إهداء
إلى أصدقاء الحرف، أصدقاء الكلمات، شركاء الفكر والإبداع!
كل الشكر والتقدير لاهتمامكم القيم بفكري المتواضع!
إلى كل من كرَّم هذه الخربشات على جدار الحياة!
إلى أدباء وأديبات وطننا العربي الحبيب؛ أُهدي هذا الكتاب.
شكرًا لفيض نبلكم!
المؤلف
رغم جفافها
تنبت فرحًا في قلبي!
زهورك الاصطناعية!
هايكو: أحمد عادل إدلبي
وقد يضطر الكاتب أن يكون كالطبيب.. إن لم يؤلم لن يستطيع أن يداوي!
المؤلف
قصص قصيرة
المجنون
كانت الشمس قد بدأت تتوارى عن الأنظار عندما قررت الدخول إلى المسجد، دخلت مسرعًا راغبًا في اللجوء له والدعاء؛ صوت أحدهم كان يتمتم، يقتل متعة التضرع إلى الله! نظرت خلفي فإذا برجل رسمت السنون آلامها على وجهها المتقد بالإيمان، لحيته كثة، وكأن الثلج قد هطل فوقها وجعاها سوداء ممزوجة بشيء من البياض! رحت أتأمله؛ سمعته يقول: دي... وينظر إلى صحن المسجد ثم يقول: دا ... يشخص بصره؛ يحول رأسه لليسار ثم يقول: دو..، ينظر باتجاه اليمين ويقوا: دي، يعيد الكرة بسرعة هائلة!
قلت في سري: مسكين! لقد فقد صوابه! همس خاطري قائلًا لي: احزن على نفسك! افرح له، إنه كالنائم الذي لا يدرك حجم الكوارث اللاإنسانية التي نعيشها في سورية.
قلت لخاطري: نعم، أنت محق! وجدت نفسي أحدثها! قلت برهبة شديدة: يا الله، أنا أيضًا سأصاب بالجنون!
نظرت إلى وجوه الناس، خشيت أن أكون لفت انتباههم! عدت أتأمل ذاك الرجل المسن، رأيته يقول: دي... دا... دو. تقدم نحوي رجل تبدو على ملامحه علامات الطيب؛ نظر إلي وهو يبتسم، قائلًا، دعك منه، إنه مجنون! كل يوم يأتي إلى المسجد مع بزوغ الفجر ولا يبرح منه إلا بعد العشاء! شغله الشاغل قول جملته هذه!
أصبت بالدهشة! شكرت الرجل ثم تقدمت نحو المجنون! قلت له: السلام عليكم.
ابتسم بلطف بالغ وقال: وعليك سلام الله ورحمته تعالى وبركاته.
أخرجت قطعة سكر من حقيبتي، أعطيته إياها، أخذها بحياء شديد وشكرني.
قلت له: هل أنت جائع؟
قال: لقد اعتدت على الجوع!
سألته: هل أنت بحاجة للمال؟
قال: إن لم تكن بحاجة إليه!
دهشت لبلاغة قوله! أخرجت النقود من جيبي، أعطيته بقدر استطاعتي، أخذهم وراح يدعو لي ويشكرني بكلمات مذهلة! وكأنه من حملة شهادة الدكتوراه في البلاغة!
قلت له: أرجو منك الدعاء والرجاء إلى الله كي يفرج عن سورية وأهلها. نظر إلي بدهشة وقال: نحن من دمرنا أوطاننا! الله رؤوف بنا، يحبنا، وهو أرحم الراحمين! دعانا للحب فزرعنا البغض! أترانا نستحق استجابته؟! ذهلت! قلت له: أنت لست مجنون إذن؟!
قال ساخرًا: كلنا مجانين لأننا دمرنا أوطاننا بنفوسنا المريضة! ثم بدأنا نطالب الله تعالى بالخلاص!
تركته مذهولًا! أخذت حذائي، خرجت وأنا أقول: دي.. دا.. دو..
الناس ينظرون إلي بشفقة بالغة يقولون: ياله من مجنون.
