المواطن لُقمة
د.منى قابل
مؤسسة سطوع
جميع الحقوق محفوظة ويحظر طبع أو تصوير أو تخزين أي جزء من الكتاب بأية وسيلة من وسائل تخزين المعلومات إلا بأذن كتابي صريح من الناشر
رؤية أخيرة
نتصبب عرقًا، شاخصة أبصارنا، وشخص ملتصق بي من شدة الزحام دون إذن مني، يسأله فمي بصوت مسموع، بعد أن فقدت سيطرتي عليه:
- لماذا جمعونا هنا، وما الذي وضعوه على أعيننا؟ ولمَ لا أرى سواك أنت وتلك العجوز التي تقف على يساري؛ كنت أرى سابقا كل شيء!
يجيبني:
- لا أملك الرد على كل الأسئلة، أنا هنا لأساعدك حين يتم استجوابك.
- أين أهلي ورفاقي؟
- مبعثرين في الصفوف.
- لا أكاد أذكر شيئًا، ساعدني أرجوك..
ثم بصوت أكثر خفوتًا سألته:
- هل جمعنا الملك ليعاقبنا، أم أن لديه انتصارًا وعلينا أن نحتفل به.
يصمت ثانية، بينما تنتفض العجوز تجيبني:
- الملك أصدر مرسومًا بالتخلص من كل المذنبين، بقطع روؤسهم وإغراقها في بئر الفضيلة، لتنبت مجددًا دون أوزار.
يسألها فمي المعوج عن هَويتها، فتجيبني:
- أنا حياتك.
أضحك متهكمة..
- ولماذا هرمتِ وأنا لا أزال صغيرة.. أو أعتقد أني لا زلت صغيرة!
أشعر بشيء غريب، يجمد الدماء والأعصاب، ويوقظ شعيرات جسدي من رقادها وتوسدها جلدي، لتقف منتصبة مشدوهة. لا تجيب، فأفهم من تلقاء نفسي أنها أيضا محكومة بالإجابة على بعض الأسئلة دون الأخرى. أحاول أن أتذكر، هل كنت مذنبة؟!
هل حقا أن الملك قرر أن ينبت رأسي من جديد؟.. هل يعني ذلك أنني سأموت أم سأحيا من جديد؟
لا أعرف عن الموت شيئا، وكيف عليَّ أن أستقبله. لماذا أخاف، ربما كان شيئا جميلًا أو مفرحًا.. الأكيد أنه أفضل من الانتظار هنا. أركز البصر فيما أرى.. ماذا وراء ترتيبنا على هذا النحو؟ وجه العجوز عليه شحوب جثة، فهل هي حقا حياتي؟ ومن يكون هذا الرجل؟.. أحاول أن أشب برأسي وأمدّ عنقي، أقتفي أي أثر لغيرهما، أشعر بوجود بشر بأعداد كبيرة.. لكن لا أرى أحدًا!
سابقًا، تعلمت البكاء.. أطالب عيني أن تجود بدموع، فتأبى، رغم أنها كانت من قبل تطلق أسرابًا وزخّات بمنتهى السهولة.
أعود للرجل الدميم، أسأله:
- يا سيدي، أريد أن أستمع منك لتفسير ما يحدث.
يحملني برفق، والعجيب أنني لا أستنكر أن يحملني، ولا أتوجس من رفقه!.. في أول الأمر لا أجد أي فرق في الرؤية، رغم ارتفاع كتفيه وضخامة جسده، لكنني أعود فأميز بشرًا متناثرين هنا وهناك، وأن لم أستطع رؤية تفاصيلهم. أطلب منه أن يعيدني إلى الأرض، وقد أشرفت على الخُبال أو ربما أصابني بالفعل. عاجزة عن كل ما أتقنته، ليس أمامي إلا معاودة التقصّي.
- لقد تغير الأمر الآن يا فتاتي، فكل إجابة تريدينها، تكلفتها فعلٌ تقومين به.
بضحكة شيطانية أجابني، فرددت بطوية صادقة رغم رجفتي وخوفي:
- أوافق. أول سؤال: كيف لي أن أعرف إن كنت من المذنبين أم لا؟
- عليكِ أن تكذبي كذبة لا يصدقها عقل، في أقل من ثانية.
أجبت:
- أرى الكون كله بتفاصيله الآن.
- أحسنتِ.
ترمقني العجوز بنظرات تأنيب لا أعي مغزاها، وأسمعه يقول:
- اركني إليّ يا صديقتي، ولن أتخلى عنك
أقترب منها لأسألها عن هوية هذا الشخص، فتحرقني نار الندم.. لم أختر سؤالًا يفي بأغراض وعيي. أشعل رأسي بقدحة من فرك يدي لجبهتي دون جدوى، فأتذكر بصعوبة بالغة وجهًا بلا ملامح، لكنني أشعر أن حبل أماني كان مرتبط به؛ من المؤكد أن هناك شعورًا يناقض الذعر، بل عكسه تماما.
- من فضلك يا... بماذا أناديك؟
- هل هذا سؤالك الآني؟
- لا.. انتظر!
أناجي نفسي، ما هذه البلاهة يا…. لا أذكر اسمي أيضًا، فكيف سأعرف دوري إذن؟
أعود إليه، أسأله عن الزمن، ثم أنصت له منتظرة بقلق لحظة إنصاف، أو خبر يعيد إليّ هدوئي.
- أي زمن هذا الذي نحن فيه؟
يرد عليَّ بطلبٍ، أن أعد السيدة العجوز بوعدٍ لن أفي به، فأفكر مليا ثم أخبرها أني سأجفف عرقها وأرحمها من هذا العناء كل بضع دقائق. أراقب ملامحها تنبسط سعيدة بقولي، بينما أنا على يقين أني كاذبة ولن أفي بوعدي، فأمتعض من نفسي، ولكنه يدركني مبتسمًا:
- الزمن لم يعد مهمًا.. وحين يأتي دورك، سأخبرك.
تطالبني "حياتي" أن أمسح عرقها، فأتجاهلها - ولابد لي من ذلك- فتكسو وجهها حمرة الاحتقان، وتحذرني من الشخص الدميم، وتشيخ أكثر أمام عيني.
لا.. لا، سأساعدها.. هممت بمسح عرقها، فسمعت صوتًا مريعًا يصدر بجانبي محذرًا. ترددت.. تأملته لحظة، ثم قررت أني لن أخشاه، لقد كذبت لأحصل منه على نور لبصيرتي، فزادني عتمة.. سألته فدفعني للكذب، وسألته ثانية، فأمرني بإخلاف الوعد، وخذلت المرأة، ألا تعد هذه الأفعال آثاما؟ أظن ذلك.
فجأة، شعرت بدوار شديد، وأنا أفكر وأصل لإجابات دون مساعدة، لكن رأسي تدور كأنها على سن نحلة الأطفال، التي تدور على الأرض كالدوَّامة. مددت يدي لأجبر عقلي على التوقف عن الدوران، فوجدت رأسي غير مثبتة، .. انخلعت في يدي!.. ضممتها.. حاولت إعادتها.. لم أتمكن من تثبيتها، وطارت رأسي وأخذت تعلو وهي تراقب السيدة حياتي، ففاجأني أنها قد صارت طفلة جميلة، لا تتجاوز ست سنوات، تلهو وتقفز وتغني في مرح، ولا يعنيها الحشد الكئيب!
والرجل؟.. أين اختفى الرجل؟
أخبرتني عيون الطفلة وابتسامتها، بحكاية كنت قد نسيتها عن الشيطان، كان أبي دومًا يجلسني في حجره ويحكيها لي.
***