شتاء ديسمبري يلف الأجواء كل شئ هادئ تمامًا خاصة في هذه الغرفة الوحيده من غرف القصر البعيده عن صخب الليل والحفلات المسائيه في قصر "قاسم باشا" أرقي قصور القاهرة وأفخمها، يحلم كل إنسان بالنوم ولو لليلة واحده في غرفة من غرفه لرؤيتهم الجزء الظاهرمنه غفلة عما يحوي باطنه. نوافذه دائمًا مُغلقة تمنع النظر للداخل فهذا قصر خادع من ينظر بقلبه فقط سيري مقدار بشاعته ويبغضه أما غير ذلك فهو أبهى منظر يمكن أن تراه العين.
يوجد به طابقان كبيران، الطابق الأول به قاعة الطعام المُبالغ في زينتها مرورًا بقاعة الأحتفالات الراقصة التي تشغّل الدور السفلي بأجمعه، وركن خاص يحتوي على أنواع من زُجاجات النبيذ المُعتق الفاخر والخمور، أما الطابق العلوي فهو عبارة عن غرف كثيره وكانت غرفة والدي المُبهرجة تبعد كثيرًا عن غرفتي المنبوذه، وبجانب غرفته، توجد غرفه كبيرة الحجم يُمكن تسميتها غرفة الكنز فبها كل المجوهرات والتُحف، والعديد من اللوحات التي أحضرها معه من البلدان التي زارها أو التي قام بجمعها بطرق مشروعه أو غير ذلك.
يعيش قاسم باشا وحيدًا بعد موت والدتي وأنا في سن ألعاشره فلم يتزوج بعد ذلك ليس حبًا لأمي ووفائه لذكراها فهو كان دائم القسوة عليها ولم أشعر يومًا بعطفه علينا وكان ينظر لها على أنها إحدى تحفة التي إشتراها ويتفاخر بها في حفلاته فقد كانت أمي شديدة الجمال وهو بطبعه يحب كل ماهو براق كما أنه لم يحب في حياته سوى المال وجمعه فقد تزوج ثروته ومجوهراته، لا أعلم سر حبه الشديد لذلك العُقد الألماسي الذي يهتم به ويحرص على تأمينه.
بعد ذلك كل غرف القصر مقفوله ماعدا غرفة الضيوف وهم ضيوف قاسم باشا فأنا ليس لدي أصدقاء ولا أختلط بالناس وخاصة من هذا النوع الذي يعرفه أمثاله ممن يدعون أنفسهم من الطبقه العليا النبيلة في المُجتمع لكنّ لم أرى سوى أنهم مجموعه من المُنافقين جامعوا الثروات الطامعين فويل لهم من طمعهم هذا.
لم أستطيع منع نفسي من كراهية كل شئ في هذا القصر بداية من الثريات أعلى السقف حتي جدرانه المُعلقة فوقها اللوحات الفنيه التي رسمها رسامون تم جلبهم خصيصًا من فرنسا ليتفاخر بها أمام أصدقائه؛ حتى أرضيات القصر المكسيه بالسجاد الفاخر، كل شئ حولي مُبالغ فيه من مظاهر البذخ والترف فلم أشعر بالراحة سوى في غرفتي البسيطه التي يوجد بها سرير صغير وخزانة ملابس وباقي الغرفه تشغلها مكتبتي المليئة بالكتب منها ما ورثته عن أمي والباقي جمعته ومكتبي الكبير ومرآة لا أحتاجها فالنظرة فيها تُشعِرني بالأنكسار والألم فأنا أرى عيون أمي الذابلة ووجها الشاحب قبل وفاتها ومع ذلك قد كانت شديدة الجمال، ورثتُ عنها عينيها الضيقتين اللذين يحملان لون القهوة الغامقه ووجها المستدير وشعرها الأسود مثل سواد الليل فكنت قريب الشبه منها على عكس أبي فلم أشبه في شيء، فتحاشيت المرآه كي لا أعيد الذكرى المؤلمة وبرغم ذلك فهي لم تفارقني مرة.
- أمي .. أمي.....!!!!
إستيقظت من النوم فزعًا إنه نفس الحلم الذي يراودني مُنذ وفاتها .. تبكي وتتمتم بكلمات الأمانه ... الأمانه إنها ليست ملكك .. الأمانه يجب أن ترجع لمالكها، ثم تنظر لي بعينيها المُنكسرتين وتقول لي أصلح كل شئ يا نور أصلحه
"ما أوُخذ بالكره يُمكن أن يستعاد بالحب"
ليتني أستطيع أن أعرف مقصدكِ يا أمي ، ها أنا اليوم أُتّم عاميّ الثلاثين ولم أقدر على مُغادرة القصر حتي أعرف ما غايتك يا غاليتي وأرجع تلك الأمانة، أشتاقك كثيرًا..
