النبوءة
الأحلام بوَّابة نعبر من خلالها لعوالم غامضة، ولكنَّ في أحيانٍ كثيرة تهرب تلك العوالم لتغزو واقعنا.
لقد أصبح ليلَه مؤلمًا بعدما صارت الأحلام صيَّادًا يقتنص راحة بالِه؛ فهي ليست أحلامًا ورديَّة بفراشاتٍ ملوَّنة ونغماتٍ موسيقيَّة، إنَّما هي كوابيس تخص عوالم غريبة يزورها ليلًا مُرغمًا، وتجنُّبها كل ليلة شبه مستحيل.
كانت تلك بداية اللعنة، نعم، لعنة المعرفة؛ فهناك معرفة محرَّمة قد تحرقنا أحياء وتُحيل أجسادنا رمادًا دون أقدامِنا لتصبح شاهدة على مصيرٍ سعينا إليه بأنفسنا.
ها أنت ذا أصبحت أسيري على مدىٰ الأزمان، لا مهرب أو مفر من قدرك أيُّها الفاني.
إنَّ الصَّوت مؤلم ويكاد أن يفتِك بي، أذناي تئِنَّان ألمًا.
أين أنا؟ وما تلك المتاهة؟ أأخرُج من نفقٍ لأبدأهُ من جديد! أيُّ لعنةٍ تلك!
ما زال يلاحقني، إن أنفاسَه حارقة، أشعر بها تحرق كياني كأنِّي بالجحيم، أم إنِّي في الجحيم حقًّا؟!
طالما علِمتُ أنَّها نهايتي التي أستحق، ولكن كيف؟ ومتى حدث ذلك؟!
أرجوك اتركني، أنا لا أعلم عن أي إرثٍ تتكلم؟
- إرثِك الملعون، وأنا مارق العذاب الموكَّل بالعقاب
آه! إن مخالبه كسياطٍ من حميم.
استيقظت مُنى فزِعة إثرَ صراخ زوجِها المتكرِّر في الآونة الأخيرة، وجدته ينتفض وقد تفصَّد جبينُه عرقًا، يصرخ متألِّما وهو يتلوَّى فحاولت إيقاظه قبل أن يؤذي نفسه بحركاته السريعة غير الطبيعيَّة.
- أمجد حبيبي، استيقِظ أرجوك.
حاول الهرب ما إن فتح عينيه، وأطلُّت من عينيه نظرات الفزع لكنها تمسَّكت بذراعه وهى تربِّت على ظهره في حنان.
- ملاك!
- حبيبي، أنا مُنى زوجتك، ما بك؟
_ مُنى، آسف، يبدو أني رأيت كابوسًا مُزعجًا أفقدني صوابي.
بدأ يتلعثم بكلماته، تائه العينين، متعرِّقٌ رغم برودة الجوّ، والخوف يتجلَّى على ملامح زوجتِه شحوبًا.
كانت مُنى تشعر أنها تائهة هي الأخرى، فلم تعلم كيف تخفِّف عن أمجد، هي تعاني بصمت ولا أحد يشعر بها، حتَّى زوجها أقرب وأحب الناس لقلبها.
ابتسمت ابتسامةً باهتة؛ حتى تخفِّف من توتُّرِه وتليِّن ملامحه قليلًا، وقالت:
- حسنا، سأحضِّر لك الحَمَّام، سيساعدك على الاسترخاء .
أولته ظهرها واختفى شبح ابتسامتها وابتسامته، وتركته غارقًا في تفكيره وشروده.
لقد شارفتُ على الجنون، للحظة ظننتها ملاك، لا بُد أني أهذي وبحاجة للماء لكي أنفض سيل الأفكار والذِّكريات الكئيبة تلك عن رأسي.
وبطريقه المعتاد للعمل سار منكبًّا على وجهه، مثقل الكاهل، لا يقوى على السَّير، كأن قدميه نسيتا خطواتِهما، وعينيه حائرتان تتفحِّصان كل الوجوه؛ فهو يرىٰ وجهها البريء في كلِّ الوجوه، حتَّى إن حظه العاثر أوقعه في العربة المختلطة بالمترو؛ لتصبح كل النساء هي.
أخرج هاتفه من جيبه ليتابع مواقع التَّواصل علَّه يهرب منها؛ فقد سيطرت على أفكاره في الفترة الأخيرة - وكأنه نسيها يومًا - العديد من التَّساؤلات فغزت عقله واحتلَّت تفكيره.
هل تلومني على عدم عودتي؟ لم ولن تسامحني كما لم أسامح نفسي على تلك الحادثة الشَّنيعة، ولكنِّي كنت مجرَّد طفل لا يعرف العوم لينقذها أو حتى ينقذ نفسَه..
مسح عبراته الهاربة من عينيه؛ كيلا يرىٰ أحد ذنبه فلطالما قالت أمه له:
"إن العين نافذة الرُّوح؛ فلا تدع أحدًا يرى مكنونات صدرِك وأسرار روحك في أدمعك."
مشفقًا على حاله بحث عن عزائِه في ملامح الغرباء، وحين رأى كلَّ الوجوه مكفهرَّة قال:
- لست وحدي ذو الكاهل المثقل بأسرار لا يُباح بها.
دلُف إلى مبنى جريدة الأهرام حيث يعمل محرِّرًا؛ فقد كان يحلم منذ صغره أن يصبح صحفيًّا في الجريدة التي لا يبدأ يوم الجميع إلا بها.
