سيداتي سادتي، أيها الحضورُ العزيزُ! أيها المجتمعُ، أتتساءلونْ عما أريدُ قوله لكُم وللعالمِ أجمَع؟ هلْ ينتابكم الفضولُ عَمَّا في داخلي؟ عمَّا يجري في عقلي؟ وعمَّا يدورُ في قلبي؟ عنْ الاضطراباتِ التي تُعكِّرُ صفاءَ ذهني؟ وتتسببُ في اضطرابِ مزاجي؟ آنَ لكمْ الآنَ أنْ تعرفوا.
سيدي الكريم، دعني أسألُكَ سؤالاً بسيطًا جدًا.. هلْ توافقُ؟! أتعرفُ يا سيدي الكريمَ، كيفَ هو شعور البرد الذي يصيبُ القلبَ، والفراغُ الذي يعتري الفؤادَ؟ أتعرفُ معاناة فَقْدِ من كانَ يسكنُ سويداءَ قلبِكَ، ويملأُ عليك حياتكَ؟ وأنْ تفقدَ الناسَ جميعًا وأنْ تغدو نفسُكَ غريبةً عنكَ؟ .. أنْ تصبحَ مضطرباً قلقًا، لأنكَ لا تجدُ ملجأً تأوي إليهِ، ولا يوجدُ من ترتمي في حُضنِه وذراعيه ليزيلَ عنك خوفَك وقلقَك.. أنْ يسيطرُ عليكَ فقدانُ الشغفِ تجاهَ الحياةِ بأسرها، وأنْ تموتَ وأنتَ على قيدِ الحياةِ.. إنَ جملتي الأخيرةَ تلكَ هيَ التي تعذبُ فؤادي ولربما أذهبت النومَ من عيني لأيامٍ، ماذا عنْ شعورِ أنْ تبقى جسدًا بلا روحٍ، وأملاً، بلا شخصٍ؟.. هلْ تريدُ شرحًا لتلكَ الجملةِ الأخيرةِ؟؟
لا تحسبنَ نفسكَ بلا أملٍ، والدليلُ على ذلكَ أنكَ حينَ تضطرُّ لدعمِ أحدهمْ تجدُ نفسكَ تتلفظُ بعباراتٍ إيجابيةٍ من حيثُ لا تدري.. ألا تعرف السببَ؟
في الحقيقةِ لقدْ وجهتَ طاقتِكَ إلى شخصٍ معينٍ، وسببُ شعورِكَ بفقدان الطاقة هوَ أنكَ لا تعرفُ الطريقَ الذي تسلكَهُ لتُهدي نفسَكَ تلكَ الهديةِ الرائعةِ!.. ألا وهيَ الأملُ، ولكن تلكَ حكايةٌ أخرى يطول شرحها، فلنْ نتحدثَ عنها الآن.
