"زغلول سيد شحاتة"، هذا اسمي الذي أطلقه عليَّ مأمور قسم أحد المناطق الشعبية بمصر، بعد أن عثر عليّ سكان الحي بجوار الحائط في إحدى ليالي الخريف الباهتة، قبل أن يصدر أمرًا بوضعي في واحدة من دور الرعاية الخاصة بمجهولي النسب.
لماذا اسم (زغلول)؟! كنت دائم التساؤل عن سبب تسميتي بهذا الاسم لكن دون جدوى، لم أُكن الاسم الغريب الفريد من نوعه بين 20 طفلًا تفاوتت أعمارنا ما بين حديثي الولادة والسنتين، لكن كان اسمي أشد وطأة من الآخرين.
كان دائمًا (السيد محمود) مدير الدار يناديني بأسماء طفولية بحنانه الأبوي الذي عوضني مرارة اليتم، وزوجته (حنان) ذات الحظ الوافر من اسمها أرتوي من حنانها لأشبع قلبي العطش لدفء ضمة الأم.
لا أعلم أي جرم ارتكبته في حق أمي لتتركني للمجهول وترحل! لكن منذ أن وعت عيناي على الدنيا، يتردد على مسامعي كلمة (ابن حرام) من كل من حولي. في البداية، لم أفطن إلى معناها بسنوات عمري التي لم تتخط أربع سنوات، كنت أظنها فقط مجرد كنية وُسِمت بها في روضة الأطفال كميزة عن هؤلاء الذين يقطنون دور الرعاية، حتى ذلك اليوم الذي تشاجرت فيه مع أحد الأطفال، وحضر بعدها مدير الدار دمث الخلق، ليواجهه المدير الفظ الذي عنفه على انعدام أخلاقي ورغم المحاولات المستميتة للسيد محمود، إلا أن مدير الروضة رفض وجودي وسط الأطفال قائلًا جملة لم تُمحَ من ذاكرتي حتى الآن:
- لا نعلم له أصل كباقي الأطفال، والأهالي يشتكون منه ومن أخلاقه وطلبوا مني طرده، فهم لا يريدون لأبنائهم الذين تربوا في أكنافهم أن يتعاملوا مع (ابن حرام) ألقته عاهرة على أحد النواصي.
يومها تشوش عقلي وظلت تلك الكلمة تتردد داخلي كنفير إنذار، أربط بعض الخيوط ببعضها لأحصل على صورة كاملة لما أنا عليه، طفل بلا أبوين، تربى في ملجأ للأيتام منبوذ من الجميع، فقط يحاول أن يلفت الأنظار إليه بأفعاله كأنه يقول "ها أنا موجود" وسط أطفال يتركونه وحده في الفناء، يتناول شطائره دون شريك لعب واحد والكل يطلق عليه (ابن حرام)، نُعِتُّ بجرم والديّ ليظل كالوشم يدمي روحي ما بقي لي من عمر.
لم أشعر حينها سوى ببلل بنطالي والمدير ينهرني، وصمتَ السيد محمود في خزي، ثم لا شيء، لا أعلم كم مر من الوقت لأستفيق على تربيتات حنونة وصوت بكاء مألوف، تمنيت وقتها أن يكون ما مر مجرد حلم مزعج كأحلام أتى فيها الشيطان؛ ليتناول أطباق الحلوى من يدي، وأنا أمرح بين الملائكة، لكن كان وجه السيد محمود والسيدة حنان هو ما واجهني بعد أن فتحت مقلتيّ، لاصطدم بواقعي المرير، وأنا بعد طفل أضافوا لسنواته الأربع أعوامًا وأعوامًا من عار لم يرتكبه.
من بعد تلك اللحظة، أصبت بمرض التبول اللاإرادي، ورغم أن السيد محمود لم يدخر وسعًا في علاجي؛ لكن جميع الأطباء قالوا أن هذا عرض نفسي بسبب صدمة كبيرة تعرضت لها، وأي صدمة يواجها طفل ذو أربع سنوات تضاهي معرفته بأنه لقيط!
تم عرضي على أطباء نفسية وعصبية، إلا أن كل ذلك كان كهشيم تذروه الرياح، وأضيف إليها كرهي للتعليم، رغم محاولات السيد محمود معي باللين تارة والشدة تارة أخرى، وهو يعلم جيدًا السبب ويرثي لحالي من خلال مناقشاته مع زوجته أو مع المشرفين التي كنت استمع إليها خلسة، ولكني أسلمت للأمر الواقع، أنا مرفوض من المجتمع فلما السبيل الى النجاح؟
كان الرسوب حليفي لأعوام عدة، لا أتعامل مع أحد، فقط أسير في طريق الذهاب والعودة إلى المدرسة كنزهة خلوية، ومع تقدمي في العمر كنت أحيانًا أتهرب من الذهاب للمدرسة لأهيم على وجهي في الطرق كالشريد، أصاب عيني الحزن حتى وسط ضحكاتي المصطنعة. ابتعدت عن رفقائي في الدار أتطلع إلى السماء متسائلًا عن حكمة الله في إدارة الأمور، استغفر بعدها فلكل شيء سبب.
مرت الأعوام حاول معها السيد محمود أن يعلمني حرفة بعد أن امتنعت عن الذهاب للدراسة بعد أن أنهيت المرحلة الإعدادية بصعوبة، فعملت في محل لبيع الأسماك كان صاحبه رقيق القلب، يعلمني من خبراته دون كلل، متخذني ابنًا له، بعد أن حرمه الله من نعمة الإنجاب فتشجعت في تقديم كل ما هو جديد، ووضعت أمامي حلم أن يكون لي مشروعي الخاص.
كان العمل سلوتي الوحيدة أعود بعدها للنوم بين رفقائي وحلمي نصب عينيّ، أتطلع إليه وأدخر من ما اكتسبه ولو القليل حتى أحققه، حلمت بافتتاح مطعمي الخاص بالمأكولات البحرية، وبلغت ذروة أحلامي بوجودي بين كبار رجال الأعمال بسلسلة من مطاعم الأسماك العالمية، ويجتمع الجميع لخطب ودي وطلب المشورة كواحد من أنجح أصحاب المشاريع في مصر.
وتحطمت أحلامي على صخرة الواقع، مع بلوغي الثامنة عشرة؛ السن القانوني لمغادرتي دار الأيتام نحو المجهول، دون أهل أو سكن، أحمل حقيبتي ومعي خبراتي عن سنوات مرت من العمل، مع مرض التبول اللاإرادي، ومبلغ عشرة آلاف جنيه، هو ما كان يدخره السيد محمود ليمنحه لي لمواجه مشاق الحياة.
دموع تلاحقني ومستقبل مبهم ينتظرني، أرفع عيناي نحو يافطة المبنى الذي وعيت الدنيا به، متسائلًا:
-ما هو جُرمي لأعاني؟!
لماذا تلقي بنا الدولة في منتصف الطريق، دون مدد يعيننا على الحياة؟!
هل ثمانية عشر عامًا تكفي لأواجه الحياة وحدي؟! أم أن هذا فقط مصيري؛ لأنني
(ابن حرام).
بسمة ناجي