كان ينتشي عندما يقرأ العناوين والتحقيقات الصحفيَّة وأسماء الكُتَّاب وصورهم منشورة برفقة مقالاتهم، وكم تمنَّى أن يرى الجميع اسمه في الصفحات الأولى وتذَيَّل مقالته بصورة له، وتضحي كلماته مرتقبة من قِبَل القرَّاء لكنَّه في زمنٍ لا مكان فيه للأحلام، فلم يتحقَّق منها سوى وجوده خلف مكتب صغير مهترئ يغطِّيه الغبار والأتربة وتسكنه أشباح الأحبار ووريقات مهترئة لم يعد أحد يعيرها انتباهه.
روتين مملّ وأجهزة عقيمة وإدارة سفيهة لن تتغيَّر ما بين الإفطار وأكواب الشاي الثَّقيلة التي لا تقيه النَّوم من يد عم علي عامل البوفيه العجوز ذو العيون الشاردة والأكتاف المتهدِّلة، وبين كامل مدير الشؤم -كما يطلق عليه- الذي يتحكَّم بهم وكأنه رئيس جمهورية الجريدة، يمرُّ اليوم ككل يوم، مُمِلًّا وبطيئًا كساعاته، وكذلك رحلة العودة المليئة بالزِّحام والتخبُّط .
يتعالىٰ رنين هاتفه برتابة، ولا يجد القوَّة الكافية لحمله والرَّد عليه، فهو يعلم أنها مُنى تطمئن على عودته في الميعاد المعتاد لتجهيز طعام الغداء.
أصبح روتينه المُمِل مرهِقًا لحدٍّ بعيد، تململ من تكرار رنين الهاتف وردّ عليه بنفاد صبر.
إنَّه قمص الكنيسة يطلب منه أن يحضر فورًا لأمر يتعلَّق بزوجته، أنهى المكالمة بعدما أخبره أنه سيأتي فورًا، حاول الاتصال بها لكن هاتفها مغلق، فزفر بغضب وهو يقول:
- ألن ينتهي هذا اليوم أبدًا!
في الكنيسة وجد مُنى تستند برأسها على كتف إحدى الرَّاهبات على أحد المقاعد المصفوفة يمينًا، ووجهها متعلق بتمثال للعذراء مريم وهي تحمل بين يديها المسيح.
همَّ بالذِّهاب إليها لكن أوقفه القمص أبانوب.
- لنتحدث قليلًا بشأن زوجتك يا أمجد قبل أن تقابلها.
- ما بها مُنى، لقد تركتها صباحًا في أحسن حال؟
- إن زوجتك تعاني وبشدَّة، أعتقد أن السَّبب عدم حضوركما القُدَّاس لفترة طويلة، عليكما أن تحافظا على صلتكما بالكنيسة حتى يرضى عنكما الرَّب ويصلح أحوالكما؛ فالصلاة حبل نجاتكما وطريقكما للجنة.
كان يتكلَّم بنبرة متعالية وكأنه يملك مفاتيح الجنَّة والنَّار، مما جعل وجه أمجد يتخضَّب بالحُمرة وهو يحاول أن يتحكَّم بغضبه المتنامي بصدره من خلال إحكام قبضة يده، فالدِّين أصبح سوطًا يجلد به مدَّعي التديُّن كل من يختلف عنهم دون مراعاة لأحزانهم وظروف حياتهم القاسية، وقد رأى أبانوب غضب أمجد فابتسم ابتسامةً صفراء قبل أن يتركه ويغادر، ويحذِّره من عواقب البُعد عن الكنيسة.
إن أمجد ومُنى قد فقدا إيمانهما منذ أمدٍ بعيد؛ فكيف يحتفظان به وبصلواتهما ولم تتحقق أمانيهما بطفل يحلُمان به وبمستقبله؟! ففشلهما في تحقيق أحلامهما كان الحافز الأكبر والوحيد للحصول على طفل يُشعرهما بالإنجاز والأمل ولكن لم يأذن الله؛ فقنطا ونسيا رحمته ولم يعودا للكنيسة حتى للصلاة، فلا نجاة يرجوَانِها أو جنَّة يصبوَان إليها، فهي ضربٌ من الخيال وهما يعيشان الجحيم على الأرض منذ ولادتهما.
الآف الأسئلة تدور برأسه، ومئات الرُّدود تتسابق ردًّا على كلام القمص، ولكنه آثر الصَّمت فلا أحد يعلم عن معاركِه الدَّاخليَّة شيئًا ولا أحد يشعر به، وحتى لو حاول شرح شعوره أو وصفه فهو يعجز عن رسم مشاعره وأفكاره، لذا لجأ للصمت كبديلٍ استراتيجي.
في المنزل، تركها تستريح لأن الإرهاق والتَّعب بادِيَان عليها، فقد ظلَّت طوال الطريق واجمة تنظر عبر نافذة السَّيارة للسراب، وها هي الآن تجلس أمامه كمن غادرتها الحياة وتركتها خاوية.
خيَّم الليل عليهِما وقد أرَّقَهُ حالها فظلّ طوال الليل يراقبها، يراها طفلته الوديعة، مستسلمة منكمشة على نفسها في وضع جنيني كمن يرغب في الاختباء من الدُّنيا، رقّ لها قلبُه وخوفه عليها تنامى؛ فهي طفلته ورفيقة دربِه وخليلة أيامِه.
