الكورنيش
مرّة أولى
- ممكن تبطلي زعيق في التليفون لو سمحتِ.
لا تتوقف عن التحدث بصوتٍ عال في التليفون، أمسك المحمول بيد وباليد الأخرى أمسك مقود السيارة، اتفادى السيارات المسرعة على طريق الكورنيش وخاصة "الميكروباصات" التي تنزلق على الطريق كأنها مكعبات ثلج على سطح أملس.
- عامة محصلش حاجة.
هذه الكلمات لا تكفيها أبداً لتبرد الموقف المشتعل بيننا، كلمات التراضي والتسامح عادة لا تلقى أي قبول لديها، تستمتع بتسخين الحديث حتى يصل إلى مرحلة الاشتعال، لم أكن من قبل صبوراً ولكن بشكل غريب تعلمت معها الصبر وهدوء الاعصاب، أشعر بالغرابة من تغيّر طباعي من حدّ العصبية والانفعال إلى حدّ هدوء الأعصاب المستغرَب هذا، اكتسبته بعد سبعة أشهر من الخطوبة!
- طول ما أنتِ بتنفعلي كده، لا يمكن حنعرف نتكلم.
أوقف السيارة إلى جانب الطريق لأنه أصبح من الصعب متابعة القيادة في ظل سخونة الموقف إلى هذا الحدّ، فالعصبية يجب أن تجد مخرجاً وعقلي يفشل في التوفيق بين القيادة والعصبية التي بدأت تتلاعب بأطرافي.
- طيب إيه المطلوب مني دلوقتي؟
لا تسمعني كما توقعتُ وكما اعتدتُ منها دائماً، لمياء اعتادت أن ترسل فقط ولا تستقبل أبداً، الحديث دائماً بيننا يكون من طرف واحد ولا يرتكز أساساً على الحوار المتبادل، ترسل فقط ما تريد قوله دون أن تكلّف نفسها عناء الاستماع إلى ما أقوله.
- خلي مامتك متتدخلش في كل حاجة والأمور تمشي كويسة، أنتِ عارفة أني مش بحب كده وقولت لك كده أكتر من مرة.
أريد أن ينقطع الاتصال الآن، لم أعد احتمل المزيد من الصوت العالى المصحوب ببكاء ثم صياح يتبعه صوت نهنهة، قدرة عالية لديها على الانتقال من حالة إلى أخرى ولا تمل ولا تتعب أبداً، يلفت نظري في مرآة السيارة الجانبية اليمنى طفل يركض على رصيف الكورنيش وأمه شابة في منتصف العشرينيّات تهرول خلفه، تصيح به خشية أن ينزلق أو يتخطى الرصيف إلى الشارع، الطفل يضحك ... يتوقف ... يركض مرة أخرى ... مستمتعاً بهذه المطاردة حتى تلحق به في النهاية وترفعه بيديها من خصره وتعود أدراجها إلى سور الكورنيش حيث جماعة من الناس تنتظرها.
- يعني كان المتوقع أرد أزاي، مهو لو أنتــ .....
كانت تعتذر في البداية عن مقاطعتي، تعدني ألا تقاطعني، أصبحت تعتذر تارة وتارة أخرى تتجاهل، الآن أصبح أمرا روتينيّا أن تقاطعنى باستمرار وأنا أصبحت لا أبالي!
- طول ما أنتِ متنرفزة لا يمكن نوصل لنقطة نتفق عليها وعشان كده .....
التزم الصمت لأستمع مرّة أخرى لحديث مصحوب بالبكاء المتقطع والنهنة، أحاول أن أعتاد أنها لم تعد تسمعني، أصبحت مدركاً أنها لا تريد أن تسمعني، أيقنت أيضاً أنها تريد أن تقول فقط ما لديها وعليَّ أن أبدي الندم والكثير من الأسف.
- عامة متزعليش، حقك عليَّ وحصل خير.
هنا أدرك جيداً أنها ستستمتع كثيراً بهذا الاعتذار، فتبكي لعدة ثوانى وأنا أستمع في صمت لبكائها حتى تنهي المكالمة بالجملة المعتادة:
- لو سمحت سيبنى دلوقتي عشان أنا خلاص معدتش قادرة أكمل كلام، أعصابي تعبت.
عند هذا الحد أتنهّد وأشعر مع هذه التنهيدة براحة تامة، أشعر أن عبءاً ثقيلاً قد ذهب عني وبالتالي أردّ بالإجابة النمطية:
- طيب يا حبيبتي، إن شاء الله الأمور كلها حتكون بخير، بس أنتِ هدي نفسك وأنا حبقى أكلمك بكره الصبح.
ينتهي الاتصال وأنا استردّ بعضاً من هدوء أعصابي وراحة بالي، لم أكن أحب أن تصل الأمور بيننا إلى الحدّ الذي اتمنى فيه ألا أسمع صوتها، كلها علامات تأتي مبكرة جداً، دائماً ما أسمع أن كل ذلك يحدث بعد الزواج وليس في فترة الخطوبة!
غادرت السيارة متّجهاً إلى سور الكورنيش أجلس عليه، مولياً ظهري للبحر متطلعاً إلى شارع الكورنيش التي تتدافع عليه السيارات بسرعة عالية، لا يوجد الكثير من تيارات الهواء على البحر، الجو راكد مثل حالتي العاطفية، في حالة غريبة من التضامن والتعاطف.
من الممكن أن تلفت نظري العديد من المشاهد غير المهمة، فقط لأحاول أن أشغّل عقلي المضطرب أساساً عن الكثير من الأفكار والمواقف والأحداث والأحاديث والبكائيات شبه اليومية، لفت انتباهي سيارة فضية تنطلق بسرعة متنقلة بين الحارات في مرونة، توقفت في حدّة على بعد عدة أمتار من سيارتي البيجو 305، أنها سيارة كيا سيراتو 2010.
أسمع صوت شابّة تصيح، ضحكة قصيرة تفلت مني، هل كلهنّ كذلك؟... كئيبات!، تغادر السيارة، يفتح هو باب سيارته يقف مستنداً إلى سقف سيارته، هي تصعد رصيف الكورنيش مولية ظهرها له، تتطلّع إلى البحر وتنهنه، ينادي عليها، يرجوها أن تركب مرة أخرى، ولكن هي تتجاهله تماماً، ملامحها تغلفها بعض من الظلمة وذلك لأن جسدها يلاصق سور الكورنيش وإضاءة عَمود النور الخافتة في الجزئية التي تقف فيها تخفي الكثير من ملامحها ولكنها تبدو جميلة، جميلة جداً.
