الجميع هادئون رغم الجلبة التي يُحدِثها الأطفال وهم يلعبون، والسيارات التي لا تتوقف عن المرور في الشارع وترتفع أصوات محركاتها، إلّا أن كل شيء يلفّه السكونُ، كنت أجلس وصديقتي (مهيبة) على عتبة بابنا، حتى سمعنا دوي انفجار في مكان بعيد، كان الوقت مساءً والظلام يباشر إسدال ستائره، تنسحب الشمس بتمهُّل لتترك لعُشّاق الغروب التمتُّعَ بها، إلا أن العشاق فرّ كلٌّ منهم إلى منزله والهلع يستولي عليهم بعد سماع صوت الانفجار، أصبح الشارع خاليًا بعد أن كان مكتظًّا بالناس، رجال أنهكهم يوم عمل طويل وهم في طريقهم إلى منازلهم، منهم من ينتظرهم أبناؤهم عند الباب ليقبّلوا أيديهم ويتلاشى كل التعب، ومنهم نساء مجاهدات، وبين تلك النساء امرأة وجدت نفسها أمام شبح الموت الذي أخذ منها زوجها، فلم تجد من يعول ابنها اليتيم، فتَحدَّت كل شيء وكانت الأم والأب في آن واحد.
اختبأت في حضن أمي، كان دافئًا كافيًا ليزيل كل الخوف الذي استقر فيّ، جسدي تكور في حضن أمي، أما ذهني فكان غائبًا ولا يفكر إلا في مهيبة، وذلك العناق الذي جمعني بها عند عتبة الباب وهي تقول لي:
-اعتني بنفسكِ.
وبينما كلٌّ يهرول هنا وهناك خَطَتْ خُطاها إلى منزلها بكل ثبات، لم تكن خائفة، وكأنها تقول:
-لا أخشى صواريخكم القذرة!
بقيت أنظر إليها حتى وصلت إلى المنعطف، توقفت ولوّحت لي بيدها مبتسمة وذهبت، تُرى أهو الفراق؟ كان شعور غريب يستولي عليّ كلما ذكرتها وتذكرت عناقها الحارّ، استمرت أصوات الانفجارات في الارتفاع، وكل انفجار كنت أشعر به يقترب أكثر من السابق، الصوت مرتفع هذه المرة صوت الصواريخ وصوت بكاء أخي الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة بعد، أما أنا فقد تجاوزت العاشرة بأشهر قليلة؛ لذلك لم أبكِ لكي لا أزيد من فزع أخي الذي يحتمي بحضن أبي، فجأةً توقف كل شيء لم أعلم كم من الوقت مَرَّ ولم أعلم أين أنا، لا أعلم هل زار النومُ جفنيَّ لأذهب إلى تلك المساحة الصامتة من اللاوعي؟ كل ما أعلم أني ما زلت هنا وما زال السائل الأحمر يسري في عروقي.
تسللت خيوط الفجر، فتحت عينيَّ المليئتين بالغبار، وبعد ثوانٍ علمت أني وسط الركام والظلام يلفني، كانت هناك صخرة ضخمة بمثابة قُضبان سجن هي ما يحُول بيني وبين حريتي، ربما ساعة أو ساعتان مرّتا منذ استيقاظي قبل أن ينتشلوني، كنت أبكي وأنا أتذكر أمي وأبي وأخي! تُرى، أين هم الآن؟ كنت أنا النَّاجية الوحيدة من بين كل عائلتي، كلهم لقُوا حتفهم، فطغى عليَّ شعور النصر، وما هي إلا لحظات مرت كالبرق حتى انسحبت مني كل المشاعر ليلفّني الضياعُ، فأطلقت العنان لأنهارٍ من الدموع، مؤلم هو شعور الوحدة في مسقط رأسك! يقولون: إنه حيث وجد الأمان وجد الوطن، كان الأمان بالنسبة لي هو حضن أمي وأبي، أما غزةُ فلم تعرف الأمان منذ زمن، غزة لم تخلق لترتاح، بل لتقاوم وتقاتل فتعود أقوى بعد كل حرب تخوضها، غزة هي التي تقاتل، لتَظلّ غُصة في يقظة الصهاينة، وفي مَنامهم كابوسًا!