************************
رواق الوجوه
هذا المساء لم أشأ الذهاب للعمل؛ قررت أن أمضي هذه الليلة بهدوء مع أفراد أسرتي، رأيتها أمامي كالمعتاد، امرأة متسلطة، عنيدة، ذات خلق سيء! كم أكره رؤيتها! يا لها من متوحشة! سمعتها ذات يوم تشتم زوجها! تمسك بشعر ابنتها الناعم، تطرحها أرضًا، توبخها! تبكي ابنتها، ترجوها أن تدعها وشأنها، لكنها تأبى ذلك! تعيد ضربها لها مرارًا وتكرارًا! طُفت بعيني حولها، رأيت بيتًا عربيًّا فسيح الأرجاء، تلتف حوله أشجار النانرج والتفاح والبرتقال، تتوسطه بركة ماء عذب ونافورة صغيرة تلقي الماء بانسياب رائع! يدهش الناظر ويدفعه للتحليق بخياله إلى عالم جميل، طاهر! ويجعله يتمنى لو كان هذا المكان له؛ على الطاولة ما لذ وطاب من المأكولات؛ ملابسها توحي بأنها تعيش في ثراء فاحش!
قلت في سري: يا لها من امرأة جاحدة! تعيش في كنف زوجها الذي لم يحرمها شيئًا ! لديها بنين وبنات صورهم الله بأجمل خلق! رغم كل ذلك تبقى متعجرفة! لا تحمد الله على سائر نعمه! لا يروق لها أي شيء من هذا! لم أعد أريد مشاهدتها، قررت مغادرة عالمها المفترس؛ حمدت الله لأنه لم يجمعني بها في الحياة؛ في اليوم التالي كنت عائدًا من عملي في حافلة كبيرة، وإذا بالسائق يطلب منا النزول بسبب عطل مفاجئ فيها، غادرتها وأنا أتمتم بيني وبين نفسي: لعلها فرصة جميلة كي أستمتع بالهواء العليل في هذا الربيع الزاهي! سرت قليلًا وإذا بي أرى مجموعة من القطط، عجزت عن إحصاء عددها! رأيتهم يأكلون اللحم وامرأة تقف على نافذة بيتها تلقي لهم اللحم بحبور وطيبة منقطعة النظير؛ تقدمت قليلًا.. شيء ما جذبني لرؤيتها؛ تعيش في بيت معلق، مظلم! ملابسها متواضعة.. بسيطة! لا أولاد لديها! لا زوج معطاء! لا أشجار وارفة الظلال! لا بركة ماء عذب! رحت أتأملها بشغف! أحاول مقارنتها بتلك! حزن شديد داهم فؤادي فجأة! استبدل مشاعر الحقد والكره والضغينة بالحب والشفقة! عندما سألت جارتها عنها فقالت لي: إنها دمثة الخلق! تعيش بمفردها في بيتها البسيط المتواضع! إذ لم يحالفها الحظ بالزواج! قلبها يزف الطيبة لكل من حولها ويتسع لاحتضان العالم بأسره! رغم قلة ذات اليد! إنها تنفق مرتبها التقاعدي على القطط والكلاب المنزلية والشاردة! تساعد كل من يطلب منها يد العون! نعم.. نعم.. هي نفس المرأة التي أتابع مسلسلاتها الدرامية! نعم.. إنها المرأة ذاتها التي حدثتكم عنها في مستهل قصتي!
****************************
أسير الماضي في قصة جديدة
الشمس ترسل أشعتها البراقة نحوه؛ الأرض مبللة بالمياه، الناس يصولون ويجولون حول مازن ذي الشعر الأبيض المزين ببقايا خطوط سوداء، ولحية كستها قسوة الأيام؛ إنه جالس يحاور أولاده وزوجته كما اعتاد كل يوم؛ ينصحهم، يوجههم، يدرسهم.
