2
وقف وسطَنا بعزٍ لا يملكه وفخر ليس فيه، ويشهد ربنا أننا لا نطيقه، وإن كفة الكلب الأجرب الأعرج عندنا لأثقل من كفته الملآنة جهلًا وسكوتًا، يتدروش علينا، وما أخذ من حياة الدراويش إلا الجلباب الذي باتت فيه الثقوب أوسع من كف أضخمنا، والشعر الذي نكشه الزمن وصبغه التراب بالأصفر، وكنا قد تجمعنا في انتظار موكب الوالي الآتي من أول البلد، وعلمنا أنه جاء ليشوف أحوالنا، وكنا أول مرة نراه.. أول ما طلَّ علينا من بعيد ظنناه يُحلق في السماء، هيئته كانت تأتينا مثل الجالس فوق الظهور والأعناق، وكان يفوق السائرين ارتفاعًا، ما بان لنا أنه يدوس على رؤوسهم، كأنه يرتقي مكانة عمن سواه.
الوالي هو الوالي، وباقينا خدمه وعبيده، لمّا اقتربنا رأيناه محمولا على محفة عريضة، فوقها كرسي ذهبي ضخم، وتعريشة فوقه تحجب عنه شدة الضوء، أما شكله فلم نبصره حينها؛ فكان داخلًا علينا من البابِ الشرقي، والشمس في عيوننا تُغلقها؛ فظللنا بكفوف أيادينا عليها ورأيناه، وكان سمينًا كفحل جاموس يافع، يشيله ثمانية كان الله في عونِهم، وإنا لمّا رأيناهم دعونا الله ألا يُحملنا ما لا طاقة لنا به، والعرق على أجسادهم السوداء المكشوفة يلمع، وعلى وجوههم الكدر.
حراسه من حوله تتصاعد الغبرة من تحت أرجلهم فتعبق الجو، ثم تدخل في أنوفِنا؛ فنعطس، ووسط كتمة الجو رأيناه يتقدم، يروح ناحية حرس الوالي ويريد العبور من بين ثناياهم، وما كان منهم إلا أن أزاحوه بغلظة؛ لكنه أصر.. هو جابر، المجنون، الأهطل.. وسألنا أنفسنا عما يريده بالتحديد، أيريد أن يلفت انتباه الوالي فيتصدق عليه راميًا له دينارًا أو رغيفَ خبز؟ أم يريد الموت تحت أرجل حراسه الأشداء!
وكان كلما أبعدوه حاول من جديد، صامتًا، حتى أنهم أوقعوه أرضًا، وخرجت له السيوف تنذره؛ فزعق فيهم حتى انتبه الوالي، ثم دارت علينا لحظة صمت مُفزعة، ساعتها خفنا، وراحت أيادينا عند قلوبنا تتحسسه من نبضه العالي، وطلع صوت الوالي رخيمًا، آمرًا، يزيده رهبةً وكبرياء:
- "من مكانك.. ماذا تريد؟".
وعَصَرنا الغيظ لمّا رأينا جلالته بعظمته وعلو شأنه يرد على أسفهنا، ويعطيه شرفًا لم يُمنح لأعزنا مقامًا، ثم سمعنا جابر يصيح بصوت لا فيه خوف ولا إجلال:
- "أنت مَن ستريد".
فشهقنا مصدومين من قلةِ تأدبه، حتى أن كلَ الخلائقِ قطبت حاجبيها وسكتت، والهواء وقف، فلم يروح ويجيء، والشمس اقتربت، فلفحت أجسادنا غير عابئة بطفل ولا كهل، ثم أن الجملةَ رنت في آذاننا مجددًا، وصار صداها يعلو ويبتعد، حتى تخيلنا أنه وصل إلى القلعة في آخرِ الدنيا..
ولمّا أدرك الحراس ما جرى، حتى وضعوا السيوف عند عنقه، أعينهم تُبَرِّق، وأنفاسهم تلتهب، وأصواتهم تزوم، كل هذا ولم نرَ للوالي ردًا على إهانة كتلك.. لمّا نظرنا له وجدناه صامتًا، ولم نفهم من تعابير وجههِ شيئًا، ثم رأينا العجب.. الوالي يضحك، أي والله، جلجلت ضحكاته في أرجاء بلدتنا الساكتة، حتى تبخرت في لحظة وقال بصوت قتلنا:
- "بالله ماذا سيريد ملك البلاد منك أنت يا حثالة؟".