صديقي العزيز، سيقولُ الجميعُ أنني لستُ وحيدًا، لأنني أرى العديدَ من الناسِ، بغضِ النظرِ عنْ إذا كانتْ وجوههم عابسةً أمْ لا.. ولكنني لا أجدُ واحدًا منهمْ يُحي الحبَ الذي ماتَ في قلبي، إنَ الوحدةَ يا عزيزي، لا تعني ألا تختلطَ بالبشرِ، ولا أنْ تشعرَ بالاختلافِ، إنها أعمقُ بكثير، هيَ في الداخلِ، في القلبِ يا صديقي.. إنها تُبقي الفؤادَ فارغًا، تلكَ هيَ الوحدةُ الحقيقيةُ، ولا يهم إذا كانَ الإنسانُ منعزلاً بسببها أمْ لا، فأكثرهم لا يحتملونَ عذابَ شعورِها، ولهذا فهم يتجهونَ للعزلةِ كبتًا لمشاعرِهم التعيسةِ، أوْ ينفجرونَ في وجوهِ الآخرينَ صارخينَ بكلِ شيءٍ.. ولكنْ سيحتجُّ البعضُ بجملةِ أرسطو، التي تسببتْ في مشكلةٍ فكريةٍ لي، وغالبًا أرى أنَ علمَ الاجتماعِ قائمٌ عليها، حين قالَ: «الإنسانُ حيوان اجتماعيٍ، وكلُ من كانَ على غيرِ ذلكَ فهوَ إمَّا رجلٌ سافلٌ، أوْ كائنٌ أسمى من البشرِ» .. ولكنني أرى أنَ من السطحيةِ أنْ نحصرَ الإنسانَ ضمنَ اصطلاحٍ معينٍ، وهوَ " الاجتماعيةُ "، رغمَ أنَ أرسطو كانَ صادقًا بعضَ الشيءِ، وبغضِ النظرِ عنْ مقولتهِ، فلقدْ كانَ مقصِدُهُ هوَ أنْ يقولَ: إنَ طبيعةَ الإنسانِ هيَ الاجتماعية، التي قدْ يظنُها البعضُ نقيضًا تامًا للوحدةِ.. فهل الإنسانُ الوحيدُ سافلٌ دنيءٌ من الأراذلِ؟! لا، ليسَ كذلكَ، فالإنسانُ - وإنْ كانَ وحيدًا يا سادتي - وإنْ سلكَ طريق العزلةِ السلبيةِ عنْ البشرِ بنفسهِ، فهذا لا ينفي أنهُ نفسهُ أكثر الناسِ رغبةً في الحبِ والتقديرِ.
إنَ الوحيدَ يا سادة، أوْ المتوحدِ، سموهُ بما شاءَ بهِ هواكم، رغمَ كونهِ منعزلاً، يتمنى لوْ أنَ أحدًا أرسلَ إليهِ رسالةً، أوْ جاءَ لزيارتهِ، على الرغمِ من أنهُ قدْ لا يرحِبُ بهذا التصرفِ أحيانًا، وقدْ يُلقي بالرسالةِ في سلةِ المهملاتِ دونَ أنْ يفتحَها، أوْ ينظرَ إلى اسمِ مرسلها.. فلماذا إذًا يترقبُ مجيءَ الزوارِ ويرى الناسَ من خلفِ النافذةِ عسى أنْ يأتيهُ زائرٌ ما؟
الإجابةُ هيَ: لأنهُ يبحثُ عن الحبِ والاهتمامِ، ولا يرغبُ في أنْ يكونَ منسيًا ولوْ عدَّ نفسَهُ منبوذًا من نفسِهِ حتى من قَبلِ البشرِ، وتلكَ نقطةٌ لمْ يذكرها أرسطو، ولكني توصلتُ إليها حينَ أمعنتُ التفكيرَ في مقولتِهِ، وحكَّمتُ عقلي.. فما الذي توصلنا إليهِ من هذا كلهِ؟ أقولُ لكمْ يا سادتي:
إنَ الخلاصةَ في الآتي: " الإنسانُ الوحيدُ ظاهريًا اجتماعيٌ داخليًا " أي يتمنى لوْ يحادثُ الناسَ وإنْ كانَ لا يقوى على المبادرةِ بذلكَ، أوْ يعاني من مشكلةٍ في المهاراتِ الاجتماعيةِ.. وكانَ ذلكَ نقاشًا في علمِ الاجتماعِ، الذي أخرجَ للإنسانِ طبيعةً اجتماعيةً، فماذا عنْ علمِ النفسِ يا أصدقائي؟
لقدْ كانَ (فيودورْ دوستويفسكي) مقتنعًا بأنَ الإنسانَ يستطيعُ أنْ يبقى وحيدًا، وهذا ما سنتحدث عنه بعد قليلٍ، حيثُ قالَ: «إنَ مشكلةَ الإنسانِ حينَ ينضجُ عقلهُ تكمنُ في تفضيلهِ للانعزالِ والوحدةِ»، وذكرَ بلسانِ بطلٍ في إحدى رواياتهِ أنهُ ظلَّ منعزلاً تمامًا عنْ البشرِ لثلاثِ سنواتٍ، وقالَ صراحةً أنهُ نفسهُ بقيَ وحيدًا لخمسِ سنواتٍ، فهلْ يستطيعُ الإنسانُ أنْ يعيشَ على هذهِ الحالةِ؟ وهلْ البشرُ بلا فائدةٍ فعلاً؟ أخرجَ (دوستويفسكي) لعلمِ النفسِ قاعدةً جديدةً، حينَ كانَ يصفُ نفسَهُ في مقولتهِ الشهيرةِ: «أنا أحبُ الوحدةَ، تعودتُ عليها، والتعودُ هوَ الطبيعةُ الثانيةُ للإنسانِ».. فهلْ يستطيعُ الإنسانُ أنْ يحيا وحيدًا فجأة؟!.. لا، لا يستطيعُ ذلكَ، ولكنْ يمكنهُ حين يتعوَّدُ، وعندما يتكيَّفُ على الوضعِ سينسى ما تُسببهُ الوحدةُ لهُ من آلامٍ، ولنْ يتأذى إلا حينَ يختلطُ بالبشرِ فيجددونَ شعورهُ بجحيمِ الوحدةِ، وعدا ذلكَ فستنتقلُ مشاعرها السلبيةُ - أيْ الوحدةِ - إلى العقلِ اللاواعي، حيثُ يقبعُ فيهِ " اللاشعورُ "، وذلكَ يحدثُ بسببِ كبتِ الإنسانِ لمشاعرهِ السلبيةِ، ومن ضمنها المشاعرُ الناتجةُ عنْ الوحدةِ، فيظنُ أنهُ تخلصَ من المشكلةِ، وأن باستطاعتهِ التعايشَ معها، وسينسى أصلَهُ الاجتماعيُ مؤقتًا، وسينفرُ من البشرِ، ولنْ يشتهيَ محادثتهمْ، إلى أنْ تتأججَ نارُ اللاشعورِ داخلَهُ، فتطفح المشاكلُ النفسيةُ دفعةً واحدةً بسببِ قمعِ المرءِ لمشاعرهِ ورغباتهِ وأفكارهِ، مما قدْ يصيبهُ بالاكتئابِ.. ولكنهُ لنْ يعرفَ أنَ سببَ ذلكَ قدْ يكونُ من الوحدةِ أساسًا، فهلْ تتسببُ الوحدةُ في الاكتئابِ؟
أجل، ولكنكَ ستسألني الآن يا صديقي: كيفَ سيعيشُ الإنسانُ معَ الاكتئابِ الناتجِ عنْ الوحدةِ؟ وهلْ يستطيعُ فعلَ ذلكَ؟ أنا أجيبُكَ: إنَّ بإمكان المرءِ العيش معَ الاكتئابِ لمدةٍ مؤقتةٍ، ولكنَ ذلكَ لنْ يستمرَ لوْ أنهُ فكرَ بالانتحارِ، وسيعيشُ "مجازيًا " لأنَ الاكتئابَ يقتلُ كلَ شيءٍ في داخلنا، فستعود لتسألني: كيفَ قلتَ إنَ بإمكانِ الإنسانِ أنْ يحيا لوْ أنهُ تعوَّدَ الوحدة؟! فأقولُ لكَ: بتحويلها إلى وحدةٍ إيجابيةٍ إن كانَ يجدُ راحَتهُ في الانعزالِ لفترة طويلة عنْ البشرِ، ولنْ أتحدثَ عنْ الوحدةِ الإيجابيةِ إلا بعدما أُبدي رأيي في فكرةٍ طَرَحَها فيلسوفٌ مجهولٌ¹، وتحديدًا حينَ عبَّرَ عنها قائلاً: «جرِّبْ أنْ تظلَّ وحيدًا لفترةٍ، ستجدُ أنَ البشرَ بلا أيِ فائدةٍ حقيقيةٍ، سوى إنهاككَ في تفاهاتٍ سطحيةٍ لمشاكلِهمْ النفسيةِ طوالَ الوقتِ» .. أنا لا أشارك الفيلسوف صاحبَ هذهِ العبارةِ تلكَ الفكرةِ؛ لأنَ المرءَ كما أعربتُ من قبل يفتقرُ إلى الحبِ والتعاطفِ، كما يحتاجُ أنْ يشاركهُما أيضًا ليصبحَ سعيدًا، ولتتوازنَ الحياة.. ولنعُدْ إلى سؤال لعله يدور في أذهانكم: ما معنى كلمة "ظاهرياً" التي استعملتها من قبل؟ وهلْ الوحدةُ حقيقيةٌ؟
يؤسفني يا سادة، أنَّ إجابتي قدْ تهدمُ كلَ ما شرحتُهُ سابقًا، فأنا لا أؤمنُ بالوحدةِ إلا كمعنىً "مجازيّ"، وكمبررٍ لتلكَ المشاعرِ التي نشعرُ بها - وقدْ يكونُ لا معنىً لها - عندما نختلطُ بالبشرِ، والذي جذبني لتلكَ الفكرةِ إلى أنَ تبنيتُها، هوَ مقولةُ (فيودورْ دوستويفسكي) في روايةِ الجريمةِ والعقابِ: «لكنَ (راسكولنيكوف) رغمَ بقائهِ وحيدًا في جميعِ الأحيانِ تقريبًا، لم يفلح في الوصولِ إلى الشعورِ بالوحدةِ».. لقدْ شعرتُ أنهُ ليس بإمكانِ أيِ أحدٍ منا أنْ يشعرَ بالوحدةِ الحقيقيةِ، فالوحيدُ يفكرُ في كلِ التفاصيلِ بشكلٍ عميقٍ، ويعيشُ في عالمٍ مظلمٍ بعيدٍ، وتحيا بداخلِهِ العديدُ من الأفكارِ والشخصياتِ الوهميةِ، وقدْ يحيا عالمٌ بأكملهِ داخلَ عقلهِ.. فكيفَ يكونُ وحيدًا عندئذٍ إنْ كانَ يحادثُ العديدَ من الناسِ في مخيلتهِ، ويتبادلُ معهمْ الأفكارَ رغمَ أنهُ يسمعُ صوتَهُ الداخليّ لا أكثر؟!..
أما الوحدةُ، أهيَ حقيقيةٌ أمْ لا؟ ذلكَ سؤالٌ لا أستطيعُ الإجابةَ عنهُ يا أصدقائي، ولا حتى شرح فكرتي بشكلٍ سليمٍ، ففي عقلي المئاتُ من الأفكارِ تكفي لكتابةِ العديدِ من المقالاتِ والمواضيعِ، وحين أكتبها أجدها مجردَ قشور كلامٍ تافهةٍ وساذجةٍ.
ماذا عنْ العزلةِ؟ أهيَ حقيقيةٍ أمْ لا؟ ما هوَ الفرقُ بينَ الوحدةِ والعزلةِ أساسًا؟ سبقَ أنَ شرحتُ ذلك بشكلٍ مختصرٍ، إذاً فلنتعمق الآن..
أظنُ يا أصدقائي الأعزاءَ، أنَ الجميعَ يعتقدونَ أنَ الوحدةَ الإيجابيةَ تساوي العزلةَ، لأنَ العزلةَ استجابةٌ إيجابيةٌ للمشاعرِ بينما تُعدُّ الوحدةُ النقيض، ولكني سأخرجُ بقانونٍ جديدٍ، سأجعلُ الوحدةَ إيجابيةَ فيهِ، ومحتفظةً بمصطلحِها..