بدأ يومه مع ابنته البكر ليلى، قائلًا لها وموجهًا: لا يا ابنتي.. ما هكذا تحل المسألة! أخذ الكتاب من يدها، راح يشرح لها بدقة متناهية وأسلوب سلس جميل؛ ثم قال لها: هل فهمت يا بنيتي؟ ثم قال: هات كتابك يا ماهر، راح يتأمل كتابه، أعرب عن سعادته بنتائج ولده المجتهد بوجهه، ثم قال: أحسنت يا بني! إن شاء الله تكون في العام القادم ضمن الأسماء في كلية الطب البشري! ثم نادى: أين أنت يا ماهر؟ أحتاج لفنجان من القهوة قبل ذهابي لعملي.
ساعات متواصلة مرت وهو يدرسهم بلطف ويداعبهم، يجعلهم يشعرون بأنهم أهم ما في حياته! وأنه يعيش لأجلهم! أخذ رشفة من اللا شيء! ثم قال لابنته الصغرى حنين مداعبًا: جاء دورك يا حنين روحي! هل تحتاجين لأية مساعدة؟ حسنًا.. حسنًا.. سأدعك وشأنك أعرف أنك مجتهدة! لكن لا بد من الاطمئنان عليك؛ أنت تحبين الاعتماد على ذاتك دومًا! بارك الله بكم وعليكم يا أبنائي.. حان وقت الذهاب إلى العمل، إنهم بحاجة لي أيضًا!
وقف مازن على قدميه وراح يتفحص جيوبه إن كان قد نسي شيئًا ما، حضرت سيارة الإسعاف، طلب منه رجال يرتدون الملابس البيضاء الصعود إلى السيارة بلطف
قال لهم بدهشة: ليس لدي مواعيد للعمليات اليوم!
فقال أحدهم له: نعم، نعم، يا دكتور، لكن لدينا حالات حرجة، نحن بأمس الحاجة لخبرتك الكبيرة.. تفضل مشكورًا.
صعد معهم السيارة. مستسلمًا للأمر الواقع! تألمت مما كان يحيط به! اغرورقت عيناي بالدموع، حديقة واسعة! أرض خضراء كان يفترشها! فنجان قهوة جاف! كتب ودفاتر مدرسية! بضع صور منثورة! نظرت إلى جانبي رأيت امرأة مسنة أرهقت وجهها الأيام! تتأمل حزني ودموعي، حاولت مسحها لأتدارك ما يختلج في داخلي من ألم قبل أن تشعر! ليس خوفًا أن يقول الناس قولتهم الشهيرة والتافهة! من المعيب أن يبكي الرجال! وإنما لأنني لا أريد أن يحزن قلبها لأجلي! جلست على الكرسي الذي تمنيت لو أنني ما رأيته! وتمنيت لو أنني لم أرغب بمشاهدة الطبيعة والناس! وأكتفي بالعيش تحت سابع أرض! لا أرى.. لا أسمع ما يحدث في مدينتي حلب! كانت امرأة طيبة ترتد ثوب السيدة العذراء عليها السلام، تزين صدرها بما آمنت به، وكرست حياتها لأجله! أعرفها جيدًا، كل يوم أراها تدخل الكنيسة المجاورة لبيتي، تحمل ما تحتاجه بنفسها، الشبان والشابات يحاولون حمل متاعبها؛ لكنها تأبى ذلك، تشكرهم، تكمل مسيرها بنفسها، نعم.. إنها هي! كرست حياتها لخدمة الكنيسة! متناسية نفسها! يا الله! كنت أعجب دومًا بهؤلاء الناس! كيف هنالك بشر كرسوا حياتهم لخدمة دينهم وأهلهم!؟
كيف هنالك أشخاص يقتلون ولا يكترثون لحجم الآلام التي يودعونها بنفوس الناس بلا مبالاة!! شتان بينهما!
اقتربت منِّي.. نظرت إليَّ.. حاولت ألا أشعرها بمكنونات نفسي! لكنها كانت لماحة! قالت لي: لا تحزن! امسح دموع قلبك الطيب! كلنا في حلب دفعنا ثمن جريمة لم نرتكبها! ثم أردفت قائلة: أترغب بمعرفة قصة هذا الرجل؟
قلت لها: أجل، ونفسي لا تحب سماع قصة جديدة من القهر!
