البداية
في شهر يوليو على شاطئ النيل، و بعد منتصف الليل. كنت أجلس مع صديقي عزت نصطاد الأسماك النيلية. تلك الهواية المحببة للكثير من المصريين خاصة، و البشر عامة. ومن لم يمارسها فقد فاتته متعة حقيقية من متع الدنيا. ولِمَ لا ، فصيد الأسماك دائمًا ما يكون له أثر السحر على الإنسان لحظة خروجها من الماء . إنَّ الشعورَ وقتها بتلك الفرحة الغامرة كفيل بأن ينسيك تعب اليوم، وآلام الحياة وكآبتها.
وكنا نتجاذب - أنا وعزت - أطراف الحديث عن ذكرياتنا ومواقفنا السابقة. وفجأة وجدت صديقي قد غاص في بحور التفكير العميقة. لقد بدأ يدخن سيجارته بوتيرة سريعة، كأنه يريد أن يتخلص منها.
يرشف النفَس وراء النفس كأنه يأكل السيجارة، و لا يدخنها. أحدثه فلا يرد. ولا يسمعني، كأنَّ لم يعد لي وجود، أو أصبحت في خبر كان. قلت لنفسي لأركز مع صنارتي، لعلي أظفر بسمكة كبيرة، وأبدأ مع إخراجها من الماء في الصراع، والمتعة المنتظرة، ولِأَدع صديقي مع خياله، ولا أقطع أوصال أفكاره. فأنا أعرف عزت جيدًا منذ الصغر فهو عميق التفكير. ومن شدة غزارة تفكيره فإنَّ عقله يفكر حتى وهو نائم!
أحيانًا تأتيه المشكلة، فتشغل باله، ثُمَّ يغلبة النعاس، فيغفو، وعقله لا يكف عن التفكير بها. إلى أن يصبح وقد ظفر بالحل في منامه!
فجأة التفت عزت لي قائلًا:
"هل تعلم أني قابلت الشيطان"
قلت له (متعجبًا): أي شيطان؟
أخذ عزت ينظر إلى وجهي ويتفحصه. وأنا أحاول جاهدًا أن أتمالك نفسي، ولا أضحك منه.
" قال لي هل تعتقد أني أمزح ؟ "
دارت عيناي يمينًا ويسارًا، وقبل أن أرد. بادرني عزت قائلًا
"هل عهدتني في يوم ما أمزح في أمور الغيبيات؟ "
قلت له وقد (زال الضحك الذي كان بداخلي تمامًا)
- لا يا صديقي لم أعهد منك ذلك أبدًا .. لقد عهدت منك دائمًا الجدية في أمور الغيبيات والدين والآراء السياسية. عفوا أكمل حديثك يا عزت فكلي آذان صاغية.
نظر عزت بعيدًا، وهو يقول:
- أثناء دراستي بجامعة الأزهر الشريف كنت أسكن أحد الغرف على سطوح منزل قديم في منطقة الحسين وحدث ذات يوم أثناء تواجدي بكافتيريا الجامعة أن تشاجرت مع أحد الزملاء. وتراشقنا بالكلمات، وكان زميلي هذا أستاذ لفن الكلام، بل كان حكمدار و مدير أمن كلام في نفس الوقت. كان مبدعًا في قلب الحقائق، وجعل الباطل حقًا. كان يجيد فن السخرية، وقلب الطاولات. وكان ساخرًا لأبعد الحدود. وكان سيئًا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. لقد أحرجني حرجًا شديدًا ببعض صفات يعلمها عني .... لقد قام بتفنيدها في لحظات بسرعة بديهة عالية، وإلقائها في وجهي بأسلوب ساخر كوميدي.
- جعل كل الزملاء يسقطون من كثرة الضحك، ولم استطع وقتها الرد بنصف حرف. لقد شعرت بخجل شديد لم أشعر به قط إلى يومنا هذا. لقد جعلني الخجل حينها أترك الجامعة خارجًا في منتصف اليوم. مُخلفًا ورائي باقي المحاضرات المتبقية ذلك اليوم. خرجت إلى الشارع، وعيناي غارقة بالدموع. لا أكاد أرى أي شيء أمامي. لقد تعثرت أكثر من مرّة. واصتدمت بالمارة. ولا أعرف وجهة محددة لي، ولا إلى أين تأخذني قدماي. إلى أن وجدت نفسي تلقائيًا أمام المنزل الذي أسكن فيه في منطقة الحسين!