مرت الأيام لأكتشف أني لست الوحيدة التي فقدت عائلتها، كنَّا مجموعة من الأطفال تختلف أعمارنا ولكن مصيبتنا واحدة، كنت أتفحص الوجوه باحثةً عن مهيبة التي تمنيتُ ألا تكون هنا، تمنيت أن تكون بخير، طالما ذكّرني اسمها بالبطلة (مهيب خورشيد)، التي كانت تقف معارضة لسياسة التهجير القسري للسكان الفلسطينيين في حرب 1949، بل أكثر من ذلك، فكانت قائدة للتنظيم النسائي (زهرة الأقحوان)، فهي أوَّل منظمة نسائية مسلحة تقاوم الاحتلال الصهيوني في سنة النكبة!
تبنتني عائلة من العائلات الفلسطينية، لم يكن بيتهم يبعد عن أطلال بيتنا كثيرًا؛ لذا كنت أتردد على الحطام، وأراقب الجدران التي كانت سليمة بالأمس، وكانت جنباتها يلفُّها السعادة والحب، فتحطم كل شيء، تحطمت مكتبتي الصغيرة، وتلك اللوحة التي أهدانيها والدي منذ سنتين في ذكرى ميلادي التاسعة، كانت قريبة إلى قلبي، ورغم تحطُّمها ما زلت أتذكر كل شيء فيها، وكل تفاصيلها، وأستطيع أن أصفها بكل الدقة، كانت تُظهر طفلًا صغيرًا يصعد فوق كرسيّ ويتمطى ليقبض على حمامة بيضاء تحلّق فوق رأسه، لا أعلم كيف أغرمت بتلك اللوحة! أتذكر ذاك اليوم حينما لمحتني أمي أتأملها وجاءت تستفسر الأمرَ، فشرحت لها أني أرى أن تلك الحمامة هي النصر، أما الكرسيّ فهو المحتل، ومكانه تحت الأقدام لتطأه، وذاك الطفل على يديه سيأتي النصر، ربما سنة، وربما سنوات، ولكن يقيني بالنصر كان كبيرًا، وكنت متيقنة أن تلك اللوحة لم تُرسم عبثًا، وأكاد أَجزم أني الوحيدة التي فهمتْ معنى تلك اللوحة، ترى متى سيكون على قيد الحياة؟ هل ستكون الحياة قد لفظته أم ليس بعد؟
لم يستطِعوا أن يجدوا جسدَ أمي بين الركام، فكنت أذهب هناك وأكلمها! وهل يسمع الأموات ثرثرتنا؟ هل تسمع أمي تلك الكلمات التي أوجهها إليها؟ وإن كانت تسمع فلماذا لا تجيبني؟ ربما تَبَخَّرَ جسدها وبقيت روحها تحوم حول هذا البيت المهدمةِ جدرانُه، وكان لسان حالها يقول:
-إن حطمته صواريخكم فلن تطأه أقدامكم!
كنت أنام في حضن الخالة (ربيعة) تلك الطيبة التي أغرقتني هي وزوجها العم (أكرم) في الحب، كانت الخالة ربيعة متوسطة الطول، تسللت بعض التجاعيد إلى وجهها، ولم يسلم شعرها من بعض الشعرات البيضاء، أما العم أكرم فكان يفوقها طولًا بسنتيمترات قليلة، كنت أنام مُرعَبة من صوت وابل الصواريخ التي تنهال على غزة، وأخشى أن يصيب هذا البيتَ ما أصاب بيتَنا، فأختبئ في حضن الخالة ربيعة، وأترجى الفجر أن يُطل علينا، استمر الحال على ما هو عليه، صواريخ تهدم بيتًا هنا وبيتًا هناك، فنستيقظ على موت عشرات الأشخاص، لا، نحن لا ننام لكي نستيقظ! وإن حدثَ وأغمضنا أعيننا برهة، يدوي صوت انفجار في مكان ما فننهض مفزوعين!