قالت وقد مسحت دمعة تدحرجت على وجنتها عنوة! إنه الطبيب البارع مازن.. ذات صباح خرج من بيته في يوم العطلة ليجلب الفول كعادته كل يوم جمعة، عاد ليشاهد المبنى مستويًا بالأرض! كان بداخله زوجته وأولاده! لم ينجُ أحد سواه! لقد فقد صوابه! كل يوم يستيقظ هنا، يمثل أحداث حياته السابقة ببراعة! حياته المطمئنة، الهادئة، السعيدة! إنه لم يحتمل فقدان ماضيه الجميل بثوانٍ معدودة! إنه يحاورهم يوميًا وكأنهم مازالوا معه! يأكلون معًا، يدرسون، يمرحون! يحاورهم من خلال صورهم العالقة في ذاكرته أبدًا؛ وكأنهم ما زالوا نصب عينيه! كان طبيبًا مرموقًا يعالج الناس من آلام أجسادهم، يقدم العون للمرضى في الجمعيات الخيرية! يسرق الوقت لينسيهم أوجاع أجسادهم ويطلقهم لحياة سعيدة من جديد! والآن.. لم يجد من يشفي روحه التي أنهكها القهر تارة والحزن تارة أخرى!
فاضت الدموع من عيون الناس! رجوتها ألا تحزن! ابتسمت بحزن.. غادرنا المكان والحزن يقتل كل ما حولنا من جمال ساحر! غادرنا وما غادر الحزن من قلوبنا! غادرنا والقلب يعتصره الألم خشية سماع قصة إنسان أسره ماضيه المؤلم في قصة قاتلة جديدة!
*********************************
فصول الحزن
الجو مكفهر والغيوم داكنة كأنها اتشحت بسواد قلبي البائس اليائس من الآمال! الفقر استحوذ على جل خاطري؛ كيف سأتدبر أمري؟! من أين مكان سأجلب المال؟ ناديت بصوت خافت: رحماك ربي! الديون تقتل سعادتي، أملي بما هو قادم! خرجت من بيتي أنوي الرحيل إلى اللا شيء! غادر فكري إلى عالم آخر؛ فصلني عن واقعي المرير! قطع شرودي رنين هاتفي البالي! ضغطت على زر الإجابة، قلت بنزق: أهلًا أستاذ عصام.
رد بصوته الخافت الرقيق الذي يشعرك وأنت تحدثه بأنه في قمة السعادة: أهلًا أمجد كيف حالك؟ أين أنت؟ وعدتني بزيارة إلى بيتي ولم تأتِ!
قلت له بصوتي الذي يبث مزاجي المعكر وفي نفسي رغبة لإنهاء المحادثة وإغلاق زر الهاتف: حسنًا.. حسنًا.. سأوافيك لاحقًا.
قال بثقة مطلقة: لا، أنا أنتظرك الآن، عليك الحضور فورًا وإلا قطعت صلتي بك! هل تفهم؟ سأنتظرك.
أغلقتُ زر إنهاء المكالمة وأنا في ضنك واستياء من أسلوبه البغيض في الحوار! كنت أكره محادثته أحيانًا لأنه لا يدع مجالًا للحوار! يسألني ألف سؤال دفعة واحدة! ولا ينتظر أي رد!
سألت نفسي: هل أذهب إليه أم أبقى في الشوارع، أفتش عن حلول جذرية لديوني المتراكمة على مر الأيام؟! فمزاجي المعكر لا يسمح لي بالجلوس مع أحد ومحادثته عندما تكون نفسي متعبة! همس خاطري في أذني قائلًا بلهفة: لماذا لا تربط ذهابك إليه وحل مشكلات ديونك في آنٍ معًا؟
قلت له: ماذا تقصد؟ لا.. لا.. أعرف ما ترم إليه! هو ثري جدًّا! لن أطلب منه المال رغم ذلك! لا أرغب بطلب المال منه.. أخشى من خسرانه! معظم الأثرياء عبدوا المال من دون الله! وعندما تحتاجهم يتبجحون عن قلة ذات اليد! كي لا يعطونك ما تريده! لا، لا، فقد كانت لي تجارب عديدة معهم، الفقراء يقدمون لك يد العون لأنهم مروا بظروف تشبه ألمك! أما الأثرياء يتملصون بأساليب واهية!
