالجراح. أتعرف كيف تصف النقطةَ العليا في زواجها؟ إنه الحدثُ الذي تطلق عليه فونيا ‘الحرب العظمى للغائط الدافئ.’ في إحدى الأمسيات كانا في المزرعة بعد حلب الأبقار، يتشاحنان حول شيء ما، بقرةٌ جوارها أخرجت كمية ضخمة من الغائط، فالتقطت فونيا حفنةً ملء اليد من الغائط وقذفتها في وجه لِستر. فقذفها بحفنة مماثلة، وهكذا بدأت. قالت لي: ‘حرب الغائط الدافئ ربما كانت تلك هي أفضل لحظة عشناها معًا.’ في الأخير كانا كلاهما مغمورين بغائط البقرة ويزأران بالضحك، وبعد استحمامهما بخرطوم الحظيرة، صعدا إلى المنزل ومارسا الجنس. لكن ذلك كان يحمل شيئًا جيدًا إلى أبعد حد. لم يمثل الجنس واحدًا على مئة من بهجة الحرب. ممارسة الجنس مع لِستر لم تكن مبهجة دائمًا- وفق فونيا، لم يكن يعرف كيف يمارسه. ‘كان أكثر خمولاً من أن يضاجع جيدًّا.’ حينما أخبرتني أنني رجل كامل، أخبرتها أنني أفهم لماذا هي ترى ذلك، ربما لأنني جئتُ من بعده."
"وحربُها مع لِستر والحياة بالغائط الدافئ وهي بعدُ في الرابعة عشرة هو الذي جعل منها ما هي عليه الآن في الرابعة والثلاثين،" سألتُه، "وبالإضافة إلى الحكمة الهمجية؟ هل هي خشنة؟ داهية مخادعة؟ ساخطة؟ مجنونة؟"
"حربُ الحياة جعلتها امرأة خشنة، بالتأكيد خشنة جنسيًّا، لكنها لم تجعل منها مجنونة. على الأقل لا أظن ذلك بعد. ساخطة؟ إن كان ثمة سخط- ولماذا لا يكون؟- إن كان ثمة فإنه سخطٌ خفيّ. غضبٌ دونما غضب. وبالنسبة لامرأة مثلها عاشت دون حظ نهائيًّا، فإنها لم تَبدُ لي متفجعةً ساخطة- على الأقل لم تُبدِ لي هذا أبدًا. ولكن فيما يخص الدهاء، فلا. تقول لي أحيانًا أشياء تبدو دهاءً. تقول: ‘ربما عليك أن تفكر فيّ كرفيقة في نفس عمرك حدث أن بدا شكلها أصغرَ سنًّا. أظن أن هذا ما أنا عليه.’ حينما سألتها: ‘ماذا تريدين مني؟’ قالت: ‘صُحبة ما. ربما بعض المعرفة. البهجة. الجنس. لا تقلق. هذا كل ما في الأمر.’ وحينما أخبرتُها مرة أنها أكثرُ حكمةً من سنوات عمرها، أجابتني: ‘إنني أكثرُ غباء من سنوات عمري.’ كانت بالتأكيد أكثر ذكاء من لِستر، لكن داهية مخادعة؟ كلا. شيءٌ ما في فونيا ظلّ دائمًا في الرابعة عشرة وهو أقصى ما يمكن أن تجده عندها من دهاء. كانت لها علاقة مع رئيسها، الرجل الذي وظّفها. سموكي هولينبيك. وأنا الذي وظّفتُه- الرجل الذي يدير معمل الفيزياء بالكلية. كان سموكي نجم كرة قدم هنا. قديمًا في السبعينيات كنت أعرفه كطالب. الآن هو مهندس مدني. وظّف فونيا في هيئة الحرّاس، وحتى حينما أعطاها الوظيفة، كانت تعلم ما في نيّته. كان الرجل منجذبًا لها. كان حبيسَ زواج غير مثير، لكنه لم يغاضبها من أجل هذا- لم يُظِهر لها تعاليًا أو ازدراءً، لم يتساءل: لماذا لا تستقرين، لماذا تظلين متسكعة تدورين وتمارسين العُهر؟ لا ترفُّعَ برجوازيًّا من قِبل سموكي نحوها. كان سموكي يفعل كل شيء في حياته على النحو الصحيح ويؤديه بجمال- زوجةٌ، أطفال، أطفال خمسة، متزوج كما يليق برجل، بطلٌ رياضي ما يزال في فلك الجامعة، محبوبٌ وله شعبية في البلدة- ولكن لديه موهبة: أنه قادر أيضًا على الخروج من كل هذا. لن تصدق هذا وأنت تتكلم معه. بروفيسور أثينا المتوازن المتزن، يؤدي كل شيء على النحو المفترض تأديته به. يبدو كمَنْ استثمر حياته بنسبة مائة بالمئة. عليك أن تتوقع أنه كان يفكر: تلك العاهرة الغبية وحياتها المنحلّة؟ فلتخرج من مكتبي تلك المومس. لكنه لم يفعل. عكس كل شخص آخر في أثينا، لم يكن مسجونًا في أسطورة سموكي التي تمنعه من التفكير: نعم، هذا فَرْجٌ حقيقي لامرأة أود أن أضاجعه. راح يضاجعها يا ناثان. جلب فونيا إلى فراشه مع امرأة أخرى من طاقم الحراسة. كان يضاجعهما معًا. واستمر الحال ستة أشهر. ثم انضمت للعرض امرأةٌ وافدة، مطلقة حديثًا، جديدة على المشهد المحليّ. سيرك سموكي. سيرك سموكي السريّ ذو الحلبة الثلاثية. ولكن حينئذ، بعد ستة أشهر، رمى بها- أخرج فونيا خارج الدائرة وألقاها بعيدًا. لم أكن أعلم شيئًا من كل هذا حتى حكت لي. وحكت لي لأنها في إحدى الليالي في الفراش، غامت عيناها في رأسها ونادتني باسمه. همست لي: ‘سموكي.’ كانت راقدة فوق سموكي القديم. علاقتها الثلاثية معه أعطتني فكرة أفضل عن السيدة التي كنت أتعامل معها. رفع هذا من مستوى الرهان. سبب لي صدمة في الواقع- لم تكن لعبة هواة إذن. حينما سألتها كيف كان سموكي ينجح في اجتذاب قبيلة نسائه، كانت تجيبني: ‘بقوة قضيبه’، ‘فسّري’ سألتُها، فأخبرتني: ‘تعرف كيف يبدو الأمر حينما يدخل فرجُ امرأة حقيقي ليتمشى في غرفة ما، الرجال يعرفون ذلك؟ حسنٌ، الشيء ذاته يحدث بالمقابل. مع بعض الناس، ليس مهمًّا شكل القناع، عليك أن تدرك ما الذي خُلقوا أولئك من أجل أن يفعلوه.’ الفراش هو المكان الوحيد الذي يتجلى فيه دهاء فونيا يا ناثان. نوع من الدهاء الجسديّ العفوي كان يلعب دور القيادة في الفراش- القيادة الثانية تتم بالانتهاك الأرعن. في الفراش لا شيء يشتت انتباه فونيا. لحمُ بشرتها له عيون. لحمها يرى كل شيء. في الفراش تكون فونيا كيانًا متماسكًا متوحدًا مفعمًا بالقوة، كيانًا متعته في القفز فوق الحدود. في الفراش تتحول فونيا إلى ظاهرة عميقة. ربما كان هذا بفضل هِبة التحرش. بينما حينما كنا ننزل إلى المطبخ، أمزج بعض البيض ونجلس معا للأكل، تتحول إلى طفلة. ربما هذا بفضل هبة التحرش أيضًا. أنا في رفقة طفلة حائرة العينين، مهلهلة، شاردة الذهن مشوشة. لا يحدث هذا في مكان آخر. لكن حينما نأكل، ها نحن ذا: أنا وطفلتي. تبدو كأنما هي بكامل هيئة الابنة التي بقيت بداخلها. لا تقدر أن تجلس منتصبة في مقعدها، لا تقدر أن تربط معًا جملتين ليس من رابط بينهما. كل رباطة الجأش الظاهرية بالجنس والتراجيديا، كل هذا يختفي، وأراني جالسًا هناك أريد أن أقول لها: ‘شدّي قامتك وانتصبي وأنت تجلسين إلى المائدة، ابعدي كُمَّ روب حمامي عن الصحن، أنصتي لما أقول، تبًّا، انظري إليّ وأنت تتكلمين.’"
"هل تقول ذلك؟"
"لا يبدو الكلام مقبولاً. لا، لا أقول ذلك- لا أقول مادمت أود الحفاظ على كثافة الحال الموجودة. أفكر في تلك العلبة الصغيرة تحت فراشها، تلك التي تحتفظ فيها برماد لا تدري ماذا تفعل به، فأود أن أقول: ‘مضى عامان. حان الوقت لتواريها التراب. إذا لم تقدري أن تدفنيها تحت الأرض، اذهبي إلى النهر وانثري الرماد من فوق الجسر. دعي الرماد يطفو فوق صفحة الماء. دعي الطفلين يذهبان. سوف آتي وأساعدك. سنفعل ذلك معًا.’ لكنني لستُ والدَ هذه الابنة- ليس هذا الدور الذي ألعبه هنا. لستُ معلّمها. لم أعد بروفيسور لأي إنسان. لقد تقاعدتُ من التدريس للناس، توقفتُ عن تصحيح مسارات الناس، عن نُصح الناس وتنويرهم. لستُ إلا رجلاً في الواحدة والسبعين مع عشيقة في الرابعة والثلاثين؛ هذا يُضعف مؤهلاتي، في كومنولث أوف ماساتشوستس بشأن مهمة تنوير أيّ إنسان. أتعاطى حبوبَ الفياجرا يا ناثان. هناك La Belle Dame Sans Merci ‘الحسناءُ الجميلة دون رحمة’. أدين بكل تلك الفتنة والشغب والمتعة للفياجرا. دون الفياجرا لم يكن لشيء من هذا أن يحدث. دون الفياجرا كنتُ سأعيش صورة العالَم الذي يليق بعمري وأعايشُ أهدافًا مغايرة تمامًا. دون الفياجرا كان سيكون لديّ وقارُ رجل نبيل مسنٍّ خال من الرغبة يسلك النهجَ القويم. لم أكن لأسلك سلوكًا مشينًا. لم أكن لآتي شيئًا غير لائق، أخرق، طائشًا، كارثيًّا لكل المتورطين فيه. من دون الفياجرا، كنتُ سأمضي خلال سنوات الانحدار الأخيرة، لأطوّر المنظور المجهول الرحب لرجل شريف مثقف واسع الخبرة تمّ تسريحه من الخدمة، رجل منذ زمن بعيد كان قد أقلع عن مباهج الحياة الحسيّة. كنتُ سأستمر في رسم الاستخلاصات الفلسفية العميقة وضخّ الأخلاقيات الوازنة في عقول الشباب، بدلاً من أن أضع نفسي في حال الطوارئ الأبدية التي هي الخَدَر الجنسيّ. بفضل الفياجرا حدث أن أدركتُ تحولات زيوس الغرامية. هكذا كان يجب أن يطلقوا على الفياجرا. كان لابد أن يطلقوا عليها: ‘زيوس’."
هل كان مندهشًا أن وجد نفسه يحكي لي كل هذا؟ أعتقد أنه ربما اندهش. لكنه كان مفعمًا بالحياة للحدّ الذي جعل من الصعب عليه أن يتوقف. دافعه للكلام كان هو الدافع ذاته الذي جعله يراقصني. أجل، أظنُّ ذلك، لم تعد المسألةُ تأليفَ كتاب Spooks الذي هو الإنقاذُ الحاسم من الخزي؛ بل هي مضاجعة فونيا. لكن ثمة ما هو أكثر. إنها الرغبة في إطلاق الوحش الهمجيّ داخله، إطلاق القوة الحبيسة- لنصف ساعة، لساعتين، لأية مدة تكون، من أجل التحرر والانطلاق نحو الطبيعة. كان زوجًا لمدة طويلة. ولديه أطفال. كان عميدًا للجامعة. لأربعين عامًا كان كولمن سيلك كلَّ ما كان ضروريًّا أن يكونه. كان مشغولاً، كونه زوجًا، كونه أستاذًا جامعيًّا، معلّمًا، يقرأ الكتب، يحاضر، يصحح الأوراق، يعطي الدرجات، وهذا كل شيء. في الواحدة والسبعين لا تقدر أن تكون جسورًا، لا تكون وحشًا غليظًا مثلما تكون في السادسة والعشرين، بطبيعة الحال. على أن ثمة آثارًا من الهمجيّ، بقايا الشيء الطبيعيّ- إنه الآن في تماسٍّ مع تلك الآثار المتبقية. وكان سعيدًا بذلك، هو راضٍ بأن يكون في تماس مع تلك الآثار. بل هو أكثر من سعيد- هو مُثارٌ، هو مربوطٌ بعمق بفونيا، بسبب تلك الإثارة. الأسرةُ لا تقدر أن تفعل ذلك، لا فائدة للبيولوجيا بالنسبة إليه بعد الآن. ليست الأسرة، ليست المسئولية، ليس الواجب، ليس المال، ليست مشاركة الفلسفة أو محبة الأدب، ليست المناقشات الكبرى للأفكار العظمى. كلا، ما يربطه بفونيا هو الإثارة. غدًا قد يُصاب بالسرطان، وقد يتعافى. لكنه اليوم، لديه هذه الإثارة.
لماذا يخبرني؟ لكي يتحرر من الأمر بحُريّة، فلابد أن يعرف الأمرَ أحدٌ. هو الآن حرٌّ في أن يتحرر، فيما أعتقد، لأن شيئًا ما ليس على المحكّ. لأنه ليس من مستقبل. لأنه في الواحدة والسبعين وهي في الرابعة والثلاثين. إنه في خضّم تلك التجربة ليس من أجل التعلّم، ليس من أجل التخطيط، بل من أجل المغامرة؛ هو في خضّم التجربة مثلما هي فيها: من أجل الامتطاء. كان قد مُنح الكثير من الحرية بسبب تلك السنوات السبع والثلاثين الفارقة بينهما. رجلٌ مسنٌّ، وللمرة الأخيرة، يتورّط في علاقة جنسية. هل أكثر من ذلك تحريكًا للمشاعر بالنسبة لأي إنسان؟
"بالطبع عليّ أن أسأل،" قال كولمن، "ما الذي تفعله فونيا معي. ما الذي يدور في عقلها؟ أتجربةٌ جديدة مثيرة بالنسبة لها، أن تكون مع رجل في عمر جدها؟"
"أفترضُ وجودَ ذلك النموذج من النساء،" قلتُ، "اللاتي يُعَدُّ ذلك بالنسبة لهن تجربةً مثيرة. ثمة نماذجُ عديدةٌ أخرى من النساء، فلماذا لا يوجد ذلك النموذج؟ انظرْ، بالتأكيد ثمة أمكنة ما يا كولمن، وكالة فيدرالية مثلاً تتعامل مع الرجال المسنّين، وهي جاءت من تلك الوكالة."
"وأنا شابٌّ،" قال كولمن، "لم يحدث أن تورطتُ أبدًا مع نساء دميمات. في سلاح البحرية كان لي صديق، اسمه فريللو، وكانت الفتيات الدميمات تخصصه. جنوبًا في نورفولك، إذا ما ذهبنا للرقص في الكنيسة، أو إذا ما ذهبنا مساء إلى مؤسسة الخدمة العامة ، يتجه فريللو رأسًا إلى أقبح فتاة. وحينما أضحك عليه، كان يخبرني بأنني لا أدرك مدى الذي أفقده بإقصاء الدميمات عن دائرة اهتمامي. إنهنّ محبطات، كان يقول، لسن جميلات مثل الإمبراطورات اللواتي أختارهن أنا، لذلك سوف يفعلن كلَّ ما يشاء الرجل. معظم الرجال أغبياء، يقول، لأنهم لا يدركون ذلك. لا يفهمون أنك إذا ما اقتربت من المرأة الأكثر دمامة، فإنها ستغدو الأكثر استثناءً. فإذا ما استطعت أن تكتشفها، فهذا كل شيء. فقط إذا ما نجحت. إذا ما نجحت في اكتشافها، فلن تعرف ما الذي تبدأ به أولاً، ستجد أنها تختلج بشدة. كل ذلك لأنها دميمة. لأنها أبدًا لا تُختار. لأنها تجلس دائمًا وحيدةً في الركن بينما كل الفتيات يرقصن. وهكذا الحال حينما تكون رجلاً عجوزًا. تكون كمثل الفتاة الدميمة تلك. تكون في الركن بينما الرقصة دائرة."
"وبهذا تكون فونيا هي صديقك فريللو."
ابتسم كولمن وقال: "تقريبًا."