يضرب بقبضته اليسرى سقف سيارته، هو أيضا وسيم للغاية بشعره البني الغامق ويصيح بغضب:
- أنتِ زودتيها قوي وأنا معدتش مستحمل.
يركب سيارته وينطلق بها، لفت نظري سرعة انطلاق السيارة من الثبات إلى التسارع في ثوان معدودة، أي رجل سيلفت نظره هذا مهما ادّعى أنه غير مهتم بالسيارات، أشبه بالغريزة لدى الرجل، أعدت النظر إليها وقد توقفت عن النهنه والبكاء، كانت نهنهتها مرهونة بوجوده وأما وقد ذهب فهو سلاح بلا جدوى، تبحث عن منديل في حقيبتها الجلدية الصغيرة فلا تجد.
دور مناسب لأظهر كالبطل المنقذ على ساحة الأحداث ولو من خلال مناديل فلورا!، كثيراً ما نتصور أن لدينا الجرأة الكافية لفعل ذلك وأنه أمر بسيط، ولكن الحقيقة هو ليس بتلك البساطة التي يحاولون خداعنا بها في الأفلام.
عندما صدرت منها التفاتة نحوي ركّزت لثلاث ثوانٍ فقط في عيني، أتصور أنها حسمت بذلك الأمر كله، تقدمت نحوها، أدارت رأسها تنظر إلى البحر، لم يثنيني ذلك عن التقدم، توقفت إلى جوارها ومددتُ يدي بالمناديل بدون إضافة كلمة واحدة.
نظرتْ نحوي بدون أيّ تعبير، تناولتْ مني المناديل ولم تعقب، سحبتْ أحد المناديل وأرجعتْ لي الباقي، أدارت رأسها قليلاً إلى اليسار، عادة نسائية معروفة، محاولة الاستخفاء عند البكاء ومسح الدموع، ربما لإضافة مزيد من الأنوثة، ربما لأنها لا تريد رجلها أو أي رجل أن يرى كحل عينيها ممزوجاً بدموعها وقد شكّل مهرجاناً من السواد المتناثر حول عينيها.
تلتفتُ إليَّ نصف التفاتة وتشير برأسها إلى سيارتي وتقول متهكمة وسط استنشاق وحشرجة صوت:
- عربيتك المهكعة دي؟!
- راكبة عليّا قوي.
ضحكت، أسعدتني ضحكتها كثيراً وهي تقول:
- لا مش قصدي، بس آه راكبة عليك.
- عامة أنا بحبها.
خمرية البشرة، لم تكن جميلة جداً كما تصورت ولكن لا يسعني إلا أن أقول أن هناك جاذبية غريبة تتوارى في عينيها، في ضحكتها، في صوتها، هناك جمال ما غير منظور يستكين بملامح وجهها ولكنه ملفت جداً، حجابها بسيط غير ملفت وكافٍ أيضاً لأن يواري كل خصلات شعرها، انقلبت ملامحها بدون أي مقدمات إلى الجدية:
- أنا أسفة المفروض متكلمش معاك.
رفعت يدها اليمنى تريني خاتم الخطوبة لتوضح الأمر وتستطرد:
- أنا مخطوبة وبعدين حرام لأني معرفكش.
- أديكِ عرفتيني.
نظرت لي باستنكار واستغراب ثم ابتسمت قائلة:
- أقصد مينفعش أكلم راجل أجنبي.
أهزّ كتفي وأضحك قائلاً:
- أنا مصري على فكرة.
ضحكت ومن ثم بدأت تتحرك باتجاه حافة الرصيف فأسرعتُ أقف إلى جوارها مشيراً إلى سيارتي وأقول:
- ما تخليني أوصّلك.
انقلبت ملامحها إلى شيء من الغضب وظهرت الحدّة في صوتها:
- أنت فهمتني غلط على فكرة.
- لأ .. لأ ... أنتِ اللي فهمتِ غلط على فكرة.
كانت تتظاهر بأنها تتطلّع إلى السيارات القادمة لعلها تصطاد تاكسي، ولكن ذلك لم يجعلني أتردد لأفسّر لها موقفى:
- أنا مش ندل عشان أسيبك لوحدك على الكورنيش بالليل وأمشي.
كان هذا أغبى ما نطقتُ به!، النظرة الحادة التي صوبتها اتجاهي كفيلة بقياس مستوى الغباء عندي، توقف تاكسي بجوار الرصيف وتقدمت من الباب تفتحه وتقول في جدية وغضب:
- على فكرة هو مش ندل.
تحرك التاكسي وأنا أشعر بحرارة مرتفعة في جسدى كله، إحراج ممزوج بالغضب مع الكثير من الإحباط، لماذا شعرت بأن ما قلتُهُ أغبى ما نطقتُ به؟!، لماذا أهتمّ؟ لماذا نسيتُ لمياء تماماً؟!
مرة ثانية
- أنتَ فين دلوقتى؟
يبحث دائما عن تبريرات وكثير من الأعذار، ألا يدرك أن كل أعذاره وتبريراته غبية جداً؟، يستهين دائماً بمستوى ذكائي من خلال أعذاره الواهية دائماً.
- بتغير زيت العربية، لا يا شيخ.
لا يكف أيضاً أن يقسم بالله والمصحف وكل ما يخطر على باله، هذا أكثر ما أكرهه فيه، أن يقرن كذبه بإيمانات مغلّظة، لا يستحيي في أن يكذب على الله أيضاً كما يفعل معي، ومن ثم يلجأ إلى كلمات التدليل والغزل متصوراً أنها من الممكن أن تكسبه نقطة لصالحه، معتقداً بسذاجة غريبة أن المرأة من الممكن أن تتحول إلى أكبر كائن غبي لمجرد أن الرجل يُسمعها مثل تلك الكلمات.
- طيب أنت فين؟
كلمات أخرى، سخيفة، أدور في غرفتي كالمجنونة، أمي تدخل إلى الغرفة مبتسمة، ولكن ملامحها تنقلب إلى التوتر الذي تحاول أن تكتمه وتخفيه عندما تسمع نبرة صوتي المرتفعة ووجهي شديد الحمرة من الغضب، تغلق الباب مرة أخرى في هدوء.