تذكرت يوم تعرفت على صديقي المليونير عصام عبر صفحته على الفيسبوك، تدحرجت صور قصره وسيارته الفارهة في خيالي! موائده العامرة، ملابسه الفاخرة التي لا يمل نشرها؛ تذكرت تعليقاته وإعجاباته بكتاباتي الأدبية، تذكرتُ صوره كله ونقله المتواصل لما أنشره في صفحتي لصفحته! وما ينقله لكتابات جُبران والعقاد ومحفوظ والمتنبي وسواهم، شغفه بالأدب والأدباء رغم أنه ليس كاتبًا! وجدت نفسي أسير في اتجاه قصره. طرقت الباب الواسع الذي يتسع لمئات العائلات من الفقراء! فتحت لي الخادمة ورحبت بي؛ تأملت وجهها، ابتسمت لها، شعرت وكأنني أصبحت في الفلبين! دخلت إلى فسحة الحديقة الغناء! جلست أتأمل الأشجار العملاقة التي زادتها السنون وقطرات الماء ازدهارًا !
المسبح الكبير ذو الماء العذب يعكس صورتي كمرآة نقية؛ السماء الصافية زادت الموقع روعة وسحرًا! صوت فيروز تغني: والعناقيد تدلت كثريات الذهب! كل شيء مذهل! حتى الكلب المسترخي بالقرب مني أبيض ناصع! يغزو جسده فرو ناعم، بالقرب منه صحن مملوء باللحم المشوي! لعنت حظ الفقراء! قلت: يا رب، ما حكمتك من خلق الفقراء والأثرياء؟! هل هنالك حكمتك أصلًا؟! تذكرت قول أحد الحكماء: أينما حل الفقر حل الكفر! استغفرت ربي، رجوته أن يصفح عني! وإذا بصديقي عصام يطل بنظارته الشمسية، ينزل من أعلى غرفة في القصر متقدمًا نحوي، يسير بتؤدة شديدة؛ أمل من وصوله إليَّ، أنعته ضمنيًا بالمتكبر! وصل إلي أخيرًا، صافحني بحرارة بالغة! تحدث معي بدماثته التي اعتدتها منه عبر الفيسبوك، تحسس مكانه بعصاه! جلس مكانه، أصبت برصاصة من الذهول! سألته بصوت مرتجف قلق: أنت ضرير؟!
قال بابتسامة ورضا: نعم.
قلت في سري: يا الله كل هذا الجمال والبهاء والثراء الذي يعيشه لا يراه! كل الأموال التي يمتلكها لم تستطع أن تعطيه بصيص نور؟!
قال وكأنه قرأ خاطري: نعم.. نعم.. يا صديقي، كل أموالي لم تغير واقعي! خلقت كفيفًا والحمد لله.
قلت له وكأنه أجرم في حقي: لِمَ لَمْ تقُل لي أنك كفيف مذ عرفتك عبر الفيسبوك؟! كيف تقرأ وتكتب وتعلق وتعجب وتنشر صورك الخلابة؟!
قال بهدوء وثقة ولطف شديد محاولًا استيعاب رهبتي: أنا أستخدم برنامجًا ناطقًا خاصًا بالمكفوفين.