أما الفرقُ بينَ العزلةِ والوحدةِ السلبية.. ففعليًا، يتجهَ الإنسانُ إلى العزلةِ لجمعِ طاقتهِ، وتصفيةِ ذهنهِ، بإرادتهِ الكاملةِ.. كما أن العزلةَ تكونُ مؤقتةً، ويشعرُ الفردُ فيها بالإيجابيةِ.. بينما تكونُ الوحدةُ شيئًا يُجبَرُ عليهِ المرءُ، أوْ اختيارًا اتخذهُ كحيلةٍ دفاعيةٍ يهربُ عنْ طريقِها لمدة طويلة من سخرياتِ الآخرين، ويمكن أنْ تحدثَ بسببِ فقدانِ ثقتهِ بنفسهِ، وتأثيرِ المواقفِ الاجتماعيةِ عليهِ بشكلٍ سلبيٍ.
كيفَ نجعلُ الوحدةَ إيجابيةً؟ ذلكَ سؤالٌ مهمٌ، وينبغي تسليطُ الضوءِ عليهِ، حيثُ يظنُ الناسُ أنَ الوحدةَ سلبيةٌ دائمًا، فينفرونَ منها.. ولكنْ كيْ أجيبَ عن سؤالكَ يا عزيزي، فأنا بحاجةٍ إلى قول أننا لنْ نصلَ لإجابةِ عليهُ إلا لوْ علمنا أسبابَها، ولماذا يتجهُ الإنسانُ لها؟
في الحقيقةِ يا سيدي، هناكَ العديدُ من الأغراضِ التي تجعلُ الإنسانَ يتجهُ إلى الوحدةِ، ولهذا فلنقمْ بتقسيمها: الوحدةُ " اللاإراديةُ ": والتي يكونُ الإنسانُ فيها وحيدًا لعدمِ وجودِ صداقاتٍ أوْ علاقاتٍ اجتماعيةٍ، وتربية الطفلِ على الانعزالِ، أوْ نتيجة لانفصالِ الوالدينِ، أوْ موتِ شخصٍ عزيزٍ، أوْ المعاناةِ من مشكلةٍ اجتماعيةٍ؛ كسوءِ التفاهمِ معَ الآخرينَ، والوحدةِ " الإراديةِ ": التي ينعزلُ فيها الإنسانُ عنْ الآخرينَ لرغبتهِ في الابتعادِ عنْ عبثيةِ وتفاهةِ البشرِ وسطحيتهمْ.
والوحدةُ شيءٌ معقدٌ للغايةِ، فيصعبُ التفريقُ بينَ نوعيها، وقدْ يتمُ الخلطُ بينهما وبينَ الغرورِ، وقدْ يتجهُ الإنسانُ إليها لشعورهِ بالاختلافِ أوْ التميُّز، ويصيرُ وحيداً تجنبًا لاعتداءِ الآخرينَ عليهِ لفظيًا أوْ جسديًا، ولخوفهِ من الاختلاطِ بالناسِ، وبحثه الدائم عنْ هدوءِ بالِه وراحتهِ النفسيةِ، أوْ كيلا يقلقهُ أفرادُ المجتمعِ، وقدْ يتجهُ للوحدةِ أيضا ابتعادًا عنْ أقنعةِ البشرِ المزيفةِ والمتعددةِ.. ولربما يتقمصُ شخصيةً ما لينالَ إعجابَ الآخرينَ.. وقدْ يفعلُ ذلكَ ظنًا منهُ أنهُ سيكونُ "مستقلا ذاتياً" عنْ طريقها، أوْ انتقامًا من نفسهِ لاقتناعهِ بأنهُ نكرةٌ، وقدْ تكونُ الوحدةُ استجابةً للاكتئابِ، كما أنها قدْ تنتجُ عنْ "إدمانِ القراءةِ"، وغيرِها من أنواعِ الإدمانِ.. ولكنْ يا أصدقائي، لقدْ طالَ الحديثُ، وينبغي أنْ أسرعَ شارحًا كيفية جعلِ الوحدةِ إيجابية.