ترك الغرفة وهاتَف زميله مصطفى حتى يقدِّم له طلبًا للحصول على إجازة، فلن يستطع تركها في تلك الحالة، وقد وافق ودعا لها وسأله إن كان يحتاج العون، فانكمشت ملامحه لتظهر علامات التَّعجُّب على وجهه النَّحيل حتَّى إنه ظنَّ نفسه يحادث شخصًا آخر، فرفع الهاتف عن أذنه ونظر للاسم ليتأكَّد أنه مصطفى بالفعل، ذلك الشَّخص متباين الصفات وكتوم، يبدو في بعض الأحيان خبيثًا مقيتًا يختبئ خلف ملامحه الجامدة، وفي أوقات أخرى تجده شهمًا كريمًا.
أخرجته من شروده صرخة مدوِّية؛ فانطلق جريًا لغرفة النوم ودقَّات قلبه كقرع طبول الحرب.
- مُنى، حبيبتي، ماذا يحدث معكِ؟ أفيقي!
كانت في حالة هستيريَّة لم ير لها مثيلًا، فهذه أول مرٍّة تنهار فيها حبيبته بهذا الشَّكل.
- أهو كابوس؟! أرجوكِ تحدَّثي معي، إن أعصابي لا تتحمَّل سكوتك.
لتنظر له والدَّمع يهطل من عينيها الذابلتين وتقول:
- ابننا...
-من؟! عمَّ تتحدَّثين؟ نحن لم ننجب، أما زلتِ تحلمين؟!
- أحلم! إن حلمي قد مات، فلم أستطع الاحتفاظ به، لم أشعر به، أنا لا أستحق أن أكون أُمًّا.
- حبيبتي، هوِّني على نفسك، أنتِ أمِّي وكل دنياي، لا أتحمَّل رؤيتك بتلك الحالة. أرجوكِ اشرحي لي ما بك؟
بكلمات مرتعشة واهنة قالت:
- عقب نزولك للعمل صباحًا شعرت بمغصٍ شديدٍ ونزفت، حاولت الاتصال بك مرارًا، كنت خائفة من منظر الدِّماء وأشعر بوهن شديد لكن هاتفك مغلق.
ذهبت للمستوصف بجوار الكنيسة، وبعدما أتمَّ الطبيب فحصي اكتشفت أني في حالة إجهاض؛ فقد كنت أحمل طفلك في أحشائي وفقدته قبل أن أشعر به.
أنهت كلماتها وانخرطت في نوبة بكاءٍ جديدة تندب حظها، وتعتصر بطنها بحركات لا إرادية وأمجد يقف مذهولًا يشعر كأن سكينًا قد غُرز بقلبه؛ فكم تمنَّيا ذلك الطفل كأملهما الذي روادهما كثيرًا، وأشعلا مئات الشُّموع بالكنيسة حتى يمنحهما الله السَّكينة وتتحقق أمنيتهما الوحيدة، ولكن هيهات فلم تُستَجب صلواتهما ولا شفع لهما تضرعهما! وها هو آخر أمل لهما في الحياة يموت قبل أن يولد.
لِمَ يحدث لنا هذا؟!
سؤال تردَّد في نفس أمجد، بذلك الثُّقب الأسود الذي ينمو داخله ويلتهم روحه في جشع لكنه لم يصرِّح به لتطرحه مُنى، وتعيده مرَّة تلو الأخرى وتنتظر جوابًا يمنحها الرَّاحة، أو يشفى غليلها ويطفئ بركانها الثَّائر؛ فتخلَّف عنها أمجد وخذلها أيضًا، تركها وحيدة مُنهارة تجترّ آلامها وحدها، ونزل يهيم على وجهه في شوارع شبرا الباردة التي تكاد تخلو من روادها في منتصف الليل، علَّ المطر يخمد ثورة ونيرانًا إن تحررت لأحرقت الأخضر واليابس فقد تمزَّقت نياط قلبه والتهمت روحُه، أصبح خاويًا بلا روح وتائهًا، وقد نسى مُنى وألمها تمامًا.
حين عاد لمنزله أخيرًا وجدها ساكنة في نفس الوضع الجنيني متدثرة بخيبتها لكن تحيطها بركة من الدماء، حاول أن يوقف نزيفها، يوقظها، لكن قد فارقت روحها جسدها لتجد راحتها أخيرًا وتتركه وحيدًا كما تركها، ولكنها رحلت مع راحته وأمانه فلا راحة له بعد الآن.
كان يجاهد ليلتقط أنفاسَه وكاد قلبه يتوقَّف، حملها فتخضَّبت ملابسه بدمائها، ضمها في حضنه وهو يبكي وينتحب فقد فَقَدَ أمله وروحه اليوم، ظلّ يصرخ ويناديها لعلها تستفيق من سُباتِها لكنها أصبحت جثَّة خالية من الحياة، نظر حوله في تخبُّط من لا يعلم كيف التَّصرُّف، وجد هاتفه فطلب صديقه الوحيد أدهم.
- أدهم، لقد قتلتُ مُنى .
قالها والنِّيران تشتعل في صدره لتحرق الكلمات فلا يجد لها صدىٰ.
- اهدأ يا أمجد، لا أفهم ما تقول؟
- أقول إني قد قتلتُ مُنى، وها هي بين أحضاني غارقة في دمائها، لا تستجيب لنداءاتي ولا تأبه لدموعي وصرخاتي.
- ماذا تقول؟ سأرسل لك الإسعاف حالًا، وسآتي على الفور.
جلس القرفصاء وهو يضع يده فوق رأسه وظهره للخزانة، يتفحَّص جثة زوجتِه وبقعة الدِّماء التي تتزايد حولها بينما ينهشه الندم والقهر، فإن لم يتركها لتمكَّن من إنقاذها.