***
أنا غير موافقة علي هذا الزواج..
نجلاء هانم الطلب مرفوض، أو إنه لا يناسبني .. أي شئ من هذا القبيل.
ما بكِ يا روزهيا تحلي ببعض الشجاعه لن يحصل أي شئ إذا رفضت الزواج به ولكن ستقدم لي أمي شابًا أخر من عائلة راقية ولا أستطيع رفضهم كلهم بلا سبب مُحدد فقد إستَنفذتُ كل الحجج والأعذار في النهايه سوف أرضخ لطلبها بالزواج.
أنا على يقين بما ستخبرني به أمي جيدًا فقد حفظته لتكراره على مسامعي، ستقول لي روز هانم أبنة "بكري باشا" أنت تعيشين في قصروالدك الذي ورثه عن أجداده البشوات وله تاريخ عريق نحن أرقى وأنّبل العائلات الموجوده في القاهره وبدوره أخاك الأكبر "نبيل باشا" قد ورث القصر عن والده ثم تتبدل لهجتها المليئة بالأعتزاز والكبرياء لتشوبها مسحة حزينه لذكرى والدي الراحل والذي لا أذكره كثيرًا لصِغر سني في ذلك الوقت ثم ترجع لنفس اللهجه وبها صيغة أمر، الخُطاب يكثرون طلبك وهم من العائلات التي تُناسب عائلاتنا وقد بلغتِ من عمرك الثالثة والعشرين ولم تعودي صغيرة فلماذا الرفض عليكِ العلم أنني لن أتركك هكذا كثيرًا ثم تتبدل لهجتها للمرة الثالثه لتقول بتوعدٍ شديد في النهايه سترضخين لأمري لأنه هو الصواب.
فأحني رأسي إحترامًا لها وصدى أخر كلماتها يرن في أذني فهي علي حق ففي النهايه ستُجبرني علي الزواج من أحدهم فلما لا أوافق عليه بدل من أن أجبر! ثم طردت تلك الفكرة الأخيرة من رأسي سريعًا فلا أحد سيجبُرني ولا أنا سأوافق.
- صباح الخير نجلاء هانم.
بنظرة جامده
- صباح الخير، لِما تأخرتي عن موعِد الأفطار؟
تَلعثمت وأنا أحدثها
- أمي في الحقيقة أنا أريد أخبارك بشيء هو .. في البدايه أنا أحترم جميع قراراتك وأنفذها لأنها تكون الأنسب لي دائمًا ولكن الزواج... حسنًا لا أعلم ماذا يمكنني القول ولكنني غير موافقة علي الطلب.
أقشعر بدني عندما ثقبتني بنظرة حاده قد أكون بالغت في كلامي بعض الشيء ولكن كان عليّ أخبارها فهي تنتظر الرد مُنذ يومين.
- روز هانم أنتي تعلمين جيدًا أن تلك العائلة مناسبة لعائلتنا كثيرًا...
كدت أقاطعها وأقول أنها مناسبة للعائلة وليس لي أنا ولكنها نظرت إلي قبل أن أتفوه بأي كلمه.
- أسفة نجلاء هانم أكملي.
- وتعلمين أيضًا أنه من غير الائق لفتاة مثلك أن تقاطع أحدًا وهو يتحدث، وأنا أري هذه المرة أن تلك العائله وأسمها الكبير "عائلة زهران باشا" من تستحق أن تنال هذا الشرف بالزواج منك وغير ذلك ستكونين سعيدة معهم ومع إبنهم الوحيد والذي سيرث أملاك والده من دون مشاركة أحد فماذا تُريدين أكثر من هذا ؟
ماذا أقول ؟ وهل ستفهم إن أخبرتها ؟ هل ستقبل بقراري هذا وترفض طلب عائلة زهران وتثق بي وتدعني وشأني أكمل حياتي؟
- نجلاء هانم أسفة لما سأقوله لكِ ، أنا لا أريد إرث أومال ولا أريد الزواج بتلك الطريقه أعلم ان هذه العائلة قد تكون مناسبة لعائلتنا ولكن ليس لي فهذا شيء، وهذا شيء أخر.
بدى على ملامحها الغضب كأن بركان على وشك الأنفجار وقد كان بالفعل
- أنتِ عنيدة بالفعل كان يجب عليّ أن لا أخذ رأيك من الأساس.
فأخذتُ نفسًا عميقًا لأحسم امري في هذا الموضوع.
- أسفة ولكن أعلم ما الذي تقولينه لي وأقدّره، ولذلك فأنا وكما قلت مُسبًقا أرفض هذا الطلب وهذا لمصلحتي الشخصية وترجيتها وغيرت لهجتي الرسميه إلي لهجة إستعطاف وتوسل؛ رجاء منكِ انا لا أقبل أرجو أن تتفهمي ذلك، إذا سمحتي لي أود الأنصراف