بنبرةٍ حادةٍ يطلب الطبيب من الممرضة إغلاق غرفة رقم 2 بعد إطفاء أنوارها تمامًا؛ حالة المريضة سيئة، وزادتها سوءًا تحقيقات الشرطة وسؤالها عن تفاصيل حادث الاعتداء عليها، ذلك الحادث الذي تكرر للمرة الثانية خلال عامين متتاليين.
تكمن تفاصيل الحادث في دفع شخص لها دفعةً تُسقِطها على الأرض، لتَفقد جنينها الذي يكون على وشك الخروج للحياة ليكون أول فرحتها.
تلك السقطة التي دومًا ما تُشعرها بأن حلمها المشروع قد تبخَّر، لتذروه رياح اليأس، بعد أن كان قد اقترب مِن أن يكون واقعًا ملموسًا.
يقترب المرء من حلمه، فيقترب منه الحلم رويدًا رويدًا، كنبعٍ من أمل يتدفق نحوه، كشعاعٍ من نور يجلِي ظلام نفسه، أو كتغريدةِ عصفور تتهافت إليها مسامعه، فتطرب لها روحه قبل آذانه، حتى إذا رأى المرء تلاشيَ حلمه وجلاء نوره، أوشك أن يتلاشى معه، ويتحول إلى العدم، حيث الظلمة الحالكة والبُعد المقيت.
كُثُرٌ هم قتلة الأحلام، يَرقبون لحظةً يتجه فيها المرء لمنصة الفرح والإنجاز، فيسعَون لعرقلة مسيرته، ويبذلون الجهد الوافر لفِعل ذلك، وفي نجاحهم في مساعيهم السيئة يهزمون الآخَر، ويُفشلون خطواته، ويبعثونه نحو مواطن الفقد وضياع الأحلام.
هي لم تتأكد في أي من المرَّتين من هوية الجاني، ففي المرة الأولى خُيِّلَ إليها أن مَن دفعَتْها كانت سيدة تستقل "توكتوك" في سوق تجاري مزدحم، استغلت السيدة انشغال السائق في الانتباه للطريق، وأيضًا انشغال المجني عليها في التسوق، فدفعَتها من ظهرها، لتُسقطها على إحدى البائعات، لتصطدم بطنها برأس البائعة بقوة، ثم تكتمل الصدمة بسقوطها على أقفاص الفاكهة.
بعدها وجد السائق الطريق قد اتسع أمامه، فانطلق بعيدًا بالجانية التي لابد وأنها كانت ترى اقتراب الانفراجة من ذلك الازدحام، فاختارت الوقت المناسب لدفع المجني عليها؛ حتى لا تكون هناك فرصة لتوقيفها واتهامها بإيذاء المجني عليها.
أمَّا في تلك المرة الثانية فَلَم يُترك لها المجال لمعرفة هوية الجاني أو حتى الشك فيه، فلقد كانت قد خرجت للتو من عند طبيبها المتابع لحملها، تختال فَرِحَة بتحديده لها موعد وضع مولودها.
وبينما كانت تستعد لنزول أول درجة من سلم عيادة الطبيب عائدة إلي بيتها، إذا بِيَدٍ من خلفها تدفعها، لتُسكنها آخر درجة في السلم، في غضون لحظات معدودة.
فقدَت وعيها دون أن تدري بنفسها إلا راقدة في غرفة في مشفى، بعد أن نقلها طبيبها المعالج الذي يباشر بنفسه حالتها، بمساعدة طبيب زميل له متخصص في أمراض الباطنة، انتظارًا لتواجد اختصاصي نفسي؛ لاحتمال دخول المريضة في شبه انهيار عصبي.
فقدَت المريضة جنينها الثاني بعد عام من فَقْدِ جنينها الأول، بنفس طريقة الحادث، وترقد في غرفة تحمل نفس رقم الغرفة التي حُجِزَت فيها العام المنقضي، ولكن في مشفى مختلف.