أتعلم سيدي الكريم؟ أتعلم أنَ الوحدةَ من أفضلِ الفرصِ لاستكشافِ الذاتِ والإبداعِ وبلوغِ الأهدافِ؟ وذلكَ لأنكَ حينَ تعززُ ثقتكَ بنفسِكَ، تمنحُ نفسَكَ فرصةً لتبدعَ وتتميزَ في المجالاتِ التي تنجذبُ لها، بعيدًا عنْ التفكيرِ فيما سيقولهُ الآخرونَ.. كما أنهُ من الأجدرِ بكمْ يا سادة أنْ تُصَفُّوا أذهانَكمْ، وأنْ تواجهوا القلقَ إنْ كانَ يُعيقُكمْ، وبعدها قوموا بترتيبِ أفكاركِمْ.. وهذا سيساعدُكمْ على البدءِ بالتفكيرِ المنطقيِ وإعادةِ التوازنِ للحياةِ التي بداخلكمْ، كما أنهُ بإمكانِكمْ يا أصدقائي، أنْ تغيروا اتجاهَكمْ الذهني تجاهَ المجتمعِ - وذلكَ ضروريٌ لتطوِّروا أنفسَكمْ -؛ لتكونوا قادرينَ على التفاعلِ والتعاطفِ معهمْ، كما أنَ الوحدةَ - يا سادتي - ستكونُ رائعةً إن شغلنا أوقاتِنا فيها بالهواياتِ المختلفةِ.. ولكنَ ذلكَ لا يغني عَن الاختلاطِ بالآخرينَ ولوْ ليومٍ واحدٍ في الأسبوعِ، كيْ تعبروا عنْ مشاعرِكمْ وأفكاركمْ، تجنبًا للضغطِ النفسيِ وحدوثِ الكبتِ. ولدىَّ سؤال لكمْ يا أصدقائي: هلْ تكونُ الوحدةُ سيئةً الآن؟.
كما أنني أريدُ قولَ شيءٍ آخرَ، من دونِ أنْ يسألنيَ أحدٌ عنهُ؛ لأنَ الأمرَ يقتضي ذلكَ. سيدي المحترم المبجل، لماذا يختلفُ الناسُ بخصوصِ الوحدةِ وينفرونَ منها؟ إنَ هذا لسؤالٌ ضروريٍ.
شخصيًا أرى أنَ مبررَ ذلكَ لا يكمنُ في معنى الوحدةِ نفسها، ولا في نظرةِ المجتمعِ المتعاليةِ للوحيدِ، بلْ إنَ المشكلةَ الأساسيةَ تكمنُ في ظنِّ البعضِ بأنَ الوحيدَ ضد البشريةِ، أوْ كاره لها، وهناكَ تفريعاتٌ كثيرةٌ في تلكَ النقطةِ الوحيدةِ، حيثُ يتمُ الخلطُ بينَ "رهابِ كراهيةِ الأجانبِ"، وبينَ "اضطرابِ القلقِ الاجتماعيِ“ وبينَ "العنصريةِ" و "النرجسيةِ".. ولربما يخلطُ الناسُ بينهمْ جميعًا وبينَ الشخصِ المتصفِ بالوحدةِ، فلهذا إنما أرى أنهُ من الواجبِ عليَّ أنْ أستعينَ بذاكرتي، وأنْ أستشهدَ بجزءٍ مقتبسٍ من مذكراتي²؛ لأجلِ مساعدتكمْ على التمييزِ بينهمْ، وفي النهايةِ.. أنا أرجو يا أيها السادة، أنْ أكونَ قدْ وضَّحتُ بشكلٍ صحيحٍ فكرتي التي تعذبُ ضميري.. وأنا أعلمُ أنَ الوحدةَ يصعبُ فهمها وتحليلها، و «يجبَ ألا ننسى أنَ دوافعَ أعمالِ الإنسانِ هيَ في العادةِ أشدُ تعقيدًا وأكثر تنوعًا مما نتصورُ حين نريدُ تعليلها³».. ولقدْ حاولتُ الاقتصارَ على المعلوماتِ المهمةِ قدرَ الإمكانِ.