- يعني جنبي فين؟
استطاع أن يحولني في ثلاثة أشهر لأكثر إمرأة مجنونة، احترفت الشكّ والغيرة، استطاع أن يزرع بداخلي أقصى درجات عدم الطمأنينة وأن أكذّبه في كل شيء، حتى إذا قال لي صباح الخير ستكون تلك الجملة أيضا محل شكّ.
- أنت قريب من لوران يعني، طيب أنا مستنياك، سلام.
ألقي الموبايل على فراشي وأنا أدور بلا هدف في الغرفة، بلا اتجاه معين، عشرات الاحتمالات والأسئلة تتواثب إلى ذهني وسيناريوهات قاتمة عمّا سأفعله عندما اكتشف كذبه المفضوح ونوبات الهستيرية التي ستعصف بي، كان مع من؟، هل أحبه؟، أم أكرهه؟!
أحاول أن أوقف نزيف الأفكار المتدفّق إلى مخّي المرهق أساساً، لا أعلم، هل وسامته كانت نقمة أم نعمة؟، هل جاذبيته المفرطة هي أكبر لعنة ابتليتُ بها؟، وسامته وجاذبيّته والقبول الذي يلقاه لكل من يقابله، كما تقول أمي: "أنزل الله حبّه في قلوب الناس".
جرس الباب يرن، أمي تفتح الباب وعبارات الترحيب المبالغ فيها التي تحيطه بها دائماً، بعد ثوان معدودة ستفتح الباب.
- أيمن وصل يا سهير.
أنظر لها ولا أعلق، التوتر يتسلل إلى وجهها مرّة أخرى وهي ترى وجهي مازال محتقناً، تغلق الباب وأنا أتّجه إلى المرآة أضع اللمسات الأخيرة وأضع الإيشارب، أتأكد من أن خصلات شعري لا تظهر، ألقي نظرة أخيرة على ملابسي ومن ثم ألتفت متّجهة إلى الباب، ألقي نظرة أخيرة على المرآة، لا يزال وجهى محتقناً.
عندما سأتجه إلى الصالون سيستقبلني بابتسامة عريضة كأن شيئاً لم يكن وأختي الصغيرة ترمقه بإعجاب شديد.
- أزّيك يا سهير، إيه الجمال ده؟
لا أردّ، التوتر يلعب بوجه أمي مرّة أخرى، وحتّى تبدّد أمي ذلك الجو المكهرب تندفع قائلة:
- أجيب لك حاجة ساقعة تشربها؟
لوّح بيديه قائلا:
- لا، الله يخليكِ يا تانت أحنا يدوبك ننزل.
- يا ابني مش تشرب حاجة الأول، على طول كده.
- يدوبك والله يا تانت.
يمد يده اليمنى لأتقدمه فأتقدمه في صمت وأنا أقول لأمي في نبرة متحفظة:
- مش حنتأخر يا ماما.
- لا يا حبيبتي خدوا وقتكم، مسموح لك النهاردة أنكم تتأخروا شوية.
- شكراً يا تانت والله.
- العفو يا حبيبي.
يفتح لي الباب، يعرف كيف يرسم دور الرجل المهذب؟، يبهرهم بأدبه الذي يظهره بحرفية عالية لا تشكّ في تكلّفها أو تصنّعها أبداً، يجب أن تصدق أنه سليل النبلاء بالفعل!
أندفع على السلالم، أكاد أقفز على درجات السلم، ينزل بتأنٍّ وهو يتبادل مع أمي الكثير من التحيات والمجاملات، أتوقف في الدور الثالث، أرفع رأسي إلى أعلى معقودة الحاجبين، شقيقتي الصغرى تميل بنصفها العلوي من فوق سور السلم وهي تتابعه بإعجاب المراهقات، يتبعني في سرعة، يدفعني دفعة خفيفة في ظهري لأستمرّ فى النزول وأنا أتعمّد تصويب نظرات نارية تنطوي على اتّهام وغضب، يتحاشى نظراتي، يرفع رأسه إلى أعلى ويلوح بيده اليمنى لأمي وأختي قائلاً بتهذيب مستفزّ:
- ادخلي أنتِ يا تانت.
- ماشي يا حبيبي.
أعرف العبارة التالية التي ستنطق بها أمي في ظل محاولاتها الدائمة لترطيب المواقف.
- استمتعي بوقتك يا سهير.
لا أردّ، أمى دائماً وأبداً لا تريد أن ترى إلا ما تريد أن ترى!، تعلم ما أعلم، ولكنها كغيرها من أمهات العالمين، تخاف من أن يفوتني قطار الزواج، خاصة في مثل هذه الأيام، كل ذلك يدفعها إلى أن تغضّ الطرف عن ألاعيبه القذرة في الخفاء وتتوهّم أنّ بعد الزواج سينصلح الحال، وأنا أشكّ وأتمنى وأيضاً أحب!!
أحبّ وسامته، عطره الجميل، المتنوّع، باهظ الثمن، أناقته، شعره البنّي، هداياه التي يعرف كيف ينتقيها ويخرج واحدة كل حين من جعبته في الوقت المناسب، هدوءه الرائع والمستفزّ وهو يتلقّى بصبر وسعة بال كل هجماتي الشرسة عليه، يده القوية وهي تربط على كتفي، تحاول أن تهدّئني ونظرة الحنو الأبوي الغريب التي تخرج في لحظات سقوطي العظيم وانهياري الكامل ودموعي التي أكرهها وتفلت مني دائماً، أحبه لأن كل الناس تحبه، أحبه لأني لم أحب من قبل!
أغاني فيروز التي أحبها وأعلم أنه لا يحبها تنساب من كل زوايا العربية، هادئة ناعمة رقيقة حالمة، يتّجه يميناً إلى شارع الإقبال، يتخطى السيارات في مرونة، سيارته التي يحبها كثيراً، ربما أكثر مني.
عندما يلوح لي من بعيد سور الكورنيش، أشعر بسعادة طفل صغير يدخل إلى عالم الملاهي، طفل تمنّى كثيراً أن يشاهد فيلماً لشريك ذلك الغول الأخضر وقد تحققت أمنيته أخيراً، أشعر بسعادة إنسان يحب يود البحر السكندري كثيراً، شخصاً مثلي، السكندرى الأصيل في نظري هو من يستطيع أن يميز بأنفه رائحة اليود التي تختلف باختلاف الأحياء بالإسكندرية وتتساوى عند الآخرين.