ربما لم تكن السقطة لتستغرق لحظة من الزمن، لكنها في قسوتها كانت كَمَا ورقةٍ جافةٍ تهاوت من غصنها، فباتت تترنح، حتى استقرت في الأرض، حيث يُدفن أملها وينتهي بقاؤها.
تلك الورقة التي ظلت طويلًا تطرب لمداعبة النسيم العليل لها، يُسكِنها أجمل البقاع في لحظة مداعبته، يُشعرها بأنها خميلة بأسْرها، تملأ الأرجاء من فواحها وريحها الراقي الجميل، حتى إذا لفحتها رياح حارقة، أذابتها، وأحرقَت جميل رجائها ومْناها.
أما خارج الغرفة فيقف الطبيبان يتشاوران في حالة المريضة، وبينما هما كذلك، تأتي سيدة تطلب الدخول لصديقتها، لم يكد الطبيبان ينطقان برفضهما للزيارة، حتى خرجَت الممرضة لتخبرهما بصراخ المريضة ورغبتها في رؤية سيدة تسمى "هند"، لتنطق الزائرة بأنفاس متلاحقة من تحت نقابها قائلة:
- أنا هند، صديقة "سلمى" التي تريدني بجانبها، ألا تعرفني يا دكتور أيمن؟ أنتَ طبيبي المعالج.
- أهلًا مدام هند، الآن عرفتك، تفضَّلي.
دخلَت هند بعد أن أكثر الطبيبان من تحذيرها من إجهاد المريضة المستلقية على ظهرها، دافنة وجهها بين كفيها، وما لبثَت أن سمعَت صوت هند حتى قعدَت على سريرها مجهشة بالبكاء قائلة:
- أرأيتِ ما حدث لي يا هند؟
احتضنَتها هند ثم سألَتها:
- ألم تعرفي مَن فعل هذا بكِ يا سلمى؟
ردَّت سلمى وهي لا تزال في حضن هند:
- لا، لم أعرف.
- فهل أسفرَت تحقيقات الشرطة عن جديد؟
- لن يَصلوا لشيء مثلما حدث في المرة الأولى، أعرف ذلك.
أنهَت هند حالة احتضانها لسلمى، لتنظر في عينيها الخضراوين ووجهها الذي ازداد نحافة، وتقول لها:
- لا عليكِ يا صديقتي، غدًا سيعوضكِ الله خيرًا.
وكأن سلمى قد تذكرت شيئًا، فلهجَت به سائلةً هند:
- ألم يكن من المفترض أن نلتقي عند الطبيب؟ ربما لو كنتِ معي ما حدث لي ذلك.
انتاب هند بعض الارتباك، ثم ربتَت على كتف صديقتها، وقالت لها:
- نعم، ولكني كنت متعبة كثيرًا؛ فَلَم أذهب.
- ظننتكِ ستأتين كما أخبرتِني.
- في الحقيقة، بحثتُ على الإنترنت، فوجدتُّ علاجات طبيعية وعشبية جيدة لحالتي، كما أنكِ تعلمين أني كمطلقة أتحرج من الخروج والظهور كثيرًا.
في تلك اللحظة دخلت رئيسة التمريض لتأمر هند بالخروج من غرفة المريضة، وتوجه اللوم للممرضة التي سمحت بكل ذلك الوقت للزائرة.
دافعَت الممرضة عن نفسها مشيرةً إلى أن الطبيبين هما مَن سمحا للزائرة بالدخول بعد هذيان المريضة نفسها بِاسمها.
لَم ترع هند انتباهًا لذلك الجدل، وإنما انطلقت للخروج من الغرفة فجأة ودون مقدمات، أو حتى الاستئذان من سلمى التي اعتادت أن ترى هند دومًا غريبة الأطوار، لتجد هندُ "هاني" زوج سلمى يَقدم من آخِر الطرقة متجهم الوجه، رافعًا جبهته لأعلى كعادته، لا يُخرج يديه من جيبيّ بنطاله، يشعر مَن يراه بأنه ينظر لذاته نظرة شخص لا يرى إلا أنه من صفوة الخَلق جميعًا.