أنهى أدهم المكالمة متخبِّطًا لا يعلم ما حدث ولا كيفية التصرُّف، لا يدرى، أحقيقي ما سمعه أم إنَّه يتوَّهم؟!
لكن لم تمنعه عاصفة أفكاره من التصرُّف؛ فأجرى اتصالًا بالكنيسة والشرطة والإسعاف للتوجُّه لمنزل أمجد صديقه.
المنزل يعجُّ بالعديد من الأشخاص، شرطة، مسعفون، قس وراهبة من الكنيسة، وكذلك الجيران تجمَّعوا أمام الشقَّة، يتعجَّبون مما حدث وتزيد الهمهمات حول الزَّوج الذي تخلَّص من زوجته لخسارته عمله، كالعادة أسرع ما ينتشر هي الشائعات والتي تُبنى على حقيقة واحدة ومئات الافتراءات، ليخرج لهم أدهم ليدفع تهمة عن صديقه لم توجه له ويطلب من الجيران أن يدعو لها بالرَّحمة ولزوجها بالصبر بعدما ماتت جرَّاء الإجهاض الذي تعرَّضت له فجأة؛ لتخرَس الألسنة على الأقل في العلن، أمَّا الخفاء فلا يستطيع أحد التَّحكُّم به أو السَّيطرة عليه، وتركهم يتحسَّرون على شبابها تارة ويدعون لها تارة واتَّجه لصديقه الذي وقع في جُبِّ الانهيار وانفصل عن عالمه تمامًا.
- أمجد، لقد انتهى الطبيب من تصريح الدَّفن، لقد ماتت جرَّاء نزيفٍ حادٍ بسبب الإجهاض، وقد تناولت الدَّواء دون أن تنتبه للمضاعفات، كأنها أرادت أن تموت.
نظر له أمجد كأنه شبح؛ فكل ما حوله ضبابي، تجهَّم وجهه وتغيَّرت ملامحه، وعلت نبرة صوته وهو يقول:
-لا، لم تُرد الموت يومًا فهي مُحبَّة للحياة، بل أنا من قتلها بإهمالي وعدم مبالاتي، أنا من دفعها للاستسلام؛ فقد تركتها وحيدة فريسة ألمها ويأسِها وضعفِها تنازع الحياة.
حاول أدهم والمسعفون تهدئته لكنه أبىٰ أن يُنصت لهم، وظل يتكلَّم عن كونه قاتل زوجته، فتحرَّك نحوه القس وهو يربِّت على ظهره ليبُث الطمأنينة في نفسه ويهدأ، وقال له:
- إن زوجتك تنعم في الملكوت بجوار يسوع حيث يتغمَّدها برحمته وحنانه، وقد باركتها.
أنهى كلماته بابتسامة ودودة، فقابله أمجد بكثير من الامتعاض وثورة لا يستطيع أحد كبتها :
- يسوع! أين كان يسوع عندما أُجهض حُلمها؟!
ملكوت ونعيم! أي نعيم وهو يتركنا نحيا الجحيم على الأرض؟!
خمس سنوات ونحن نحاول الإنجاب، وحينما يحدث المُراد يموت قبل أن يُولد، أو حتى نعلم بوجوده، يسوع هو من قتلها حينما ضنَّ عليها بطفلٍ تتمناه من الدنيا! حينما حرمنا من تكوين أسرة صغيرة، حتى السعادة المؤقتة حُرمنا مِنها!
هل يستطيع أحد أن يخبرني، أين العدل؟ لماذا يحدث كل هذا معنا؟ ماذا فعلت مُنى لتستحق مصيرًا كهذا؟
- إن الله يسامحك يا بني.
كانت تلك آخر كلمات سمعها أمجد قبل أن يغِط في سُباتٍ عميق إثر حقنة مخدرة حقنوه بها ليهدأ قليلًا.
ها قد ودَّع الإنسانة الوحيدة التي أحبَّها وسكن إليها في قُدَّاس بسيط ضمّ عددًا من أصدقائه، بينهم أدهم ووالده الذي أتى خصِّيصًا من أسيوط ليكون بجوار صديق ولده.
أقدَرُه أن يودِّع أحبَابَه وأن يخوض غمار الحياة وحيدًا؟
تشابهت السَّاعات والأيام؛ فلم يعد إلى عمله، ولم يخرج من بيته، ظلَّ مستلقيًا مكانه، منتظرًا الموت ليظفر به ويريحه لكن لم تُكتب له الرَّاحة بعد، في طفولته حُكم عليه أن يشهد موت أخته، بل ويصبح مسؤولًا عن موتها، منبوذًا مكروهًا من أقرب النَّاس إليه، وكذلك موت أخيه الكبير وأمه قبل أن ينتقل مع والده للقاهرة ويعيش وحيدًا.
صرخ عندما راودته أفكاره وأحكمت مشاعره قبضتها حول روحه
- أنا الموت، من يقترن بي يموت!
طُرقات الباب انتزعته من أفكاره السَّوداء، إنه أدهم الذي لم يكف عن زيارته ومواساته، دخل أدهم الشَّقَّة الصَّغيرة -التي كانت يوما جنَّة- وعلامات التقزُّز تظهر على وجهِه وهو ينظر حوله؛ فقد أصبحت الشَّقَّة بوضعٍ مزرٍ، المكان متسخٌ للغاية ولا شيء بمكانه، واضحٌ أيضًا أن أمجد لا يهتم بنظافته الشَّخصية فقد أصبحت رائحته لا تطاق، فحمله مُكرهًا ليحمِّمه ويحلق شعره ويهذِّب لحيته.
