طفولة
الطائرةُ
طائرةٌ!
لم أعدْ أقدِرُ
أن أُلِبسَ جناحيها ريشًا
أو أرسُمَ على مقدمتِها المدبّبةِ
أسنانًا
وفمًا يضحكُ
وعلى نافذتيها الأماميتين
عينين لامعتين تُحدّقانْ
لكي أراها طائرًا
لا طائرةَ!
يبدو أنني أكُبرُ
!
سارة
إهداء إلى الطفلة سارة التي تمنّت أن تتذوق الآيس كريم قبل موتها،
لكن السرطان لم يمهلها.
***
قلبُ البنتِ يغنّي
رغمَ اللثغةِ
رغمَ غيابِ الحَرفِ عن الشفتينْ
رغمَ الوجعِ الضاربِ في أنحاءِ العنبرِ
والجدرانْ
ورغمَ الموتْ.
أعرفُ
كيف يكونُ الموتُ رءوفًا بالأطفالْ
يرفعُ وهنَ النومِ
وألمَ المشيِ
وشَقَّ الركضِ مع الأترابْ
يُعفي شَرَهَ الدمِّ الموغلِ
في أطماعِ الوفرةِ بالسرطانْ
هُمْ أطفالٌ
بعد قليلٍ يغدونَ ملائكةً بجناحيِن شفيفيْنِ
يطيرونَ بلا ألمٍ
نحو الربِّ الحاني
الباسطِ كفيّهِ لقدومِهمُ
وكان ملاكُ الرحمةِ
عندَ البابْ:
"هاتي كفَّكِ يا بنتَ الخامسةِ
لأُعلمَّكِ
كيف يكونُ السيرُ بلا شرخٍ في العَظمِ
وفي الأعصابْ
وكيف تكونُ البسمةُ رائقةً
حين تكفُّ كراتُ الدمِّ عن الإسرافْ
وكيف يكونُ اللعبُ مع الدُميةِ والدبدوبِ بلا دمعٍ
كيف الأمُّ الحَزْنى
تفرحُ
حين يراودُها طيفُ الأملِ بِلَيْلٍ
كيف
فساتينُكِ ترقصُ
حين تمرُّ شرائطُها فوق الرقبةِ
دون صُراخْ
كيف جدائلُ شَعركِ
تنمو ثانيةً
حين الكيمياءُ الشريرةُ جزّتْها
والإشعاعْ
وكيف اليومُ يمرُّ خفيفًا
دونَ عقاقيرَ
ودون طبيبْ.
قلبُ الأطفالِ
يُغنّي
فَرُحْتُ أُغنّي معهمْ
رغمَ العنبرِ مملوءٍ بالحسرةِ
رغمَ أنابيبِ المصْلِ الطولىَ
تخترقُ الرُسغَ الغَضَّ الراقدَ في وهنٍ
فوق سريرٍ أبيضَ
وشراشفَ
تصرخُ من فرطِ الحَزَنِ
ورغم الآباءِ الباكينَ
وراء زجاجِ المَخْبَرِ
والأطفالِ المسروقين من العُمْرِ
ورغمَ زهورٍ
تقفُ وراء البابْ
فوق توابيتَ ملّونةٍ فارغةٍ
تترقبُ أجسادًا لم تتعلمْ بعدُ
كيف العيْشُ بلا شكشكةِ الإبرِ
وشَفْطِ الدمِّ من الأوردةِ
وكيف الموتُ
رفيقٌ
بالأطفالْ.”
السِّــر
لي أسراري أيضًا
فلا تنابزوا بالأسرارْ
بِئسَ سِرٍّ
يُميتُ وردةً
بعد صحوِها.
لي
بابُ أسراري:
سِرُّ شجرةٍ
أهملَها الفلاحون ربعَ قرنٍ
ولما دنا ثمرُها
حجبوا الشمسَ عنها
فأطرقتْ على طَميِها
في انتظارِ تعميدِ المطرْ.
لي
سِرُّ محارةٍ
لم تضربْها حبّاتُ رملٍ
فغلَّقتِ الأبوابَ
على لؤلؤِها
حتى جَفَّ في الشرايينِ
رحيقُ أطيابِها
أو
كادَ.
