بقلم الشاعر الكبير/ إبراهيم هلال العساسي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جوهر الإنسان بين الحكمة الغافلة والحقيقة المراوغة، ذلك ما يعني الشاعر "حسام الدين فكري" في كل كتاباته؛ حيث يشرق علينا بهذا الديوان الجديد "لحن العتاب". ومن هذا العنوان الدال، نعلم ونتيقن أن القصائد لا تهادن، ولا تشير إلى البشر والأشياء عن بعد كما يفعل الرومانسيون، وإنما تغوص في الأعماق، بغية الوصول إلى لب الحقيقة، من خلال لغته الخاصة وأسلوبه الفريد المميز.
إنها رحلة عبر الكلمات والمفردات الدالة والصور الشعرية، والتأمل والتعبير. ولكن الشاعر لا يزعم أنه توصل إلى حقيقة الأمور وجوهرها، فهو يطالعنا، منذ البداية، بقصيدة "أوراق يابسة" حيث يقول: "لا أحد يملك فك الطلسم السرمدي، ثم يضيف: "الآن يعرف أن الحقيقة سوف تضل طريقها إلى الأبد"، ثم تتوالى القصائد، لتعبر عن شيء ما يقبع في حياة البشر يُرى أحيانا ويتوارى في كثير من الأحيان. في قصيدة "النداء الخفي"، يبدو التوحد الإرادي، واللا إرادي بين أبناء الوطن من أجل الهدف الأسمي : "كنا نلملم شتات أنفسنا و نسترجع أحلامنا من أطراف المدن البعيدة، يجب أن نغامر، انتفضنا معاً، التصقت أيادينا، والتحمت أعناقنا، صرنا رجلاً واحداً ينتعل أحذية شتى، يزحف نحو قرص الشمس الأخضر، الذى أشرق فجأة من أجلنا" وهنا تبدو الشاعرية العميقة، والقدرة الفائقة في رسم الصورة المعبرة عن تلاقي البشر من أجل الهدف المصيري الموحد، حيث "نسير نحو قرص الشمس الأخضر، الذي أشرق فجأة من أجلنا"، لاحظ التحول في لون الشمس إلى الأخضر، الذي يوحي بالأمل والنماء. النص ثري ويوحي بشتى المعاني، كمعظم كتابات الشاعر، وربما كان هنا يرمز إلى إحدى ثوراتنا المجيدة في العصر الحالي.
وفي قصيدة "لقاء تحت الرعد"، يتناول الشاعر العلاقة بين المادة والروح، من خلال ما يرمز إليه بقاطني المريخ، وقاطني الزهرة : "لو جاءت النبضات من المريخ، وهطلت على قلوب من الزهرة، فما الذي يحدث" ، ولعله في الخاتمة يصل إلى الإجابة المبتغاة : "تنسلخ الملامح من الوجوه، تجذبها قوى قاهرة في قلب المتاهة الدائرية السرمدية، لتبقى في مواقعها مكبلة بالأمل، تتحين فرصة بين الشقوق الضيقة من أجل لقاء جديد" ..وفي قصيدته "وطن يسكن فينا"، يجسد معنى وأبعاد التواصل الحميم بين عنصري الأمة، يبدو ذلك من خلال الصور الملموسة والمرأيَّة، التي تبرز العلاقة المتجذرة في أعماق الإنسان، ويتنازل الشاعر عن غموضه المألوف، حتى يصل إلى حد المباشرة وذلك ما يقتضيه الموقف فنحن بصدد إجلاء الصورة بكل ما تحمل من معنى: "أذان المسجد يعانق ناقوس الكنيسة، هذا الذي لا تراه بعينيك، لكنه يطل كصورة مؤطَّرة بأغصان الزيتون من نافذتي جفنيك . وهنا لا يفوت الشاعر أن يقدم لنا تلك الصورة الشعرية البديعة "نافذتي جفنيك".
والشاعر في تجواله في الحياة وبين البشر يبحث عن الحكمة والحقيقة، فهو يريد أن يواكب الحكمة، ويعيش في قلب الحقيقة، ولكن هل وصل الشاعر إلى مبتغاه، لنرى ما يشدو به في قصيدته "نبضات تائهة" : "أُفتّش عمن يُذكّرني بنفسي، حتى وجدت عصا الحكمة" ، ولكن أين الحقيقة : " تلوح لي رسالة ملغزة، أجتهد في فك شفرتها، فأتعثر في رياح عاتية". ثم يوضح ما أجمل، في تساؤلات حيرى : "فلم أعد أدرك على وجه اليقين هل الحقيقة التي ننشدها، يجب أن تكون عارية حقا، أم أن الخيال المتقافز فوق الأسوار، العاري دوما من الحقيقة، هو الحقيقة"!
وتتابع قصائد الديوان كحبَّات العقد الثمين، لتعطي في تمامها صورة لحياة الإنسان، وخلجات نفسه، وآماله وآلامه، وكل معاناته في شتى الأزمنة والأمكنة. وأقول أن هذا الديوان بلغته الخاصة والمميزة والتي تعتبر سمة من سمات هذا الشاعر" حسام الدين فكري" إنما تُعرف به، حتى دون ذكر اسمه. وهذا يجعلنا نجزم أن هذا الديوان إضافة للشعر العربي ونقطة مضيئة في قلب المكتبة العربية، بل والعالمية إذا قُدّر له أن يُترجم إلى لغات أخرى.
إبراهيم هلال العساسي