رد منتقى أدهشنا، فما الذي عند جابر ليعطيه لمن مَلَك الدنيا ومن فيها، وإن شطحاتِ الغباء لتروح بصاحبها إلى غياهبِ موت مستحق، موقف لا يحسده عليه حاسد، ولا يحقد عليه كاره، وها نحن هنا، لا نفرح فيه بل نُشفق عليه من جنونه.
وفاتت أعيننا فيهم، وقد ارتأينا أن دمه سَيُلطخ السيوف الآن، أو بعد جُملته القادمة على أقصى تقدير، وخفنا نحن، ولم نرَ الخوفَ باديًا على جابر، بل ميّزنا خُبثًا في ابتسامته، وشاهدناه يتقدم خطوتين إلى الأمام ولم يعبأ بالسيوف المرصوصة على رقبته، بل أنه اقترب برقبته من أكثر سيف يلتصق به، جاعلًا إياه عند موضع الذبح مباشرةً، وقال بثقة أدهشتنا:
- "أما عن الإهانة فسأتجاوزها الآن؛ لكنني لن أغفرها أبدًا".
والله إن للجنونِ حدود، إلا أن جنونَه لا حدود له، ضربنا كفًا بكف، ضامّين حواجبنا، محوقلين، ومن كان واقفًا من حريمنا لوين بوزهن، ثم حركن أصابع أياديهن بحركة ثابتة، بذيئة، يستحقها عن جدارة.. ولا نعلم أقلبت الآية وصار جابر من له إمكانية العفو! ويعفو عمن يا ناس، الوالي! وإن الأدهى هي تلك الثقة التي يتكلم بها، حتى شككنا أنه يمسك على الوالي ذلةً يلوي بيها ذراعه أو تنكسر لها عيناه، وحتى لو كان ذلك صحيحًا، فما يمنع الوالي من إدخال السيوف في مؤخرته القذرة، ثم تعليقها مع رأسه على باب قصره!
وظل الوالي صامتًا..
ظننا أنه يفكر في طريقة أكثر ألمًا يعذبه بها قبل قتله، لكنه حسب اعتقاد أغلبنا أنه ما فعل ذلك إلا ليظهر أمامنا أكثر حكمة، فرأيناه يتنهد ويقول غاضبًا:
- "ما يمنعني من قتلك الآن يا أنت؟".
وجاء رده سريعًا، عاصفًا، فقال شيئًا ليس بمعقول أبدًا.. لم نصدق آذاننا لمّا سمعناه، وعلمنا أنه ميّت لا محالة، فلف بعضنا جسده منصرفًا لمّا أدرك قدوم الأجل، ومنا من أخذه فضوله، فعلق عينيه على الوالي ينتظر منه إشارة، وحريمنا ضربن صدورهن بحسرة، وطالت وقفتنا، ورأينا العرق نابتًا على صدور الرجال السمراء الواقفة تحمل الكدر على أكتافها، ولاحظنا أن الغضب اشتد بالحراس؛ فقربوا سيوفهم أكثر، والله لو تثاءب لخرت منه الدماء وطلعت روحه.. وبدى منهم ألا حول لهم رغم كل العبث الذي يحصل، فلا يقدرون على إعمال عقولهم بفكرة جاءتهم، بل ينتظرون أمرًا، جازمًا، يأخذونه منه، ولو كان الأمرُ بيديهم؛ لأنهوا تلك المهزلة فورًا، فجزُّوا على أسنانهم منتظرين، وساعتها لن يقطعوا رقبته فقط؛ فلا بد سيمثلون بجثة حقير يقول للوالي هذا الكلام، أشعث، أغبر، يقول للوالي بشأنه وجلاله:
- "لا تقدر".
والله إنها لمهزلة!
وتابعنا المشهد الذي احتدم، وأعيننا لا تغفل لحظة كي لا يفوتها جديد، والذين لفوا أجسادهم ماشيين رجعوا.
وسكت الوالي، هرش في ذقنه، ولا بد فكر وتساءل، ما يجعل نكرة يتكلم بتلك الطريقة الواثقة، ولا يظنه مجنونًا، بل إن المجانين يكونون أكثر عقلانية منه.
- "ولِمَ لا أقدر على قتلك يا...".
- "جابر".
- "ولِمَ لا أقدر على قتلك يا جابر وأنا الوالي، والسيوف على رقبتك، لو ابتلعت ريقك لشقتها".