"حسنٌ، مهما كان ما قد يحدث من أمور أخرى،" قلتُ له، "فالفضلُ للفياجرا في أنك لم تعد تعاني عذاب تأليف ذلك الكتاب." "أعتقد ذلك،" قال كولمن. "أعتقد أن هذا حقيقي. ذلك الكتاب الغبي. وهل أخبرتك أن فونيا لا تعرف القراءة؟ اكتشفتُ ذلك حينما اتجهنا بالسيارة إلى فيرموت في إحدى الليالي للعشاء. لم تستطع قراءة قائمة الطعام. طوّحتْ بها جانبًا. لها طريقتُها الخاصة حينما تود أن تبدو مستخفّةً بشيء ما؛ ترفع نصف شفتها العليا، ترفعها بأقصى ما في وسعها، ثم تحكي ما في رأسها. على نحو مستخفٍّ للغاية، تقول للنادلة: هاتي لي نفس ما سيطلب.‘"
"لكنها ذهبت للمدرسة حتى بلغت الرابعة عشرة، فكيف حدث ألا تقرأ؟"
"يبدو أن المقدرة على القراءة تلاشت مع الطفولة حينما بدأت في التعلّم. سألتُها كيف حدث هذا، لكن كل ما أجابتني به كان ضحكة. ‘بسهولة’، قالت فونيا. الليبراليون المتحررون الطيبون في أثينا حاولوا تشجيعها على دخول برنامج محو الأمية، لكن فونيا لم تفعل. ‘وأنتَ ألن تحاول أن تعلمني. اِفعلْ معي ما تشاء. أيّ شيء،’ أخبرتني بذلك تلك الليلة، ‘لكنْ لا تفعل هذا الهراء. رديءٌ للغاية أن تضطر إلى سماع الناس يتحدثون. اِبدأْ في تعليمي القراءة، اِجبرْني على ذلك، اِدفعْ بالقراءة داخلي، وستكون أنت مَن دفعني نحو الجنون.’ طوال طريق العودة من فيرمونت، كنتُ صامتًا، وهي كذلك. ليس قبل وصولنا إلى البيت حدث أن نطق أحدنا بكلمة للآخر. ‘لستَ قادرًا على مضاجعة امرأة لا تعرف القراءة،’ قالت فونيا، ‘سوف تتركني لأنني لستُ سيدةً محترمة تعرف القراءة. سوف تقول لي: ‘تعلّمي القراءةَ أو اذهبي.’ ‘لا،’ أخبرتُها، ‘سوف أضاجعك بعنف أكثر لأنك لا تقرئين.’ ‘حسنًا’، قالت، ‘كلانا يفهم الآخر. لا أمارسُ الجنس كما تفعل أولئك الفتيات المتعلمات ولا أريد أن يُمارَسَ معي الجنسُ كما يُمارَس معهن.’ ‘سوف أضاجعك، لأنكِ كما أنتِ.’ قلتُ. ‘تلك هي بطاقة تعريفي،’ قالت. واستغرقنا في الضحك وقتها. لفونيا ضحكةُ ساقيةِ بار تحفظ مضرب البيسبول جوار قدمها احترازًا من المشاكل، وبذا كانت تضحك تلك الضحكة التي تخصها، الضحكة المتكسرة، كنت أراها تضحك بكل جسدها- أتعرف، لها ضحكة سهلة خشنة كما لامرأة لها ماض- وكانت أثناء ذلك تفك أزرار بنطالي. لكنها كانت محقّة فيما يخص قراري أن أهجرها. طوال طريق العودة من فيرمونت كنت أفكر تحديدًا فيما قالت هي إنني أفكر فيه. لكنني لن أفعل. لن أفرض عليها فضيلتي الرائعة. ولا على نفسي. انتهى الأمر. أعرف أن هذه الأمور لا تأتي من دون ثمن. أعرف أن لا تأمين تقدر على شرائه مقابل ذلك. أعرف أن الشيء الذي يجددك بوسعه أن ينقلب عليك فيقتلك. أعلم أن كل خطأ يفعله الرجل دائمًا ما يكون وراءه مُفعِّلٌ جنسيّ. لكن حدث أنني الآن لم أعد أعبأ. أصحو في الصباح، وثمة فوطة على الأرض، ثمة زيت أطفال على الطاولة الجانبية. كيف أتت هذه الأشياء هناك؟ ثم أتذكر. تلك الأشياء هناك لأنني أعيش من جديد. لأني عائد للإعصار. لأن الحال يكون هكذا مع الوجود الحقيقي. لن أهجرها يا ناثان. لقد بدأت أناديها فولوبتس."
بسبب الجراحة التي أجريتها منذ عدة سنوات لاستئصال البروستاتا- جراحة سرطان، تلك التي برغم نجاحها، إلا أنها لم تمرّ دون أعراض جانبية لا يُمكن تفاديها في مثل تلك العمليات مثل تلف العصب وندوب الجراحة- أصبتُ بعجز في التحكم بوظائف القضيب، ولذلك، كان أول ما فعلته بعدما عدت البيت بعد حديثي مع كولمن هو التخلّص من حاشية القطن الماصّ التي أرتديها ليلاً ونهارًا، بعدما انزلقتْ داخل تجويف سروالي الداخلي في الطيّة بين فخذيّ حيث يرقد الكلب الساخن ملفوفًا. بسبب حرارة ذلك المساء، ولأنني لم أكن سأخرج إلى مكان عام أو تجمّع اجتماعي، فقد اكتفيتُ بسروال القطن الداخلي العادي بدلاً من البلاستيكي العازل، وكانت النتيجة أن تسرّب البولُ إلى بنطالي الكاكي. اكتشفتُ بعد عودتي البيت أن لون البنطال قد تغيّر من الأمام وأن شيئًا من الرائحة قد فاح- الشرائح القطنية تلك مُعالَجةٌ كيميائيًّا لامتصاص الروائح، ولكن في مثل ذلك الظرف، ينتج بعض الرائحة. كنتُ مشغولاً جدًّا بحكاية كولمن فأغفلتُ مراقبة نفسي. طوال الفترة التي قضيتها هناك، أحتسي البيرة، أرقص معه، أشهدُ ذلك الصفاء- العقلانية الحدسية والدقة والوضوح التصويري- الذي عمل كولمن على أن يتوسّلها في الحكي لكي يجعل الأمرَ أقلَّ إزعاجًا بالنسبة لي، ولذلك لم أنهض لأفحص نفسي كما اعتدت أن أفعل أثناء ساعات عملي، ومن ثم حدث تلك الليلة ما يحدث لي بين الوقت والآخر.
كلا، مثل تلك الحوادث المخجلة لم تكن تباغتني كثيرًا مثلما كان يحدث في الشهور التالية للجراحة، حينما كنتُ أحاول ترويض نفسي على التعامل مع المشكلة- وحينما، بالطبع، كنت أُمرِّن نفسي على أن أعيش بحريّة ويسر، أن أكون شخصًا بالغًا جافًّا بلا رائحة كما ينبغي لشخص بالغ يستطيع أن يسيطر على وظائف جسمه الأولية، شخصًا عاش بضعة وستين عامًا يمارس حياته اليومية وهو غير مشغول بحال ملابسه الداخلية. على أنني كنت أشعر بغُصّة حزن وقلق لأن علىَّ أن أتعايش مع مشكلة هي الأكثر إزعاجًا وفوضويةً وغير اعتيادية من بين المشاكل، تلك المشكلة التي أصبحت الآن جزءًا من حياتي، ومازلتُ يائسًا من أن تلك الحالة الوقتية التي يمرُّ بها الأطفال لفترة من حياتهم سوف تنتهي بالنسبة لي.
تركتني الجراحةُ عِنّينًا أيضًا. النظام الدوائي الذي كان جديدًا تمامًا مع صيف 1998، والذي كان للتو قد طُرح بالأسواق، أثبت أنه إكسيرٌ معجزة، يستعيد الوظائف الجنسية لأولئك الأصحاء المسنين مثل كولمن، على إنه كان بلا فائدة لحالتي بسبب التدمير التام الحادث للعصب جرّاء العملية الجراحية. لحالة مثل حالتي لا تقدر الفياجرا على فعل شيء، رغم ثبوت كفاءتها لدى الآخرين، إلا أنني لم أفكر قط في تعاطيها.
أودّ أن أوضح أن انعزالي عن العالم لم يكن بسبب العجز الجنسيّ. على العكس. فقد كنت قد أمضيتُ بالفعل نحوًا من ثمانية عشر شهرًا في العزلة والكتابة هنا بكوخي ذي الغرفتين في بيركشاير حينما، بعد الفحص الطبيّ الدوري الروتيني، وصلني تشخيصٌ مبدئيٌّ يفيد إصابتي بسرطان المثانة. وبعدها بشهر، بعد إجراء اختبارات المتابعة، ذهبتُ إلى بوسطن لعيادة أخصائي البروستاتا. ما أريد قوله هو إنني مع انتقالي إلى هنا كنتُ بالفعل قد غيّرتُ بتمهّل علاقتي مع السُّعار الجنسيّ، وليس بسبب التحذير الطبيّ أو، نتيجةَ مرضي، وقتَ بدأ انتصابي يضعف بحدّة مع الوقت، بل لأنني لم أعد قادرًا على تحمّل تكاليف صخب تلك الأمور، لم أعد قادرًا على تدبير أمور مثل الدهاء، القوة، الصبر، الخداع، السخرية، الوجد، الغيرة، الأنانية، المرونة- أو الخشونة، أو الشراسة، أو الزيف، المراءاة، الازدواجية، الاحتراف الإيروتيكي- لكي أتعامل مع منظومة ضلالات تلك الأمور ومعانيها المتناقضة. كنتيجة لذلك، كنتُ قادرًا على أن أخفف قليلاً من وطأة صدمة ما بعد الجراحة من حيث احتمالية الإصابة بالعجز الجنسي الدائم بأن أتذكر أن كل ما فعلته الجراحةُ هو أن جعلتني أثبِّتَ حالَ الهجران التي كنت قد وهبت نفسي لها طواعيةً. لم تفعل الجراحةُ أكثر من أن أكّدت قرارًا كنتُ قد اتخذته بنفسي عن اقتناع من قبل، والآن تحت وطأة مرض بطول العمر. ولكن في وقت القوة الجنسية الكاملة الفتيّة وغير المريحة، حينما يجعلك الهوس الجنسي الذكوري الجسور تعيدُ الفعلَ- ثم تعيدُ الإعادةَ ثم تعيدها- لا يوقفه شيء حتى المشاكل النفسية.
حينما أخبرني كولمن عن نفسه وعن فولوبتس(ـه)، تبخرت كلُّ الأوهام المريحة حول الهدوء والسكينة المتحققة بانعزالي عن الناس، وبدأتُ أفقدُ اتزاني تمامًا. في الصباح كنت أرقد في السرير متيقظًا، فاقدَ القوة مثل مخبول يحاول السيطرة على تفكيره، مـأخوذًا بالأسى حينما أقارن بين هذين العاشقين وبين حالتي الفاقدة القوى. أرقد يقظًا لا أحاول حتى منع نفسي ذهنيًّا من استعادة الرعونة الهوجاء التي يرفض كولمن أن يتخلى عنها. وكانت رقصتي مثل مخصيّ مسكين مع ذلك الشريك الفتيّ المحافظ على حيويته تضربني الآن بسيل من جَلد الذات.
كيف يقول المرءُ: "لا، ليس هذا جزءًا من الحياة،" بينما هو دائمًا جزءٌ من الحياة؟
المادة الملوثة في الجنس، العفن المنعتق الذي يضادّ مثاليةَ النوع البشري ويضمنُ لنا أن نبقى أبدًا واعين بطبيعة كينونتنا.
في منتصف الأسبوع التالي، تسلّم كولمن خطابًا غُفلاً من التوقيع، عرضُه بطول جملة واحدة، رأس الموضوع، والموضوع، مكتوبان بخط يد ثقيل في ورقة طباعة بيضاء كبيرة، الرسالة ذات الاثنتي عشرة كلمة، الحاملة اتهامًا، كانت تملأ الورقة من أعلاها إلى أسفلها:
كل الناس يعلمون
أنكَ تستغلّ جنسيًّا
امرأةً
جاهلةً
في نصف
عمرك.
الكتابة على المظروف والرسالة كانت بحبر بول-بوينت الأحمر. وبالرغم من طابع بريد نيويورك على المظروف، تعرّف كولمن رأسًا على الخط بأنه لشابة فرنسية كانت رئيسة القسم حينما عاد للتدريس بعدما ترك العمادة، كما كانت فيما بعد من بين أولئك المتحمسين لاتهامه بالعنصرية وتوبيخه لإهانة الطالبين الأسودين المتغيبين.
في ملفاته الخاصة بـSpooks، ضمن المستندات العديدة التي تولّدت أثناء قضيته، وجد كولمن نماذجَ لخط يد أكدت مطابقته لخط دلفين روكس، بروفيسور اللغة والآداب، ما يؤكد أنها كاتبةُ الخطاب المجهول. باستثناء طباعتها الكلمتين الأوليين في المخطوطة بدلاً من كتابتهما بخط اليد، فإنها لم تبذل أي جهد من أجل تضليل كولمن عن خطها. ربما بدأت بتلك النية ثم سرعان ما تخلّت عنها أو نسيتها بعد كتابة "كل الناس يعلمون". على المظروف، لم تتعب الأستاذة فرنسيةُ الميلاد نفسَها بأن تتجنب كتابة أرقام (7) في عنوان كولمن والرمز البريدي على الطريقة الأوروبية. هذا الإهمال وعدم الاكتراث الشاذ بإخفاء إشارات تدل على هوية المُرسل الظاهر في خطاب مجهول المصدر، ربما يفسره أن المرسلة كانت في حالة عصبية حادة لم تسمح لها بالتفكير فيما تفعل قبل أن ترسل خطابها، فيما عدا عدم وضع طابع بريد محليّ- وبتعجل- لكنه بدا بخَتمه بريديًّا كأنما قد انتقل من مسافة تزيد عن مئة وأربعين ميلاً جنوبًا قبل إرساله بالبريد. ربما تصورتْ المرسلةُ أن لا شيءَ مميزًا أو مختلفًا بدا في خطها بما يكفي ليتعرف عليه كولمن أو يتذكره منذ أيام فترة عمادته؛ ربما أخفقتْ في تذكر الوثائق المتعلقة بقضيته، ملاحظاتها حول لقاءين أجرتْهما مع الطالبة تريسي كمينجز تلك التي مررتها ضمن اجتماعات لجنة تحقيقات الجامعة مع التقرير النهائي الذي يحمل توقيعها. ربما لم تتبين أن اللجنة، بناءً على طلب كولمن، كانت قد أمدّته بصورة ضوئية من أصول ملاحظاتها ضمن كافة البيانات المتعلقة بالتهمة المشرعة ضده. أو ربما لم تعبأ بأن يكتشف كولمن مَن ذاك الذي كشف سرَّه: ربما أرادت أنْ تسخر منه بهذا التلويح بالتهمة ذي الأسلوب الخشن مجهول المصدر، وكذلك، في نفس الوقت، أنْ تكشف له أن التهمة معلومةٌ للجميع حتى أن الاتهام جاء من قِبَل شخص ما حتى الآن مازال بعيدًا عن السلطة القضائية.
في ذلك المساء الذي هاتفني فيه كولمن ليسألني الحضور لرؤية الخطاب المجهول، كانت جميع نماذج دلفين روكس بخط يدها ضمن ملف Spooks ملقاةً على طاولة المطبخ، الأصولُ وصورُ الأصول، سواء تلك التي طالعها سريعًا أو هذه التي رسم بالقلم الأحمر دوائرَ حول كل ضربة قلم رأى أنها مطابقةٌ لخط يد الخطاب المجهول. الأجزاء المُعلَّم عليها كانت هي في ذاتها الخطابَ مُفصّلاً- الحروف a، y، s، x، وهنا كلمة تنتهي بحرف e مع حرف a بمنحنى واسع، وهنا e تبدو إلى حد ما كأنها i حينما ترتفع لأعلى وتجاور d لكنها تبدو مثل e حينما تسبق r- وبرغم أن التشابهات في الكتابة بين الخطاب ومستندات Spooks كانت واضحة، إلا أنها لم تكن كذلك حتى أراني أين يقع اسمه كاملاً على المظروف وأين ظهر في ملاحظات لقائها الصحفي مع "تريسي كمنجز"، وهو ما أكد لي بما لا يدع مجالاً للجدل أن كولمن قد ظفر بالمجرمة التي كانت تسعى بالظفر به.
كل الناس يعلمون
أنكَ تستغلّ جنسيًّا
امرأةً
جاهلةً
في نصف
عمرك.
بينما كنتُ أمسكُ بالخطاب في يدي بكل الحرص الممكن- كما أرادني كولمن أن أفعل- رحتُ افحصُ اختيار الكلمات وتشطيرها على السطور كأنما قد تم نظمُها ليس بيد دلفين روكس بل بيد إيميلي ديكنسون، فسّر لي كولمن أن فونيا وليس هو، بسبب حكمتها المتوحشة تلك، كانت قد أقسمت على التكتم على سرّهما، وقالت إن دلفين روكس لابد اكتشفت العلاقةَ بطريقة أو بأخرى والآن تهدد بفضح الأمر. قالت لي: "لا أريد أن يتدخل أحدٌ في شئوني. كل ما أريده هو صخبٌ غير ضاغط مرة في الأسبوع، خلسةُ المختلس، مع رجل مرّ بكل ما مرّ به وخرج هادئًا لطيفًا. ثم إن هذا ليس من شأن أي مخلوق آخر بحق الشيطان."
هذا الـ"أي مخلوق" الذي تُلمح له فونيا تبيّن أنه على الأرجح كان لستر فيرلي، زوجها السابق. ليس لأنها دُفعت للتسكع في الحياة على يد هذا الرجل وحده- "كيف كان يمكنني أن أحيا، وقد خرجتُ للعراء بمفردي هناك وأنا بعد في الرابعة عشرة؟" حينما بلغتْ السابعة عشرة، على سبيل المثال، ونزلت إلى فلوريدا لتعمل نادلةً، كان صديقُها آنذاك لا يضربها ويلوث شقتها وحسب، بل حدث أن سرق جهاز التدليك الكهربائي خاصتها. "هذا موجعٌ"، قالت فونيا. ودائمًا، كان الدافع هو الغيرة. كانت تنظر إلى هذا الرجل بطريقة غير لائقة، أو جعلت ذلك الرجل ينظر إليها بطريقة غير لائقة، إذا لم تستطع أن تفسر على نحو مقنع أين كانت في النصف ساعة الماضية، أو إذا نطقت الكلمة الخطأ، أو إذا استخدمت طبقة الصوت الخطأ، أو الإشارة الخطأ، فإنها فتاة ساقطة لا تستحق الثقة- أيًّا ما كان السبب، وأيًّا مَن كان الرجل، فإنه دائمًا ما يلكم بقبضتيه ويركل بحذائه وتصرخ فونيا وهي تكاد تفقد حياتها.