كانت ليلة لم تشهدها غزةُ منذ زمن، ليلة هادئة خاوية لا توحي بشيء، مليئة بالأفكار والمخاوف، أهو السلام يطل علينا بهذا الشكل، أم أنها استراحة محارب؟ عفوًا، استراحة محتل قذر، أيّ خبث يملكون حتى يقتلوا أطفالًا ينبضون بالحياة والأحلام؟ هدّموا البيوت والمستشفيات والمحلّات، حتى المكتبات لم تسلم من مكرهم، يريدوننا جيلًا جاهلًا، ولكنّ ذلك لن يكون، سنذيقهم الويل، فلنا أبطال لا يعرفون طريقًا للاستسلام، اقصفوا ما شئتم! فسنصدكم بحجارة هذه الأرض، سنكون شوكة في حناجرهم، وهذه الأرض سنفديها بأرواحنا.
تململت من فراشي، منذ زمن لم أنم نومةً هنيئةً كهاته، خرجت من الغرفة فإذا أنا أُبصر حقائبَ أمام باب البيت، فجأة أطلت الخالة ربيعة تحمل في يدها حقيبة أخرى توجهت بها حيث الأخريات، أردت استفسارًا فعانقتْني، وكانت تلك إجابة كافية، رغم أن بعض الضباب يلفّها، أعرف أن أمرًا محزنًا سيحدث! ثم قالت:
- سنهاجر.
تسمرت في مكاني ولا شيء فيّ يستوعب تلك الكلمة، اتّسعت مقلتاي وأنا أعيد العبارة السابقة:
-سنهاجر؟ كيف؟!
-اسمعي يا (وجدان)، هؤلاء الأوغاد يحضِّرون لضربة ستدمر غزة، يريدون أن يُبِيدُونا، لا يريدون لنا أثرًا في هذه الأرض.
غزة لن تدمر، بل ستبقى صامدة كما عهدناها، إلى ما لا نهاية، قوية، وستبقى قوية برِجالاتها الأَشاوِس الذين سيدافعون عنها ولن يتركوها تُدمَّر. تائهةٌ أنا! أحقا سأتحمل هواء أستنشقه غير هواء فلسطين؟ وروح أمي، أأتركها هنا وحدها؟ هل سأتحمل أرضًا غير التي فيها أمي؟ ولكن مَن لي يحتضنني غير الخالة ربيعة والعم أكرم؟ هرولتُ مسرعة ولم أتوقف حتى صِرتُ بجانب أطلال بيتنا، شعرت بالعجز، لم أستطع حتى الكلام كما كنت أفعل، تسمرت الكلمات وتجمدت كما تجمدت مشاعري، فبقيت صامتة.
عدت إلى المنزل، جمعت حقيبتي بسرعة، فاحتضنت قلادة أمي وشعرت بها كأنها تحتضنني بدورها، كنت أستطيع أن أشعر بصوت أنفاسها وعطرها الزكي، قاطعني صوت الخالة ربيعة وهي تحثّني على أن أسرع، فأخذت حقيبتي وذهبت وأنا أخاطب هذا المكان قائلة:
-"سأعود يوما ما".
سأعود لكي أجد هذه الأرض قد تحررت من كل صهيونيّ، وأجد غزة القوية الجميلة لا يشاركها أيُّ دخيلٍ أرضَها، وأذهب إلى الأقصى لأجده في أبهى الحُلل، سأعود!
دوّى محرك السيارة محدثًا صوتًا عاليًا، وانطلقت العجلات تبتلع الطريق، مررنا بخان يونس، وما هي إلا دقائق حتى توقفت بنا السيارة في رفح، نزل العم أكرم من السيارة وبقِي يجُول بنظره في الأرجاء كأنه يبحث عن شخص ما، أمَّا أنا فقد تكوَّرت في حضن الخالة ربيعة التي تمسح بكل حنان على شعري، لم أشعر بالوقت حتى استيقظت لأجد نفسي في مصرَ، بلاد الفراعنة!