- أنا أنتظر الموت فلا داعي لكل هذا، وفِّر تعبك ومجهودك لمن يرغب بالحياة.
- أنت لم تمت، ما زلت حيًّا تُرزق وتتنفس، وينتظرك عملك وأصدقاؤك فدع عنك اليأس.
- لا أحد يحتاجني، لطالما كنت وحيدًا، اقتلني لأرتاح فأنا أجبن من أن أُنهي حياتي.
- أنت ضعيف، لطالما كنت كذلك فمع أول مشكلة تسيطر عليك تتركها لتتفاقم وتتخذ ركنًا قصيًّا تشفق فيه على ذاتك، لا أعلم أتنتظر شفقة أحد أم ترضي نفسك لتبرر ضعفك وخنوعك؟
- ضعيف! لقد تحمَّلت ما يفوق قدرتي وتحمَّلت ذنوبًا لم أقترفها، كنت أخًا وأبًا لأختي الصغيرة، كنت أحميها مما يحدث في دارنا، وحين حاولت أن أرفِّه عنها وعن نفسي غرقت، كدت أغرقُ أنا الآخر لكنك أنقذتَني من براثن الموت، وليتك ما فعلت، لربما كانت مُنى على قيد الحياة الآن! ألم أقل لك إني الموت، ابتعد عنِّي قبل أن تصيبك لعنتي!
- إن اللعنة الوحيدة هنا هي رائحتك، الرَّب قد رحم مُنى من تلك الرَّائحة.
قال جملته وهو يضحك بغية تلطيف الأجواء بعدما احتدم بينهما النِّقاش؛ لينهار أمجد باكيًا وهو يدفن رأسه في صدر صديقه الذي ضمَّه أكثر وأخذ بالبُكاء.
مرَّت ساعات وهو نائم متدثِّر في سرير أدهم؛ فقد أخذه لمنزله حتى لا يتركه للذكريات تفتك به، وبعد عدَّة أيَّام بدأ يستعيد رباطة جأشِه...
أثناء تناولهما الإفطار نظر أمجد لأدهم نظرة مليئة بالامتنان والعرفان، وقال:
- أنا مُمتنُّ لك على كل ما فعلت لأجلي ومعي، فقد كنت لي خير أخٍ وصديق.
- ممتن! أنت صديقي الوحيد وأخي الذي لم تلده أمي، ثم ما الجديد؟! طالما وقعت بالمشكلات وكنتُ منقذك الأمين، أتذكُر.
- تنقذني! ما زلت مخادعًا كما كنت، دائمًا ما تحرِّضني على ارتكاب المصائب وتشجِّعني، وأتهوَّر أنا وعندما يمسِكون بي تتركني أتلقَّى العقاب وحيدًا، ثم تأتي لي بعلبة عصير أو حلوى مسروقة.
- أرأيت إني لم أنسك وكنت أفضِّلك على نفسي! لتعلم أني طيب القلب.
ضحكا سويًّا بصوتٍ مسموع وهما يخوضان غمار ذكريات طفولتهما، كانت تلك المرة الأولى التي يضحك فيها أمجد منذ وفاة زوجته.
- طالما كنت مندفعًا يا أمجد والفضول يقودك حيث يريد، وكنت أنا هذا الفضول.
- ليتنا لم نكبر.
- أنت من كان يتمنَّىٰ أن يكبر ليخلق حياة يرضاها، وها أنت أيضا تبكي أطلال الطفولة! دعك من كل هذا، فأنا أريد أن أقترح عليك اقتراحًا متأكد أنه سينال إعجابك.
- كلِّي آذانٌ صاغية.
- ما رأيك أن تأتي معي إلى أسيوط لنقضي رأس السنة مع الأهل والأقارب، فأنت لم تزرها منذ كنت طفلًا، وأيضًا قد أخبرني والدي ألَّا آتي بدونك وإلَّا سأُحرم من الوليمة التي تعدها زوجته.
- أقدِّر طلبك هذا لكن التوقيت غير مناسب يا صديقي؛ فليست حالتي النفسية تسمح بالاختلاط بالبشر، ولا عملي يسمح أن أتركه أكثر من ذلك.
- بخصوص اختلاطك بالبشر فهو ضروري للخروج من محنتك تلك، أما عملك فتستطيع أن تقدِّم طلبًا على مأمورية لتكتب تحقيقًا صحفيًّا حول بيت الألمان، أنسيته!
ذلك البيت الموجود في الأرض الشرقيَّة بقريتنا، لطالما أفصحت عن رغبتك في إجراء هذا التَّحقيق وتقصي الأساطير المنسوجة حوله.
ابتسم أمجد وقال :
- واضح أنك أعددت العدَّة لكل شيء، حسنًا موافق، ولكن علي أن أعود لشقَّتي لأسقي نباتاتي أولًا، ثم أحضر حقيبتي وأوراقي وأذهب للعمل لإقناع مديري بالمأمورية.
- حسنًا اتفقنا، موعدنا بعد غد، بالساعة الثامنة صباحًا في محطَّة قطار رمسيس.
ودَّعه أمجد بعدما شكره وعاد لمنزله، كان يخشى لأول مرَّة عودته لمنزله بعدما كان ملاذه الآمن لكنه اكتشف أن الملاذ هو الرَّفيق والشريك لا المنزل.