أرسلها لِستر فيرلي مرتين إلى المستشفى في العام السابق لطلاقهما. ولأنه كان لا يزال يقطن في مكان ما بالتلال، ومنذ إفلاسه وهو يعمل ضمن طاقم عمال الطريق بالمدينة، وبما أنه لا شك مازال مجنونًا، فقد كانت خائفة منه على كولمن مثلما كانت خائفة على نفسها، حسب قولها، لو حدث واكتشف ما بينهما. كانت تشك في أن السبب الذي جعل سموكي يُلقى بها مع النفايات بكلّ احتقار هو مشجارة ما أو مشاحنة مع لِستر فيرلي- لأن لستر، الذي كان يقتفي أثر زوجته السابقة بانتظام، كان قد اكتشف بطريقة أو بأخرى ما بينها وبين رئيسها، حتى بالرغم من أن أماكن اللقاءات الغرامية الخاصة بسموكي هولينبيك كانت خفيةً بشكل هائل، مختبئة بعيدًا في أركان قصية من بنايات عتيقة حيث لا أحد في العالم باستثناء الرئيس يعلم بوجودها أو قادر على الوصول إليها. من الطيش البيّن كما هو واضح أن يوظّف سموكي عشيقاته ضمن فريق حراسته الخاصة ثم يواعدهن في حرم الجامعة، ومن ناحية أخرى كان دقيقًا جدًّا في إدارته حياته الرياضية أثناء عمله بالجامعة. بنفس سرعته الاحترافية في إزالة آثار العواصف الثلجية من طرق الجامعة في غضون ساعات، كان بوسعه بسرعة أن يحرر نفسه من إحدى فتياته إذا ما احتاج الأمر.
"إذن ما الذي أفعله؟" يسألني كولمن. "لم أكن ضد إخفاء هذا الأمر حتى قبل أن أسمع عن الزوج السابق الشرس. كنت أعلم أن شيئًا مثل ذلك سوف يحدث. دعك من أنني كنتُ العميد في يوم من الأيام بينما هي الآن تنظف الحمامات. أنا في الواحدة والسبعين وهي في الرابعة والثلاثين. كان بوسعي الاعتماد على ذلك وحده لكي أخفي العلاقة، كنت واثقًا، ولذلك، حينما أخبرتني أن هذا الأمر لا يخص أحدًا، قدّرتُ أنها بهذا تُخرج الموضوع من يدي. ليس عليّ حتى أن أطرح الموضوع للمناقشة. ألعبها كلعبة زنا؟ هذا مناسب بالنسبة لي. لهذا السبب خرجنا للعشاء معًا في فيرمونت. لهذا السبب كنّا إذا ما تقاطعت سبُلنا في مكتب البريد لا نجد حتى غضاضة في أن نقول هاللو."
"ربما رآكما أحدٌ في فيرمونت. ربما رآكما شخصٌ ما وأنتما معًا في سيارتك."
"صح- محتمل أن هذا ما حدث. لابد أن هذا هو كل ما حدث. ربما رآنا فيرلي نفسه. يا إلهي، يا ناثان، لم أتواعد مع امرأة تقريبًا منذ خمسين عامًا- أظن أنه المطعم... أنا رجل أبله."
"لا، لم تكن بلاهةً. كلا، كلا- أنت فقط كنت تخاف الأماكن المغلقة . انظرْ،" قلتُ له، "- لن أزعم أنني أفهم لماذا تهتم دلفين روكس هكذا إلى حد الهوس بمَن تضاجع في مرحلة تقاعدك، لكن بما أننا نعلم أن الناس عادة لا يكونون طيبين مع الشخص الذي أخفق أن يكون تقليديًّا، دعنا نفترض أنها من أولئك الناس. لكنكَ لست هكذا. أنت حرٌّ. رجلٌ حرٌّ ومستقلٌّ. رجلٌ عجوز حرٌّ ومستقل. خسرتَ الكثير بخروجك من ذلك المكان، ولكن ماذا عما ربحت؟ مهمّةُ تنوير الناس لم تعد وظيفتك- لقد قلتَ الكثير والكثير أنت نفسك. وليس هذا اختبارًا لما إذا كنت تقدر أو لا تقدر أن تخلّص نفسك من كل ألوان الكبح الاجتماعي. ربما أنت متقاعدٌ الآن لكنك الرجلُ الذي قاد فعليًّا كاملَ الحياة داخل أسوار ذلك المجتمع الأكاديمي المغلق- إذا كنتُ قد قرأتُكَ على النحو الصحيح، فهذا هو الشيء الأكثر غرابة في حكايتك. من المحتمل أنك لم تُرد أبدًا أن تجعل قصة فونيا تحدث. ربما تعتقد أيضًا أنه ما كان عليك أبدًا أن تتمنى حدوثها. لكن أعتى أنواع الدفوع الهائلة ترتبك وتتشوش بالضعف، وهكذا انزلقتَ إلى درك كان هو آخر ما تتوقعه في العالم. في الواحدة والسبعين، هناك فونيا؛ في 1998، هناك فياجرا؛ هناك مجددًا الشيءُ الذي كان في طيّ النسيان. الراحة الهائلة. القوة الخشنة. الطاقة المنحرفة. فجأة وعلى غير توقع حدثت سقطةُ كولمن سيلك الكبرى والأخيرة في مستنقع الملذات. لأن كل ما نعرفه، هو سقطةُ اللحظة الأخيرة الكبرى. لذلك تتناقض تفاصيل سيرة فونيا فيرلي الذاتية مع تفاصيل سيرتك أنت. لذلك لا يرى الناسُ أن وجود امرأة مثلها في الفراش مع رجل في عمرك ومكانتك متوافقٌ مع لائحة الأخلاق واللياقة، هذا إن كان لابد من وجود امرأة في فراشك. هل ما نتج عن تلفّظك بكلمة ‘Spooks’ يتوافقُ مع لائحة الأخلاق واللياقة؟ هل جلطة آيريس تتوافقُ مع لائحة الأخلاق واللياقة؟ تجاهلْ هذا الخطاب الغبي التافه يا كولمن. لماذا تجعله يردعك؟"
"الخطابُ المجهول الغبي التافه،" قال كولمن. "مَن ذا الذي أرسل لي يومًا خطابًا مجهولاً؟ هل من عاقل يرسل لأحد خطابًا مُجهّلاً؟"
"ربما هو طقسٌ فرنسيّ،" قلتُ له. "ألم يكن هناك الكثير من ذلك في بلزاك؟ في ستاندال؟ ألم تكن هناك خطاباتٌ مجهولة في ‘الأحمر والأسود’ ؟"
"لا أتذكر."
"انظرْ، لسبب ما فإن كل شيء تفعله لابد يحمل قسوةً في تفسيره، وكل شيء تفعله دلفين روكس لابد يحمل فضيلةً في تفسيره. أليست الأساطير ملأى بالعمالقة والوحوش والأفاعي؟ لو قمنا بتعريفك أنتَ كوحش، فإن دلفين تُعرّف نفسها كبطلة. وما تفعله دلفين بك هو أنها تحاول ذبح الوحش. ما تفعله دلفين هو انتقامها منك لافتراسك الضِّعاف. لقد أعطتْ كلَّ الأمر سِمةً أسطورية."
من خلال الابتسامة المتسامحة التي غمرني بها، أدركتُ أنني لم أُحرز تقدمًا كبيرًا في مناورتي، بل قدمتُ تفسيرًا ملحميًّا ما-قبل-هومريًّا مضحكًا للتهمة المجهولة المصدر. "ليس بوسعك أن تجد في عالم الأسطورة،" أخبرني كولمن، "تفسيرًا لأدائها الذهني. فهي لا تمتلك مُدْخلات الخيال التي تؤهلها لأسطرة فِعلتها. إنما حقلُ تخصصها هو القصص التي يحكيها القرويون ليخففوا من وطأة بؤسهم. العينُ الحسود. سبيكةُ اللعنات. أنا في نظرها سبكتُ لعنةً فوق فونيا. ومجال تخصص دلفين روكس هو الفلكلور الشعبي المليء بالسحرة والمشعوذين."
كنا نستمتع الآن، واكتشفتُ أنني أثناء محاولاتي إلهاءه عن فورة غضبه عن طريق مجادلته حول سيادة مباهجه وأسبقيتها، كنت أعزّز من قيمة أرصدة مشاعره تجاهي- وأكشف عن مشاعري تجاهه. كنتُ متدفقًا وكنت أدرك ذلك. كنتُ مندهشًا من تلهفي على إسعاده، أشعر أنني أتكلم كثيرًا، أفسر كثيرًا، أنني متورطٌ أكثر مما يجب ومُثارٌ مثل طفل وجد توأمه الروحي متجسدًا في طفل في الشارع فوجد نفسه منجذبًا إليه بقوة التودد فتصرف كما لا يتصرف عادةً وبانفتاح أكثر مما كان حتى يود أن يفعل. ولكن منذ طرْقِه بابي في اليوم التالي لموت آيريس وعرضِه بأن أكتب له Spooks، كنتُ قد سقطتُ، دون تقدير أو تخطيط لذلك، في صداقة جادة مع كولمن سيلك. لم أُنصِت لورطته باعتبارها مجرد تمرين ذهني. مشكلته أصبحت تعني لي الكثير، حدث هذا بالرغم من تصميمي الحاسم على توفير طاقاتي، طوال الوقت الذي يتبقى لديّ، وعلى عدم الاهتمام بأي شيء فيما عدا مطالب العمل اليومية، كيلا يستحوذَ على عقلي إلا العملُ الخالص، دون البحث عن مغامرة في مكان ما- لدرجة ألا تكون لي حياةٌ خاصة أنشغل بها، ناهيك عن أن تكون حياةُ شخص آخر.
وأدركتُ كل ذلك بشيء من خيبة الأمل. هجرانُ المجتمع، الامتناعُ عن اللهو، العزلةُ المفروضة ذاتيًّا على النفس والحرمانُ من كل الشوق الاحترافي والضلالات الاجتماعية والسموم الثقافية والإغواء الجنسي، الانعزالُ الصارم عن العالم مثل ذاك الذي يمارسه النُّسّاك الدينيون الذين يسجنون أنفسهم في كهوف أو زنازين أو أكواخ في غابات منعزلة، كل تلك العزلة كانت مُصانةً بعناد لم أعهده في نفسي. كنت قد بقيتُ وحيدًا لسنوات خمس- خمس سنوات من القراءة والكتابة على بعد أميال قليلة أعلى جبل مداماساكا في كوخ لطيف بغرفتين يقع بين بِركة خلف مسكني وبين، عبر أشجار خفيضة على طول طريق ترابي، مستنقع على مساحة عشرة فدادين تتخذها إوزات كندا المهاجرة مأوًى لها كل مساء ويتخذها مالكُ الحزين الأزرق الصبور مكانًا للصيد المنزوي طوال الصيف. سرُّ المعيشة وسط زحام العالم بأقل قدر ممكن من الألم هو الحفاظُ على أكبر قدر ممكن من الناس لكي تظل مرتبطًا بضلالاتك؛ حيلة العيش وحيدًا هنا، بعيدًا عن جميع الورطات المقلقة، المغريات، التوقّعات، وبعيدًا بالخصوص عن قوتك الخاصة، هي تنظيمُ السكون، أن تفكر في وفرته الغزيرة باعتباره رأس مال، التفكير في السكون باعتباره ثروةً تتضاعف بجنون. التفكير في السكون المحيط بك باعتباره موردًا اختياريًّا للمصالح وصديقك الحميمَ الأوحد. الحيلةُ هي أن تجد العون في (حسب تعريف هوثورن مجددًا) "تواصُل العقل المنعزل مع نفسه." السرُّ هو أن تجد العون في بشر مثل هوثورن، في حكمة الميت المتألق.
استغرق الأمرُ وقتًا لمواجهة الصعوبات التي نتجت عن هذا الاختيار، وقتًا وصبرًا مثل صبر مالك الحزين لكي يُخمد اشتياقَه لكل شيء قد تلاشى، ولكن بعد سنوات خمس كنت قد غدوت ماهرًا للغاية في صوغ أيامي جراحيًّا على النحو الذي لم تعد فيه ساعةٌ واحدة من ذاك الوجود الخامل مما كنت أعتنق فيما مضى من الأشياء التي لا تحمل أهميتَها بالنسبة لي. ضرورتَها. إثارتَها حتى. لم أعد أنغمس في الملذات والرغبات المفسدة في أي شيء آخر، وآخر شيء كنتُ أظن أنني قادر على تحمله من جديد هو الإبقاء على رفقة شخص آخر. الموسيقى التي أعزفها بعد العشاء ليست تخفيفًا لوطأة السكون بل هي شيءٌ من تجسيده: الإنصات للموسيقى لساعة أو اثنتين كل مساء لا يحرمني من السكون- الموسيقى هي السكونُ متجسدًا. أسبح ثلاثين دقيقة في بُحيرتي كأول شيء أفعله كلَّ صباح صيفيّ، وفي بقية العام، بعد كتابتي الصباحية- وطالما الجليد لا يجعل التنزه مستحيلاً- أخرج على حدود الجبل ساعتين تقريبًا كل أصيل. لم تكن هناك انتكاسات للسرطان تكلفني مثانتي. في الخامسة والستين، ممشوقٌ، جيد البنية، أعمل بكد- وأعرف الهدف. لابد أن أعرفه.
إذن لماذا، بعدما حولتُ تجربةَ العزلة المتطرفة إلى وجود انفراديّ غنيٍّ حاشد- لماذا، دون سابق إنذار، يجب عليّ أن أكون وحيدًا؟ وحيدًا ممّ؟ ما راح قد راح. ليس من راحة في يباس الموات، ليس من خراب في نكران الذات. وحيد من أي شيء على وجه الدقّة؟ ببساطة: مما توسعتُ في بغضه. مما أشحتُ عنه بوجهي وأدرتُ له ظهري. من الحياة. من التورّط مع الحياة.
هكذا أصبح كولمن صديقي وهكذا خرجتُ من ولائي الصارم للعيش وحيدًا في منزلي المنعزل والتعامل مع ضربات السرطان. راقصني كولمن سيلك فأعادني فورًا للحياة. في جامعة أثينا أولاً، ثم معي- ها هو رجلٌ يجعل الأشياءَ تتحقق. بالفعل، الرقصةُ التي صاغت صداقتنا هي ذاتها التي جعلت كارثةَ كولمن موضوعي. وجعلت قناع اختبائه موضوعي. وجعلت الطريقة المُثلي لعرض سرّه هي مشكلتي التي عليّ حلُّها. هكذا كففتُ عن أن أكون قادرًا على العيش معزولاً عن صخب الحياة الذي كنتُ قد هربتُ منه. لم أفعل أكثر من أن وجدتُ صديقًا، فاندفعتْ نحوي كلُّ مكائد العالم.
فيما بعد في أصيل ذلك اليوم، أخذني كولمن للقاء فونيا في مزرعة الألبان الصغيرة التي تبعد عن بيته ستة أميال، حيث تسكن دون إيجار مقابل أعمال حلب الأبقار. أنشأ مشروعَ المزرعة، التي تبلغ عدة سنوات من العمر الآن، امرأتان مطلقتان من خريجات كلية علوم البيئة، جاءتا كلتاهما من أسرتين مزارعتين في نيوإنجلاند، تشاركتا في أسهم تمويل المزرعة- مثلما تشاركتا في تنشئة أطفالهما الصغار كذلك، أطفال ستة لم يعتمدوا، كما كانت المرأتان تحبان أن تخبرا زبائنهما، على شارع سمسم ليتعلموا من أين تأتي الألبان- من أجل أن تخوضا التجربةَ المستحيلة تقريبًا للتعيّش من بيع الألبان الخام. كانت عملية فريدة، ليست تشبه ما كان يجري في مزارع الألبان الضخمة، لا شيء فيها مجهولُ المصدر أو نتاج مصانع، مكان لا يبدو مثل مزرعة الألبان كما كان يعرفها معظم الناس في تلك الأيام. كانت المزرعةُ تُسمى مكان حيوانات داجنة عضويّة، تُنتج وتعبئ الحليب الخام الذي يتواجد في المتاجر العامة المحلية وبعض محال السوبر ماركت بالمقاطعة كما كان متوافرًا أيضًا في المزرعة، للزبائن الثابتين الذين يشترون ثلاثة جالونات أو أكثر كل أسبوع.