لي
سِرُّ خِصْري
نحيلٌ
كما عودِ قمحٍ
يدورُ على ساقِه
عكسَ ما يدورُ الناسُ
حول أصنامِهم
مثل
باليرينا من الغجرْ
تنتظرُ الفارسَ
أن يأتي
يناولُها كِسرةَ خبزٍ
ورشفةَ نبيذٍ
ثم يخرجان للبحيرة
بجسدينِ من نورٍ
يُطعمانِ البجعْ.
لي
سِرُّ المحيطِ الهادرْ
حكى لي مَرّةً
عن غرقاه
ثم أهداني
لوحًا خشبيًّا
سطَّرَ عليه آخرُ الغرقَى
اعترافًا
لحبيبتِه
قبل أن يستسلمَ للماءِ
يُكَفِّنُه.
لي
سِرُّ إكليلِ شوكٍ
غرسته أمي في جبيني
وعقَصَتْ حول أغصانه
جدائلي
حتى لا يسقطَ من رأسي
كلما
ضممتَني إلى صدرِكْ.
فإن تهشّمتْ بين كفّيكَ
ضلوعي الواهنةْ
مسحتَ بالزيتِ المقدّسِ
جبهتي
حتى أبرأَ من أسقامي
وأدخلَ معكْ
ملكوتَ السماءْ.
لي
سِرُّ القُبلةِ
التي تسرقُها من شفتي
كلَّ صبحٍ
قبل أن تخرجَ من جسدي
إلى جسدِك،
لكي تحملَ مِخلاتَكَ
وتمضي إلى البحر،
ومع آخرِ النهارْ
تعودُ
بحفنةٍ من أسماكِ موسى
تكفي الحواريّينَ والفِرّيسينَ والأسباطَ
وتبقى في المِخلاةِ
سمكةٌ
نِصفُها لكْ
ونِصفُها لي
كيما نصيرَ من جديدْ
جسدًا واحدًا
لا ينفصمْ.
ولي
في الأخيرْ
تاجُ أسراري؛
صندوقٌ من الأپنوسْ
دسَسْتُه تحتَ المذبحِ
منذ عقدين
خبأتُ فيه طفولتي
وصِباي
حتى تأتيني
في ثوبِ كاهنٍ
يحمل سِراجًا مُنيرًا
وغُصنَ زيتونٍ
وكأسًا من نهر الكوثر
ومِبخرة،
فأجثو عند قدميكَ
أتلقّى
وصاياكَ العَشرْ.
ولي أيضًا
سرُّ أسراري
سرُّ نَجمةٍ في سمائي
تُشرقُ
إذا ما مررتَ بكفِّك فوق جسدي
وتُغمِضُ نورَها
إذا ما غِبتَ عني.
أنا
يا حبيبي
سِرُّكَ الأعظمُ
لم يَفُضّ تعويذتَه
كلُّ مَن سبقوكَ في عشقي
ذاك أنَّ
مفاتيحَ حصوني
مسروقةٌ
منذ قرنْ.
فلا تلعبْ معي
لُعبةَ الأسرارِ
أيها الفتى الذي
يخافُ أن يُعلَن سِرُّه
فوق مذبحي.
اِهنأْ بسِرِّكَ المذعورِ
واتركْ لصندوقي
أسرارَه السبعةَ
بعيدًا عن عشقِنا
كيما نخرجَ
ذاتَ مساءٍ
عند حُمرةِ الشَّفَقْ
نرقصُ مع الشمسِ
قبلَ مغيبِها.
القاهرة/3 أبريل 2014
رُدّ يدي
طلبتَ يدي
فأرسلتُها هذا الصباحْ
بعِلمِ الوصولْ
إلى حيثُ البلادِ البعيدةْ
تحملُ
زهرةً حمراءَ
وطابعَ بريدٍ مصريًّا.
