كتابة: ملك وليد بكر
تدقيق: إبراهيم محمد إبراهيم
....
في أحدِ الأيامِ، كانَ الطقسُ باردًا، وكانتْ السماءُ ملبدةً بالغيومِ، وأرادتْ السحبُ أنْ تمطرَ ولكنها لمْ تستطعْ، وغردتْ العصافيرُ وهيَ تُنشِدُ لحنًا حزينًا، وكانَ الجوُ كئيبًا.. في أحدِ شوارعَ لندنَ العريقةِ، العتيقةِ، التي دلتْ مبانيها على عظمةِ البناءِ الهندسيِ، والتي احتفظتْ برونقها إلى مدةٍ طويلةٍ من الزمانِ، وازدحمتْ بالعديدِ من العرباتِ التي جرَّتها الخيولُ، والناسُ السائرةُ على الأقدامِ، وفيها العديدُ من دكاكينِ التجارِ الأغنياءِ منهمْ والفقراءِ، المتراصَّةِ بَعضها بجوارِ بعضٍ، والتي يمرُ بها الباعةُ الجائلون، وتسمعُ فيها قهقهاتِ السكارى، وناقوسَ الكنيسةِ.
أيْ في شارعٍ تعلو فيهِ الضجَّةُ، وتسمعُ فيهِ شتائمَ الحُوذيينَ، ظلَ طريقًا مهمًا منذُ العصرِ الرومانيِ، وأنشئَ بطولِ طريقِهِ العديدُ من الشركاتِ خلالَ العصورِ الوسطى..
وهوَ الشارعُ الذي اشتهرَ بسكنِ المؤلفينَ والناشرينَ فيهِ منذُ بدايةِ القرنِ السادسِ عشر حتى القرنِ العشرين، وقطنَ بهِ بعضُ الفقراءِ وأصحابُ الحاناتِ ورجالُ الكنيسةِ، وبنيتْ فيهِ كنيسةَ المعبدِ وكنيسةَ القديسِ برايدْ، وامتلأَ بالآثارِ والتماثيلِ، والنصبِ التذكاريةِ لبعضِ الصحفيينَ البريطانيينَ؛ مثل (صمويلْ بيبس) والذي تمَّ تعميدُهُ في كنيسةِ القديسةِ العروسِ بنفسِ الشارعِ ـ
وهوَ الشارعُ الذي ذُكرَ في العديدِ من الأعمالِ الأدبيةِ للكاتبِ البريطانيِ (تشارلزْ ديكنزْ) .. حتى إذا حلتْ الثمانينياتُ قلَّ عددُ سكانِ مبانيهِ، وهدأتْ الضجَّةُ التي لطالما سُمِعَتْ فيهِ، لكنْ معَ ذلكَ؛ لمْ تُغلقْ الحاناتُ لشعبيتِها، ولمْ تُغلقْ بيوتُ الفسقِ أوْ صالات القُمارِ!، ولعلَ هُنا يكمُنُ البلاءُ الأكبرُ.
وأثناء سيري في ذلك الشارعِ، اصطدمتُ برجُلٍ عنْ طريقِ الخطأِ، وقدْ كانَ رجلاً غريبَ الأطوارِ، أثَّرَ الخمرُ قليلاً على رأسهِ حتى باتَ وجههُ محمرًا، وكانَ خارجًا لتوهِ من بابِ الحانةِ؛ فلهذا لمْ يستطعْ أنْ يلمَحني .. وحينَ اصطدمنا ببعضنا البعض سقطتْ الأكياسُ التي كنتُ أحمِلها من يدي، وسَقطتْ قبعتهُ أرضًا، ومما جعلني أحِسُّ أنهُ رجلٌ مسكينٌ أنهُ أسرعَ يجمعُ معي الأشياءَ التي خرجَتْ من الأكياسِ، ونسيَ أنْ يأخذَ قبعتَهُ، وحاولَ أنْ يبتسمَ لي أوْ أنْ يلفظَ جملة " طابَ صباحُكَ يا سيدي"، ولكنَّهُ بدا مضطربًا، فنطقَ بكلماتٍ لا معنى لها، لعلَهُ تلعثمَ أثناءَ قولِها، فازدادَ خجلُهُ من نفسهِ أكثرَ فأكثر، وقررَ أنْ ينسحبَ جانبًا دونَ أنْ يقولَ شيئًا زائدًا، وبَدا لي أنَّهُ كانَ على عجلةٍ من أمرهِ، فلمْ أستطعْ أنْ أتأملَ ملامِحَهُ جيدًا آنذاكَ، وربما لوْ لمْ يتكررْ موقفٌ مشابهٌ لِمَا وقعَ بيننا يومئذٍ لما تعرفتُهُ أبدًا، لتغيرِ ملامحِ وجههِ من البؤسِ..