بقيتُ أرشق سهام أسئلتي الغيبة دون توقف! ناقشته في قضايا الثقافة والفكر؛ إلى أن أحسست براحة نفسية عميقة وحزن وشفقة عليه! أعرب لي عن حبه وشغفه بكتاباتي، رجاني أن أزوره بين الفينة والأخرى وأطلب منه ما أحتاج إليه! فأبيتُ ذلك! وأصبحت راضيًا بفقري وتراكم ديوني! شعرت بأنه من أفراد أسرتي! نظرت إلى السماء كان الجو مكفهرًا! والغيوم داكنة تنذر بحزن كبير سيهطل في أرجاء القصر الفسيح على شرفات قلبي! ودعته، توجهت نحو المدينة، رأيت السماء صافية والربيع ينثر عطره وجماله حولي! ناديت يا رب! لا تمتحن صبري مجددًا! شكرًا لحكمتك وعدلك ورحمتك وحلمك!
**************************
بصيرة كفيفٍ
الشمس تبدأ بالغروب؛ الأمطار تهطل بغزارة على مدينة حلب، تمُر على أرضها مر السحاب في الشوارع والساحات والأزقة والطرقات العامة، أصوات القذائف تصُم الآذان! المارة يهرعون من مكان لآخر وكأن شبح الموت قد نشر ظلاله في كل مكان! دون السماع لأحد بالعبور.
مررت بهدوء بالغ، حاولت إخفاء خوفي وفزعي من الأحداث المميتة للقلب! ابتسم في وجوه الأطفال؛ عبرت بأمان من ذاك الطريق الذي يتعرض المار فيه للقنص!
قلت في سري: اليوم أيضًا لن يذكر اسمي في قائمة القتلى أو الشهداء!
دخلت المسجد الذي تشققت جدرانه بفعل الحرب! رأيت رجلًا يشير إلي بعصاه الطويلة بلطف شديد، سألته: ماذا تريد؟
أجاب وهو يتفحص وجهي: أجلسني في مكان آمن بحيث لا يزعج وجودي أحد!
أحسست بدهشة عارمة: التزمت الصمت، أمسكت بيده، ابتسم، ربَّت على كتفي بيده الأخرى وقال: أنا كفيف يا بني!
شعرت بقشعريرة سرت في جسدي! قلت له برهبة: حسنًا، حسنًا!
أجلسته في مكان اخترته بعناية رغم ما يجتاحني من مشاعر! أخرج من كيسه كتابًا لم أرَ فيه إلا خطوطًا ومربعاتٍ تلو المربعات غزت الصفحات الخاوية من الكلمات! راح يقرأ سورة الأنعام بصوت خافت يأثر القلوب! ويمرر أصبعه تباعًا عند كل مربع، رحت أتأمله بشغف علّني أفهم ما يحدث! إلى أن أنهى تلاوته المذهلة! مسحت دموعي بعد شرود عميق! سألته عما كان يفعله، فقال لي والابتسامة ترتسم على محياه في وجه مشرق بالتقى والورع والإيمان مشيرًا بأصبعه للكتاب: هذا قرآن خاص بمن يشبه حالتي! أنا أرى كلماته من خلال لمسه بأصبعي!
شعرت بدهشة جديدة لم أعهدها من قبل! ألزمني الصمت لدقائق معدودة! انفجرت بالبكاء! قلت له: كيف أبصرت بفكرك وقلبك وإحساسك ما لم أبصره بعيني!؟ خلقك الله كفيفًا فاستطعت أن تبصر كل شيء! ونحن أصيبت عيوننا بالعمى! لماذا كل هذا الظلم والقتل والتدمير؟!
دمعات سخيّة حارة تدحرجت من عينيه إلى أن ملأت الصفحات الصفراء التي يرى من خلالها ملا نراه من أوامر ربانية تأمرنا أن نحب بعضنا بعضًا! بقيت أسأله؟ أكرر السؤال ذاته إلى أن أعاد الكتاب إلى كيسه وغادر دون أن ينبت ببنت شفة! ولازلت أبحث عن إجابة!
*********************************
لقاء عابر
رأيته على قارعة الطريق يبيع الملابس البالية! المارة يرمقونه بنظرات الشفقة، رحت أنظر إلى ملابسه الرثة! شعره المتجعد المغبر، وجهه الشاحب!