- أنتَ مش ناوى ترحمني وتستقيم بقى؟
انفجار الكلمات في فمي كان مدوّياً، انفجار أفزعه، أغلق الكاسيت ونظر نحوي باستنكار وغضب، ولكنه عاد يركّز على الطريق وهو يتفادى ميكروباص انتقل فجأة من حارته اليمنى إلى الحارة التي تسير فيها سيارته، فأبطأ بشكل مفاجئ وهو يرسل له شتائم مطوّلة ببوق سيارته، ومن ثم يتجاوز الميكروباص ويحاذيه، يفتح زجاج نافذتي الكهربائى ويصيح:
- أنت أعمى ما بتشوفش.
السائق لا يردّ، يرفع يده اليسرى معبّراً عن اعتذاره، ومن ثم يسرع ليبتعد قدر المستطاع عن صياحه:
- ده أنت سواق غبي.
يغلق زجاج النافذة من زرّ في مقوده، يتصنع الغضب والتمتمة الحانقة ولكنه ممتنّ لهذا السائق الذي أخرجه من المأزق الذي وضعتُهُ فيه، في قرارة نفسه هو شاكر جداً لهذا السائق، والغضب البادي على وجهه هو لاستكمال تمثيلية الخروج من المأزق ومحاولة لإسكاتي.
- بجد أنا عايزة منّك ردّ.
أكثر هدوءاً ولكن أكثر إصراراً وحدّة واضحة في نبرة صوتي، ستقنعه بشكل كافٍ أنني لن أتراجع أو أترك الموضوع مثل كل مرة، يشغّل الكاسيت مرّة أخرى في محاولة سخيفة منه لإسكاتي متصوّراً أن فيروز الآن قادرة على أن تطفئ هذا البركان الثائر بأعماقي، لماذا يتصوّرني غبيّة إلى هذا الحدّ؟!
- أقفل الكاسيت الزفت ده وكلمنى.
يغلق الكاسيت في هدوء ويعلّق محاولاً ترطيب الموقف المضطرب بابتسامة ساذجة على فمه:
- فيروز بقت زفت.
- ممكن تردّ عليَّ وبلاش تغير الموضوع.
- حاضر.
- هو إيه اللي حاضر.
- اللي أنتِ بتقوليه.
- أنت بتستخفّ بيّا؟!
- طبعاً لأ.
- أُمّال حاضر على أي أساس، عايز تسكتني يعني.
- أنا كنت فاكر أنك بتحبي فيروز.
- ملعون فيروز على اللي عايز يسمع فيروز يا أخي.
صوتي هادر، شعرت بأن السيارة نفسها ارتجت من هدير صوتي المرعب، أنا نفسي شعرتُ بالرعب الشديد من صوتي الهادر. يرمقني بدهشة بالغة، لأوّل مرّة أتلفّظ بكلمات بذيئة كهذه، لأوّل مرّة أكون مجنونة بهذا الشكل، لأوّل مرّة أشاهد في عينيه فزعاً ودهشة طفولية غريبة!
ينظر إلى الطريق ومؤشّر السرعة بدأ يتسارع بشكل غير اعتيادي، ثمانون... مائة... مائة وعشرون، جميع السيارت والمشاهد المحيطة تتسارع من حولنا بشكل يُسَرّع دقات القلب، يحاول التأثير عليَّ بشكل ساذج هذه المرة، يبتكر الطرق لإخراسي، هذه المرة يحاول الإسراع بالسيارة لتنشغل عيناي بعداد السرعة فيتوقف عقلي عن تجهيز هجمات نارية أخرى، فعلها مرة من قبل ويتوقع هذه المرة أن تترك التأثير المرجوّ عليَّ، هذه المرة لن أخاف، لن أسمح لقلبي أن يدق، سأترك شياطين الغضب تحرق دمي أكثر وأكثر لأتغلب به على الخوف الذي يحاول أن يسبّبه لي، أعرف أنه سائق ماهر، أعرف أنه يجيد القيادة عند السرعة العالية، أعرف أيضاً أن العربية جيدة للدرجة التي تسمح لأن يقوم بمناورته الطائشة هذه.
ظللت أرمقه بنظراتي النارية وهدوء بالغ يستقرّ على وجهي الآن، هدوء ناري لم يعهده من قبل، نذير ما قبل العاصفة، يصرّ على هذه السرعة لعلي أغيّر رأيي وأطلب منه بخوف نسائي ورعشة والكثير من الرجاء أن يخفف من سرعته، أن أقول أني أخاف من السرعات العالية.
- كنت نايم معاها وأنت بتكلّمني.
السيارة تتوقّف في حدّة إلى جانب الرصيف وقد تجاوز سيارة خضراء كنت أظنه سيصطدم بها، صرير العجل مع الفرامل التي يعتصرها تحت قدمه تدفعني قليلاً إلى الأمام، ولكن حزام الأمان يشدني إلى الخلف مرّة أخرى، أفكّ حزام الأمان، أغادر السيارة، يغادر مقعده، أتّجه إلى سور الكورنيش، يرجونى أن أعود ولكنّي لا استجيب لرجائه، الصمت يتخلّل الموقف لثوانٍ ثم أسمعه يصيح في غضب:
- أنتِ زودتيها قوي وأنا معدتش مستحمل.
لا أستطيع أن أرى، الرؤية ضبابية بالكامل، اللعنة، دموعي تنهمر مرة أخرى رغماً عني، صوت البحر الذي كان هادراً ما عاد قادراً على أن يحتويني مثلما يفعل دائماً، أسمع بوضوح صوت إطارات سيارته وهي تصرخ، تبتعد سيارته بسرعة والدموع بشكل لا إرادي بدأت تهدأ، انقطاع مفاجئ للدموع، هل هو البحر؟!