ولمّا نظرنا ناحية جابر وجدناه يقول:
- "لأنك لو قتلتني لن تمشِ على قدميك كما كنت".
لأول مرة منذ أن جاء نراه متفاجئ.. بل إنه نظر لمن حوله نظرة ذهول، وتساءلنا: "أهو قعيد؟ لذا يسير محمولًا على أكتافِ عبيده؟".
وزفر العبيدُ الذين يشيلون العرش وبان عليهم التعب من طول الوقوف وثِقلِ الحمل، وسمعنا الوالي يقول آنفًا:
- "سلامة شوفك.. أتراني أتمشى أمامك؟".
- "كلا.. ولكنك ستفعل بعد قليل".
"أي شخص سيقف على قدميه ثانيةً أيها العبيط".. قلناها في غيظٍ، ولا نعلم أيدرك مع من يتكلم، إنه يعبث بعمره، يعبث مع الشخص الخطأ.
ورأينا العمدةَ للمرة الثانية يتدخل، ويأمر خفره بأن يسحبوه ويُقعدوه في الزريبة إلى أن يرحل الوالي، ووقف أمامه برهبة يطلب منه السماح على ما حصل.. لكن الوالي أوقف الخفر بإشارة منه، ورأيناهم يقفون بعدما أمسكوا جابر وعلى وجههم العته ناظرين للعمدة طالبين منه أمرًا، فصاح العمدة محرجًا:
- "اسمعوا كلام الوالي؛ إنه من يشغل عمدتكم يا بهائم".
والوالي أرَّقه الشك فضاقت عيناه، وقال بدهشة لم تنقص من هيبته شيئًا:
- "كيف يا جابر؟ قل لي كيف ستجعل رجلًا قضى أكثر من نصف عمره قعيدًا يمشي على قدميه مجددًا؟ أذناي تحب أن تسمع.. لكن احرص على أن يعجبها الكلام؛ لأن رقبتَك ستمل المكوث أعلى كتفيك بعدها".
كلامًا لو نزل على أعتى الرجال لاهتز له جسده، أما هو.. فلم يرمش بعينيه حتى، طرق الخوف صدورنا، وعقولنا عجزت أن تتخيل الآتي.. كيف سيفعلها جابر؟ وإنه لم يكن لدينا طبيبًا ولا مُعالجًا بالأعشابِ حتى، فكيف لدرويش يتصدق عليه الناس من بواقي طعامهم؛ أن يجعل قعيدًا يمشي على رجليه؟ وأي قعيد!
ألغاز عجزت عقولنا عن البحث فيها، فقعدنا ننتظر الكذاب حتى باب الدار، ثم وفي ظل الأجواء المتوترة والشمس حاضرة تُذلنا بحرارتها التي لا ترحم، نزلت السيوف من على رقبته برفق، ورمقنا جابر وهو يتقدم بثبات، والعبيد يُنزلون العرش الطائر وحمد الله على ألسنتهم لا يتوقف، خطوات مشاها جابر هادئًا، واثقًا، تعبث بقلوبنا مع كل حركة، ومطرح كل وطأةٍ.. وتساءلنا: "تُرى ماذا يسوق لنا القدر؟".. وفكرنا، لو أن جابر عجز عن جعله يمشي، وهذا المتوقع والمعروف؛ فأي مقدارٍ من الأذى سيلحق بنا نحن الذين ليس لنا في الطحين ولا العجين، وإنه لحتمًا واصلنا، والله يستر.
أوقف سيره واحد من الحراس وفتشه، حتى كاد يقلعه هدومه، وعلى وجهه تتجلى آيات القرف والاشمئزاز، ولمّا تأكد أنه لا يحمل خنجرًا ولا أي شيء خطير تركه، وسادت لحظاتٌ مقلقة، كان الوالي فيها ينظر له؛ إنه المريض الذي يتشبث بأي سبيل للشفاء، وصل أمامه فانحنى عند قدميه بشموخِ ملك، وعلا صوته يقول للوالي أن يُغلق عينيه، وتقدم أمين حراسه فوضع سيفًا على رقبة جابر تحسبًا، ليكون موته سريعًا، قاضيًا..
وما منعه جابر ولم يقل له شيء، وأمسك قدمي الوالي وراح يُتمتم بأشياء لم تصل إلى مسامعنا، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى شاهدنا الوالي ينتفض بعزم ما فيه، والحارس الواقف أمامهما يرفع السيف حتى شق الهواء الساكن، ثم زعق ونزل به قاصدًا رقبته.