دلف إلى شقَّته الصَّغيرة التي كان يراها واسعة رحبة كسعة الكون، ولكنها الآن ضيِّقة مظلمة كئيبة، تطلَّع لكل ركنٍ بها اشتياقًا لخليلته وبحثًا عن طيفِها، تطلَّع إلى نباتاتِه الذَّابلة التي كانت تشعره بالأمل في أشد لحظات يأسِه، لقد ماتت هي الأخرى ككُلِّ شيءٍ حوله؛ فتذكَّر موت حبيبته بين يديه وتمزَّقت نياط قلبه.
عاد لغرفته وسريره، ارتمى فوق فراشه المعطَّر بدمائها الطَّاهرة فوقع فريسة للنوم لتقتنصه الأحلام من جديد.
يسير في دروب متعرِّجة، أزِقَّة خالية من أهلها ليلًا، ضيِّقة، خانقة، يشعر بنفسه كما الغريق يلهث ليلتقط أنفاسه، تقترب منه ظلال شبحيَّة، يحاول الهرب منها لكنه لا يتحرَّك، يتعرق بشدة، تزداد دقات قلبه وتلك الظِّلال مستمرَّة في الاقتراب والصَّوت الرَّهيب لخدش الجدران ينهش روحه
"لقد اقترب يوم البعث، وسيغدو العالم ملكنا مرة أخرى"
كان الصوت يتردد من مئات الحناجر القادمة من الجحيم، والظِّلال تقترب وتمتد مخالبها إليه لينكمش على نفسه ويدفن وجهَه بيديه، ليختفي الصَّوت فجأة، فيفتح عينيه بتوجُّس، ينظر حوله فيجد جدرانًا بيضاء تحيطه ومنبر في أقصى اليمين يجلس أسفله رجل يرتدي عباءة بيضاء وعمة خضراء عظيمة البناء، لحيته طويلة وحول رقبته العديد من (السِّبح) يشبه في هيئته مجاذيب السيِّدة، وتحيطه هالة غريبة من النُّور تُضفي على مظهره وقارًا.
اقترب منه وسأله :
- أين أنا؟ وكيف جئت إلى هنا؟ ومن أنت؟
- الأسماء ليست ذات أهميَّة هنا، ابحث عن الخاتم يا أمجد وستعلم حقيقتك.
شدّ كف أمجد نحوه، ووضع به شيئًا لم يتبينه في البداية، ثم أغلق كفه بشدة وقال:
- سيرشدك للكتاب، احفظه بعيدًا عنهم.
- من هم؟ ولِماذا أنا؟
كان يبتعد رغمًا عنه وتتلاشى الموجودات حوله رويدًا، فتح يده فوجد خاتمًا ذا حجرٍ فيروزي مُشِع لم ير له مثيلًا من قبل، حاول أن يضعه بإصبعه لكنه اختفى كأنَّه سراب، تلفَّت يمينًا ويسارًا بحثًا عنه ولم يجده.
أخرجه من حلمه رنين المنبِّه المتتالي ليوقظه، فانتفض من سباته يدوِّن حلمَه الغريب كما يفعل مؤخَّرًا ليجد رابطًا أو حلًّا ينهي مأساته تلك مع الكوابيس، فلا راحة نهارًا أو ليلًا؛ ففي النهار يحيا وحيدًا بواقع مزرٍ، وفي الليل تقتنص الكوابيس راحة باله.
في عمله، قدَّم فكرة التَّحقيق الصَّحفي عن بيت الألمان لمديره كمال، في البداية رفض الأمر وعارضه بشدة؛ فقدم أمجد استقالته وأبدى رغبته بالالتحاق بجريدة الهدف والتي أصبح المعلنون يتَّجهون إليها ويرعونها لتبنِّيها قضايا غريبة ومثيرة، قضايا تهتمُّ بها فئة كبيرة من الشباب؛ مما جعل كمال يتراجع عن رفضه ولم يقبل الاستقالة، ومنحه مهلةً قصيرة حتى يجري التحقيق ويسلمه إياه.
في تلك الأثناء كانت كاميليا تتحضر لجولتها بقصر أليكسان باشا، فهي مرشدة سياحيَّة وتهوىٰ التَّاريخ.
تعالىٰ رنين هاتفها بمكالمة من رقم غير مسجل بقائمة اتصالاتها.
- ألو، كاميليا الحفني، أهلًا بعالمة الآثار الكبيرة.
- من المتحدث؟
- أنسيتِ صوتي بتلك السرعة!
*أدهم بولُوس، كيف أنساك يا صديقي العزيز؟! وأين كنت طوال تلك الفترة؟
أنت غائب منذ شهر تقريبًا.
- ألم أخبركِ أن زوجة أمجد قد توفيت، انشغلت به قليلًا. آسف
- لا بأس عليك، وكيف حاله الآن؟
- ليس بأفضل حال، أخبريني كيف حالك، ألم تفتقديني؟ وكيف لم تعرفي أنِّي المتَّصل؟ هل حذفتِ رقمي؟
- لا طبعًا، ولكن يبدو أن هناك خللًا ما بهاتفي؛ فكل الأرقام تظهر بدون اسم اليوم ولم أكترث.
- حسنًا، عليك أن تكفِّري عن ذنبك بأن تدعيني على الغداء أو العشاء المهم هو أني مدعو.
- موافقة جدًا، حدِّد اليوم والمكان.