كانت هناك فقط إحدى عشرة بقرة، حلوبًا نقيةَ سلالة، لكل بقرة اسم قديم الطراز بدل أن تحمل رقمًا مكتوبًا على ورقة معلقة بأذنها لتميزها. ولأن ألبانها لم تكن مخلوطة بألبان القطعان الضخمة المحقونة بكل أنواع الكيماويات، وكونها غير مُعالجة بالبسترة ومتروكة على طبيعتها دون تجانس، فقد كان للحليب لونٌ خفيف، وبه حتى نكهة ضعيفة، تبعًا لما كانت تأكله الأبقار موسمًا بعد موسم من أطعمة- الأطعمةُ التي لا تدخلها المبيدات القاتلة للأعشاب الضارة، أو مبيدات الحشرات، أو الأسمدة الكيماوية- ولأن حليبها كان أغنى بالمواد الطبيعية من الحليب المخلوط، فقد أحبّه السكانُ المحيطون أولئك الذين يفضلون الأغذية الصحية عن الأطعمة المصنّعة. كان للمزرعة سمعةٌ طيبة بين أولئك الذين يهتمون بالطعام، المتقاعدين وأولئك الذين يُنشّئون عائلاتهم على الرعب من المُلوِّثات، وكل تداعيات البيئة في المدن الكبيرة. في الجريدة المحلية الأسبوعية، ثمة رسالةٌ للمحرر كانت تظهر بانتظام من قِبَل شخص ما اكتشف مؤخرًا أسلوبًا أفضل للحياة في تلك الدروب الريفية، وكان يشير باحترام إلى حليب المزرعة العضوية، ليس وحسب بوصفه مشروبًا لذيذ المذاق بل بوصفه تجسيدًا للطزاجة والحلاوة والنقاوة وتحقيقًا لمتطلبات الخلطة المثالية. كلماتٌ من قبيل "الجودة"، و"الحيوية" كانت تظهر دوريًّا في تلك الرسائل المنشورة، كأنما احتساء كوب من حليب المزرعة الحيوية هو طقسٌ دينيّ أكثر منه طقسًا غذائيًّا. "حينما نشرب حليب المزرعة العضوية، فإن أجسامنا، أرواحنا، أمزجتنا جميعها تتغذى. أعضاء كثيرة في أجسامنا تستقبل ذلك التكامل وتقدّره على نحو قد لا ندركه نحن." عبارات مثل تلك، عبارات تجعل الناضجين العقلاء، أولئك الذين فرّوا من إزعاجات نيويورك وهارتفورد وبوسطن، يجلسون في سرور لدقائق إلى المكتب كأنهم أطفال في السابعة.
وبالرغم من أن كولمن لم يكن يستهلك على الأرجح أكثر من نصف كوب من الحليب في اليوم يصبّه فوق حبوب الصباح، إلا أنه وقّع اتفاقًا مع مزرعة الحليب العضوي لتزويده بثلاثة جالونات كل أسبوع. سمح له هذا بأن يأخذ حليبه طازجًا رأسًا من بقرة المزرعة- يقود سيارته من الطريق الرئيسي إلى حيث مسار الجرارات ثم إلى حظيرة الماشية ثم يمشي داخل الحظيرة ليجلب الحليب باردًا من الثلاجة. رتّب هذا الأمر لا ليحصل على الخصم الممنوح لزبائن الجالونات الثلاثة، بل لأن الثلاجة كانت بالضبط عند مدخل الحظيرة وتبعد فقط خمسة عشر قدمًا عن الكشك الذي تُقاد إليه الأبقار لتُحلَب واحدة بعد أخرى، مرتين في اليوم، وحيث في الخامسة عصرًا (حينما يأتي) تكون فونيا هناك، بعدما تُنهي عملها في الجامعة، لتقوم بأعمال الحلب عدة مرات في الأسبوع.
كل ما كان يفعله هناك هو مراقبتُها وهي تعمل. وبالرغم من ندرة وجود أي شخص آخر في الأنحاء إلا أن كولمن كان يقف خارج الكشك ينظر للداخل ويتركها تتم مهمتها دون أن يزعجها بالحديث. كانا عادة لا يقولان شيئًا، لأن عدم الحديث يكثّف متعتهما. كانت تعلم أنه يراقبها؛ ولأنه يعلم أنها تعلم، فقد كان يشاهدها بعُسر- ولأنهما لا يستطيعان أن يتقاربا في التراب والقذارة فقد كانا يكتفيان بالنظر. كان يكفي أن يكونا وحدهما معًا في مكان ما خارج فراشه، كان يكفي أن يحافظا على حقيقة أن عقبات اجتماعية لا يمكن تجاوزها تفصل بينهما، لكي يلعبا دوريهما كعاملة مزرعة وبروفيسور جامعة متقاعد، ليؤديا تكاملهما كامرأة كادحة نحيلة في الرابعة والثلاثين، أميّة صموت، قروية بدائية لها عضلات وعظام كانت قبل قليل في الفناء تمسك مقشة تنظيف أو تحلب منذ الصباح، مع راشد مفكر في الواحدة والسبعين، بروفيسور أدب كلاسيكي فذّ، واسع العقل مفعم بمفردات لغتين قديمتين. كان كافيًا أن يتواصلا معا كشخصين لا يجمع بينهما شيءٌ مشترك، يتذكران طوال الوقت كيف أن بوسعهما استقطار ذروة الشهوة الجنسية عبر تناقضهما الإنساني وتباينهما الذي يُنتج القوةَ كلها. كان كافيًا أن يشعرا برعشة النشوة التي تجعل الحياة مضاعفةً.
منذ اللمحة الأولى، كان هناك القليل جدًا مما يثير الشهوات الحسيّة في امرأة نحيلة هزيلة ملطخة بالأوساخ، تلبس شورتًا وتي شيرت وحذاء مطاطيًّا، تلك التي رأيتها بالداخل بين قطيع الماشية ذلك الأصيل والتي عرّفها كولمن بوصفها فولوبتس(ـه). الكائنات ذات السطوة الجسدية التي كانت تهيمن على المشهد كانت تلك الأجسام التي تحتلّ الفضاء، الأبقار ذات اللون الأصفر الباهت بمؤخراتها المترجرجة وبطونها البرميلية وأثدائها المتهدلة المنتفخة بالحليب، تلك الأبقار المثيرة الهادئة بطيئة الحركة، كل منها يزن ألفًا وخمسمائة رطل، تلك الحيوانات واسعة العيون التي تُطعَم العلف لتمضغه بصوت عال بينما تُمتَصُّ ألبانُها حتى تجفّ ليس بفم واحد أو اثنين أو ثلاثة بل بأربعة أفواه ميكانيكية نابضة لا تتعب- تلك الكائنات التي نشاطها الجسدي المتزامن يكمن في تلك النهايتين. كل بقرة غارقة عميقًا في وجودها البهيمي بنشوة بعيدة عن العمق الروحي: أن تلتهم وأن تمضغ، أن تتغوّط وأن تبول، أن تُرعى وأن تنام- ذاك هو سبب وجودها في الحياة. بين الحين والحين (كما شرح لي كولمن) تقتحم ذراعٌ بشرية في قفاز بلاستيكي طويل قناةَ المستقيم داخل أحشاء البقرة لإفراغ السماد. وأثناء ذلك، عن طريق تحسس جدار المستقيم، توجّه الذراعُ الأخرى لإدخال محقن الإخصاب لكي يُدفع مَنْي الذكر. هكذا تتناسل دونما تحمّل عبء إزعاج الثور، مُدللةٌ حتى في الإخصاب، ثم تُساعَد أيضًا عند الوضع- وفيما قالته فونيا دليلٌ على وجود عملية عاطفية لكل شخص متورط في الأمر- حتى في الليالي حيث البرودة تحت درجة الصفر، حينما تهب عواصفُ الجليد. ثمة جو مفعم بالشهوانية، بما فيه الاستمتاع بالطعام في أوقات الفراغ الرخو، بأفواه ممتلئة مدلاة تقطر ما تجتره من هلام الطعام. بعض المحظيات من النساء يعشن هكذا، فضلاً عن نساء عاديات مبتذلات.
بين تلك الكائنات المبتهجة المدللة، والتوحد مع وفرة الإناث الضخمة وخصوبتها، كانت فونيا تعمل مثل بهيمة مثقلة بالأعباء حتى كانت تبدو، ومن حولها البقرات تؤطرن صورتها، مثل خيال شبحيّ في وزن الذبابة. تنادي على البقرات لتخرجن من السقيفة المفتوحة حيث كن يرقدن في استرخاء بين خليط القش والغائط- "هيا نذهب، يا ديزي، لا تجعلي وقتي عسيرًا. تعالي الآن يا ماجي، تلك بنتٌ طيبة. حركي مؤخرتك يا فلوسي، أيتها الكلبة العجوز"- تجذبهن من أطواقهن وتقودهن بتودد عبر وحل الفناء إلى درجة المصطبة الأعلى حيث الأرضية الإسمنتية في قاعة الحلب، تدفع تلك الضخمات الثقيلات الحركة ديزي وماجي وفلوسي نحو حوض الطعام، حتى ينتصبن بإحكام عند الدعامة، موزعات كلٌّ في مكانها لتأخذ حصتها في الفيتامين والطعام، ثم تعقَّم حلمات ضروعهن من الجراثيم وتُنظّفها جيدًا فيبدأ الحليبُ في الجريان بعد شيء من الرج باليد، بعدها توصل الحلماتِ المعقمات بأكواب الامتصاص الصغيرة عند نهايات خراطيم مجرى الحليب. كانت فونيا تتحرك بنظام وفق خطوات ثابتة في كل مرحلة من مراحل الحليب، في تناقض مبالغ فيه مع انقيادية البقرات العنيدات، تتحرك طوال الوقت مثل نحلة نشطة حتى يضخ الحليب من الأنابيب الشفافة داخل سطل الفولاذ اللامع، فتقف بعد ذلك بهدوء، تراقب المشهد لتتأكد أن كل شيء يسير على ما يرام، وأن البقرة أيضًا تقف بهدوء. ثم تبدأ الحركة من جديد، تدلّك الضرعَ لتتأكد من أن البقرة قد أفرغت كامل حليبها، تزيل أكوابَ الحلمات، تصبُّ حصّة الطعام للبقرة التالية التي سوف تحلبها بعد تحرير البقرة المحلوبة للتوّ من الركيزة، تُحضّر الحبوبَ للبقرة التالية وتضعها أمام الدعامة، وبعد ذلك، تسحب البقرة المحلوبة من طوق عنقها، ومن جديد تبدأ المناورة مع كتلتها الضخمة بالدفع من الخلف بكتفها وقدمها، تأمرها بحسم: "اخرجي، اخرجي من هنا، هيا اخرجي---" ثم تقودها لتعيدها عبر الطمي إلى حيث السقيفة الظليلة.
فونيا فيرلي: نحيلة الساقين، نحيلة الرُّسغين، نحيلة الذراعين، ضلوعها يمكن رؤيتها بسهولة وعظام الكتفين الناتئة، حينما تنتصب تغدو أطرافها صلبة، حينما تمد ذراعها أو تشد جذعها للوصول إلى شيء للعجب تجد نهديها ناهدين؛ وحينما، بسبب الذباب والبعوض الذي يطنُّ في أسراب في مثل يوم صيفي كهذا، حينما تصفع عنقها أو ظهرها، ترى كم تقدر أن تكون لعوبًا مرحة، بالرغم من نمطها المستقيم الحاد. ترى أن جسدها أكثر من أن يكون هزيلاً وصارمًا، فهي امرأة متينة القالب متوازنة القِدّ، في لحظة من عمرها ربما لم تعد مثمرةً لكنها بعد لم تأخذ في التداعي، امرأة في أوج نشاطها، امرأةٌ خصلةُ شعرها البيضاء مغريةٌ بسبب تضاريس خديّها وفكّيها اليانكي وعنقها الأنثوي الطويل الذي بعدُ لم يخضع لتحوّلات الزمن.
"هذا جاري،" أخبرها كولمن حينما توقفت فونيا لحظة لتمسح العرق على وجهها بثنية مرفقها وهي تنظر نحونا. "هذا ناثان."
لم أكن أتوقع رباطة جأش ورصانة. توقعتُ شخصيةً غضوبًا جهورًا. لم تحيني بأكثر من إيماءة بذقنها، لكنها الإيماءة التي كانت كأنما أتت بها من أميال بعيدة. ذقنها كانت كأنما أتت بها من أميال بعيدة. حافظت عليها عاليةً كما تفعل دائمًا، وصبغتها بالحزم. في ردّها أيضًا ثمة: شيءٌ ذكوري وعنيد، وأيضًا شيء غير مهذّب، في تلك النظرة الميتة. نظرة شخصٍ الجنسُ والخيانة بالنسبة إليه أساسيان مثل الخبز. نظرة هروب ونظرة ناتجة عن السخط الرتيب على سوء الحظ. شعرُها، الشعر الذهبي الأشقر في مراحل تبدُّله الأولى، كان معقوصًا على ظهرها في ربطة مطاطية، مع مشبك ليمنع تهدله فوق حاجبيها وهي تعمل، والآن، بينما تنظر نحونا في صمت، دفعته بيدها للوراء، ولأول مرة لمحت في وجهها سِمةً صغيرة، ربما أكون مخطئًا لأنني كنت أبحث عن علامة، ذات تأثير خاص: الامتلاء المحدّب للقوس الضيق بين خط الحاجب والجفن. كانت امرأة لها شفتان رفيعتان وأنف مستقيم وعينان زرقاوان صافيتان وأسنان جميلة وفك بارز، وذاك الانتفاخ تحت حاجبيها كان علامتها المميزة الوحيدة، شعار إغرائها الوحيد، كأنما كان شيئًا متورمًا بالرغبة. ولابد من الأخذ في الاعتبار ذلك الغموض المزعج في الفتور القاسي بتحديقتها.
إجمالاً لم تكن فونيا ذلك الكائن الأسطوري المغوي الذي يسحب روحك بعيدًا، بل امرأة تخطف البصر للحظة ويمكن أن يفكر فيها المرء. لابد أنها كانت جميلة جدًّا وهي طفلة. تلك التي كانت، وفق ما يقول كولمن، طفلة جميلة ذهبية لها زوج أم ثري لم يكن يتركها وشأنها وأم فاسدة لم تحمِها.
وقفنا هناك نراقبها وهي تحلب كل بقرة من الإحدى عشرة- ديزي، ماجي، لوسي، بيسي، دوللي، ميدين، سويتهارت، ستيوبيد، إيما، فريندلي، وجيل- وقفنا هناك بينما كانت تكرر الروتين نفسه الذي لا يتغير مع كل واحدة منهن، وحينما انتهت، دخلت الغرفة الكلسية البيضاء ذات الأحواض الضخمة وخراطيم المياه ووحدات التعقيم جوار قاعة الحلب، فشاهدناها عبر فتحة الباب تخلط المحلول السائل مع مواد التنظيف، بعد فصل خطوط كوابح التفريغ عن خط الأنابيب، وأكواب الحلمات عن الصمامات، ودلويْ الحليب عن أغطيتهما- بعد تفكيك كامل وحدة الحلب التي كانت قد أخذتها معها- جلست لتعمل بمجموعة من الفرشات مع صَبّة إثر صبّة من الماء النظيف لكي تجلو كل سطوح الأنابيب، والصمامات، والحشايا، والسدادات، والصفائح، والبطانات، والأكواب، والأقراص، والكبّاسات، حتى بدت كل قطعة دون أدنى أثر للوسخ معقمةً لامعة. قبل أن يأخذ كولمن حليبه ويعود إلى سيارته ليمضي، وقفنا هو وأنا جوار الثلاجة لما يقرب من الساعة ونصف الساعة، وعدا عن الكلمات التي نطقها ليقدمني إليها، لم يقل أحدٌ شيئًا أكثر. كل ما بوسعك أن تسمعه كان أصوات القرقعة الآتية من الحظيرة المفتوحة وراءنا، وزقزقة طيور السنونو التي تعشّش هناك بين العوارض الخشبية، وصوت الحبوب التي تسقط على الأرضية الأسمنتية فيما تفرّغ فونيا سطل الطعام، وصوت طقطقة جذوع الشجر المفروشة على أرضية قاعة الحلب بينما فونيا تدفع البقرات أو تجرّها أو توجّهها، لكي تنظّمها وتصفّها على الركائز، ثم ضوضاء المصّ، والصوت الناعم العميق لمضخات الحليب.
بعدما يُوارى كلاهما التراب بعد أربعة شهور من الآن، سوف أتذكر دورةَ الحلب تلك كما لو كانت عرضًا مسرحيًّا لعبتُ فيه دورًا عَرَضيًّا إضافيًّا، مثلما أنا الآن بالفعل. ليلةً بعد ليلة، لم أستطع النوم لأنني لم أقدر أن أوقف استيقاظي لأرى نفسي هناك على خشبة المسرح جوار البطلين الرئيسين مع جوقة كورال البقرات، أشاهد ذلك المشهد، الذي يُؤدَى بكامل طاقم التمثيل، المشهد الذي يتكون من رجل عجوز مُتيّم بالهوى يراقب عملَ امرأة قروية تنظف بيدها هي عشيقته السرية: مشهد العواطف والتنويم المغناطيسي والاستعباد الجنسي الموجود في كل ما تفعله تلك المرأة مع البقرات، الطريقة التي تعاملهن بها، تلمسهن بها، تخدمهن بها، تتحدث معهن بها، كانت تستلبه وتفتنه؛ مشهد فيه رجلٌ مأخوذ تمامًا بفعل رغبة ظلت طويلاً مطفأة ومكبوتة داخله إلى أن تحررت، أمام عينيَّ، شهدتُ انبعاث سلطانها المذهل. كان هذا شيئًا، كما أفترضُ، مثل مشاهدة أشينباك يراقب تادزيو على نحو محموم- حيث وصل توقه الجنسيُّ قد إلى ذروته بسبب حقيقة الفناء الموجعة- فيما عدا أننا لسنا في فندق فخم بمدينة فينيسيا ليدو ولا نحن شخصيات في رواية كتبت بالألمانية ولا حتى، في رواية كتبت بالإنجليزية: بل نحن في ذروة الصيف في حظيرة ماشية بشمال شرق البلاد، في أمريكا في العام نفسه الذي اتُهم فيه الرئيسُ بالخيانة الزوجية، وأيضًا لم نكن روائيين بأكثر مما كانت الحيواناتُ أسطوريةً أو مُحنّطة. نور النهار وحرارته (تلك نعمةٌ)، حياة البقرة الهادئة التي لا تتغير واقفةً حذاء البقرات الأخريات، الرجل العجوز المتيّم يفحص ليونة المرأة النشطة الكادحة، بينما الافتتانُ يتزايد داخله، نظرته لم تكن إلا هياجًا لم يحدث له من قبل، وأيضًا، انتظاري الراغب، افتتاني الخاص بتباين نمطيهما البشريين، بالتناقض بين ملابسهما، بالتضاد، بالتصاريف الشاذة التي تفعلها الشهوة الجنسية- وكذلك بالحال التي كنا عليها، البشر والأبقار، التمايز الهائل، بل اللا تمايز في حقيقة الأمر، أن تحيا، لا أن تتحمل الحياة، فقط أن تحيا، أن تستمر في الأخذ، والعطاء، والإطعام، والحلب، والاعتراف الصادق بالانهزام، بما أن اللغز هو اللغز، المعنى التافه للعيش- كل ذلك تم تسجيله كواقع بعشرات الآلاف من الانطباعات الدقيقة. الشبع الحسيّ، الوفرة، الغزارة- المفرطة- تفاصيل الحياة، التي هي قصيدة ملحمية. وكولمن وفونيا، اللذان هما الآن من الموتى، على نحو عميق في سيل اللامتوقع، يومًا بيوم، دقيقة بدقيقة، هما ذاتهما تفاصيلُ ذلك الإفراط الغزير.