لماذا ينظر إليَّ هذا الشاب؟!، بالتأكيد سيتصور أنني فتاة لعوب، تنزل من سيارة فضية، سريعة، جديدة، تغادر السيارة في مشهد مسرحي ملفت، تبكي بالقرب من البحر، كلها مؤشرات مناسبة لتصنيفي، رائع، لا يوجد منديل واحد في حقيبتي، رغماً عني أنظر إليه، يبدو مرهقَ الملامح، حزيناً، غيرَ وسيم مثل أيمن، يبدو طيباً مثل هذه السيارة التي يقف أمامها، لا أعلم لماذا؟، أعود لأتطلع إلى البحر مرة أخرى، كل ذلك شاهدته وعرفته في ثلاث ثوان فقط!، غريب العقل البشري هذا؟
بدون أن أراه بوضوح، أراه بزاوية عيني اليمني، يتقدّم نحوي، يتردّد، يمسك في يده المناديل، تمنّيتُ أن يتقدّم وألّا يتردّد، في نفس الوقت تمنيت ألّا يفعل هذه الحركة الحمقاء ويتقدّم؟!، لأنهم دائماً ما يتصورون أنّه إذا ابتسمت الفتاة لمن تحدثه أو تناولت منه منديلاً فهذا يعني أنها توافق على الوصول معه إلى آخر التجربة؟، سرير في غرفة مظلمة!، هل أنا مبالغة أم تصرفات أيمن أورثتني الجنون والشكّ؟َ!، أتمنى أن يتقدّم ويناولني المنديل يحدّثني بطيبة كتلك التي تبدو على وجهه.
أخيراً يتراجع ويتجه إلى تلك السيارة الطيّبة القديمة ويركبها، عظيم، لقد قام بتصنيفي على أني فتاة لعوب لا تستحقّ طيبته!، السيارة تتحرّك ببطء لمسافة قصيرة، ومن ثم كحصان عجوز يسرع الخطى بصعوبة، تبدأ في الالتحام بزحمة السير على طريق البحر، تابعتُه ولا أعرف لماذا؟، تابعتُه وقد نسيتُ للحظة أيمن؟، لماذا نسيتُ أيمن؟!
مرة ثالثة
"بدري يعني"
بعد الرنة الخامسة، كان يجب أن أغادر الفراش، ألتقط القميص المُلقى على المقعد بجوار الفراش، أرتديه على عجل، أنظر إليها وهي تستلقي على الفراش، تطّلع إلى بعينين ساخرتين، أمسك بطرف ياقة القميص أتشمّمه، ليس هناك أسوأ من ذلك، رائحتها تسرّبتْ إلى قميصي، أجلس على المقعد لأرتدي الجوارب وهي تنتصب جالسة تولّي ظهرها لي، تتصنّع الضيق، يجب أن تفعل ذلك، هذا معناه أن أهديها هديةً أكثر قيمة المرة القادمة إذا أردت أن أراها.
قدماي تنزلقان في الحذاء، أحبّ الأحذية التي لا تحتاج إلى ربطها فهي أكثر سهولة خاصة عندما تكون في عجلة من أمرك، أنهض، ترتدي بلوزتها أيضاً، تواجهني وهي تعدل الجيب القصيرة التي ترتديها، أتوقّع الجملة التالية.
- بتحبها قوي كده.
ألتقط السترة وأنا أقول في لا مبالاة:
- شيء ميخصكيش.
الرنّة الثامنة، يجب أن أردّ وإلّا كل الشكوك التي تهاجم رأسها ستكون محلّ اعتبار قويّ عندما تراني والانفجار سيكون مدوّياً.
- أزّيك يا قمر
السؤال عن مكاني، هو بداية الانفجار الذي أحاول تفاديه، الإجابة إنْ لم تكن سريعة وتلقائية، فبالتأكيد ستصطاد في كلماتي الكذب.
- بغيّر زيت العربية.
أسأت التقدير إلى حد بعيد، فهي لم تبتلع الطعم، الأعذار المتعلّقة بالسيارة أصبحت غير مستساغة الآن ولا تلقى قبول لديها.
- والله العظيم بغيّر زيت العربية، أحلف لك على المصحف يعني عشان تصدقي، مش حتبطلي بقى طريقتك دي؟
الأخرى تضحك وهي تنتعل حذاءها، ذو الكعب العالي، الأسود اللون وتبدأ في لفّ شرائط الحذاء حول قصبة الرِّجْل، كم تبدو المرأة مثيرة في هذا الحذاء، الحذاء بدون أن تنتعله امرأة غير ملفت على الإطلاق، الإثارة قيمة مضافة للحذاء عندما يحتوي ساق المرأة.
أوجّه لها نظرة تحذيرية، ترفع يدها متأسّفة، أستدير عائداً إلى المرآة وأقول:
- أنا جنبك، الميكانيكي اللي بغيّر عنده الزيت قريب منكم.
أغادر الحجرة والأخرى تتصرّف وكأني لم أعد موجوداً، مثل هذه العلاقات لا مجال فيها لأيّ مساحة ودّ أو لباقة، يكفي أن يتحقّق فيها ما اجتمعنا من أجله.
- أنا قريب من لوران، كلها ربع ساعة بالظبط وأبقى عندك.
أغلق الهاتف، أضعه في جيب سترتى، ويأتينى صوت الأخرى التي تستند إلى جانب باب الغرفة:
- حلوة شقّتكم، حتتجوز فيها؟
لا تختلف أيّ إمرأة عن الأخرى إذا أرادت أن تبدو شرّيرة ومستفزّة إلى أقصى حدّ، ينتقين كلمات مستفزّة بمهارة ليضربن بها الرجل، ليس من أجل شيء غير رؤية نظرة غاضبة في عينيه، ولكنّي أقطع عليها طريق الاستمتاع:
- ممكن يا لا.
تلتقط حقيبتها وتتقدّم إلى مدخل الشقّة في تثاقل، تتخطّاني ولا تنسى أن ترميني بنظرة ساخرة وابتسامة أشدّ سخرية، أغلق باب الشقّة، نتّجه إلى المصعد، أعرف أن الموبايل سيرنّ في أيّ لحظة، يجب أن أصل إلى الشارع سريعاً، يجب أن يكون هناك صخب من حولي، حتى تنطلي كذبتي عليها هذه المرة.