مؤلم هذا الفراق! لم يَفُت على فراقي لعائلتي الكثيرُ، وها أنا ذا أفارق الأرض التي ترعرعت فيها، لكن سيبقى عشقي لها ممتدًا، غابت شمسُك عن سمائي يا غزة، فأصبح الكون كله ظلمة، أصبحت الأشياء كلها دون دون ملامحَ ، ضبابية يلفها السواد، غابت الأصوات ولم يبقَ إلا صدى صوت الانفجارات يرنّ في أذني، لم يخطر ببالي يومًا أن الفراق سيُطل بهذه القسوة، يأخذ أهلي، وما هي إلا أيام حتى يأخذ مني أرضي، ولكن القدر والقضاء هما سيِّدا المَوقف، أكره مراسم الوداع، الأشياء التي نحبها لا نفارقها، الوداع خلق للغرباء لا للأحبة!
لم يطُل مكوثنا في مصر، فما هي إلا ستة أيام، حتى حلَّقت بنا الطائرة متوجهة إلى المغرب، كنت لا أَزال أتنفس هواء فِلسطين، أمَا وقد حلَّقت بنا الطائرة فلم أعُد أتنفس إلا وشاحَ أمّي، كانت المسافة تبعد أكثر فأكثر، ولكن الحب هو نفسه لم يتغير أو يتزعزع من مكانه، حب سرمدي، لا شيء قادر على أن يزحزحه عن موضعه.
لا أعلم ما تخفيه لنا الأيام في بلاد المغرب تلك، وببراءة طفلةٍ لم تتجاوز الحاديةَ عَشرَةَ رفعتُ رأسي من حضن الخالة ربيعة، وسألتها قائلة:
-هل نُسافر إلى بلاد أخرى يا خالة؟
-لا يا ابنتي، سنقيم في المغرب ريثما تهدأ الأمور.
قالتها بابتسامة رُسمت على محيّاها، فأعدت رأسي إلى حضنها، كانت تتألم أيضًا، أستطيع أن أقرأ الحزنَ في عيونها، والعم أكرم أرى تلك الدمعة التي يجاهد في كبحها بعينيه منذ أن حلَّقت بنا الطائرة، ولكنّ السنين الطويلة التي قضاها كل منهما بجانب الآخَر، جعلت الخالة ربيعة تفطن لحاله، فأخذتْ يده وقبَّلتْها وهي تقول بعد أن تلاقت عيونهما:
- سنعود يومًا ما.
وما إن سمع الكلمات السابقة حتى سال الدمعُ الحبيس بعد أن انهار الحاجز الذي كان يمنعُ نُزولَهُ، أَوَيبكي الكبار؟ تُرى، ما الذي يجعل الكبار يبكون؟ لم ألمح أبي يبكي يومًا، ولكن تلك الليلة رأيت الخوف في عينيه وهو يحتضننا، كان خائفًا علينا، طالما كان بطلي، وكنّا نحن نقطة ضعفه. الآباء سند، ودونهم تفقد الحياة بريقها، الآباء، يحملوننا في صدورهم، وتلك القطعة المجتثة في قلوبهم تكون هي نقطة ضعفهم؛ لذلك رأيت الرعب الذي استولى عليه في تلك الدقائق القليلة التي سبقت الانفجار، والهلع والفزع الذي كنت أرى في عيون أبي جعلاه يخاف، أو ربما يبكي، كان ليُلقي بجسده إلى وابِلٍ من الصواريخ لئلا يَمسّنا مكروه، ولكن الحطام كان أقوى من إرادته أن يحمي الكل بحضنه، ولكن كان له الفضل بعد الله في أن أبقى على قيد الحياة ويستمر قلبي في الخفقان بعد أن تبادلنا الأحضان أنا وأخي الصغير لأصبح في حضن أبي.