لَم ينتبه هاني لهند وهي تخرج من الغرفة، أصلًا هو لم يكن قد التقى بها أبدًا منذ أن صارت بينها وبين سلمى تلك الصداقة، بل منذ أمدٍ أبعد من ذلك.
لطالما كانت سلمى تحكي لهند عن زوجها وغطرسته وأسلوبه السيئ معها، ورغم ما كان يبدو على هند من الاستياء من تصرفات ذلك الزوج والتعاطف مع صديقتها، إلا أنها كانت دومًا تشجع سلمى على الاستمرار معه وتحمله، بحجة أنه قد يتغير يومًا ما.
أما هند فنادرًا ما كانت تتحدث عن حياتها الخاصة، كانت تذكر القليل عن تفاصيل زواجها الذي تقول بانتهائه بعد عامه الأول لعدم التوافق.
دخل هاني الغرفة على زوجته، بينما وقفَت هند خلف الباب المغلق لتسمع حديثهما، وهي على يقين بأنه سوف يكيل لسلمى الانتقادات والتُّهم، وربما بعض السِّباب.
وكان صحيحًا ما توقعته هند؛ فقد انهال عليها هاني بالاتهام بالرعونة وعدم الحرص على جنينها والتحجج بالوقوع أو بدفع شخص لها.
وكانت سلمى تجهش بالبكاء، وتُقْسم بأن ما تقوله هو الحقيقة، ثم تحلم بأن تخرج عن ضعفها لترد عليه بأن ما يحدث لها ربما بسبب غضب الله عليه؛ لبعده عنه، وإهماله للصلاة، ولسوء خُلُقه.
ثم سمعَت هند صوتًا لحركةٍ عنيفة، توقعَت أن يكون هاني قد تحرك ناحية سلمى ليعنِّفها، وبالفعل سمعَت هند صوت ضرب وصفع، وصوت سلمى وهي تصرخ من شدة الضرب.
ثم خَفَت صوتهما للحظة، وسمعَت هند صوت قدمَيّ هاني تقتربان من الباب؛ فابتعدَت قليلًا عن الباب، وأعطته ظهرها، وأمسكَت بهاتفها ووضعته على أذنها وكأنها تتحدث، ثم تابعَت هاني وهو ينصرف بخطوات ثابتة وكأن شيئًا لَم يكن، حتى غاب عن بصرها، لتقرر هي بدورها العودة إلى بيتها بعدما أدت دورها بزيارة صديقتها، فتحَت الباب، وقبل أن تدخل رأت شبحًا لشخص يجلس في الصالة، أشعلَت هند الأنوار، ثم جلسَت على الكرسي المقابل له، تتجهز للإنصات له وكأنها في جلسة استجواب، غير متمردة ولا معترضة.
بادرَها بالسؤال قائلًا:
- أين كنتِ؟
أجابت:
- عند أمي.
- فمَن قابلتِ هناك؟
- لا أحد، اطمئن؛ فأزواج أخواتي لا يذهبون في الوقت الذي أذهب فيه، وحتى لو ذهبوا، فلستُ بمخالفة الحدود التي رسمْتَها لي، وهم يعلمون ذلك جيدًا ويراعونه تمامًا.
صَمَتَ قليلًا وكأنه يفكر في شيء ما، فبادرَته بالكلام فقالت:
- الكل يعلم أنك شخص ملتزم، تحترم الحدود، وأنا أطيعك يا "مالك"، ليس فقط لأن طاعة الزوج واجبة، ولكن أيضًا لأني أؤمن بمِثل ما تؤمن به.
ويبدو أن النِّقاش قد انتهى عند ذلك الحد؛ فنهض مالك من مكانه؛ ليتجه نحو غرفة نومهما بعد يوم من العمل المتواصل ما بين عمله كمعلم، وعمله في الدروس الخصوصية.
أما هند فقد أسرعَت بالاتصال بوالدتها طالبةً منها أن تجيب على مالك -إنْ اتصل بها- بأنها كانت في زيارتها.