- إن لم يكن لديكِ مانع فلنجعل موعدنا الخميس، وقبل أن أنسى، لن أكون وحدي، سيأتي معي أمجد، وسأرسل لكِ التفاصيل في رسالة.
- حسنًا، على موعدنا.
أنهت المكالمة والإبتسامة تنير وجهها الملائكي وشعرها يداعبه الهواء البارد لتضع يدها داخل معطفها الوثير ترتجي منه الدِّفء، ودخلت القصر وبدأت جولتها المعتادة فبجانب حبِّها للتاريخ تعشق هذا البيت الأثري بشكل كبير؛ فهو تحفة معماريَّة بني لمحامي ناجح عصامي سنة1910 وقد اختارت موقعه زوجته "فاروزة ويصا" على الضِّفَّة الغربية للنيل بأسيوط موقع فريد لأسرة عريقة ناجحة صُمِّم القصر على الطِّراز الإغريقي الأمر الذي أدهش الملك فؤاد أثناء رحلته النيلية في أسيوط ليفتتح عدة مشاريع قومية فنزل بالقصر ومنح لإليكسان لقب الباشاوية ثم تحوَّل القصر لمتحف قومي بأسيوط في عام 2008 في عهد اللواء نبيل العزبي محافظ أسيوط الأسبق.
لذا كانت فخورة به وشغوفة كذلك فترى بين جدرانه حياة كاملة.
عاد أمجد لمنزله وقد قرَّر البحث عن معنى أحلامه المتكرِّرة والمفزعة فقد حرمته النَّوم والرَّاحة، بدأ بالبحث عبر هاتفه ومحرِّك البحث الأشهر والأسرع لكن لم تكن النتائج التي يقرؤها ترضيه؛ فهي قريبة ممَا يحدث معه لكن لا صلة تربطها به، شعر بالغضب وألقى بهاتفه بعيدًا، ثم انتبه لرنينه المُلِحّ فإذا به أدهم يذكِّره بموعدهما في الصباح، ويحثُّه على التمتُّع بقسط وافر من النوم فرحلتهما طويلة غدًا.
أغلق هاتفه وقد تلاشى غضبه، وبدأ بتحضير حقيبته وأغراضه من كتب وأوراق قد يحتاجها لإجراء تحقيقه عن بيت الألمان، وفي أثناء عبثه بأدراج مكتبه وجد علبة مخملية زرقاء، راوده إحساس أنها لمُنى فهو لا يتذكر شراءها أو إنه رآها يومًا، أخذ يتحسس العُلبة ليتلمَّس عبق حضورها ودفء قربها فهو يشتاق لها وينتظرها.
فتح العلبة وشبح ابتسامة يزيِّن وجهَه قبل أن يعود لعبوسه من جديد بسرعة وقد ألقى العُلبة وشَهق بفزع مما يراه، صدره يعلو ويهبط والعرق يغزو وجهه كمن يتعرض لأزمة قلبية، فظل يردد صلوات لم يرددها منذ فترة طويلة ويرسم علامة الصليب على صدره.
- إنَّه الخاتم! كيف جاء إلى هنا؟ ومن أتى به؟ ألم يكن حلمًا؟!
نظر حوله في ريبةٍ وخوف، أغمض عينيه وأمسك برأسه متألِّمًا من نوبة الصُّداع النِّصفي التي هاجمته بغتة، ثم أعاد الخاتم لعلبته ووضعه بالدرج وأغلقه، وقد قرَّر عدم النَّوم في هذا المنزل مرة أخرى.
ظل مستيقظًا طوال الليل وعيناه معلَّقتان صوب الدُّرج المغلق، وكأنه يخشى خروج الخاتم.
حين أشرقت الشَّمس غادر أمجد المنزل مسرعًا -دون أن ينظر خلفه- متَّجهًا إلى محطة رمسيس، وفي القطار شعر أدهم بصديقه وقد وشت به ملامحه الحادة الدَّقيقة إذ برزت عيناه واحمرَّت مقلتاه، وغزت الهالات السَّوداء جفونه، فقال له :
- ألم تنم ليلة أمس؟
- لم أذق طعم النَّوم أو الرَّاحة طوال الليل؛ فقد مررت بأسوأ ليلة في حياتي.
- هاجمتك الكوابيس مرَّة أخرى! عموما متوقَّعٌ أن تمر بكل هذا في أول ليلة لك بالبيت بعد وفاة مُنى وغيابك عنه فترة.
- لا يا أدهم، إن الكوابيس أصبحت تهاجم واقعي، فلم أعد أعرف متى أحلُم؟
فالحلم والواقع أصبحا متداخلين.
ليلة أمس حلمتُ بأشباح وشيخ داخل مسجد، أعطاني خاتمًا وأخبرني أنه سوف يرشدني لكتاب لا أعلم ماهيته ولِم سأبحث عنه، وعندما استيقظت وجدت الخاتم بين أغراضي.
- هذا ما كنت أخشاه، لقد جُنِنت بالفعل، شيخ، وخاتم يخرج من الحلم، لقد أصبحت في مرحلة خطرة.
أنهى كلماته وظل يضحك بينما أمجد يستشيط غضبًا، وقد أثار حفيظته فخرجت الكلمات منه بنبرة عالية حادة وعنيفة:
- ما المضحك في كلامي أم إن مشاكلي تسلِّيك لتلك الدرجة التي جعلتك تضحك بشدة وتستهزئ بألمي وخوفي الذي يلتهم روحي؟!