قلت في سري: يا إلهي ما أشد فقره!
خرجت من سيارتي، تقدمت نحوه، أعطيته المال وومضي، تبعني، راح ينادني بلهفة بالغة! التفت إليه، قال بأدب بالغ: سيدي، أرجوك، خذ نقودك، لست بحاجة للمال والحمد لله.
رجوته أن يقبلهم مرارًا، لكنه أبى ابتسم ومضى.
صعدت سيارتي وأنا مندهش أتمتم: يا إلهي ما أروع خلقه! يا إلهي ما أبلغ ثراه! يا إلهي ما أشد فقري!
كفى
احمّر وجهه، صرخ بصوت عالٍ: كفى، كفى، كفى، أنتم معي أينما حللت تلاحقونني! عندما أستحم، وأنا آكل، في طريق الذهاب والإياب! قبل أن أنام، بعد أن أصحو، تقضون مضجعي! تحجبون النوم عني! سأفارق الحياة وأنتم معي!
جلس خلف مكتبه وبدأ يكتب جميع أفكاره، وبعد ثوان انهالت عليه أفكار جديدة من كل حدب وصوب.
****************************
تغير جذري
استيقظ متأخرًا على غير عادته، غسل وجهه وتوجه إلى السوق ليجلب حاجيات بيته، راح يتجول ويتلفت حوله، شعر بأن مزاجه ليس على ما يرام عندما أحس أن الباعة لا يقدرون وجوده؛ ولا يبالون لشخصه الكريم؛ سأل نفسه ممتعضًا: ماذا حدث لهم؟ لماذا لا يكترثون لي ويلقوا علي السلام؟
قال لبائع البطاطا: كم سعر الكيلو؟
أجابه البائع بلا مبالاة: مائتي ليرة.
فقال له: سعرها مرتفع جدًا!
فقال له البائع بانزعاج شديد: ليست للبيع.
ذهب يجر خلفه أذيال الخيبة، مستهجنًا فعله؛ حائرًا في أمره!
قرر أن يذهب ليبتاع الكوسا، وقف أمام عربة كبيرة موضوعة على الرصيف، قال للبائع مؤنبًا: لماذا وضعت عربتك هنا؟ لقد منعت عبور المارة!
فقال له البائع: وما شأنك أنت؟ امضِ في حال سبيلك ولا تتدخل في أمر لا يعنيك!
مضى الرجل مستغربًا ردودهم القاسية حينًا والجارحة في أحايين كثيرة! وهو يحدث نفسه قائلًا: لماذا يتكلمون معي بهذه الطريقة الفظة؟ ثم تقدم نحو بائع الموز وقال له: بكم سعره اليوم؟
أجابه البائع بنزق: لوحة الأسعار أمامك! ألا تجيد القراءة؟!
شعر الرجل بالدهشة مجددًا! ومضى في حال سبيله محاولًا السيطرة على غضبه الشديد! قرر أن يعود إلى البيت بعد أن أيقن أنّ هذا اليوم هو يوم شؤم بامتياز!
دخل إلى بيته، صفع الباب! اتكأ على الأريكة يفكر بما حدث معه! باحثًا عن السبب! شريط ذاكرته يعيد الأحداث مرارًا وتكرارًا، لم يعثر على سبب وجيه! استيقظت زوجته، وقفت أمامه، راحت تتأمله وتتثائب بفظاظة ثم قالت له: عمت صباحًا.
نظر إليها نظرة ازدراء، ولم يهتم لها! توجه نحو غرفته وهو يتمتم قائلًا: عرفت السبب، عرفت السبب! بدأت السعادة تتسلل إلى قلبه المكظوم! ارتدى بذته العسكرية التي أخذها بعد انتسابه لقائمة "اللجان الشعبية" في مدينة حلب! عاد إلى السوق ليحظى باحترام الجميع رغمًا عن أنوفهم!
***************************
إن لم تستطع أن تكون حيث تحب! حاول أن تحب حيث تكون! إذ لا كمال في أي مكان!
المؤلف