وختاما، أيها الأعزاءُ، فقد قمتُ بتوضيحِ شعورِ الوحدةِ نيابةً عنْ أصدقائي الذينَ يخطئونَ شرحَ مشاعرهمْ، لاختلاطِها عليهمْ، وللفوضى العارمةِ التي في أذهانهِمْ.. حيثُ إنهمْ أحيانًا يرغبونَ في التعبيرِ عنْ حاجتهمْ للحبِ، فيظنُ الناسُ أنهمْ يشتكونَ من وحدتِهمْ، مما يعرضهمْ لسوءِ الفهمِ، لأنهمْ أحيانًا من يجتنبونَ الالتقاءَ بالبشرِ..
وشكرًا لطولِ صبركِمْ.
١: تنسب المقولة لدوستويفسكي، ولكنها ليست له
٢: رهاب الأجانب:
يشعر المصاب به بعدم الثقة بالأجانب لدرجة الكره، مما يجعله يظهر عدوانياً، وذلك بسبب: اختلاف الدين، والجنسية، والمعتقدات؛ فينطوي المريض على نفسه.
الرهاب الاجتماعي:
من الاضطرابات النفسية الناتجة عن فقدان الثقة بالنفس والخوف من الآخرين، وتظهر على الفرد أعراض الخوف والتوتر حين يتحدث مع الناس، ويكون ذلك بشكل زائد ومبالغ فيه، ويشعر صاحبه بأن الكل يحدق به ويلاحظ أدق تفاصيله، كأسلوبه في تناول الطعام، أو حركاته البسيطة، ويخشى المصاب به من التلعثم، وهناك أعراض أخرى؛ كالارتجاف والتعرق وضيق التنفس وخفقان القلب وتشتت الذهن وصمت المرء لوقت طويل، ومن مضاعفاته: نوبات الفزع والهلع والانهيار العصبي.
العنصرية:
هي الإيمان بوجود فروق تحط من قدر المرء، كديانة الشخص أو عرقه (وتختلف في تلك النقطة عن رهاب الأجانب، حيث إن المصاب برهاب الأجانب يخشى اختلاف الأديان تجنباً للاشتباكات والنقاشات الحادة، أو لرغبته عن تغيير معتقداته الدينية)، وإشعار المختلفين بأن الإنسان العنصري متفوق عنهم فكرياً (ثقافياً) وأخلاقياً أو دراسياً وسياسياً، فيميّز بينهم .. ومن الأفكار العنصرية؛ الاعتقاد بدونية الأعراق أو الجماعات الأخرى (ومن أهم الفروق بين العنصرية ورهاب الأجانب أن العنصري يكره الإنسان لعرقه، بينما قد ينفر المصاب برهاب الأجانب من شخص لأنه ينتمي إلى بلد معينة - وذلك يحدث بشكل لا إرادي، حيث إن الإنسان الذي يعاني من رهاب الأجانب قد يدعو للسلام والعدل والأخوة، رغم أنه لا يستطيع تقبل الاختلاف أحياناً -)
ومن أنواع العنصرية: الفروق الجسمانية والعمرية.
النرجسية:
هي اضطراب في الشخصية ومشكلة اجتماعية وثقافية ونفسية، حيث تعني الأنانية، ويتميز صاحبها بالغرور والتبختر والتعالي مع الاعتزاز بالنفس، وتتوافق مع مفهوم التخاذل، أو خيانة الآخرين وإلحاق الأذى بهم، لأجل مصلحة شخصية، وهي كلمة يونانية نسبت إلى نركسوس، وتتسبب في المشكلات الاجتماعية، وتختلف عن حب الذات أو الثقة بالنفس.
٣: اقتباس من رواية الأبله لفيودور دوستويفسكي