لا أتصور أنها ستنخدع، أعتقد أنه ليس هناك امرأة ينطلي عليها كذب رجلها، ولكن هناك امرأة عاشقة تقنع نفسها بأن أكاذيب رجلها كلها حقيقة، لا أدّعي أنّ سهير من هذا النوع الذي يبتلع كل أكاذيبي، ولكنها تتغاضى وتغفر، ولكن لا تنسى، شأنها شأنهنّ جميعاً، تلك النظرة التي ترمقني بها تقول كل شيء: "أغفر لك تركي فجأة، ولكن لن أنسى هذا" طبعاً هذه تعدّ تضحية مهما كانَ شكل التضحية، ولكنها تضحية تستوجب التعويض المناسب، أيّ تعويض، ولكن لا بُدَّ أن يكون مناسباً بالنسبة لها، أدخل إلى السيارة أدير المحرك وأشكر الله كثيراً على أنه وفقني في شراء سيارة جديدة قوية قادرة على أن تأكل المسافات تحت إطاراتها، أنظر إلى الأخرى من نافذة الباب الجانبية أستحثّها على المشي بسرعة، تدخل إلى السيارة في بطء مستفز، لا أعلم بغرض إثارتي وأغوائي مرة أخرى لعلي أعدل عن ذهابي لسهير وأصعد معها مرة أخرى إلى الشقة أم أنها أحدى أفعال الاستفزاز التي تتمتع بها كل امرأة.
أتوقّف إلى يمين الطريق قبل شارع شعرواي، تنزل من السيارة، وهي تلقي آخر دعابة مستفزة لا بُدّ منها وأتوقعها أيضاً:
- متنساش تغير زيت العربية، عشان الكذب حرام.
أركن السيارة أسفل العمارة، أفتح باب السيارة، كيف كنت سأنسى ذلك، أتناول زجاجة العطر من درج "التابلوه" معطراً نفسي محاولاً أن أضيع برائحة ذلك العطر رائحتها، رائحة الأخرى، أتّجه إلى مدخل العمارة، أحاول أن أسيطر على نظام التنفس حتى أبدو طبيعياً، ألقي السلام على عمّ سيّد البواب، أدخل إلى المصعد، أكاد أتخيّل السيناريو القادم، لن تفتح لي سهير الباب، فهي الآن تتصنع الغضب، ربما أختها الصغرى أو أمها.
- أزيك يا تانت.
- أزيك يا حبيبي.
تتلقفني في أحضانها، في الغالب تلك عادة أنثوية لا تدل على الترحيب والحب أكثر مما تدل بشكل غير مباشر على محاولة استشفاف أسرار تبحث عنها ومثل هذه الاحتضانة ستجيب على الكثير من التساؤلات، أتمنى ألا تستطيع التمييز بين رائحة الأخرى الأنثوية ورائحة العطر الرجإلي التي أضعها.
- أتفضل يا أيمن.
أنتظر في صالة البيت والأم تندفع إلى غرفة سهير تقول في صوت مصبوغ بسعادة مصطنعة:
- أيمن وصل يا سهير.
أمها تغلق باب الحجرة وتلتفت إلى مبتسمة، ماهرة في إخفاء مشاعرها ولكن ارتعاشة خدها لم تفُتْني، قادتني إلى الصالون لأنتظر سهير، دخلت أختها الصغرى تصافحني في حياء المراهقات إذا كان هناك ما يمكن تسميته بذلك وهي تقول في صوت تحاول أن تودع فيه كل أنوثة ممكنة:
- أزيك يا أبيه.
- أزيك يا ليلى، عاملة إيه؟
- تمام الحمد لله.
سهير تظهر، جميلة على غير العادة وكنت أتصور عكس ذلك تماماً، وذلك لشيئين لأن غضب المرأة من الممكن أن ينسف أيّ شىء آخر موجود مهما كان جميلاً وثانياً كنوع من العقاب ولكنها خرجت جميلة على غير العادة، أو ربما من عادات المرأة أن تتزيّن بطريقة مبالغٍ فيها وتحاول أن تظهر لرجلها أنها أفضل من فتيات أخريات يعرفهن وأنه أخطأ خطأً كبيراً بمعرفتهن وتناسيه أنها الأفضل بينهن جميعاً، هي محاولة لإعادته إلى كهفها الخاص، في تصوري كل إمرأة لها كهف خاص منتهى سعادتها أن تحبس رجلها فيه!
- أزيك يا سهير، إيه الجمال ده؟
لا ترد، إذن الدرس الذي تنوي أن تلقنَني إيّاه اليوم قد بدأ منذ هذه اللحظة، يجب أن أستعد جيداً وأبدو هادئا إلى أقصى حد، هناك بعض المواقف التي يتراجع فيها الرجل ليكون هادئاً وأكثر برودة من برودة "الفريزر".
- أجيب لك حاجة ساقعة تشربها.
تلطيف الجو التي تحاول أن تسعى حماتي إلى تعميمه قد ينجح في تخفيف حدّة التوتر القائمة بالفعل، يجب أن أشاركها المحاولة وأنا أهرب بنظراتي بعيداً عن سهير:
- لا، الله يخليكِ يا تانت أحنا يدوبك ننزل.
- يا أبني مش تشرب حاجة الأول، على طول كده.
- يدوبك والله يا تانت.
أمدّ يدي لتتقدّمني سهير فتتحرك في بطء، تماماً مثل الأخرى، ولكن هذه المرة وهي ترمقني بنظرة نارية تشي بالكثير من كشف حساب سيتم فتحه، وتقول بنبرة متحفّظة بطيئة المخارج:
- مش حنتأخر يا ماما.
- لا يا حبيبتي خدوا وقتكم.
- شكراً يا تانت والله.
- العفو يا حبيبي.
نغادر الشقة، لا تتجه إلى المصعد، تهبط السلالم، سهير فتاة ذكية، إذا كانت تريد الأنفجار فهي تؤجل مثل هذه الشحنة العارمة من الغضب للوقت المناسب في المكان المناسب، المصعد سيعجل بأنفجارها وهي ما لا تريده لأنه سينتهي بمجرد أن نغادر المصعد وإذا أستطرد مرة أخرى سيكون أقل حدة وستكون هي أكثر تقبّلاُ للتسامح وستكون لدي الفرصة لأقطع الطريق عليها، تفاديها للمصعد يعني أنها تنوي على أن يكون الحساب عسيراً، تسدّد لي نظرة أخرى فأتحاشها بأن أرفع رأسي لأمها وأختها الصغرى التي تدلت من فوق سور السلالم قائلاً:
- أدخلي أنتِ يا تانت.