أتذكر تلك اللحظات بتفاصيلها كلها، وكيف أنسى حين دوى الانفجار في بيت العم رجب بجانب بيتنا؟ وما هي إلا لحظات كأنها دَهْرٌ من التَّرقب، حتى تحطم كل شيء، كنت أتخيل البيوت المحطمة تحفز باقي البيوت لكي تبقى صامدة، وتقول لها أنْ ابقَيْ ثابتة شامخة! ولكن تحطم بيتنا الذي قاوم الضربة الأولى لتأتي الثانية ويهوي البيت فوق رؤوسنا، لا أعلم هل بكى أبي حينها أم لا، أسالت دموعه وهو تحت الأنقاض يلفظ أنفاسه الأخيرة المختلطة بالغبار، أم أنه بقي صامدًا صابرًا؟ الكبار يبكون بدموع تتساقط إلى الداخل حينما يكونون بجانب أبنائهم، لا يريدون أن يجعلوا شيئًا من الحزن يستقر في فلذات أكبادهم، ولكنْ يبقى مؤلمًا، مَشهدَ دموع الرجال وهي تسيل، نعتقد أن أحدهم جبلٌ لا يركع ولا يَلين، ثم إذا انهمرت دموعه تذكرنا أنه إنسان وأنه كان يكلِّف نفسه مدةً طويلة، ولكن تبقى دموع الرجال ليست ضعفًا، إنهم يبكون لأنهم لم يبكوا في لحظات وجبَ فيها البكاء، لأنهم حمَّلوا أنفسهم كثيرًا.
كان العم أكرم يعرف الكثير من الناس في كل بقاع العالم؛ إذ كان يعمل في الخطوط الجوِّية، وطبيعة عمله تجعله يزور كل البلدان، كان يعمل ربَّان طائرة، لذلك بعد خمس ساعات ونصف قضيناها محلقين في السماء، وصلنا إلى المغرب، وكان ثلة من أصدقائه في انتظارنا هناك، وما إن هبطت بنا الطائرة حتى تعانق العم أكرم وأصدقاؤه عناقًا حارًا يوحي بطول مدة الفراق، فتوجهنا إلى السيارة التي أخذت تقطع بنا الشوارع، ولا علم لي بالوجهة، كان الليل قد أسدل ستائره واضعًا حدًا للنهار، غربت الشمس لتترك للقمر عرضَ جماله أمام عُشَّاقه، في غزة عشَّاقٌ للغروب أيضًا، في غزة أشخاص مفتونون بالقمر، لكنْ ليس في غزة أمنٌ يضمن للعشاقِ التأمل في الغروب ولا في القمر!
كنت أُطل من نافذة السيارة وأراقب ما تُريني إياه، وأُنصت لحديث العم أكرم وصديقه وهو يحدثه عمَّا آلت إليه أحوالنا في فلسطين، وفي الجهة الأخرى الكثيرُ من أشجار النخيل والمقاهي والمتاجر على جوانب الشوارع، إلى أن توقفت بنا السيارة أمام بيت مِن طابقيْنِ في منطقة هادئة، أحب هذا الهدوء وأتضور جوعًا إليه! تجرني الذاكرة إلى غزة، كيف هي الآن؟ كيف بيوتها؟ كيف أناسها؟ كيف حطام بيتنا ورُوح أمي؟ لا شك أنها ما زالت صامدة، غزة التي لم تذق طعم الراحة منذ أمد، ودمعها الذي ما زال يسيل، وذكريات طفولتها الحزينة، (غزة) مختلفة عنهم لأنها عكسهم تمامًا، مضادة لهم، فهي تتجمل بحزنها وألمها!