لا شيء يبقى، ولكن لا شيء أيضًا يمرّ. ولا شيء يمرُّ؛ فقط لأن لا شيء يبقى.
المتاعبُ مع آل فيرلي بدأت فيما بعد في تلك الليلة، حينما سمع كولمن شيئًا يخبّط في الشجيرات خارج منزله، ظنّ أنه غزالٌ أو راكون، فنهض عن طاولة المطبخ حيث كان وفونيا للتوّ قد انتهيا من وجبة عشاء الإسباجتي، ثم عبَر باب المطبخ، وفي أمسية صيفية نصف مضاءة كهذه، التقطت عيناه ظلالَ رجل يجري عبر الحقل من الجزء الخلفي للبيت متجهًا نحو الغابة. "هيي! أنتَ! توقفْ!" هتف كولمن، لكن الرجل لا هو توقف ولا نظر خلفه، بل اختفي سريعًا وسط الأشجار. لم تكن هي المرة الأولى خلال الشهور الأخيرة التي يعتقد فيها كولمن أنه مراقَبٌ مَن قِبل شخص يختفي بحذر داخل البيت، لكن في المرات السابقة كان المساء متوغلاً والظلام أكثر كثافة فلم يحدد على وجه الدقة ما إذا كان ذلك الصوتُ ناتجًا عن حركة تلصّص إنسان أم حيوان. وفي المرات السابقة كان دائمًا وحيدًا. كانت هذه هي المرة الأولى لفونيا معه هناك، وكانت هي التي، دون الحاجة لرؤية ظلال الرجل وهي تقطع الحقل، تعرفت على المتلصص، إنه زوجها السابق.
فونيا أخبرتْ كولمن أن فيرلي، بعد الطلاق، كان يتجسس عليها طوال الوقت، ولكن في الشهور التالية لموت الطفلين، حينما كان يتهمها بقتلهما بإهمالها، أصبح هائجًا على نحو مخيف. مرتين وثب عليها من مكان خفي- مرّةً في موقف سيارات السوبرماركت، ومرةً أخرى حين كانت في محطة البنزين- ثم راح يصرخ من نافذة الشاحنة الصغيرة: "عاهرةٌ قاتلة! مومسٌ قاتلة! قتلتِ طفلَيّ، أيتها العاهرة المجرمة!" وثمة نهارات كثيرة، وهي في طريقها إلى الجامعة، كانت تنظر في مرآة سيارتها الأمامية فترى شاحنتَه الصغيرة خلفها، ثم في الزجاج الأمامي، ترى وجهه بشفتيه الشتّامتين: "أنتِ قتلتِ طفلَيّ." في بعض الأحيان كان يتبعها وهي في طريقها إلى البيت من الجامعة. كانت وقتها لا تزال تعيش في النصف غير المحترق من جراج الكوخ حيث اختنق الطفلان من دخان حريق السخان، وبسبب خوفها منه انتقلت من هناك للعيش في غرفة بحي سيرلي فولز ثم، بعد محاولة الانتحار الفاشلة، انتقلت إلى غرفة مزرعة الألبان، حيث كانت المالكتان وأطفالهما الصغار متواجدين تقريبًا طوال الوقت من حولها، فلم يكن الخطرُ كبيرًا من وجوده وتحرّشه اللفظيّ بها. بدأت شاحنة فيرلي تظهر في مرآة سيارتها بمعدلات أقلّ بعد الانتقال الثاني، وبعدها، حينما لم يعد له أثرٌ على مدى شهور، راودها الأملُ في أن يكون قد اختفى إلى الأبد. ولكن الآن، كانت فونيا متأكدة من ذلك، لقد اكتشف بشكل أو بآخر حكاية كولمن فاشتعل سخطه مجددًا من كل ما كان يغضبه منها دائمًا، عاد إلى تجسسه المجنون، يختبئ خارج منزل كولمن ليرى ماذا كانت تفعل هناك. ماذا كانا يفعلان معًا.
تلك الليلة، حينما ركبت فونيا سيارتها- التشيفي العتيقة التي كان كولمن يفضّل أن تصفّها، بعيدًا عن مرآه، داخل الحظيرة- قرر كولمن أن يسير بسيارته وراءها بمسافة صغيرة لستة أميال حتى غدت آمنةً في الطريق الترابيّ الذي يقودها إلى خلف حظيرة الأبقار إلى حيث بيت المزرعة. وبعد ذلك، خلال طريق عودته إلى بيته، كان ينظر للوراء ليرى ما إذا كان هناك مَن يتبعه. في البيت، مشى من سقيفة السيارة إلى المنزل يدحرج إطار السيارة بيده، يؤرجحها في كل اتجاه، آملاً بهذا أن يُبقى مسافة بينه وبين أي شخص يختبئ في الظلام.
مع النهار التالي، بعد ثماني ساعات في الفراش بين الجدل مع مخاوفه، قرر كولمن عدم تقديم شكوى لشرطة الولاية. لأن هُوية فيرلي لا يمكن أن تكون معروفة على نحو إيجابيّ، ولن يكون بوسع البوليس أن يفعل معه أي شيء على كل حال، وربما تسرّبت معلومة أن كولمن قد اتصل بالشرطة، اتصالُه سوف لا يخدم إلا تعزيز النميمة التي كانت تدور الآن بالفعل حول العميد السابق وحارسة كلية أثينا. غير أنه، بعد قضاء ليلة من دون نوم، كان قد اتخذ قراره الحاسم بألا يفعل أي شيء حيال الأمر برمّته: بعد الإفطار، اتصل بمحاميه، نيلسون بريماس، وذهب إلى أثينا ذلك الأصيل ليتشاور معه في أمر الخطاب المجهول، وهناك، قفز فوق اقتراحات بريماس بأن ينسى الأمر، وأقنعه بأن يكتب التالي، إلى دلفين روكس بالجامعة: "عزيزتي السيدة روكس: أنا أمثِّل كولمن سيلك. منذ عدة أيام، قمتِ بإرسال خطاب مجهول التوقيع إلى السيد سيلك، وكان الخطاب تهديديًّا، مزعجًا ومشوِّهًا لسمعة السيد سيلك. وجاء في متن رسالتكِ التالي: ‘كل الناس يعلمون أنك تستغل جنسيًّا امرأة جاهلة في نصف عمرك.’ وأنتِ بهذا للأسف قد أقحمتِ نفسَك في أمر ليس من شأنك. وبفعلتكِ هذه فإنك تنتهكين الحقوقَ القانونية للسيد سيلك، وتخضعين للمساءلة القضائية."
بعد أيام قليلة استلم بريماس ثلاث عبارات مقتضبة من محامي دلفين روكس. الجملة الوسطى، تنفي بفتور تهمةَ أن الخطاب المجهول يخصُّ دلفين روكس، وضع كولمن خطًّا بالأحمر تحتها. وفي الأخير كتب محاميها إلى بريماس التالي: "لا شيء صحيحٌ من التوكيدات في خطابكم، وللحق، فهي توكيدات مشوِّهة للسمعة."
وعلى الفور أخذ كولمن من بريماس اسمَ خبير الوثائق المسجلة في بوسطن، وهو محلل خطوط اليد، يؤدي عملاً شرعيًّا لصالح مؤسسات خاصة، وكالات الحكومة الأمريكية، والولاية. وفي اليوم التالي، قاد سيارته بنفسه ثلاث ساعات إلى بوسطن ليسلّم لخبير الوثائق، يدًا بيد، نماذجَ من خط يد دلفين روكس مع الخطاب المجهول ومظروفه. في الأسبوع التالي تسلَّم نتيجة التقرير بالبريد. يقول التقرير: "بناء على طلبكم، تم الفحص، وأجرينا مضاهاةً بين الصور الضوئية للخط اليدوي المعروف لدلفين روكس وبين الخطاب المجهول محلّ السؤال والمظروف المعنون إلى كولمن سيلك. وكنتم طلبتم تحديد صاحب الخط على الوثائق محل السؤال. قام اختبارنا بفحص خصائص خط اليد من حيث: درجة الميل، الفراغات، تشكيل حروف الهجاء، طبيعة الخطوط، مقدار الضغط بالقلم على الورق، نِسَب أحجام الحروف، ارتفاع الحرف والعلاقات بين الحروف، الوصلات والحروف البادئة، وتشكيل الضربات الختامية. واعتمادًا على الوثائق المرسلة، فإن رأيي المتخصص يذهب إلى أن اليد التي كتبت الأوراق التي تخص دلفين روكس هي اليدُ ذاتُها التي كتبت الخطاب المجهول محل السؤال والمظروف. المخلص، دوجلاس جوردون." حينما ناول كولمن تقريرَ الخبير إلى نيلسون بريماس، مع توجيهات بإرسال صورة منه إلى محامي دلفين روكس، توقف بريماس من وقتها عن الجدل، ولكن ما كان يحزنه هو رؤيته كولمن وقد تلبّسه الغضبُ القديم الذي كان يغمره أثناء أزمته مع الجامعة.
على كلٍّ، مرّت ثمانية أيام منذ ذلك المساء الذي كان كولمن قد رأى فيه فيرلي يهرب داخل الغابة، ثمانيةُ أيام قرر أثناءها أن من الأفضل أن تبقى فونيا بعيدًا عنه مؤقتًا وأن يتواصلا عبر الهاتف. ولكي لا يجلب التجسسَ على أيّ منهما، لم يعد يخرج إلى المزرعة ليجلب حليبه الخام بل كان يمكث في بيته كلما أمكنه ذلك، وظل متيقظًا للمراقبة من هناك، خصوصًا بعدما يهبط الظلام، علّه يحدد ما إذا كان هناك مَن يتطفّل في الجوار. وفيما يخص فونيا، أخبرها أن تبقى حذرةً على نفسها في مزرعة الألبان وأن تراقب مرآة سيارتها حينما تقودها إلى أي مكان. "كأنما نحن خطرٌ على الأمن العام،" قالت له فونيا وهي تضحك ضحكتها المميزة. "لا، بل نحن خطرٌ على الصحة العامة،" أجابها- "نحن لا نمتثل للائحة الصحية."
مع نهاية الأيام الثمانية، حينما كان بوسعه أخيرًا أن يثبت أن دلفين روكس هي كاتبة الخطاب إذا لم يكن فيرلي هو منتهك الخصوصية، قرر كولمن أن يعترف بأنه صنع كل ما في طاقته لكي يدافع عن نفسه ضد كل انتهاكات الخصوصية المستفزة الكريهة تلك. حينما هاتفته فونيا ذلك الأصيل أثناء استراحة غدائها لتسأله: "هل انتهت فترة الحجْر الصحيّ؟" كان أخيرًا قد تحرر من قلقه- أو ربما قرَّرَ أن يُقرِّرَ ذلك- لكي يعطي إشارةَ الأمان.
ولأنه كان يتوقع زيارتها حول السابعة مساءً، فعند السادسة ابتلع قرص فياجرا، بعدما احتسى كأسًا من النبيذ، أخذ هاتفه وتمشى في الخارج ليجلس على المقعد في المرج الأخضر ويهاتف ابنته. أنجب هو وآيريس أربعةَ أبناء: ولدان هما الآن في الأربعينيات، كلاهما بروفيسور علوم بالجامعة، متزوجان ولديهما أبناء يعيشون في الساحل الغربي ويست كوست، وتوأمان، ليزا ومارك، كلاهما غير متزوج، في أواخر الثلاثينيات من العمر، ويعيشان في نيويورك. جميع ذرية سيلك، باستثناء واحد، كانوا يحرصون على الذهاب إلى بيركشاير لرؤية والدهم ثلاث مرات في العام أو أربع، ويتصلون به بالهاتف كل شهر. الاستثناء هو مارك، الذي كان طوال حياته على خلاف حادّ مع كولمن فقطع نفسه عن والده تمامًا.
قرر كولمن أن يهاتف ليزا لأنه اكتشف أنه منذ أكثر من شهر- ربما شهرين- لم يكلمها. ربما كان وحسب ضحيةَ شعور عابر بالوحدة قد يتبدد مع وصول فونيا، ولكن أيًّا ما كان دافعُه، فلم يكن لديه أية فكرة، قبل المكالمة، عمَّا كان مخبوءًا. لا شك أن آخر ما كان يبحث عنه هو النفور والصدّ، خصوصًا من ابنته تلك التي كان صوتُها فقط- الناعمُ، المنغّمُ، الطفوليَّ مازال، بالرغم من اثنتي عشرة سنة شاقة كمعلّمة في لور إيست سايد- كان دائمًا بوسعه الاعتماد على ذلك الصوت ليهدأ، ولتسكن جوارحه، وأحيانًا كان صوتُها يفعل ما هو أكثر: يفتنه من جديد بتلك الابنة. كان كولمن يفعل ما كان غالبًا يفعله أيُّ أبٍ مسنٍّ حينما، لأي من عديد الأسباب، يحنُّ إلى مهاتفة من مسافة بعيدة كتذكِرة طيبة في أوقات الشيخوخة. تاريخ التوادّ والرقة الصريح غير المكسور بين كولمن وليزا جعل منها الشخصَ الأبعد عن خذلانه من بين جميع أقاربه.
قبل حوالي ثلاث سنوات- قبل حادثة الـSpooks- حينما كانت ليزا تتساءل ما إذا كانت قد ارتكبت خطأً جسيمًا بتركها التدريس في الفصول لكي تصبح معلّمةَ تقويم عيوب القراءة ، نزل كولمن إلى نيويورك ومكث عدة أيام ليعاين بنفسه وضع ابنته المأزوم. كانت آيريس حيَّة آنذاك، حيَّة للغاية، لكن طاقة آيريس الهائلة لم تكن هي ما تحتاجه ليزا- لم تكن تريد أن تحركها يدٌ مثل قطعة شطرنج، كما اعتادت آيريس أن تحرك الجميعَ مثل قطع الشطرنج- بدلاً من ذلك، كان عميد الكلية السابق بأسلوبه الحاسم المرتب في تنظيم التشوّش هو كل ما تحاجه ليزا. كانت آيريس تصرُّ على أن تخبرها أن عليها أن تتقدم بثبات، تاركةً ليزا غارقة في شَرَك تضارب الأفكار؛ بينما معه كان من المحتمل، إذا ما تراجعت ليزا خطوة متقهقرة ضد تقدمها، أن يخبرها أبوها بأن بوسعها إذا ما أرادت، أن تقلّص خسائرها وتتوقف- وهو ما كان، في المقابل، يعطيها دافعًا للمبادرة بالاستمرار والتقدّم.
لم يكتفِ كولمن بأن قضى الليلةَ الأولى ساهرًا يُنصت إلى شكوى ابنته حتى وقت متأخر في غرفة معيشتها، بل ذهب في اليوم التالي إلى المدرسة ليرى بنفسه ما ذاك الذي يستنفد قواها. وقد رأى، رأى الأمر كاملاً: في الصباح، أول شيء، أربع جلسات متعاقبة مدة كل منها نصف ساعة، كل جلسة مع تلميذ في السادسة أو السابعة من عمره من بين التلاميذ الأضعف تحصيلاً في الصف الأول أو الثاني، وبعد ذلك، خلال بقية اليوم، جلسات مدتها خمسٌ وأربعون دقيقة مع مجموعات من ثمانية أطفال مهاراتهم القرائية لم تكن أفضل من أولئك الخاضعين للمراقبة الفردية القصوى، ولكن لم يتوفر لهم كادر مدرَّبٌ بما يكفي ضمن البرنامج المكثف الفردي.