أخبرَني السُّعاةُ
أنكَ تسلّمتَها
مُدثّرةً في لُفافةِ الكِتّانْ
وشريطٍ من ستانِ الفيروزْ
وفي بِنصرِها
خاتمٌ برأسِ إخناتونْ
وأخبروني
أنها نامتْ في كفّكَ
حتى غفَتْ.
فكيف تقولُ الآن:
"أفلتتْ يدُكِ من قبضتي
وعادتْ من حيثُ أتتْ
بزهرتها"؟!
لا!
لم تعُدْ
أيها اللصُّ!
ابحثْ عنها في قلاّيتِكْ
حيثُ تُصلّي،
ربما ذهبتْ يدي
لتوقدَ شمعةً هنا
أو هناك.
تفقّدْها في مكتبتِكْ
علّكَ تلمحُها تعبثُ بأحدِ دواوينِكْ
لتفتّشَ عن صورِ النساءِ
بين قصائدِك.
أو
في دُرجِ المكتبْ
تبحثُ في الركن المعتمِ
عن قِلادةٍ من لؤلؤْ
كنتَ تفكرُ في إهدائِها لي
ذاتَ حُلُم.
إن لم تجدْها
أُخرجْ إلى الحديقةْ
ربما تراها
تغرِسُ زهرتَها
جوارَ ورودِكَ
أو
تسقي نبتةً عطشَى
نسيتَ أن تسقيَها
هذا الصباحْ.
طاردْها بين الشجرْ
-يدي الضائعة-
علّكَ تلمحُها
تساعدُ عصفورًا نحيلاً
يبني عُشَّه
بعيدًا عن عيونِ النسورْ.
أو
تداعبُ قطّةَ الجيرانْ
وتحكي لها عن قطّتي الرماديةِ التي
لا تنامُ إلا بين يديّ.
وانظرْ عندَ البحيرةْ
فقد ترى كَفّيَ المفقودةَ
تُجالسُ سمكةً
قفزتْ في فورةِ غضبٍ
من الماءِ
إلى اليابسة
وتحاولُ إقناعَها بالعودةِ
إلى حيثُ ينامُ صغارُها
جوارَ المحارْ.
اِذهبْ إلى الحديقةِ العامة
في الشارعِ الخلفيّ
عساها تُفتّشُ
عن خاتمٍ
يحملُ رأسَ نفرتيتي
خبأتُه في جيبِ كُنغرٍ عجوزْ
كي يُهديَه إلى حبيبتِه
الكُنغرةِ الحزينةْ.
ثم عرِّجْ على كاتومبا
ربما سافرتْ يدي
لتتأكدَ أن الشقيقاتِ الثلاثْ
يرقدن في سلامٍ
كما رقدنَ قرونًا
في جوفِ الجبالْ.
وربما
اكتشفها حارسُ أوپرا سيدني
مختبئةً في جيبِ معطفِ عجوزٍ
ذهبَ يستمعُ إلى أوركسترا ڤاجنر
يعزفُ مارشَ الزفافْ
لتمسحَ دمعةً طفرتْ من عينِه
حين تذكّرَ زوجتَه التي تركته
وسافرتْ للسماءْ.
فإن لم تجدْها
عُد إلى منزلِك
وتوجّه إلى الكونسولِ المُذهّبْ
في بهوِ القصرْ
حيث كان "بوذا" يتربّعُ،
قبل أن يطيرَ إلى بيتي
بالقاهرة.
حتمًا
ستجدُها هناك
تُمسّدُ موطئَ قدميه
وتجلو الغبارَ المقدسْ
لتجمعَه في راحتِها
فتصنعُ من طَميِهِ
طوطمًا للعاشقين،
ثم تنثرُ بذورَ القمحِ على الأرضِ
دربًا
يدُلُّ الحائرينَ
الذين يجوبونَ الطرقاتِ
باحثين
- مثلي-
عنِ الله.
فإن وجدتَها
مُرْها أن تعودَ إليّ
لأن العسراءَ الواهنةَ
تحتاجُ إلى يدها اليُمنى
كي تسندَ الورقةَ من طرفِها الأيمنْ
حتى تخطَّ يسراي
قصيدةً إليكَ.
القاهرة/ 30 نوفمبر 2013