كنتُ أحرصُ على الذهابِ لشارعِ (فليت) للتجولِ وشراءِ حاجاتي الخاصةِ - رغمَ أنهُ كانَ بإمكاني أنْ آمُرَ خادمي بذلكَ - فإما كنت أراه في نفسِ الحانةِ، أوْ أراه يصطدمُ بآخرينَ دون أنْ يقولَ شيئًا، وهوَ يهرولُ كعادتهِ بنفسِ ملابسهِ إلى نفسِ الطريقِ الذي يسْلُكهُ دومًا.
وفي أحدِ الأيامِ، حين كنتُ جالسًا في مقهى بسيطٍ، أحتسي كوبًا من الشايِ، رأيتهُ أمامي، فسنحتْ لي الفرصةُ أنْ أخاطبَهُ بجملةٍ، فقلتُ لهُ: «لعلكَ لستَ بخيرٍ يا سيدي، ولعلَ هناكَ ما يشغلُ بالكَ، ويعذبُ فؤادكَ، لتسيرَ كلَ يومٍ في هذا الشارعِ، دون حتى أنْ تعتنيَ بهندامكَ» فلمْ يسمعْ ما قلتهُ لهُ، إذْ كانَ ملتفتًا إلى عربةٍ عاديةٍ مرتْ بالشارعِ، جلستْ بداخلها سيدةٌ عجوزٌ، فوضعَ قبعتَه على الطاولةِ أثناءَ التفاتهِ، ثم جلس دونَ أنْ يدري على الكرسي القابع أمامي وهوَ لا يزالُ ينظرُ إلى الجهةِ الأخرى، فلما اختفتْ العربةُ من أمامِ ناظِريه؛ فوجئَ بأنهُ جلسَ على طاولةِ شخصٍ آخر دون استئذان، وكادَ يطلقُ صرخةً، ولعلهُ خشيَ من أنْ أكونَ قدْ فضحتُ أمرَهُ - الذي لمْ أكنْ أدري ما هوَ بعد - وسحبَ قبعتَهُ وكادَ يعودُ أدراجهُ، دون أنْ يحتسيَ شيئًا.
فتشبثْتُ بذراعهِ ثمَ أجلستهُ، وأمرتْ لهُ بفنجانٍ من الشايِ؛ لعلمي بأننا - نحنُ الإنجليز- إنما نفضِلهُ على القهوةِ كثيرًا، ونشعرُ بأنهُ يحدِثُ أثرًا كبيرًا في تعديلِ المزاجِ، وفي تهدئةِ الأعصابِ.
لقدْ كانَ الرجلُ يُدعى (فوردْ أوينْ)، وكانَ رجلاً طويلاً، أبيضَ البشرةِ، أسودَ الشعرِ والعينينِ، وكانَ لهُ شاربٌ صغيرٌ، ولحية قصيرةٌ، وبدا شابًا لمْ يبلغْ الثلاثينَ من عمرهِ، ومظهرهُ يُوحي بأنهُ شابٌ متحفِّظٌ، هادئٌ، مسالمٌ، لا ينقصهُ شيءٌ، ولا يشغَلهُ شيءٌ، ولكنَّ عينيهِ تحكيانِ ألمًا ووجعًا لمْ يستطعْ لسانُهُ أنْ يتلفظَ بهما.. فلما سألتُهُ عنْ الحزنِ الذي لاحَ في وجههِ، وصارَ واضحًا من ملامحهِ، ابتسمَ لي ابتسامةً باردةً، ثمَ شكرني على فنجانِ الشايِ، وتناولَ قبعتَهُ ثانيةً، وارتدى قُفازَهُ، وانحنى بكثيرٍ من الاحترامِ، ثمَ استأذنَ للرحيلِ، ولمْ ينتظرْ ردًا على استئذانِهِ؛ لأنهُ كانَ قدْ انصرفَ.
ومن حسنِ حظي أنهُ لمْ يغِبْ عنْ عيني، فتبعتُهُ في الخفاءِ، حتى وصلتُ إلى مبنى قصيرٍ؛ وهوَ بيتٌ مكونٌ من أربعةِ طوابقَ، مدخلهُ مظلمٌ، وبدا غيرَ نظيفٍ، وكانَ بجانبهِ صندوقٌ كبيرٌ من القمامةِ، وشممتُ رائحةً كريهة، فقطْ لأني وقفت على مدخلِ البيتِ.. فما ظنكَ - عزيزي القارئ - بما وجدتُهُ بعدَ أنْ دخلتُه؟.