صعدت إلى غرفتي، وأنا في غاية الهم، لا أريد الذهاب إلى تلك الجامعة مرة أخرى بسبب ما حدث هناك. ومن شدة دوران الأفكار في رأسي حضرت بداخلي كل أحزاني السابقة. لقد فتح باب الماضي بكل تجاربه القاسية السابقة منذ الطفوله. وكل المواقف المحرجة مرت أمامي عيني، ولا تريد أن تفارقني. أصبحت أنتقل من ذكرى إلى ذكرى، ومن هم إلى هم، ومن غم إلى غم.
تذكرت أهلي وأحلامهم وأملهم في مسقبلي، لم أعد أعرف عدد الليالي التي مرت عليّ في هذا الهم، كل ما أتذكرة وبشدة أنني أصبحت طريح الفراش جراء ترك نفسي لمشاعري السلبية تلهو بي كما تشاء. نظرت إلى يديّ وقدميّ، وانتابني الهلع من صورتهم! لقد خسرت أكثر من نصف وزني! كم تمنيت لو كان بحوزتي سكين، وقتلت بها زميلي حين سخر مني أمام زملائي. تمنيت لو أنَّ الأرض ابتلعتني وقتها، أو أنَّ طائرَ الرخ الخيالي جاء وأخذني ورماني في بلاد بعيدة....
أصبحت لا رغبة لدي في أي شيء " لا الجامعة، ولا الطعام، ولا الشراب، ولا أي متعة من متع الدنيا " إنَّ ضرب السيوف عشرات المرات أهون من كسرة النفس والروح أمام الناس. انفجرت عيناي بالدموع أكثر وأكثر إلى أن غلبني النعاس، ورأيت في منامي أني أمشي في ليلة حالكة.....
ليس للظلام قمر على أرض غير مستوية مليئة بالحجارة. وأصوات الخفافيش والذئاب لا تترك سمعي يرتاح للحظة. سقط وقاومت وقمت أكثر من مرّة....
تلوت فيهما قدماي حتى أدميت، إلى أن رأيت من بعيد ضوء بسيط أبصرته على رأس الهرم الأكبر، فشعرت بفرح شديد أنني هنا في بلدي، وكأن كل مشاكلي السابقة قد إنتهت، ولم يبقْ لي سوى هم الرجوع لمنزلي، وسقطت مغشيا عليَّ، لأفتح عيني، فإذا بي على سرير طبيب في منتصف عيادتة الخاصة، وكان الطبيب رجلًا في الأربعينات من عمرة بقوام ممشوق ورياضي من الطراز الأول، يرتدي بذله سوداء، وقميص أحمر داكن، ومعطف أشبه بمعطف الأبطال الخارقين أمثال "سوبر مان" وكان معه " كتاب قديم جدًا تم تغليفه بالجلد الأسود"، ورأيت الدخان الأحمر والأزرق يملآن أركان الغرفة.
شعرت بخوف شديد ورهبة. فقد كان الرجل صاحب هيبة ووقار شديدين، اِرْتعدت منهما فرائصي. أخذ يلف حول السرير، و دار حوار:
قال لي مبتسما: لا تخف يا عزيزي عزت أنا هنا لأنجيك وأساعدك. لا. لأرعبك وأزيد عليك الهموم أكثر.
قلت له: ومن أنت إذن ؟
- أنا طبيب وموكل لتسكين آلامك وتعليمك مهارات التعامل مع أبناء آدم الحمقى الأغبياء والضعفاء في نفس الوقت عزيزي عزت.
- كيف عرفت اسمي ! ومن وكلك لذلك... ومن أتى بي إلى هنا؟
قال الطبيب بثقة: لا تسأل الآن، واطمئن. كل شيء سيأتيك في وقته. المهم الآن لتتعافى وتعود إلى حياتك قويًا غنيًا سعيدًا ومتحكمًا. " بفكر جديد على يديّ" وتنسى عزت القديم الحزين البائس الضعيف.