"حجمُ الفصل الدراسيّ العادي ضخمٌ جدًّا،" أخبرته ليزا، "ولذا ليس بوسع المعلمين الوصولُ إلى أولئك الأطفال. كنتُ معلمة فصل وأدرك الأمر. أولئك الأطفال الذين يعانون من صعوبات التعلّم- يمثلون ثلاثة من أصل ثلاثين. ثلاثة أو أربعة. ليس هذا سيئًا جدًّا. فتقدُّم بقية الأطفال يساعدك على المواصلة. وبدلاً من التوقف وإعطاء الأطفال الميئوس منهم ما يحتاجونه، يمارس المدرسون نوعًا من خلط أوراق العاطل بالباطل، ظانين- أو متظاهرين- بأنهم يتقدمون بالجماعة كلها. ثم ينتقلون بذاك الخليط المتنافر إلى الصف الثاني، ثم الصف الثالث، ثم الصف الرابع، وهنا يرسب أولئك الأطفال الضعاف على نحو خطر. أما هنا فليس لدينا إلا هؤلاء الأطفال فقط، أولئك الذين لا يمكن الوصولُ إليهم ولا يتمُّ الوصول إليهم، ولأنني عاطفيةٌ جدًّا مع تلامذتي ومع مهنتي، فإن هذا يؤثر على وجودي كاملاً- عالمي كلّه. ثم هناك المدرسةُ، القيادةُ- يا أبي، إنها ليست على ما يرام. لدينا مديرة مدرسة ليس لديها رؤيةٌ عما تريد، ولدينا خليطٌ غير متجانس من بشر يفعلون ما يظنونه الأفضل. الذي هو ليس بالضرورة الأفضل. حينما أتيتُ إلى هنا قبل اثني عشر عامًا كان الأمر عظيمًا. كانت المديرةُ ممتازةً بالفعل. قلبتْ المدرسةَ رأسًا على عقب. لكننا الآن فقدنا واحدًا وعشرين معلمًا في أربع سنوات. وهو عدد كبير. فقدنا الكثيرَ من الجيدين. منذ عامين ذهبتُ إلى فصول تقويم عيوب القراءة لأن قواي كانت قد استُهلِكَت في الفصل الاعتيادي. عشر سنوات في كل هذا يومًا بعد يومٍ. لم أعد أحتمل."
تركها تتكلم، ولم يقل إلا القليل، ولأن سنوات قليلة كانت تفصلها عن الأربعين، مقهورة بما يكفي، أخذها بين ذراعيه تلك الابنةَ التي ضربها الواقعُ بمطرقته وراح كولمن يتخيلها وهي أيضًا تحتضن طفلاً من تلاميذها ذوي السنوات الست ممن أيضًا ضربهم الواقعُ بمطرقته فلم يقدروا على القراءة. كان لليزا نفسُ بأس أمها آيريس ولكن دون سلطانها، وبالنسبة لشخص وهب حياتَه للآخرين- فإن الإيثارَ المهول كان لعنةَ ليزا- كانت، كمعلمة، تحوّم على نحو دائم حول حافة الاستنفاد والاستهلاك. بوجه عام كان هناك دائمًا صديق يطلب ودّها ولم تقدر أن تكبح تعاطفها نحوه، ولأجله أخرجت ما بنفسها، ومن أجله، وعلى نحو لا يفتر، غدت عذريتها الأخلاقيةُ الطاهرة مصدرَ ضجر ضخم. كانت ليزا دائمًا أخلاقيةً في ذهنها، ولكن دونما غلظة القلب التي تُحبط احتياج الطرف الآخر، ومن دون القوة التي تحررها من وهم قوتها. لأجل هذا كان يعرف أنها لن تترك أبدًا برنامج تقويم القراءة، وأيضًا كان هذا وراء أن فخره الأبوي الذي يحمله لها لم يكن فقط مثقلاً بالخوف بل كان مشوبًا في أوقات كثيرة بنفاد صبر يقف على حافة الاستصغار.
"ثلاثون طفلاً عليكَ رعايتهم، المستوياتُ المتباينة التي جاء منها الأطفال، والخبراتُ المختلفة التي مرّوا بها، عليك أن تفيد من كل هذا،" راحت ليزا تخبره. "ثلاثون طفلاً متنوعون من ثلاثين خلفية متنوعة يتعلمون عبر ثلاثين أسلوبًا متنوعًا. هذا يعني الكثير من أساليب التعامل وسياساته. هذا يعني الكثير من أوراق العمل. هذا يعني الكثير من كل شيء. على أنه يظل لا شيء مقارنةً بالمفترض أن يحدث. بالتأكيد، حتى مع هذا، حتى في فصول تقويم قدرات القراءة، تمرُّ أيامٌ أقول فيها لنفسي: كنتُ اليومَ جيدة، على أنني في معظم الأيام أودُّ أن ألقي بنفسي من النافذة. تنازعتني نفسي كثيرًا لأعرف ما إذا كان هذا هو البرنامج المناسب لي أم لا. لأنني عاطفية لأقصى حد، إذا لم تكن تعرف هذا عني. أريد أن أؤدي العمل بالطريقة المُثلى، وليس من طريقة مُثلى- كل طفل مختلفٌ وكل طفل حالةٌ مستعصية، والمفترض عليّ أن أواصل في خضم هذا وأن أجعل الأمر يتقدم. لا شك أن كل الناس يكافحون مع أطفال لا يقدرون على التعلم. ماذا تفعل مع طفل لا يقدر أن يقرأ؟ فكرْ في الأمر- طفل لا يقدر أن يقرأ. الأمر صعبٌ يا أبي. أناك وذاتك لابد أن تذوب، تعرف هذا."
ليزا، التي تضمُّ بين جنبيها الكثيرَ من القلق، ليزا التي ضميرُها لا يعرف الازدواجيةَ، ليزا التي تتمنى أن توجد وحسب من أجل مساعدة الآخرين. ليزا التي تسمح لخيبة الأمل أن تتلبسها، ليزا التي مثاليتُها لا سبيل لوصفها. ‘هاتفْ ليزا’، قال لنفسه، متخيلاً قليلاً أن بوسعه أن يُخرج من طفلته الطاهرة على نحو أحمق نغمةَ الاستياء القاسية كالفولاذ تلك التي استقبلت بها مهاتفته.
"لا تبدين كما أنتِ."
"أنا بخير،" أخبرته ليزا.
"ماذا بكِ يا ليزا؟"
"لا شيء."
"كيف حالُ مدرسة الصيف؟ كيف حال التدريس؟"
"بخير."
"وجوش، كيف حاله؟" (صديقها الجديد.)
"بخير."
"كيف حال تلاميذك الأطفال؟ ماذا جرى للصغير الذي لا يستطيع تمييز حرف n؟ هل وصل للمستوى العاشر. الطفل الذي في اسمه حرف n- هيرناندو."
"كل شيء بخير."
بعد ذلك سألها برفق: "هل يهمّك أن تعرفي كيف حالي؟"
"أعرفُ كيف حالك."
"صحيح؟"
لا إجابة.
"ما الذي يعذّبك يا حبيبتي؟"
"لا شيء."
تلك الـ"لا شيء" الثانية، كانت تعني بوضوح: لا تنادني بـ"يا حبيبتي" .
شيءٌ غير مفهوم كان يحدث. مَن أخبرها؟ بمَ أخبروها؟ حينما كان تلميذًا في المدرسة ثم في الجامعة بعد الحرب كان لا يتوانى عن ملاحقة المناهج الدراسية المرهقة؛ وحين أصبح عميدًا لكلية أثينا كان يزدهر خلال صعوبات الوظيفة المرهقة؛ وحين غدا متهمًا بالعنصرية في حادثة الـSpooks لم يضعف مرّةً في محاربة الاتهام الباطل؛ وحتى استقالته من الجامعة كانت سلوكًا لا ينمُّ عن استسلام بل عن احتجاج غاضب، كانت استقالتُه تظاهرةً هادئة متأنية تعبّر عن ازدرائه الصموت لما يحدث. ولكن خلال كل السنوات التي حافظ فيها على نفسه أمام فروض مهامه أو المعوقات أو الصدمات، لم يشعر أبدًا- حتى بعد موت آيريس- بأنه عارٍ من كل دفاع عن نفسه مثلما حدث حينما جسدت ليزا جميع سخريتها الرقيقة وجمعتها في كلمة واحدة "لا شيء"، فحمّلتها بكل خشونة المشاعر، تلك التي أبدًا لم تكن لديها يومًا، طوال حياتها.
في تلك اللحظة، حينما أفرغت "لا شيء" ليزا كل معناها الرهيب، لمح كولمن شاحنة صغيرة تتحرك على طول الطريق الأسفلتي هابطةً من حيث المنزل- هابطة تزحف نحو الأمام حوالي ياردتين، تفرمل، تتدحرج ببطء من جديد، وتفرمل ثانيةً... نهض كولمن وحملق خلال العشب المجزوز، ثم راح يمدّ عنقه ليرى، وعندها، بأعلى صوته شرع في الصياح: "أنتَ! ماذا تفعل هنا، هيي!" لكن الشاحنة سرعان ما زادت من سرعتها واختفت فورًا من مجال الرؤية قبل أن يتمكن كولمن من الاقتراب بما يكفي ليتبين أي شيء قد يفيد في معرفة السائق أو الشاحنة. ولأنه لم يستطع أن يميز شيئًا، ولا هو عرف من أين انطلقت الشاحنة، لم يقدر حتى أن يعرف إن كانت الشاحنة جديدة أم قديمة، كل ما استطاع أن يخرج به هو لونها الرماديّ غير المحدد.
والآن كان الهاتف ساكنًا سكونَ الموات. في أثناء ركضه عبر الأعشاب، ضغط دون قصد على زر الإغلاق. هذا، أو ربما تكون ليزا قد قطعت الخط بهدوء. حينما أعاد الاتصال، أجابه رجلٌ. "هل هذا جوش؟" سأل كولمن. "نعم،" قال الرجل. "أنا كولمن سيلك. والد ليزا." بعد برهة صمت، قال الرجل: "ليزا لا تودّ الحديث،" وأغلق الخط.
تلك فِعلة مارك. لابد ذلك. لا أحد سواه. لا يمكن أن يكون جوش اللعين هذا- فمَن يكون؟ لم تكن لدى كولمن فكرةٌ عن كيف اكتشف مارك علاقتَه بفونيا ولا كيف اكتشفت دلفين روكس أو أيُّ شخص آخر، لكن هذا لم يعد مهمًّا الآن- لابد أنه مارك مَن عنّف توأمته بسبب جريمة والدهما. هي جريمةٌ بالنسبة إلى ذلك الولد. تقريبًا منذ استطاع الكلام، لم يقدر مارك على التخلص من فكرة أن والده ضده دائمًا: بسبب الولدين الأكبر لأنهما كانا أكبر سنًّا وتفوقا جدًّا في المدرسة وتشرَّبا دون شكوى مواهب أبيهما الفكرية؛ بسبب ليزا لأنها كانت ليزا، طفلة الأسرة الصغيرة، طفلة والدها المدللة دون جدال؛ كانت نقيض مارك لأنه كان نقيضَ كل ما تتمتع به توأمتُه- كانت جديرة بالحب، بالإعجاب، فاضلة، تمس القلب، نبيلة في أعماقها- بينما مارك لم يكن كذلك ورفض أن يكون كذلك.
كان مارك ربما هو الشخص الأصعب على الإطلاق الذي حاول كولمن، لا أن يفهمه- فالامتعاضُ والاستياء والنقمة أشياء مفهومة للغاية- بل أن يتعامل معه. بدأ في الأنين والتجهم حتى قبل أن يكبر بما يكفي للذهاب إلى حضانة الأطفال، وبدأ فورًا بعد ذلك في الاحتجاج ثم الاعتراض على أفراد أسرته وعلى أسلوب تناولهم للأمور، وبالرغم من كل محاولات الاسترضاء، كان قلبه يزداد قساوة مع مرور السنوات. في عمر الرابعة عشرة دعم نيكسون بصخب أثناء شائعات اتهامه بالخيانة بينما كان بقية أفراد الأسرة يؤيدون سجن الرئيس مدى الحياة؛ في السادسة عشرة أصبح يهوديًّا أرثوذكسيًّا بينما بقيتهم، آخذين تعاليمهم من والديهم المقاوميْن للأكليروس، كانوا يهودًا بأسمائهم وحسب؛ في العشرين أثار سخط والده بأن انسحب من جامعة برانديز وقد تبقى له فقط فصلان دراسيان على التخرج، والآن، وهو تقريبًا في الأربعين، بعدما جرَّب وأطاح بعشرات الوظائف المختلفة التي كان يعتبر نفسه أرقى منها، اكتشف في الأخير أنه شاعر وقاص.
وبسبب خصومته العنيدة لوالده، كان مارك يضع نفسه عكس ما تكون أسرته- والأتعس في الأمر أن يضع نفسه عكس ما يكون هو ذاته. ولدٌ ذكي، يقرأ جيدًّا، سريع البديهة وحادّ اللسان، وبالرغم من ذلك لم يقدر أن يحدد طريقه بالقرب من كولمن إلى أن، في سن الثامنة والثلاثين، كشاعر حكّاء للكتاب المقدس، جاء ليداوي بغضاء حياته العظيمة المنظمة بكل غطرسة شخص لم ينجح في شيء. له حبيبةٌ مخلصة متفانية، شابة جادّة، شديدة الحساسية، يقظة التدين، تكسب قوتهما معًا من عملها كأخصائية أسنان في مانهاتن بينما مارك كان يمكث في شقتهما ببناية في بروكلين لا مصعد فيها يكتب قصائده المستوحاة من الكتاب المقدس تلك التي لا تقبل حتى المجلاتُ اليهودية أن تنشرها، قصائد لا متناهية الطول حول كيف ظلم داود ابنَه أبشالوم وكيف ظلم إسحق ابنَه عيسو وكيف ظلم يهوذا أخاه جوزيف وحول لعنة النبي ناثان بعد خطيئة داود مع بثشيـبع- قصائد تعتبر، بكل حسن الظن الممكن، صورة ذهنية ثابتة ممسوخة حاول ماركي فيها تكديس كلِّ شيء ففقدت كلَّ شيء.
كيف أنصتت ليزا إليه؟ كيف استطاعت أن تأخذ على محمل الجد أية تهمة يرميها ماركي ضد أبيها بينما هي تعلم دوافعه طوال حياته؟ ذلك يعود لطيبة ليزا مع شقيقها، مهما اكتشفت رداءة الكراهية التي شوهته، ربما يعود هذا إلى ميلادهما المشترك كتوأمين. إنها طبيعتها الخيّرة، ولأن ضميرها منذ كانت تلميذة في المدرسة كان يؤنبها لأنها الطفلة المفضلة، كانت دائمًا تستوعب شكوى توأمها فتؤدي دور المواسي له في مشاحناته مع الأسرة. ولكن هل يجب أن يمتد اهتمامُها بنصفها غير المفضَّل إلى حد تصديق هذه التهمة المجنونة؟ وماذا كانت التهمة؟ ما الشيء المؤذي الذي ارتكبه الأبُ، ما طبيعة الأذى الذي سدّده لأطفاله ليضع هذين التوأمين في حلف دلفين روكس ولستر فيرلي؟ والاثنان الآخران، ابناه العالمان- هل تورطّا في الشك أيضًا؟ متى آخر مرة سمع صوتهما؟
يذكر الآن تلك الساعة النحس في البيت بعد جنازة آيريس، تذكّرها فلدغته الذكرى مجددًا بتلك التهم التي رماها مارك ضد أبيه قبل أن يتحرك الولدان الكبيران ويدفعاه بقوة داخل غرفته القديمة طوال ذلك الأصيل. في الأيام التي تلت، حينما كان أولاده جميعًا حوله لا يزالون، كان كولمن ينوي أن يُلقي باللوم على حزن مارك على أمّه وليس على مارك نفسه فيما تجرأ الولد على قوله، لكن ذلك لا يعني أنه نسي أو من الممكن أن ينسى. بدأ مارك في توبيخه بعد دقائق قليلة من ركوبهم السيارة للعودة للبيت من المقبرة. "الجامعةُ لم تفعل ذلك. الطالبان الزنجيان لم يفعلا. أعداؤك لم يفعلوا. أنت الذي فعلها. أنتَ قتلت أمي. بذات الطريقة التي تقتل بها كلَّ شيء! لأنك يجب أن تكون على صواب! لأنك لن تعتذر، لأنك في كل مرة تكون على صواب بنسبة مئة في المئة، الآن هذه أمي التي ماتت! والأمر كان من الممكن أن يمر بسهولة- كان سيمر في أربعٍ وعشرين ساعة إذا كنت قد تعلمتَ أن تعتذر مرةً واحدة في حياتك. ‘أنا آسف لأنني قلت Spooks.’ هذا كل ما كان عليك أن تفعله، أيها الرجل العظيم، فقط أن تذهب إلى هذين الطالبين وتقول لهما إنك آسف، وقتها ما كانت أمي لتموت!"
في حديقته بالخارج، اعتصر كولمنَ سخطٌ مباغتٌ لم يشعر به منذ اليوم الذي تلى انفجار مارك، حينما كتب استقالته من الجامعة وقدمها في ساعة زمن. كان يعلم أنه ليس من الصواب أن تكون لديه تلك المشاعرُ تجاه أولاده. كان يعلم، من خلال حادثة الـ Spooks، أن سخطًا بهذا الحجم هو لونٌ من ألوان الجنون، من الممكن أن يخضع له. كان يعلم أن نقمةً كتلك لا يمكن أن تقوده إلى حل هادئ وعاقل للمشكلة. كان يدرك كمعلّم كيف يعلّم وكأب كيف يربّي وكرجل تخطّى السبعين أن المرء يجب ألا يأخذ بعين الاعتبار، خاصة مع أسرة، حتى مع أسرة تضم ابنًا كارهًا مثل مارك، مثل ذلك الحقدَ العنيد. ولم تكن حادثة الـ Spooksوحدها هي التي علّمته ما الذي يمكن أن يهدم ويحطم رجلاً يؤمن أنه مظلوم بقسوة. كان قد تعلّم ذلك من غضب أخيل، من ثورة فيلوكتيتس، من احتجاج ميديا، من جنون أجاكس، من يأس إلكترا، ومن معاناة برومثيوس ، عرف كولمن كل الأهوال التي يمكن أن تتوالى حينما يحدث السخطُ في درجاته العليا ثم، باسم العدالة، يحدث العقابُ لتبدأ دائرة الانتقام في الدوران.