دخلنا البيت بعد أن ودَّع العم أكرم أصدقاءه وتسلم منهم المفاتيح. كان للبيت بابان، كل منهما يُفتح على مكان، فالباب الأمامي يفتح على الطريق، أما الباب الخلفي فيفتح على حديقة فسيحة، كانت النباتات الخضراء التي تتسلق جنباتِ جدرانها تَزيدها جمالًا وروعةً، والكثير من الأزهار الملونة التي ينثر عبيرها في كل الأرجاء، كنت منهكة فتوجهت إلى غرفتي بعد أن أشار العم أكرم إلى أنها في الطابق العلوي، وما إن دلفت الغرفة حتى تسمَّرت في مكاني، كانت غرفة جميلة، مربعة الشكل، وقبالة المدخل سرير من الخشب، فوقه حشية كبيرة سميكة كساها غطاء أبيض، وعلى يمين السرير خزانة كبيرة من الخشب متعددة الأدراج، وفي الجدار الجانبي نافذة كبيرة بيضاء، أسدلت عليها ستائرُ مزركشة، كان النوم يداعب جفنيَّ فارتميت على السرير مستسلمة له، وتركت مهمة الاكتشاف إلى الغد.
تسللت أشعة الشمس عبر النافذة، فطردت النوم عن جفنيَّ، فتحت الخالة ربيعة الباب متجهة إلى النافذة ترفع ستائرها وهي تبتسم في وجهي وتقول:
-انهضي يا ابنتي، عمك أكرم ينتظرنا، نفطر ونخرج في جولة استكشافية بحثًا عن أقربِ مدرسة لتستأنفي دراستك.
تململت من فراشي وأنا أقول:
-حسنًا خالتي ربيعة!
قلت ذلك وأنا أتوجه إلى النافذة المطلة على الحديقة، كانت تبدو أجمل ممّا بدت البارحةَ، الزهور والأشجار في كل مكان، وتتوسطها مائدة يلفها أربعة كراسيَّ، كان العم أكرم يجلس على أحدها واضعًا نظارته، يحمل جريدة في يديه يلتهم حروفها، يعجبني هدوؤه، حتى في أصعب المواقف تجده هادئًا ثابتًا وكأن شيئًا لم يكن، ولكن ماذا عن أعماقه؟ هل ينعكس عليها هذا الهدوء أيضًا أم أن بركانًا من الصراعات يسري؟
جميل هذا الشعور، شعور الأمن والأمان، أن تستيقظ دون خوف فقد شخص، ودون أن تجد منازل مهدمة، إن لم يهدّم بيتك، أن تستيقظ وأنت ساعٍ وراء هدف كنت قد جعلته نصب عينيك، دوامة من الأفكار كانت تتناطح فوق رأسي، لم يوقظها إلا العم أكرم وهو يناديني بعد أن رآني شاردة، لا شك أنه ناداني عدة مرات قبل أن أنتبه لنداءاته، رتبت مكاني وارتديت سروالَ جينز فضفاضًا وقميصًا قصيرَ الكمّين، ارتديت حذائي ونزلتُ الدرجات متوجهة إلى الحديقة حيث العم أكرم والخالة ربيعة؛ للإفطار.
بعد يوم طويل أرخى الليل سُدوله، أُضيئت المصابيح فانسحب الظلام إلا من ذهني، كان معتمًا مسوّدًا، ذكرى تفضي إلى ذكرى وأنا غارقة في أفكاري، كانت تتدافع، يطارد بعضها بعضًا في مساحة رأسي الصغيرة، وكل الطرق في ذهني تؤدي إلى تلك القطعة من الأرض، إلى فلسطين، إلى غزة بالتحديد، إلى حطام بيتنا وروح أمي بكل الدقة، صحيح أن جسدي غادر تلك الأرض ولكنّ شيئًا مني ما زال عالقًا في تلك البقعة، شيء أشعر أنه يناديني طوال الوقتَ، قطعة مني ما زالت تتخذ من تلك الأنقاض مسكنًا لها، انقضضت على الحياة في حين كانت تهرب مني وأنا بين تلك الأنقاض؛ لأن أول دمعة سالت مني كانت بين جدرانها التي كانت سليمة، وأول بسمة كانت بينها، وأول ذكرى ميلاد كانت هناك؛ فلم أكن لِأودّع الحياة بين أنقاضها بكل سهولة، فخليط من المشاعر والأفكار والذكريات أحتفظ به هناك، ربما كانت هي ما يُناديني، أول كل شيء يبقى مطاردًا لنا مَهْما أخذتنا الحياة في دروبها، الذكريات أقوى طرق التعذيب فتكًا، آلة عابرة للأزمات، ولكن أَيَحدث أن تستنجد الذكرياتُ مِن تحت الأنقاض؟!