- ماشي يا حبيبي.
الجملة الأخيرة التي قالتها أمها قبل أن نندفع بسرعة على السلالم لنكون وحدنا:
- استمتعي بوقتك يا سهير.
النساء في عمر حماتى يَكُنَّ أكثر حكمة وأكثر تقبلاً للتسامح، فهي ترسل رسالة مضمنة إلى ابنتها ألّا تفسد الأمسية، أتمنى أن تصغي إلى صوت العقل ولكن صمتها المخيف يشي بالعكس.
السيارة تنطلق وأنا أدعو الله كثيراً أن يكون صمتها المطبق هذا، ليس سكونَ ما قبل العاصفة، ربما لو سلكت طريق الكورنيش سيكون ذلك عامل لأن يكسبها بعض الليونة لأنها تحب رائحة اليود فهي كما تقول إسكندرانية أصيلة تميّز رائحة يود البحر السكندري، وتدرك سحره الذي لا يدركه السكندريون الذين تقول عنهم إنهم ليسوا سكندريّين بالجوهر.
- أنت مش ناوى ترحمني وتستقيم بقى.
حسناً، لقد بدأ الدرس بشكل قاسٍ جداً، أبعد مما تخيلت وتصورت، الرد بالاستنكار أو بإظهار الندم لن يفيد، الحل الناجح في هذه المواقف هو الهروب منها مما يضيع عليها فرصة المضيّ قُدُماً، هذا السائق يعطيني فرصة ذهبية للهروب من المأزق وهو يندفع إلى اليمين قليلاً ليجعلني أقلّل من سرعتي وهو يحاول الانتقال إلى حارتي.
- أنت أعمى ما بتشوفش.
الرجل يرفع يده معتذراً، سائق مهذب ولكن لا بأس من إظهار حدة أكثر ومستوى أعلى من الغضب حتى يبعث تصرفي هذا ببعض الخوف في نفسها فتتوقف عما هي ماضية فيه:
- ده أنت سواق غبي.
نظرة خاطفة إلى وجهها المحتقن تجعلني أدرك أن محاولتي فشلت وهي تّصِرُّ على أن أردّ، مناورة أخيرة قد تنجح أو تفشل وساعتها ستكون المواجهة قاسية ومحرجة منذرة بخطر أو فشل في هذه العلاقة، وهو آخر شيء أتمناه لأني أحبها كثيراً ولا أريد أن أفقدها، علاقاتي النسائية الكثيرة جعلتني أدرك حقيقة واحدة أن الغالبية العظمى من النساء منحرفات والقسم الباقي يحب الانحراف ولكنه لا يجد السبيل إلى ذلك!، أتذكّر أنّها نظرت إليَّ باستهجان شديد عندما عبرت عن رأيي هذا أول مرة، ولا أنسى الجملة النارية التي قالتها حينها في قمة الهدوء:
- يعني مامتك وأختك كانوا نفسهم يبقوا منحرفين بس مكنوش عارفين ينحرفوا أزاي!
وجهة نظر قوية، من سيتصوّر أنّ أمّه تحب الانحراف؟! لا أحد حتى لو كان يعلم أن أمه فتاة ليل!، لن يقبل أي رجل ذلك، ولكن الحقيقة سهير غيرهن كلهن، لذلك هي مميزة جداً ونادرة جداً.
المناروة الأخيرة ربّما هي آخر ورقة لدي، قد تجعل هذه الليلة أسعد أيام حياتي أو أسوأها على الإطلاق، أضغط زر الكاسيت بمقود سيارتي، ينساب صوت فيروز في نعومة، ينبعث من كل ركن في السيارة، من كل الزوايا، كم أحب النظام الصوتي في هذه السيارة.
- أقفل الكاسيت الزفت ده وكلمني.
للأسف حتى هذه المحاولة فشلت تماماً، الآن لم يعد هناك أيّ مخرج للهروب من المواجهة التي كثيراً ما تمنيت ألّا أواجهها أبداً.
- فيروز بقت زفت.
- ممكن ترد عليَّ وبلاش تغير الموضوع.
- حاضر.
- هو إيه اللي حاضر.
- اللي أنتِ بتقوليه.
- أنت بتستخف بيا.
- طبعاً لأ.
- أمال حاضر على أي أساس، عايز تسكتني يعني.
- أنا كنت فاكر أنك بتحبي فيروز.
- ملعون فيروز على اللي عايز يسمع فيروز يا أخي.
لمعت في رأسي فجأة فكرة مجنونة، فكرة متهورة لا أحب أن الجأ إليها لأنها تخافها كثيراً وقد وعدتها ألّا أفعلها مرة أخرى، ولكن الغاية تبرر الوسيلة، لم يعد أمامي وسيلة سوى أخافتها لثنيها عن إثارة هذا الموضوع بالذات، مؤشر السرعة يرتفع، جسدها يتصلّب، أشعر بالأسف حيالها والغضب منّي لإخافتها على هذا النحو، ولكن للعجب على الرغم من تصلب جسدها وتحديقها إلى مؤشر السرعة، تبدو...
تبدو قوية وثابتة ولا تخاف!!
- كنت نايم معاها وأنت بتكلمني.
على الرغم من صوتها الهادر إلّا أن ذلك الصوت لم يزلزني ولم يصدمني، ولكن هذه العبارة التي نطقتها جعلتني أشعر بأني أسقط من الدور الرابع عشر ومن ثم أصطدم بمكعب أسمنتي ضخم لأتحطّم عليه وللعجب أظلّ حياً، أشعر بألم في كلّ ذرّة من كياني، توقّفي الحادّ إلى جانب الطريق، جعلني أشعر وكأن الإحساس بالصدمة انتقل أيضاً إلى السيارة، ظهر ذلك جلياً في توقف السيارة الحادّ وصرير الإطارات وهي تحاول أن تمسك في أسفلت الطريق بشكل مبهر، لا أعلم كيف تجاوزت تلك السيارة البيجو القديمة الواقفة إلى جانب الطريق.
غادرت هي السيارة فور أن توقّفت، أسمع صوت نهنهتها وهي تتّجه إلى سور الكورنيش توليني ظهرها، أستجديها أن تعود إلى السيارة، ولكنها تتجاهلني بشكل مستفزّ، فورة الغضب التي أشعر بها جعلتني أقول بغضبٍ شديد:
- أنتِ زوّدتيها قوي وأنا معدتش مستحمل.