وكان من حسن الحظ أن عرف كل هذا، لأن الأمر لن يُسفر عن أقل من ذلك، ليس أقل من تعلُّم الاحتراز من التراجيديا الأثينية ومن الشعر الإغريقي الملحمي، ليمنعه من أن يهاتف ماركي فورًا ليذكّره بأنه ليس إلا شيئًا تافهًا ضئيلاً، مثلما كان وسيظل دائمًا.
المواجهةُ المباشرة الأولى لكولمن مع فيرلي جاءت بعد حوالي أربع ساعات. كما أعيدُ أنا بناءها الآن: لكي يتأكد كولمن أن لا أحد يتلصص على منزله، كان يتفقد بنفسه الداخلَ والخارجَ والبابَ الأمامي والبابَ الخلفي وبابَ المطبخ ستَّ مرات أو سبعًا في الساعة بعد وصول فونيا. ليس قبل العاشرة حينما كان كلاهما واقفيْن معًا عند باب المطبخ الزجاجيّ، يتعانقان قبل الافتراق مع حلول الليل، حينما استطاع أن يعلو فوق سخطه الصدئ ليسمح للشيء الجاد الحقيقي في حياته- الثَّمَل بآخر الملذات، وهو ما أطلق عليه مان ، وهو يكتب شخصية أشينباك، "مغامرةَ المشاعر المتأخرة"- ليسمح لذلك الشيء أن يؤكد نفسه ويقود حياته. وحينما كانت على وشك المغادرة، وجد نفسه يشتهيها كأنما لا شيء آخر يهم- ولا أحد يهم، لا ابنته، ولا أبناؤه، ولا زوج فونيا السابق، ولا دلفين روكس. تلك لم تكن مجرد حياة، كان يفكر، بل هي نهايةُ الحياة. الذي لا يُطاق في الأمر لم يكن هذه البغضاء السخيفة التي أثارها هو وفونيا لدى الآخرين؛ بل كان الذي لا يُطاق حقًّا هو أنه في المنعطف الأخير من أيامه، كان في قاع دلو الحياة، في نهاية الزمن إن كان ثمة زمن، لينسحب من تلك المعركة، ليكفّ عن دفوعاته، ليحرر نفسه من ضميره الحيّ الذي جعله ينشئ أبناءً أربعة مفعمين بالحياة، ويصرّ على زواج متوتر، ويؤثّر على زملاء متمردين، ويوجه طلاب أثينا متوسطي المستوى، بأفضل ما كان يمكنه أن يفعل، فعل كل ذلك من خلال آدابٍ عمرها خمسةٌ وعشرون قرنًا من الزمان. حان وقت الاستسلام، حان الوقت ليجعل هذا الاشتهاءَ البسيط قائَده. فيما وراء اتهامهم. فيما وراء تهمتهم. فيما وراء محاكمتهم. تعلّمْ، يقول لنفسه، قبل أن تموت، عليك أن تحيا فيما وراء السلطة القضائية لسخطهم، لسُخطهم، للومهم الغبيّ.
الصدام مع فيرلي. الصدام تلك الليلةَ مع فيرلي، مواجهة مُزارع الألبان الذي لم يقصد الإخفاق لكنه أخفق، أحد عمال فِرق الطرق الذي أعطى نفسه بالكامل لبلدته بصرف النظر عن انحطاط وتدني مهنته، الأمريكي المخلص الذي خدم بلاده في فيتنام ليس في جولة واحدة بل في اثنتين، والذي عاد للمرة الثانية ليُنهي المهمةَ الملعونة. عاد ثم ذهب ثانيةً لأنه حين عاد إلى الوطن في المرة الأولى قال الناسُ إنه لم يكن الشخص نفسه ولم يتعرفوا عليه، وكان يرى أنهم على حق: كانوا جميعًا يخافونه. عاد إليهم من حرب أدغال، وليس فقط لم يُقدَّر كما ينبغي، بل كان يُخاف منه، لذلك ربما كان عليه أن يرجع. لم يكن يأمل أن يُعامَل معاملة الأبطال، ولكن أن ينظر الناسُ إليه هكذا؟ لذلك رجع للجولة الثانية، وكان هذه المرة مستعدًّا. ثملاً بالغضب. متأججًا بالثأر. كان جنديًّا شديد الشراسة. في المرة الأولى لم يكن بهذا الحماس. في المرة الأولى كان لِس المطمئن البال، لم يكن يعلم ماذا يعني شعور اليائس. في المرة الأولى كان هو الفتى من بيركشاير الذي يضع ثقته في الناس ولم يكن يدرك كم يمكن أن تكون الحياة رخيصة، لم يكن يعلم ماذا يعني التطّبب والعلاج، لم يكن يشعر بأنه أدنى من أي مخلوق، لِس المحظوظ السعيد، لا خطر منه على المجتمع، مئات الأصدقاء، سيارات سريعة، وكل تلك الأشياء. في المرة الأولى كان عنيدًا لأنه كان هناك، وكان الأمر قد تم، وهكذا كان الحال. لم يكن أحدَ أولئك الذين بمجرد أن يجدوا أنفسهم في كل تلك الفوضى وغياب القانون لا يطيقون صبرًا حتى يعودوا، أولئك الذين لا يجيدون أن يكونوا ضمن فريق، أو يصبحون عدوانيين حينما تشاكسهم ثم يترقبون أقرب فرصة ليولّوا الأدبار. كان هناك رجلٌ في الوحدة التي ينتمي إليها، رجل كانوا يطلقون عليه "الرجل الكبير"، لم يكن يمر يوم أو يومان إلا ويضرب امرأةً حُبلى فيفتح بطنها. كان فيرلي مبتدئًا فلم يتعود على هذا حتى نهاية رحلته الأولى. ولكن في المرة الثانية، في الوحدة هذه حيث كان العديد من الرجال ممن عادوا كذلك وممن لم يعودوا إلا لمجرد قتل الوقت أو ليجنوا حفنة دولارات إضافية، المرة الثانية هذه، ومع هؤلاء الرجال الذين ينتظرون دائمًا أن يوضعوا في المقدمة، الرجال المقرفين الذين عاينوا الرعبَ ولكنهم يعرفون أنها اللحظة الأفضل في حياتهم، مع أولئك كان مقرفًا أيضًا. في مكافحة النيران، الهرب من المخاطر، إطلاق النار، ليس بوسعك ألا تكون مرعوبًا، بوسعك فقط أن تكون هائجًا فاقد السيطرة ثم تركض هاربًا، ولذلك عاد المرة الثانية مهتاجًا. المرة الثانية كان مُخرِّبًا منتقمًا. يعيش هناك على الحافّة تمامًا، ممتلئًا حتى الحلق بالهيجان والخوف، لا شيء في الحياة المدنية يشبه ذلك. مدفعية البوابة . لأنهم يفقدون طائرات الهليوكوبتر فكانوا يحتاجون إلى قناصي بنادق بالبوابات. في نقطة بعينها طلبوا قناصي بوابات فقفز فورًا لتلبية الطلب، وهو الجندي المتطوع. هناك في الأعلى فوق الحدث، وكل شيء يبدو صغيرًا من أعلى، وليس عليه إلا أن يطلق النار بقوة. على كل شيء يتحرك. قنّاصو البوابات موجودون من أجل الموت والدمار. مع الفتنة المُضافة بسبب أنك لست مضطرًا أن تكون بالأسفل في الدغل طوال الوقت. ولكنه بعد ذلك عاد للوطن ولم يكن ذلك بأفضل من المرة الأولى، كان أسوأ. ليس مثل جنود الحرب العالمية الثانية: كان لديهم سفينة، كانوا ينعمون بالاسترخاء، ثمة شخص يعتني بهم، يسألهم كيف حالهم. ليس من نقاط انتقالية. يكون في يوم جنديّ مدفعية حصن في فيتنام، يشاهد طائرات الهليوكوبتر تنفجر ويرى أشلاء رفقائه تتناثر في الجو، وفي الأسفل يشم رائحة شواء اللحم البشري، ويسمع الصرخات المدوية، ويرى القرى بكاملها تسبح في اللهب، وفي اليوم التالي يعود إلى بيركشاير. والآن أصبح بالفعل لا-منتميًا، فضلاً عن ذلك، تربت لديه فوبيا رعب من الأشياء التي تتحرك فوق رأسه. لم يعد يرغب في أن يكون مع الآخرين، لم يعد قادرًا على الضحك أو المزاح، يشعر بأنه لم يعد جزءًا من عالمهم، بأنه شاهد وصنع أشياء خارج ما يعرفه أولئك الناس، لدرجة أنه لم يعد يقدر على التواصل معهم ولا هم قادرون على التواصل معه. يخبرونه أن بوسعه العودة إلى وطنه؟ كيف بوسعه العودة إلى الوطن؟ ليس لديه هليوكوبتر في الوطن. يجلس وحيدًا ويثمل، وحينما يزور الـVA يقولون إنه هناك فقط ليأخذ نقودًا، بينما هو هناك لينال المساعدة. في مرحلة سابقة، حاول أن يحصل على دعم الحكومة وكان كل ما أعطوه له بعض الحبوب المنومة، ولذا فتبًّا وألف تبٍّ للحكومة. عاملوه كأنه نفايات. أنت شابٌّ، قالوا له، وسوف تتغلب على الأمر. لذلك حاولَ أن يتغلب على الأمر. هو لا يقدر أن يتعامل مع الحكومة، لذا سيكون عليه أن يعتمد على نفسه. فقط ليس سهلاً بعد رحلتين أن يعود ويستقر دون مساعدة ما. هو ليس رابط الجأش. هو ثائر مهتاج. هو غير مرتاح وقلق. هو يثمل. من اليسير جدًّا استثارة غضبه. وهناك تلك الأشياء التي تتحرك فوق رأسه. مازال يحاول: أخيرًا لديه الزوجة، البيت، الطفلان، المزرعة. هو يريد أن يكون وحيدًا، ولكنها تريد أن تستقر وأن تزرع معه، لذا يحاول أن ‘يريد’ أن يستقر أيضًا. هو يذكر لِس رائق البال الذي كان ‘يريد’ منذ عشر، خمس عشرة سنة ماضية، قبل فيتنام، ويحاول أن ‘يريد’ من جديد. المشكلة هي، أنه حقًّا لا يشعر بهؤلاء القوم. يجلس في المطبخ ويأكل معهم ولا يشعر بأحد. لا سبيل لأن يذهب من ذلك إلى هذا. لكنه مازال يحاول. مرتين في منتصف الليل يصحو ليخنقها، لكنها ليست غلطته- هي غلطة الحكومة. إنها الحكومة التي فعلت به هذا. كان يؤمن أن تلك المرأة هي عدوه اللدود. ماذا كانت تفكر أنه سيفعل؟ كانت تعلم أنه سوف يخرج من الأمر. لم يؤذها أبدًا ولم يؤذ الطفلين. تلك كانت كلها أكاذيب. هي لم تعبأ بشيء أبدًا سوى بنفسها. كان عليه أن يدرك أن عليه ألا يدعها تمضي مع هذين الطفلين. هي انتظرتْ حتى كان في عملية التأهيل- لأجل هذا كانت تريده أن ينضم لإعادة التأهيل. قالت إنها تريده أن يكون أفضل حتى يقدرا على المواصلة معًا، وبدلاً من ذلك استغلت الأمر كله ضده لتأخذ الطفلين بعيدًا عنه. العاهرة. المومس. خدعته. كان يجب أن يعرف أن عليه ألا يتركها مع هذين الطفلين أبدًا. كان خطؤه إلى حد ما لأنه كان ثملاً للغاية فاستطاعوا أن يأخذوه بالقوة لمركز التأهيل، ولكن كان من الأفضل أن يقتلهم جميعًا بدلاً من أن يستسلم لهم. كان عليه أن يقتلها، كان عليه أن يقتل الطفلين، وكان سيفعل لولا التأهيل. وهي كانت تعرف ذلك، تعرف أنه كان ليقتلهم لو حاولت مرّة أن تأخذهما بعيدًا. هو كان الأب- لو أن أحدًا سوف يربي طفليه فلابد أن يكون هو. لو لم يقدر أن يعتني بهما، فمن الأفضل لهما أن يموتا. ليس لها الحق في أن تسرق طفليه. تسرقهما، ثم تقتلهما. هذا هو ثمن ما فعله في فيتنام. جميعهم قالوا إن التأهيل- هو الثمن المستحق هنا وهناك، ولكن لأن الجميع يقولون ذلك، فلم يجعل الأمر غير ذلك. كان هذا هو الثمن، كل الثمن، موت الطفلين كان الثمن والنجار الذي كانت تضاجعه كان الثمن. لا يعرف لماذا لم يقتله. في البدء شمَّ الدخان فقط. كان في الدغل أسفل الطريق يراقبهما معًا في شاحنة النجار. كان قد صفَّ شاحنته في مكان سيارتها. نزلتْ فونيا على الدَّرَج- الشقة التي تستأجرها كانت فوق جراج خلف كوخ من طابق واحد- ثم دخلتْ الشاحنة ولم يكن هناك ضوء ولم يكن هناك قمر لكنه أدرك ماذا يحدث. ثم شمَّ الدخان. السبيل الوحيد الذي جعله ينجو بحياته في فيتنام كان عن طريق تمييز أي تغيير، ضوضاء، رائحة حيوان، أية حركة في الدغل، ويكون بوسعه أن يلتقطه قبل غيره- عليه أن يكون يقظًا في الدغل كأنما قد ولِد هناك. لم يستطع أن يرى الدخان، لم يستطع أن يرى اللهب، لم يقدر أن يرى أي شيء فقد كان الظلام كثيفًا، ولكنه فجأة استطاع أن يشم الدخان وتلك الأشياء تطير فوق رأسه فبدأ يعدو. رأياه آتيًا وظنّا أنه جاء ليخطف الطفلين. لم يعرفا أن البناية كانت تحترق. ظنّا أنه غاضب. لكنه كان يشم الدخان وعرف أنه آت من الطابق الثاني ويعرف أن الطفلين هناك. كان يعرف أن زوجته، العاهرة المومس الغبية، لن تفعل أي شيء لأنها في الشاحنة تضاجع النجار. جرى جوارهما تمامًا. لم يدر أين هو الآن، نسى أين هو، كل ما كان يعرفه هو أن عليه أن يكون هناك بالأعلى، ولذا ركل الباب الجانبي وركض للأعلى حيث النيران فرأى الطفلين على السلم، جاثمين هناك أعلى الدَّرَج، يلهثان بوهن، فالتقطهما. كانا منهارين معًا على السلم، حملهما ومرق من الباب. كانا حيين. كان يظن أنهما مرعوبين وحسب. ثم رفع بصره لأعلى والذي رآه خارج الباب، يقف هناك ينظر إليه، لم يكن سوى النجار. ولم يعرف ماذا كان يفعل. توجّه مباشرة إلى عنقه. وبدأ يخنقه، وتلك الكلبة الداعرة، بدلاً من أن تذهب إلى الطفلين، كانت قلقة على عشيقها الداعر من الخنق. الكلبة العاهرة قلقة من قتل عشيقها بدل أن تقلق من موت طفليها التعسين. لهذا السبب ماتا. لأنها لم تلق إليهما بالاً. لم تفعل أبدًا. لم يكونا ميتين حين التقطهما. كانا دافئين. هو يعلم كيف يكون الميت. رحلتان إلى فيتنام علمتاه كيف يكون الميت. بوسعه أن يشم الموت. بوسعه تذّوق طعم الموت. يعلم ما هو الموت. هما- لم- يكونا- ميتيْن. العشيق هو الذي كان سيكون ميتًا ملعونًا، ثم جاءت الشرطة ببنادقها بالاتفاق مع الحكومة، ليأخذوه بعيدًا. العاهرة قتلت الطفلين، كان إهمالُها السبب، ثم يقبضون عليه هو. يا أيها الرب المسيح، انصفني ولو لبرهة صغيرة! الكلبة لم تكن منتبهة! هي لا تنتبه أبدًا. مثلما حينما اخبره شعوره الحدسي الباطني بأنهم متجهون صوب كمين. لم يقدر أن يقول لماذا لكنه كان يعرف أنهم محاصرون، ولم يصدقه أحد، وكان على صواب. ضابط غبي جديد انضم إلى سرية الجند، ورفض أن يسمعه، وهكذا قُتل الجنود. هكذا احترقوا كأنما الجحيم! هكذا يتسبب الأغبياء في موت أفضل رفيقين لك! لم يستمعوا إليه! لم يمنحوه الثقة! عاد حيًّا، أليس كذلك؟ عاد بكامل أطرافه، عاد بعضوِه الذَّكريّ سليمًا- تعرفون كم كلّفه هذا؟ لكنها لن تنصت! أبدًا! أدارت له ظهرها وأدارت ظهرها لطفليه. هو ليس إلا جندي فيتنام المجنون. لكنه يدرك الأمور، كلها. وهي لا تعلم شيئًا. لكن هل أوقفوا تلك العاهرة الغبية؟ أوقفوه هو. هددوه بإطلاق النار لكي يرفع يديه. من جديد يضعونه في القيود، ولن يطلقوا سراحه من مؤسسة المحاربين القدامى في نورثامبتون. وكان كل ما فعله هو ما درّبوه على أن يفعله: أنت ترى العدو، عليك أن تقتل العدو. يدربونك لعام، ثم يحاولون قتلك لعام، وبمجرد أن تفعل ما دربوك على أن تفعله، تجدهم فورًا يضعون القيد الجلدي حول معصميك ويطلقون النار بكل غلظة. لقد فعل ما دربوه على فعله وبينما كان يفعل ذلك، أدارت زوجته القذرة ظهرها لطفليه. كان عليه قتلهم جميعًا حينما كان بوسعه ذلك. هو بالذات. العشيق. كان عليه قطع رأسيهما القذرين. لا يعرف لماذا لم يفعل. من الأفضل عدم الاقتراب منه. لو كان يعرف أين ذلك العشيق الداعر، سوف يقتله فورًا حتى لا يكاد يُعرف بأي شيء ضُرب، ولن يعرفوا أنه هو الذي فعل ذلك لأنه يعرف كيف يفعل ذلك دون أن يسمعه أحد. لأن هذا ما دربته عليه الحكومة. هو قاتلٌ مدرَّبٌ محترفٌ بفضل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أدى وظيفته. فعل ما أُمِر أن يفعله. والنتيجة أن يُعامَل هكذا بوحشية؟ وضعوه مكبلا بالأصفاد في زنزانة أسفل السجن، وضعوه في الفقاعة المعزولة، أرسلوه إلى الفقاعة اللعينة! ولن يعطوه حتى شيكًا مصرفيًّا. لأن كل ما يحصل عليه فقط هو ال20% السخيفة. عشرون بالمائة. وضع أسرته كلها في جهنم من أجل عشرين بالمائة. ومن أجل ذلك حتى عليه أن يجثو ويحبو. "وإذن، أخبرنا بما حدث،" يقولون، رجال العمل الاجتماعي الصغار، الأخصائيون النفسيون الصغار بدرجاتهم الأكاديمية. "هل قتلتَ أيّ شخص حينما كنتَ في فيتنام؟" وهل ثمة مَن لم يقتل حينما كان في فيتنام؟ أليس هذا هو المفترض أن يفعله حينما أرسلوه إلى فيتنام؟ أن يقتل الثوارَ الفيتناميين دون رحمة. قالوا إن كل شيء يمر؟ لذا مَرَّ كل شيء. الأمر كله متعلق بكلمة "القتل". اقتلْ الثوار الفيتناميين! "هل قتلتَ أي شخص؟" أليس هذا رديئًا بما يكفي، أن يُجلسوه مع أخصائي نفساني فيتنامي، مثل صيني ملعون. خدم دولته ولا يستطيع أن يجلس مع طبيب يتكلم الإنجليزية؟ على طول نورثامبتون ثمة مطاعمُ صينية، لديهم مطاعم فيتنامية، أسواق كورية- ولكن هو؟ إذا كنتَ فيتناميًّا، فأنت صيني، بوسعك أن تدبر حياتك، أن تجد مطعمًا، تجد سوقًا، تجد بقالة ومتجرًا، تجد أسرة، تجد تعليمًا جيِّدًا. لكنهم دمروه. لأنهم أرادوا له الموت. تمنّوا ألا يعود من جديد. فهو كابوسهم الأسوأ. لم يكن مفترضًا أن يعود. والآن بروفيسور الجامعة هذا. هل تعرفون أين كان حينما أرسلتنا الحكومة إلى هناك وأذرعنا مقيدة خلف ظهورنا؟ كان هناك بالخارج يقود حشود الملاعين المحتجّين على الحرب. يدفعون لهم، حينما يذهبون إلى الجامعة، لكي يقوموا بالتدريس، ليعلموا الطلاب، وليس ليحتجوا على حرب فيتنام. لم يعطونا فرصة واحدة تعسة. يقولون إننا خسرنا الحرب. نحن لم نخسر الحرب، الحكومة هي التي خسرت الحرب. ولكن حين شعر بذلك الأساتذةُ ذوو البنطلونات العجيبة، بدلاً من أن يعلّموا طلابَ فصولهم، ذهبوا ليعتصموا بالخارج ضد الحرب، وهذا هو الشكر الذي ناله مقابل خدمته بلاده. هذا هو الشكر على كل القرف الذي ناله في الداخل والخارج. لم يقدر على أن يراوده النومُ ليلةً واحدة، اللعنة. لم ينل نومًا حقيقيًّا طوال ستة وعشرين عامًا. ولأجل ذلك، لأجل ذلك انحدرت زوجته مع بروفيسور يهودي قذر؟ لم يكن هناك الكثير من اليهود القذرين في فيتنام، على حسب ما يذكر. كانوا أكثر انشغالاً من أن يحصلوا على درجاتهم العلمية. اليهود الأوغاد. ثمة شيء خطأ في أولئك اليهود الأنذال. لا يبدون منضبطين. هل انحدرت إليه؟ يا إلهي. الرجل القيء. لمَ كلُّ هذا؟ إنها لا تعرف كيف يبدو الأمر. لم يجعلها تعيش يومًا عسيرًا في حياتها. لم يؤذها أبدًا ولم يؤذ طفليه أبدًا. "أوه، زوج أمي كان دنيئًا معي." اعتاد زوج أمها أن يتحرش بها. كان يجب أن يضاجعها، كان هذا سيعدل مسارها بعض الشيء. كان يجب أن يكون الطفلان حيين الآن. طفلاه الملعونان كان يجب أن يكونا حيين اليومَ من الأحياء! لكان سيغدو مثل بقية الرجال أولئك، مع أُسرهم وسياراتهم الجميلة. بدلاً من أن يكون رهنًا لتسهيلات مؤسسة رعاية الجنود القدامى اللعينة. كان هذا هو الشكر الذي ناله: ثورازين . شُكرُهم إياه كان عبارة عن خليط الثورازين. فقط لأنه ظن أنه عائد إلى حرب فيتنام.
كان هذا هو لِستر فيرلي الذي جاء يزأر خارجًا من الأشجار. كان هذا هو الرجل الذي عثر على كولمن وفونيا وهما جالسان في مدخل المطبخ، الرجل الذي جاء يهدر غضبًا آتيًا من ظلام الشجر جوار البيت. وكل هذا لم يكن سوى شيء قليل مما كان داخل رأسه، ليلةً بعد ليلة، خلال الربيع، والآن عند مشارف الصيف، يختبئ لساعات قابعًا هناك في مكان ضيق مقرفصًا مشحونًا بالانفعال، ينتظر أن يراها تفعلها. تفعل ما كانت تفعله حين كان طفلاها يختنقان بالدخان اختناقَ الموت. هذه المرة لم تكن حتى مع رجل في عمرها. ولا حتى من عمر فيرلي. هذه المرة لم تكن مع رئيسها، العظيم الممتلئ بالأمريكية هولنبرك. هولنبرك كان على الأقل بوسعه أن يمنحها شيئًا بالمقابل. بوسعك تقريبًا احترامها من أجل هولنبرك. لكن المرأة الآن كانت قد شطحت بعيدًا جدًّا، كانت تفعلها مع أي شخص مقابل لا شيء. الآن كانت مع عجوز هزيل جلد على عظام، بروفيسور يهودي رفيع الشأن، وجهه اليهودي الأصفر مجعد بالبهجة ويداه الراجفتان العجوزتان تقبضان على رأسها. مَن سواه لديه زوجة تمتص قضيبَ عجوزٍ يهوديّ؟ من سواه؟ هذه المرة كانت الكلبةُ الداعرة الطائشةُ القاتلةُ تمتص بفمها العاهر ماءً يخرج من عجوز يهودي مقزز، بينما "رولي" و"لي" الصغيران مازالا ميتين. هذا هو المقابل. ليس من نهاية لكل هذا.
هو شيءٌ يشبه الطيران، يشبه حرب فيتنام، يشبه لحظةً تصير فيها متوحشًا. صار فيرلي مجنونًا، فجأة، لأنها تمتص ذلك اليهودي أكثر من لأنها قتلت الطفلين، فيرلي يطير للأعلى، يصرخ، والبروفيسور اليهودي العجوز يردد الصراخ، البروفيسور اليهودي يرفع إطارًا حديديًّا، فقط لأن فيرلي كان غير مسلح- لأن فيرلي كان تلك الليلة عائدًا للتو من قسم التدريب على مكافحة الحرائق دون بندقية واحدة من سردابه المليء بالبنادق- لذلك لم يطلق النار عليهما. كيف حدث أنه لم يقدر أن يمدَّ يدَه لإطار الحديد ويأخذه منه ويُنهي كل شيء في لحظة، لم يعرف ذلك أبدًا. جميل أن استطاع أن يتعامل مع ذلك الإطار الحديدي. "أنزلْ ذلك! سوف أهشّم به رأسك المتعفنة! ضعه من يدك أيها القذر!" فوضعه اليهوديُّ على الأرض. من حسن حظ اليهودي أن وضع الإطارَ أرضًا.
بعدما عاد إلى البيت تلك الليلة (ولا يعرف أيضًا كيف عاد) وبالضبط أثناء الساعات الأولى من النهار- حينما تكفّل رجالٌ خمسة من مكافحة الحريق، وخمسةٌ من رفقائه، ليمسكوا به ويقيدوه ويقودوا السيارةَ به بعيدًا صوب نورثامبتون- رأى لِستر كل هذا، كلَّ شيء، كلَّ المشهد دفعة واحدة، هناك في منزله الذي وقع في الحريق وتحت هطل الأمطار، الطين، جحافل النمل العملاق، النحل القاتل عند مشمّع الأرضية جوار طاولة المطبخ، أصابه الإسهال، الصداع، والغثيان من قلة الطعام والماء، وقلّة الذخيرة، كان موقنًا من أنها ليلته الأخيرة، كان ينتظر حدوثها، فوستر يخطو نحو المصيدة المفخخة، كولين يغرق، وهو كاد أن يغرق، مهتاجًا، يلقي بالقنابل اليدوية في كل صوب ويصرخ: "لا أريد أن أموت،" اختلطت حبالُ المشهد وسمع هتافات، دراجو فقد ساقًا، ذراعًا، أنفه، جثة كورنتي المحترقة ملتصقة بيديه، لا يستطيع أن يجد هليوكوبتر ليهبط، يقول قائد الطائرة ليس بوسعهم الهبوط لأنهم مهاجَمون وهو يعلم وهو مستعرٌ بالغضب أنه سوف يموت وأنه يحاول أن يطلق النار، يطلق النار على طائرتنا المروحية- أكثر الليالي لا إنسانية فيما شاهد طوال عمره، وها هي هناك الآن في بيته الحقير، وأطول الليالي أيضًا، أطول لياليه على الأرض وكان مصعوقًا بكل حركة يأتيها، الرجال يتصايحون ويشتمون ويصرخون، وكان غير مستعد لسماع كل هذا الصراخ، الرجال يُلطَمون على وجوههم ويموتون، يأخذون نَفَسهم الأخير ثم يموتون، جثة كورنتي كلها على يديه، دراجو ينزف على كل المكان، ولِستر يحاول أن يهزّ إحدى الجثث لتصحو ويصيح، يصرخ دون توقف: "لا أريد أن أموت." لا زمانَ خارج الموت. ليس هناك وقتُ راحة للموت. لا مهرب من الموت. لا انقطاع للموت أو توقُّف. مصارعة الموت حتى الصباح وكل شيء كثيف وقاتم. الخوفُ كثيفٌ، الغضب كثيف، وليس من طائرة مروحية تنوي الهبوط ورائحة دماء دراجو البشعة تملأ أركان بيته الملعون. لم يعرف من قبل كم هي رائحة مقززة. كل شيء شديد الكثافة وكل إنسان بعيد عن الوطن والغضبُ الغاضبُ الغاضبُ الغاضب.
تقريبًا طوال الطريق إلى نورثامبتون- حتى لم يعد بوسعهم تحمُّل الأمر أكثر أو تكميم فمه- كان فيرلي يصرخ في عمق الليل ويصحو في الصباح ليجد نفسه قد نام في قبر شخص ما مع ديدان الأرض. "أرجوكم!" كان يصرخ. "لا مزيد من هذا! لا مزيد!" ولهذا لم يجدوا بُدًّا من أن يُخرسوه.
في مستشفى مركز المحاربين القدامى، المكان الذي كان بوسعهم أن يأتوا به إليه بالقوة والذي ظل يهرب منه لسنوات- يهرب عمره كله من مستشفى تابع لحكومة لم يستطع التعامل معها- وضعوه في زنزانة مغلقة، أوثقوه إلى السرير، حقنوه بالسوائل، أعادوه للاتزان، نقّوا جسدَه من السموم، أخرجوا منه آثار الكحوليات، عالجوه من تلف الكبد، ثم بعد ذلك، على مدى ستة أسابيع تالية، كلَّ صباح في جلسة العلاج النفسي كان يستعيد في ذاكرته كيف مات الصغيران "رولي" و"لِي". قص عليهم كل ما حدث، كان يقص عليهم كل يوم ما الذي أخفق أن يفعله حينما رأى وجهيْ طفليه المختنقين وعرف بالتأكيد أنهما ماتا.
"الخَدَر وفقدانُ الحسّ،" قال. "فقدان الحس اللعين. لا عاطفةَ ثمة. فقدان الحس نحو موت طفلَي. عينيْ صغيري كانتا مقلوبتين في رأسه للوراء، وتوقف نبضه. لم يكن قلبه يدق. ابني لا يتنفس. ابني. لِس الصغير . ابني الوحيد الذي كان سيكون لي. لكنني لم أشعر بأي شيء. كنتُ أتصرف كأنه غريب. الأمر ذاته مع "رولي". كانت غريبةً عني. طفلتي الصغيرة. يا فيتنام اللعينة، أنتِ من تسبب في هذا! بعد كل تلك السنوات من انتهاء الحرب، وأنت مازلتِ تتسببين في هذا! كل مشاعري تجمدت. شعرتُ كأنما قد ضُربت على جانب رأسي بقطعة خشب غليظة بينما لا شيء يحدث. ثم ها هو شيء يحدث، شيء ضخم ملعون، لم أشعر بشيء. فاقدُ الحس. طفلاي ماتا، لكن جسدي فاقد الحس وعقلي خاوٍ. فيتنام. لأجلها! لم أبك من أجل طفليَّ أبدًا. كان في الخامسة وكانت في الثامنة. قلتُ لنفسي: ‘لماذا فقدتُ الشعور؟’ قلتُ، ‘لماذا لم أنقذهما؟ لماذا لم أقدر على إنقاذهما؟’ الثمن! ظللت أفكر في فيتنام. في كل الأوقات التي ظننت فيها أنني ميت. هكذا بدأتُ أعرف أنني لا أستطيع الموت. لأنني ميت بالفعل. لأنني مِتُّ بالفعل في فيتنام. لأنني رجل ملعون ميت."
كانت المجموعةُ تتكون من محاربين في فيتنام مثل فيرلي عدا اثنين من حرب الخليج، رجلين كالأطفال سريعي البكاء لديهما رمال في عيونهما جرّاء حرب بريّة استمرت أربعة أيام. حرب المئة ساعة. حفنة المنتظرين في الصحراء. بينما محاربو فيتنام كانوا رجالاً، في حياتهم فيما بعد الحرب، خاضوا الأهوالَ والصعاب- طلاقٌ، إسرافٌ في الخمر، مخدراتٌ، جرائمُ، شرطةٌ، سجنٌ، سقوطٌ مريع في الاكتئاب، بكاءٌ لا سيطرةَ عليه، رغبةٌ في الصراخ، رغبةٌ في تحطيم شيء، أيادٍ مرتعشةٌ وأجسادٌ متوترة ووجوهٌ جامدة وعرق يتصبب من الجبهة حتى أصابع القدم لحظةَ تذكّر الطائرات المحلقة والانفجارات المتأججة والأطراف البشرية المبتورة، جرّاء تذكّر مشاهد قتل المساجين والعائلات والعجائز والأطفال- وهكذا، رغم أنهم أومأوا برءوسهم بعد سماعهم حكاية "رولي" والصغير "لي" وتفهموا لماذا لم يقدر على الشعور بهما حينما رآهما بعيونهما الدائرة في رأسيهما للوراء لأنه هو نفسه كان ميتًا، بالرغم من ذلك إلا أنهم اتفقوا، أولئك الرجال المرضى (في تلك اللحظات النادرة حينما يقدر أي واحد منهم على الكلام عن أي شخص فيما عداهم يجوب الشوارع جاهزًا للركض والصياح في وجه السماء: "لماذا؟"، أو الكلام عن أي شخص آخر لا ينال الاحترام الذي يستحقونه، أو الكلام عن أي شخص آخر لا يكون سعيدًا إلى أن يموتوا ويُدفنوا ويُنسوا)، اتفقوا على أنه من الأفضل أن يُلقي فيرلي الأمرَ وراء ظهره ويمضي في حياته.
يمضي في حياته. يعلم أنها خراء، لكنها كل ما يملك. فليمضِ فيها. حسنًا.
أخرجوه من المستشفى في أواخر أغسطس وقد قرر أن يمضي في الحياة. وبمساعدة جماعة المعاونة التي انضم إليها، وبالأخص رجل كان يمشي بعصا اسمه "لوي بوريو"، نجح في ذلك جزئيًّا؛ كان الأمر عسيرًا، ولكن بمساندة "لوي" نجح إلى حد ما، في أن يظل على متن الشاحنة لثلاثة أشهر تقريبًا، بالضبط حتى نوفمبر. ولكن بعد ذلك- وليس بسبب شيء ما قاله له شخصٌ ما ولا بسبب شيء ما شاهده في التليفزيون ولا بسبب اقتراب عيد الشكر الجديد وهو بلا أسرة، بل بسبب أنْ ليس من بدائل أخرى أمام فيرلي، لا سبيل لمنع الماضي من العودة والمثول، المثول أمام عينيه وندائه ودعوته لكي يفعل شيئًا ومطالبته بردّ شرس وهائل- بدلاً من أن يرمي الأمر وراء ظهره، كان بكل ثقله ماثلا أمام عينيه.
مرة أخرى، تلك كانت حياته.