لقدْ كانتْ أرضيةُ البيتِ متعفنةً تمامًا، فقد وصلتْ القذارةُ التي كانتْ على الأرضِ إلى درجةِ أنها غطَّتْ الأرضياتِ، فلا يُعرَفُ - من شدةِ القذارةِ - ما لونُها.. لقدْ دخلَ (فوردْ) دونَ أنْ يهتمَ بملابسِهِ، فلمْ يحفلْ باتساخِ بنطالهِ الذي كانَ طويلاً عليه أكثر منَ اللازِم، واتجهَ رأسًا إلى شقتهِ، التي كانتْ في الطابقِ الأرضيِ.. وكنتُ كلما تقدمتُ في سَيري خلفه تزداد الرائحةُ شدةً، حتى كدت أتقيأ منها، لكنِّي تابعتُ السيرَ خلفَه، وسرتُ في طرقةٍ طويلةٍ ضيقةٍ قليلاً، وجدتُ فيها العديدَ من الأبوابِ وسمعتُ فيها أصواتًا تداخلتْ ببعضها البعض، ثُمَ دخلَ صديقنا إلى غرفةٍ مظلمةٍ عاتمةٍ، فتبعتهُ بدوري، ولكنيِّ وقفتُ على عتبةِ البابِ، إذْ تركهُ مفتوحًا، وكانَ شباكُ الغُرفةِ مغلقًا، ووضِعَتْ عليهِ ستارةٌ بيضاءُ، فكانتْ الغرفةُ قليلةُ الإنارةِ، لا توجد فيها إلا شمعة وحيدة، حتى كادت الإضاءة أن تصير منعدمة..
وفورَ دخولِ (فوردْ) إلى غرفتِهِ؛ جَثى على ركبتَيهِ بالقرب من الفراش، ثم رفع غِطاءً وُضِعَ على شخصٍ بدا وكأنه نائم، وحين دلفتُ إلى الداخل وقرَّب (فورد) الشمعة منه أدركت أنها جثةٌ؛ وعلمت أن مصدرَ الرائحةِ الكريهةِ التي شَممتُها منذُ دُخولي لتلك الشقة لم يكن منبعثاً من القاذورات فحسب، وإنما يعودُ إلى تلكَ الجثةِ الممددةِ الباردة، التي على الرغم من إنها لم تكن قد تحللت إلا أن رائحة عجيبة خفيفة كانت تنبعث منها، فكأنها كانت رائحة محلول كيميائي .. وبدا من شعرها أنها لسيدةٍ، ولقدْ بدا (فوردْ) عاشقًا لها، إذْ تغيرتْ سِحنَتهُ بغتةً، فبعدما كانَ يبتسمُ ببرودٍ، باتَ أقربَ إلى طفلٍ يكادُ يبكي.. لقدْ أمعن النظرِ في وجهِ تلكَ المرأةِ، ثمَ داعبَ شعرَها الأشقرْ الطويل، وأخذَ يمسَحُ بيديهِ على رأسها، ورُغمَ أنها أمامَه جثةً لا تتحركُ.. إلا أنهُ لمْ يُردْ أنْ يصدقَ أنها قدْ رحلتْ، وأنها قد تركتْ لهُ مجردَ جثةٍ هامدة استحالَ لونُها إلى الأبيضِ الشاحبِ، ليضُمها إليهِ.
وبَعدمَا انتهى (فوردْ) من تقبيلِ جثة زوجته على جبينها واحتضانها؛ وثب واقفًا على الأرضِ، وعدَّلَ ملابسَهُ، ثمَ التفت إليّ وقالَ بصوتٍ مخيفٍ مختلجٍ مختلط بابتسامة ماكرة ارتسمت على شفتيه: «كنتُ أعلمُ أنكَ تتبعُني.. قل لي؛ أتسعدُكْ رؤيتها وهيَ على هذهِ الحالةِ؟!»، ثمَ استدارَ وأمسكَ زجاجةَ خمرٍ كانتْ على مكتبهِ، وتجرَّعَ منها جرعةً، وأعادَها إلى مكانِها، وأذِنَ لي بالدخولِ.