سألَتها والدتها:
- وإلى متى الكذب يا بنيتي؟
ردت هند بصوت خفيض:
- لستُ أفعل شيئًا يدينني أو ينقص من قدري يا أمي.
- هذا ما أنا متأكدة منه يا هند، ولكني أخشى عليكِ من نفسك، في رأسي شيء ما، توقُّع ما، وأتمنى ألا يكون ظني صحيحًا.
في تلك اللحظة كان مالك في طريقه للمطبخ؛ ليحضر بعضًا من الماء، ربما ليتناول دواءه، كان مالك قد اعتاد منذ ما يقرب من الثلاثة أعوام على زيارة الطبيب النفسي، واستمر في تناول دوائه للتخفيف من حدة الشعور بالاكتئاب.
ربما في وقت ما كان مالك مدركًا لسبب حالته، ولكنه بدأ لاحقًا في نسيان كل التفاصيل التي من شأنها إيصاله لتلك الحالة.
ذات يوم سأل طبيبه المعالج فقال:
- هل أخبرتُك يومًا سبب حالتي؟
أجاب الطبيب:
- لا، لم تخبرني، ولكن لابد أن لكل شيء سببًا، ليس بالضرورة أن يكون السبب حديثًا، ربما لرواسب من الماضي، ربما لعامل وراثي جراء خلل في كيمياء المخ، وكل ذلك يأتي علاجه بالأدوية المحفزة لمادة السيروتونين، بجانب بعض العلاجات السلوكية والمعرفية، والأهم إرادة الشفاء النابعة من ذاتك.
- ولكني أشعر بأن سبب حالتي ليس قديمًا؛ فَلَم أكن على مِثل حالتي هذه قَط.
استمر اللقاء بعد سؤال مالك -الذي لا جواب له لدى الطبيب- بدون تفسير للسؤال، لم يعتد مالك أن يخرج من عند طبيبه إلا مرتاح البال سعيدًا، إلا تلك المرة التي بدا فيها منزعجًا، لا يجد جوابًا.
أمَّا هند فكانت تنظر إلى مالك نظرات يشعر منها بأنها على معرفة بما حدث له، ولطالما سألها مرارًا وتكرارًا عما إذا كانت تعرف شيئًا، ولكنها كانت تنكر ذلك وتخبره دومًا بأن المرض شيء وارد ومحتمل.
وكثيرًا ما كان يود أن يصدِّقها، ولكنَّ نظرات الألم لأجله من قِبَلها جعلته يشكُّ في صدقها، وخصوصًا عندما كان يلاحظ تحاشيها المستمر لرؤيته وهو يتناول دواءه وكأنها السبب في مرضه.
ولم يكن مرضه ليمنعه من ممارسة حياته ومناورة الأيام وغزل الأحلام له، كان يسعد بعمله، ويتواصل بحب مع زملائه، لكن شيئًا كان ينغص عليه حياته، فتارةً يبعث في نفسه الكآبة، وتارةً يبعثه نحو بذل الجهد؛ لينال الشعور بالرضا عن الذات ومقاومة الأتراح.
وحتى هند نفسها كان لها تساؤل آخر يكاد يفتك برأسها، كانت تتعجب من عدم مبالغة والدتها في قلقها عليها، خاصة وهي لا تعرف كثيرًا عن تحركاتها، أو ربما تعرف أن الكثير من تحركات هند هي للقاء صديقتها سلمى، ولكن الأم لا تدرك سبب اهتمام هند بصديقتها سلمى وحرصها على التواصل المستمر معها، مع الحرص على ألا يعرف مالك شيئًا عن تلك العلاقة، أو يشعر بمجرد معرفة هند بسلمى.