لا أعلم لماذا لفت نظري ذلك الشاب الذي يجلس على سور الكورنيش ويراقبنا كأننا على خشبة مسرح، أكره المتطفلين أمثاله، مثل صحفي لزج يحاول أن يقترب من نجم سينمائي!
أركب سيارتي وأنطلق بها مسرعاً، السيارة تشاركني شعوري بالغضب الذي يسري في عروقي، أحاول أن أشغل الكاسيت مرة أخرى ليهدئ صوت فيروز أعصابي، فيروز التي لا أكترث لأغانيها تفعل الآن مفعول السحر وقد نجحت في تهدئة أعصابى تماماً، شعرت بالدهشة وقد وجدت نفسي وصلت إلى مكتبة الإسكندرية بهذه السرعة أم أنني كنت في غفلة من أمري، مع أول فتحة استدرت عائداً، أنا أحب سهير، الحقيقة أنها لم تكن أحدى دروسها في سلسلة طويلة من المحاولات المضنية التي تبذلها لتقويمي، ليست هناك امراة غبية، أعلم أني الغبي هنا حين تصوّرتُ أنه من الممكن خداعها، لا أعلم كيف يتأتّى للمرأة أن تكون لها حاسّة استشعار عن بعد تتشمم بها كل الغيبيات، غيبيات لا تتعلق بأسرار الكون أو ملكوت الله، ولكن دائماً ما تتعلق بملوكتها الشخصي، زوجها، ابنها، هبّة غريبة تمتلكها أي إمرأة لاستعشار خطر يحيق برجلها أو أبنها أو خطر قادم معهما.
ثورتها وانفجارها الشديد هذا لم يكن درساً بقدر ما هو تعبير بالغ عن اليأس والاستسلام، ليس استسلاماً كمحاولة أخرى لإصلاحي ولكنها حالة استسلام من حبي، وهذا أكثر ما أخشاه، إذا تخلّت عن حبها لي، أعلم جيداً أن كل النساء التي ستشكّل حياتي بعدها سيكنَّ مثل الأخرى، مجرّد أخرى ليس إلا.
أخرى بدون اسم أو معالم محدّدة مجرّد شبح أسود، لا يعني لي غير ساعة أو بضع ساعة وحياتي فيها ساعات طويلة جداً، كل الأخريات غير قادرات على أن يملأن كل هذه الساعات الكثيرة جداً، أعلم أنها الوحيدة القادرة على ملء الفراغ في حياتي.
بنفس السرعة التي وصلت بها مكتبة الإسكندرية هي التي أوصلتني إلى حيث تركتها، انتقل إلى الحارة اليمنى، أرى من بعيد السيارة البيجو ما تزال واقفة إلى جانب الطريق، أهدّئ السرعة لما أقتربت منها، ومن ثم أتوقف بعدها ببضع خطوات وأميل إلى النافذة اليمنى، لا أرى سهير، الشاب الفضولي يتطلع إليَّ مرة اخرى في فضول، أمقت هذا الشاب كثيراً ولكنّي مضطرٌ، أغادر السيارة وابتسم قائلاً:
- بعد أذنك.
يتصنع أنه يراني لأوّل مرّة، سخيف فعلاً، يتجه نحوي هو أيضاً ببطء، لماذا يتعمّد الجميع اليوم استفزازي؟!، لماذا يبدو هذا اليوم بشكل ما متآمر؟!، يسألني في برود:
- فيه حاجة؟
في ظروف أخرى كنت سألكمه في وجهه، ولكني سأتمالك أعصابي وأسأله وابتسامة عصبية على شفتي:
- الآنسة اللي كانت واقفة هنا، متعرفش راحت فين، ركبت تاكسي مثلاً.
ينظر يميناً مما دفعني للنظر يميناً في تلهّف أنا الآخر متصوراً أنه يترفع عن الكلام ويشير لي بعينيه أنها تجلس في مكانٍ ما هناك، تغاضيت عن سخافته، ولكن الذي جعلني أغضب أنّني لم أجد شيئاً، عادت عيناه لتلتقي بي مرة أخرى وهو يقول في هدوءه المستفزّ:
- مشيت من هنا قدّام كده.
تركته بدون أن أقول كلمة أخرى، لم يكن يستحق الشكر ولكنه بكل سخافة يضيف:
- على فكرة، أكيد ركبت تاكسي، الوقت متأخر.
حاولت تجاهله ولكني ابتسمت ابتسامة حاولت أن أجعلها صفراء متوهّجة وأبتعد بسيارتي عن وجهه المستفزّ إلى أقصى حدّ، من سأله عن حكمته البالغة لو أنّه كان حكيماَ كفاية لكان أول شيء فعله تخلص من تلك السيارة السخيفة، بالتأكيد هي سيارته فهي تليق بسخافته الغريبة.
مرة أخرى تساعدني إمكانيات تلك السيارة الرائعة على التوقف المفاجئ، سائق ميكروباص يطلق بوق سيارته يحمل الكثير من السباب، أرفع يدي اليسرى معتذراً، هي تتوقف وتلتفت في دهشة إليَّ، أغادر السيارة وأسرع الخُطى نحوها، أتوقّف أمامها لا أجد ما أقوله، ملامح وجهها لا تعبّر عن أي شيء، جمود غريب في ملامحها، جمود غير مطمئن بالمرة.
- حنتأخر على العشا، المطعم ده مش من النوع اللي بيسهر.
الشعور بأنك مجنون وتخاطب اللا أحد، شعور بالتأكيد سخيف جداً ولكني بدلاً من ذلك ابتسمت واضفت:
- أنا بتكلم بجد، يا دوبك نلحقه.
أشاحت بوجهها يميناً، علامة جيدة، هناك فرصة للتسامح على الأقل، لماذا تشيح بوجهها؟، لتواري عني دموعها فحياؤها وشعورها بالكرامة يمنعها من أن أرى دموعها أو هي حركة أنثوية طالما رأيتُ فتيات كثيرات يفعلنها بغرض استثارة مشاعر الرجل وإغواءه ولكن سهير ليست مثل هؤلاء، سهير ليست مثل الأخرى، يجب أن أنسى الأخرى وكل أخرى مثلها!!