لقدْ تعثرتُ أثناءَ سيري فسقطتُ أرضاً بسببِ قلةِ الإضاءَةِ، ولمْ أدرِ أكانَ يخشى من أنَ تتحولَ جثةُ محبوبتهِ إلى رمادٍ بفعلِ الشمسِ والضَوءِ؟ لا أدري.. لقدْ سَمحَ لي بأنْ أجلسَ أمامهُ على كرسي، وأنْ ينظُرَ إليَّ ويخاطِبَني وجهًا لوجهٍ، لقدْ قدحتْ عيناهُ شررًا، ولكنهُ لمْ يكنْ متزنًا نفسيًا، فلمْ يكنْ الحقدُ صفة فيهِ ولا المكرُ من شيمهِ.. لقدْ صار مُخرَّبًا، مُدمَّرًا .. ثمَ سألني بجديةٍ دونَ أي مقدماتٍ: «هلْ رأيتَ تلكَ المرأةِ التي كانتْ جالسة في العربةِ؟ كانَ جمالُها فاتنًا، أليسَ كذلكَ؟» فسألتهُ: «العجوزُ؟!» فعادَ يشربُ من الزجاجةِ ثانيةً، ثمَ قالَ ضاحكًا بسخريةٍ: «كنتُ أعلمُ أنَ صورَتها التي أراها ليستْ إلا من وحيِ خيالي..» وعمَ صمتٌ مطبقٌ، ثمَ قالَ: "إنها ميتةٌ منذُ شهرٍ.. منذُ شهرٍ وهيَ على هذهِ الحالةِ، ولا أحدَ يعلمُ بهذا، إنَّ رائحةَ الغرفةِ بشعةٌ تسبب الغثيان، ولكن.. ليكنْ، إنَّني لا أستطيعُ أنْ أفرط فيها وأسلمها للترابِ» فلم أجبهُ بشيءٍ، وشعرتُ بأنهُ تغيرَ كثيرًا، يبدو أنه كانَ سعيدًا إلى حدٍ ما، إلى أن ألمَّتْ بهِ تلكَ الضربةُ الصاعقةُ، لمْ أكنْ أدري كيفَ كان بإمكاني أنْ أساعدَهُ حينذاكَ، هذا إنْ كانَ سيأذَنُ لي أصلاً، فقالَ ليقطعَ الصمتَ الذي دامَ لبضعِ دقائقَ: «إنني أعاني من ألمٍ رهيبٍ وأرقٍ لا يزولُ لفراقِها، وأشعرُ بالحنينِ إليها يزدادُ يومًا بعدَ يوم، فأرفعُ عنها الغطاءَ، ثمَ أداعِبُ شعرَها الناعمَ، ومن ثمَّ أُجهشُ بالبكاءِ، فأشربُ كأسًا من الخمرِ لعلها تُنسيني .. أو حتى تواسيني!.. هذا هوَ كلُ ما أفعَلُهُ.. ولا أعيشُ لشيءِ غيرِهُ .. إن الموتَ لا يبدو مرعبًا بالنسبةِ لي، بقدرِ ما يرعبُني شعورُ التعفن، إنَ روحي تتآكل، وإنيِّ لأشعرُ بأنَ قلبي باتَ كحطامِ سفينةٍ، أجلْ.. هذا هوَ كلُ ما يمكنني قوله لوصف ما أشعر بهِ.. لقدْ عذبني رحيلُ صديقي، ورحيلُ زوجتي!.. إلى متىْ سنظلُ نتألمُ في هذهِ الحياةِ؟!» كذلكَ قالَ بصوتٍ ظهرَ فيهِ السأمُ بعد أن تنهد وهو يتلفظ بجملته الأخيرة، ووثبَ عنْ كرسيهِ، وأخذ ينظرُ إلى النافذةِ المغلقةِ وقد اغرورقت عيناهُ بالدموعِ، وظلَ يشدُّ لحيتهُ القصيرةَ، فرأيتُ أنهُ من الأنسبِ أنْ أتركهُ بمفردهِ.
وأسفاهُ! إننيِّ لا أروي قصةً عنْ رجلٍ عاديٍ فقدَ زوجتهُ!، بلْ عنْ تائهٍ تعشش القلقُ والخوفُ والشكُ في رأسهِ.. ومهما حاولتُ أنْ أصفَهُ؛ لنْ أنجحَ في توضيحِ الصورةِ كاملةً لك - عزيزي القارئ - ولذلكَ، فإنني أرى أنَّهُ من الأنسبِ أنْ يُفصحَ هوَ عمَّا بداخلهِ.
...
إنَ هذهِ المذكراتِ تتناولُ الجانبَ المريبَ من حياةِ البطلِ اليائسةِ البائسةِ، إذْ بعدما رحلَ الراوي، الذي قصَ عليكمْ تلكَ الأحداثِ من أولها إلى آخرها، وهبطَ الليلُ على صديقنا؛ اضطربَ عقلهُ، وتشوَّشَ فكرُهُ، وشعرَ ببؤسٍ شديدٍ.. ففكرَ في مشاعرهِ، وفي الأسبابِ التي كانتْ تدعوهُ للاستمرارِ في الحياةِ، ولأنهُ أطالَ التفكيرَ؛ غفا أثناءَ جلوسهِ على كرسيهِ، وتكررتْ تلكَ الحالةِ في الليالي الأربعِ، فكانَ يرى فيما يرى النائمُ كل ليلةٍ أنهُ أمامَ عددٍ غفيرٍ من الناسِ يخطبُ، ويروي لهمْ ما يجولُ في خاطرهِ، وما يشغلُ بالَهُ، وما دوَّنهُ في ملاحظاتهِ.