ولعل التساؤل الذي كان يجول في تفكير هند هو: لماذا لا تلح والدتها في معرفة سبب إخفاء علاقتها بسلمى؟ هل تعرف شيئًا؟ وهل معرفتها لشيء ما قد يجعلها تفكر يومًا ما في الإضرار بابنتها، أو ربما إخبار مالك بما يكون؟
وفي منتصف تلك الليلة التي عادت فيها هند من المشفى بعد زيارة سلمى، وبعد نوم مالك، اختلسَت لحظات، فأمسكَت بورقة وقلم، ثم كتبَت تلك الكلمات: اليوم أبدأ عهدًا جديدًا من إعادة بعض الحقوق التي سُلِبت، وطمس بعض الكروب التي مَزَّقَت الحياة فجعلتها أشلاءً، وغدًا وبعد الغد أُكمل مسيرتي نحو تحقيق ما تصبو إليه نفسي؛ كي أُرضيَ روحي ويَطمئن قلبي.
وكعادتها أحرقَت هند الورقة بعد أن أفرغَت فيها ما في جعبة فكرها، وكأنها تزيح همًّا قد اعتلى صدرها؛ فأعاق راحتها وأَذِنَ بشقائها.
وبعد مرور بضعة أيام، عادت سلمى إلى بيتها، اتصلَت بصديقتها هند التي كانت تتابع حالتها وتتصل بها دومًا، وكان اتصال سلمى بهند لتطلب منها زيارتها في بيتها؛ لحاجتها إليها بعد تلك الظروف التي تعرضَت لها.
كانت سلمى تتوقع مسبقًا أن هند ربما تعترض على زيارتها في بيتها؛ نظرًا لظروفها كمطلقة -أو كما كانت تخبر سلمى- ولكن طلبُ سلمى هذه المرة قد لا يُقابَل بالرفض إذا ما علمَت هند أن هاني -زوج سلمى- قد سافر لمكان عمله الذي يمكث فيه أسبوعًا كاملًا.
وعندما ردَّت هند بأنها لا تفضل زيارة سلمى في بيتها، متحججةً بأن وضعها كمطلقة لا يسمح بذلك، أخبرَتها سلمى بسفر زوجها.
ترددَت هند كثيرًا، ثم بعد ذلك فكرَت مليًّا في الأمر، وحدثَت نفسها بصوت مسموع وهي تقول بأن ربما تلك فرصتها التي لا يجب أن تغفل عنها أو تُفَوِّتها أبدًا.
فأي فرصةٍ قد تُتاح لها في حالة زيارتها لبيت هند؟
ولماذا أخبرَت سلمى أنها مطلقة رغم أن تعيش مع زوجها في بيت واحد؟
وهل هي على يقين بأن سلمى لن تكتشف يوما تلك الكذبة؟
ربما في رأس هند شيء ما يدور، وهو ذلك الشيء الذي تحاول هند بكل ما أوتيَت من قوة أن تحتاط لأجله جيدًا، فتبعد سلمى عن مجال الزيارات العائلية؛ حتى لا تكتشف حقيقة كذبها بخصوص طلاقها من زوجها.
وكانت هند في تحدٍ كبير للقيام بتلك الزيارة دون أن تُشعر زوجها وحتى والدتها بها.
وما كان يشجعها على قيامها بالزيارة هو توافر المواصلات بين بيتها وبيت سلمى؛ فمجرد عشر دقائق كفيلة لإيصالها لبيت سلمى.
وكان يشجعها أيضا انشغال زوجها في عمله طيلة يومه، وتواجد والدتها في بيتها الذي يبعد عن بيت هند بنفس مقدار المسافة بينها وبين سلمى.
وانطلقَت هند نحو بيت سلمى، ووصلت هند بيت سلمى، عرِفته دون أن تسأل شخصًا واحدًا، ولم تكن سلمى قد وصفَت لها مكان بيتها بالتحديد، لكنها ظنت أن هند قد تتصل بها حين تقترب من المنطقة التي تسكن بها، لتصف لها البيت بالتحديد.
لم تنتبه سلمى لفكرة وصول هند لبيتها دون سؤال أو مساعدة؛ فربما أنسَتها فرحتها بزيارة هند لها السؤال عن ذلك، وحتى هند -الحذرة في تصرفاتها والدقيقة دومًا- لم تقدم مبررًا لوصولها اليسير إلى منزل سلمى؛ فلربما يشغلها شاغل عن مجرد التفكير في ذلك الأمر.