أخذتُ الحاسوب الذي اشتراه لي العم أكرم صباحَ اليوم، لا أعلم كيف أرد إليهما هذا الجميل، يعاملانِني كأنّي قطعة منهما، وجدت فيه شيئًا من أبي، ووجدت فيها شيئًا من أمي، أعلم أنه لا أحد يستطيع أن يأخذ مكانها مهما كان ليّنًا طيّبًا ينبض بالحب تجاهنا، لكنّ الخالة ربيعة والعم أكرم كانا نقيةً قُلوبُهما، شديدَيْ بياضِ الرُّوح.
كان الحاسوب لا يزال بين يديّ، فتحته وضغطت عل زر التشغيل، وانتظرت لحظاتٍ حتى أَصدرَ صوتًا، توجهت سريعًا إلى زر البحث وكتبت في الأعلى "أخبار غزة"، ضغطت على الزر فبدأتُ أقرأ العناوين: "الاحتلال يستعد لعدوان جديد على غزة"، "حماس تخوض معركة جديدة لإنهاء حصار غزة"، "ارتفاع نسب البطالة في الضفة الغربية وقطاع غزة"...
لم أشعر بالدموع إلا وهي تنسكب على أزرار الحاسوب، غضبٌ شديد اعتلاني، أملك من الحب لغزة ما يجعلني أسهر الليالي وأذرف كل دموعي، وأملك لها من الحب ما يجعلني أفديها بنفسي، كان لي جسد طفلة بريئة، أما قلبي فكان قلب محارب مقاوم، كذاك الطفل الذي يقف شامخًا أمام دبابة صهيونية لعينة، ويلقيها بالحجارة بكل ما أوتي من قوة! وسط دموعي التي غرقت فيها سقطت عيناي على عنوان يقول: "غزة تستنجد!"، فهطلت كل دموعي الحبيسة، أغمضت عينيّ وضغطت عليها بكلتا يديّ لأوقف المد المنجرف منها، دقت الخالة ربيعة الباب وفتحتْه وأطلت منه، وما إن لمحت دموعي حتى أتت مسرعة نحوي وعانقتني، ولم تنطق بأيّ كلمة، وبعد دقائق قالت لي:
-سنعود يومًا ما يا ابنتي، وكل شيء سيكون على ما يرام!
كانت تعلم سبب حزني بعد أن لمحتْ شاشةَ الحاسوب، وكنت أعلم أنها هي والعم أكرم يعلمان كل ما يقع في فلسطين، فقد كان العم دائمًا يخفي عني جريدة الصباح... أضافت الخالة قائلة:
-نامي يا ابنتي، ينتظرنا يوم طويل، فأنت على بُعد أسبوع من الالتحاق بالمدرسة، ويجب أن نقتني كل اللوازم الخاصة بك.
ذهبت إلى تلك المساحة المكتظّة بالذكريات، بمحادثاتي أنا وأناسٍ لم يعُد يَجمعُنا سوى الحُلمِ، كنت أشعر بحضن الخالة ربيعة الدافئ، هكذا كانت أمي تفعل دائمًا، تنام بجانب أخي حتى يَتِيه في أحلامه فتأتي لتفعل الشيء نفسه معي، أما الآن فقد ذهبتْ في رحلة لا رجعة منها، ليس في الدنيا مَن أسعدَ مِن شخص ما زالت أمه في الحياة، وكل الأشياء -غير ذلك- مهما تركت فينا من السعادة لن تساوي شيئًا أمام فرح الشخص بأمّ ما زالت على قيد الحياة.