الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم ونهل من علمهم إلى يوم الدين.
منذ فجر التاريخ اختار الله تعالى من عباده فئة لإبلاغ الرسالة وتأدية الأمانة وعظة الأمة، وهديهم إلى الصراط الحق! فأدوا هذه الرسالة خير أداء! ورسخوا العلم، وزرعوا الهدي في النفوس! وزهدوا في دنياهم متناسين أنفسهم! فكانوا نبراس هدًى ينير مشارق الأرض ومغاربها! فحُق علينا أن نزيد من الصفحات البيضاء نصوعًا بذكرهم، وأن نتوقف عند مآثرهم التي خلدها التاريخ العربي والإسلامي؛ ولم يكُن ذلك ليكون لولا عملهم الدؤوب لنيل رتبة الشرف والرقي!
ومن هؤلاء العظماء الإمام: "محمد بن إسماعيل البخاري -رضي الله عنه وأرضاه- فقد كان في سيرته العطرة الكثير مما يستحق التوقف عند جزئياتها لما حملته بين طياتها من تضحية وصدق سريرة ونبل وإخلاص وعطاء زاخر بالعلم والمعرفة والإرشاد!
إنه الإمام البخاري الكبير خَلقًا وخُلقًا!
فقد جاب البلاد في رحلاته وعانى الأمرَّين لتأدية هذه الرسالة العظيمة التي كرمه وشرفه الله تعالى بنيلها.
وها هو إمامنا العابد، الزاهد، الورع، التقي، المخلص، يأكل الحشيش عندما ضاقت به سبل الحياة ليستمر في أداء الأمانة، وها هو ذا يتعرض لمحن خطيرة، وفتن بالغة الألم! ويأبى الرد عليهم والغوص في جدالهم ويمضي دون أن يكترث لأقوالهم عنه مترفعً. ويستمر في رحلاته الشاقة والمرهقة ويجوب الأرض على دابته سعيًا خلف حديث شريف وينقل العلم في سائر الأرض دون طلب أجر أو عطاء أو مديح من أحد.
فكان أول من جَرَّدَ الحديث الصحيح بالتصنيف، وقدم للأمة جمعاء كتابه الرائع: "الجامع الصحيح" وهداه الله تعالى ليدون أحاديثه في الحرمين الشريفين وغيرهما من بلاد الإسلام. وإن الحديث عن مآثر وخصال هذا الداعية الذي وهب نفسه وحياته منذ نعومة أظفاره حتى لحظة رحيله تطول! وما هذا الكتاب إلا نبذة متواضعة وفكرة خاطفة جدًّا جدًّا عما ذكره التاريخ لنا ورواه أمامنا عن نفسه في صفحات وكتب متفرقة هنا وهناك، فحُق علينا جمعها. ولو أردنا التوقف عند كل فكرة منها في دراسة متأنية لغزونا الصفحات ذكرًا طيبًا وعبقًا خالدًا وفوائد قيمة أفردها لنا هذا الرجل المتميز بكل ما تعني هذه الكلمة من معانٍ راقية! لكننا حاولنا اختزال حياته والتي من الصعب اختزالها بصفحات قليلة؛ لنطلع المتلقي على المعاناة والصعوبات التي واجهته ليؤدي لنا هذه الرسالة لتكون حافزًا لنا إن شاء الله للعطاء والعمل والاجتهاد المضني في سبيل الوصول إلى غايتنا المرجوة. وألا نقنط وننهار أمام أي عقبات تمر في طريقنا، ولقد عبّدَ لنا الإمام البخاري رحمه الله سبل الوصول إلى طموحنا من خلال تلك "الطاقة الإيجابية" التي بثها في أفئدتنا من خلال سيرته العطرة هذه.
ولشد ما أدهشني أن نرى العالم العربي والإسلامي ينهل من علم هذا الرجل ولا يلتفت إلى قصة رحلته المذهلة بحق في جمع الأحاديث والصبر والزهد في دنياه لتحقيق هذه الغاية السامية! فمن المؤسف أن تهتم المكتبة الإسلامية وطلاب الشريعة بكتبه وتتعلمها وتعلمها وتنسى تكريس وتدريس "قصة كفاحه ونضاله وجهاده وزهده في حياته" قبل الشروع بتدريس الأحاديث التي وثقها وقدمها لنا على مائدة من ماس! وذلك لما في "قصة حياته" مما ذكرناه آنفًا. وهنا نتوقف قليلًا للحديث عن تقديم هذا الكتاب للمتلقي النهم بمعرفة حياة البخاري ودعوته بعيدًا عن "الحواشي" التي ترهق القارئ حينًا وتفسد متعة التلقي في أحايين كثيرة؛ لذا آثرنا أن نقدم هذه السيرة القيمة بأسلوب أقرب إلى فن القصة والمشاهد السينمائية المقتضبة مع الاحتفاظ بفواصل من العناوين والاختزال والتكثيف علها تجذب المتلقي وتجعله يتمسك بقراءة الكتاب حتى يصل إلى محطة النهاية.
وقد كان من المقرر أن ينتج هذا العمل كفيلم سينمائي من إنتاج إدارة الإعلام الديني في وزارة الأوقاف الكويتية وأن يخرجه نجدت أنزور ويشرف على الإنتاج صفوت أنزور لكن الظروف الإنتاجية حالت دون ذلك، فأعدت إعداد السيرة من سيناريو إلى مشاهد سينمائية مقروءة، وربما تبقى للمشاهد البصرية قيمتها الخاصة، كما أن للقراءة متعة لا تضاهيها متعة أُخرى! فالمهم أن تعم الفائدة بأي شكل من الأشكال.
أرجو من الله -تعالى- أن أكون قد وفقت في إنجاز هذا الكتاب وأن يصل إلى القراء ويستفاد منه من قبل طلبة كليات الشريعة في عالمنا العربي والإسلامي، وفي سائر الاختصاصات الأخرى لما ضمه في فحواه من قيم وفوائد للأمة العربية والإسلامية، وتهذيب وتربية للنفس الإنسانية، والحمد لله رب العالمين الذي شرفني وأنعم علي بإنجاز هذا العمل حتى يبلغ الحمد منتهاه.
أ. عادل إدلبي، حلب، 2 شعبان، 7-4-2019