كانت سلمى -رغم استمرار شعورها ببعض التعب- تجلس في الردهة، في مدخل شقتها، جلسَت هند معها، فكانت جلستها مقابل تلك الصورة التي تظهر فيها سلمى مع زوجها هاني في ليلة زفافهما.
ولِخَشية هند من ملاحظة هند لنظراتها الحادة نحو الصورة، أدارت هند ظهرها لتلك الصورة، لتجلس بجوار سلمى في بعضٍ من الشرود والحذر المشوب بقلقٍ ما، ربما أرجعَته سلمى لظروف هند، أو لخجلها أثناء زيارتها الأولى.
وعلى غير المتوقع من هند يأتيها اتصال من زوجها، لكن هند الحذرة لا يبدو عليها أي تردد أو ارتباك، وإنما تقف من مكانها واثقة لترد على الهاتف.
في تلك اللحظة كانت سلمى قد اتجهَت لداخل شقتها؛ لتقوم بواجب الضيافة لصديقتها التي تزورها لأول مرة، فكانت الفرصة لهند لتجيب على زوجها بكل ارتياح.
ولعل سلمى قد تذكَّرَت أنها لم تسأل هند عما تريد أن تشربه، فهمَّت بالعودة في لحظة؛ لتسمع جزءًا من حديث هند.
سمعَت سلمى رد هند على أحدهم وهي تقول له:
- عندما تعود إلى البيت، ستجدني قد وصلتَ قبلك.
عادت سلمى خطوات للخلف؛ حتى لا تشعر هند بسماعها لحديثها على الهاتف، ليشوب فكرها كثير من التعجب وربما الذهول؛ فلطالما تخبرها هند بأنها مطلقة، ليكون لسان حالها إذا ما كانت هند مطلقة بالفعل، فمَن يكون ذلك الشخص الذي سوف تقابله هند؟ وإذا كان زوجها بالفعل، فلماذا أخبرت سلمى بأنها طُلِّقَت من زوجها بعد العام الأول من زواجهما؟
موقفٌ كذلك لا يمر على هند مرور الكرام، وهي التي توقعَت أن تكون سلمى قد لاحظت شيئًا ومن ثم حدث لها بعض الارتياب، فبدون أن تلاحظها سلمى اتصلت هند بشقيقها الذي يسكن في مكان بعيد عن بيتها وبيت والدتهما، اتصلت ثم وضعت الهاتف جانبًا حتى أمسكت به بعد لحظات لتنهي الاتصال؛ ليضطر شقيقها للاتصال بها ليرى ما الخطب.
وكان لها ما أرادت وخططت له؛ فجاءها الاتصال من شقيقها، لترد عليه وتسأله قائلة:
- هل وصلتَ بيت والدتنا؟
تعجب شقيقها من السؤال وانتابه شيء من القلق، فسألها:
- هل من خطب يا هند؟
أجابت بكل هدوء:
- عندما تصل أخبِرني، سأكون هناك في الحال.
قالتها ثم أنهَت الاتصال، بعدها لم تكن في حاجة للإكثار من توضيح موقفها لسلمى التي تأكدت من خطأ ظنها بصديقتها، واعتقدَت -كما أرادت لها هند أن تعتقد- أن الاتصال الذي ورد هند في أول مرة أيضا كان من شقيقها، للاتفاق على أن يلتقيا في منزل والدتهما.
وهمَّت هند بالعودة إلى بيتها، فتبعَتها سلمى إلى باب شقتها، واعدة إياها برد تلك الزيارة في بيت والدتها، ابتسمت لها هند دون أن ترد على وعدها، ثم افترقتا.
وأخذت هند تفكر مليًّا في زيارة سلمى لها، وكان ما يطمئنها قليلًا هو إمكانية جعل تلك الزيارة في وقت تختاره هي، ويكون في بيت والدتها.
ولكن ما كان يقلقها هو ماذا لو ذكرت والدتها بأي حال من الأحوال زواج هند الذي ما زال قائمًا؛ فسلمى تعرف أنها مطلقة، وماذا أيضا لو عرفت والدتها شيئًا عن سلمى ربما يجعلها تفهم سبب تلك العلاقة التي تجمع بين ابنتها وسلمى.
ربما فكرت هند وقتها في محاولة إبعاد سلمى عن محيط الزيارات الأسرية، أو ربما فكرت في تنفيذ مخطط قد يكون بِفِكرها في أسرع وقت، وقبل أن تنتبه والدتها لشيء، أو تكتشف صديقتها شيئًا تخفيه هند عن الجميع.
وكان موعد زيارة مالك لطبيبه النفسي، سأله الطبيب قائلًا:
- كيف حالك يا صديقي؟
- الحمد لله، بأفضل حال يا دكتور.
- أخبرتُك أن العلاج المعرفي والسلوكي ستكون لهما نتائج رائعة، وقد كان.
- فعلًا يا دكتور، لقد كنت بحاجة للتثقيف، للتوضيح لكثيرٍ من تساؤلاتي.
- فهل تبقَت لك أسئلة أو استفسارات عن شيء آخَر يا صديقي؟
- نعم، لدي أهم استفسار.
- أعتقد أنك ستسألني عن اللوزة الدماغية، أليس كذلك؟
- لم يكن سؤالي عنها، ولكن يدفعني الفضول والرغبة في تمام الشفاء إلى معرفة الكثير دومًا.
- يعجبني إصرارك وقوتك يا صديقي؛ لذا سأخبرك، اللوزة الدماغية هي جهاز في الدماغ، لا يتبع المخ ولا حتى العقل، حُكْمُه ذاتي، مسئول عن متابعة التوازن النفسي، فإذا ما استشعر خطرًا قادمًا، ربما من هجمة اكتئابية أو وسواسية أو نوبة هلع، أعلن جهاز اللوزة الدماغية الطوارئ.
- ولكن هل من سبب لحالتي هذه من الأساس؟
- تقوم اللوزة الدماغية إما بالهجوم، أو الهروب، أو الجمود في المكان؛ لذا نحاول بالسيطرة على رد الفعل القسري الناتج من نشاطها؛ فنتَّبع بعض الممارسات والتدريبات الذهنية.
- ظننت أنك أخبرتَني من قبل بكل تلك المعلومات يا دكتور، فأخبِرني، هل ستجيب على كل أسئلتي إلا سؤالًا واحدًا!
- بل أجيب على كل أسئلتك، فما سؤالك؟
- ما السبب الرئيس في حالتي هذه؟ أليس من المفترض أن تجعل الصورة واضحة أمامي كجزء من علاجي؟
- بلى.
- فهل آنَ الوقت لتخبرني؟
- يا صديقي، قد تكون إرادة ربك أن يلهم عقلك الخلاص من خبرة مريرة سببت لك جرحًا غائرًا، فهل يجدر بك أن تبحث عن جرحك مجددًا؟
- لا أبحث عنه، ولكني أتعجب من طريقة نسيانه، أو نسيان سببه.
- لا تتعجب، ولكن انطلق كما أنت في طريق الخلاص نهائيًّا من كل هواجسك ومشاعرك السلبية، هل تعدني يا صديقي؟
تنهد مالك، ثم نظر للطبيب مبتسمًا، وقال:
- أعدُك يا دكتور.
انتهت تلك الزيارة لطبيب مالك الذي لم يرد أن يشعره بأن ثمة أمرًا غريبًا في مسألة نسيان مالك لتلك الأحداث التي قصها للطبيب ذات يوم، والتي كانت سببًا في إصابته بحالة الوسواس الاكتئابي؛ فليس من الطبيعي لشخص مثقف كمالك ومستبصر بحالته أن ينسى شيئًا مهمًّا بمثل تلك الطريقة.