*اهدأ يا صديقي، لم ولن أجرؤ على أن أستهزئ بك، أنت تعلم أني أشعر بك وبألمِك لكنِّي أحاول أن أخفِّف عنك وطأة ما تشعر وتمر به، أنا لا أسفِّه من أمرك أبدًا، أريد أن أخبرك أن هناك تفسيرًا منطقيًّا لما يحدث دائمًا، فقد تكون مُنى أتت على ذكر الخاتم لك وأرادت أن تفاجئك به ولم يسعفها القدر أن تكمل مفاجأتها، وهيأ لك عقلك الباطن الفكرة بشكل حلم أو كابوس خصوصًا وأنت في تلك الحالة النفسيَّة السيئة، أعتذر لك عن سخافتي معك.
لانت ملامح أمجد قليلًا بعد كلام أدهم لكنه ظل محتفظًا بصمته وأرجع رأسه للخلف ونظر للخارج، ثم أغمض عينيه مستسلمًا للنوم؛ تفهَّم أدهم حاجته للاسترخاء والرَّاحة فوضع السَّمَّاعات بأذنيه يستمع لأغانيه المفضَّلة، وظل يتابع زخَّات المطر في الخارج والتي تعزف لحنها الخاص على نوافذ القطار مشكِّلة مع صوت القطار نفسه لحنًا شاذًا مزعجًا.
أمجد شخص جاد، لا يهوى المزاح، حاد الملامح والطِّباع لكنه صديق مخلص ومجتهد وناجح في عمله على عكس أدهم الوسيم المهندم، المحبّ للموضة وهو خفيف الظِّل، رياضي ممشوق القوام، ورغم طيبة قلبه ورقَّة مشاعره إلا إنه يغلِّف مشاعره بالجمود والقسوة والمزاح.
النوم أصبح هوَّة سحيقة تسقط بها روح أمجد كلما أغمض عينيه، إذ يداهمه حلمٌ جديد غير مفهوم فيرى ملاك بمرحها المعهود وخفَّة ظلها وبراءتها الطُّفوليَّة تجري معه وتلعب وهي ترتدي فستانها الأخضر، وتتدلى من عنقها قلادة نهايتها على شكل دائرة مرصَّعة بالأحجار الكريمة، وتجري وراء الفراشات بحقل واسع، تنظر له بعينيها اللامعتين ببريق الحياة، تتحدث إليه لكنه لا يسمعها، ينادي عليها فترفع صوتها وتتمهَّل لكنها لا توليه اهتمامًا، ما زالت تجري وتلعب. ظل يجري وراءها محاولًا اللحاق بها حتى وجد نفسه أمام بوابة حديديَّة، إنَّه يعرفها جيِّدًا إنها بوابة بيت الألمان وقد اختفت داخله، نادى عليها حتى بحَّ صوته ولم يعد هو نفسه يسمعه، أخذ بهزِّ البوَّابة وضربِها علَّها تُفتح لكنها أبت أن تنصاع له.
فجأة خرج منها شخصٌ غريب الهيئة، ذو زيٍّ فرعونيّ، يحمل كتابًا ويتَّجه نحو التُّرعة لكنها ليست تُرعة، فهي أقرب للنهر الجاري، وضع به ذلك الشَّخص غريب الهيئة شيئًا ما لم يره أمجد؛ فاقترب ينظر لصفحة المياه فوقع بالنهر، كاد يغرق فهو يهابُ المياه ولا يستطع السِّباحة مهما كانت المياه ضحلة، وقبل أن يستقر في القاع رآها، ملاك هي من دفعته.
شهق شهقة العائد من الموت وهو يمسك رقبته ويلتقط أنفاسه وينظر حوله بفزع، فالتقت عيناه بوجه طفلة تنظر له بخوف وهي تتعلق برقبة والدتها، تفحص مكانه ليجد نفسه ما زال بالقطار، فعدَّل هندامه وجلسته، ونظر خارج النَّافذة يتابع الأشجار المتلاحقة حتى قطع خلوته أدهم :
- ها قد استيقظت أخيرًا، كيف حالك الآن؟
- الحمد لله، أشعر بتحسُّن رغم أني قد رأيت كابوسًا آخر. كم مرّ من الوقت؟ وهل اقتربنا من وجهتنا؟
- نعم اقتربنا، وقد إتَّصلت بوالدي وهو في طريقه الآن إلى المحطة ليقِلَّنا، لا تقلق.
كان لقاء أهل أدهم دافئًا، ورحَّبوا به أيَّما ترحيب، بابتسامة تبادل السَّلام والأخبار مع كل أفراد العائلة الذين أتوا مرحِّبين ومعزِّين، ثم دعوه لمأدبة أعدتها زوجة أبو أدهم والتي بمنزلة والدته؛ فقد ربَّته صغيرًا بعد حادث أمه.
شرد أمجد كثيرًا في طفولته وافتقاده لحنان ودفء الأسرة، لتخرجه من شروده أم أدهم وهى تحثُّه على تناول الطعام وألَّا يخجل من طلب المزيد، فهي قد أعدَّت وليمة مما لذّ وطاب من كل صنوف الطَّعام الذي يحبُّه بعدما علمت ما يشتهيه من أدهم، وبعد تناول الطَّعام خرجا لفناء البيت ليستمتعا بنسيم الهواء رغم برودة الجو إلَّا إن ركية الشاي منحت الجو بعض الدِّفء، وقد انضمّ إليهما أبو أدهم يتسامرُ معهما عن ذكريات طفولتهما المليئة بالمواقف المضحكة، ورغم ذلك استشرى الألم في جنبات أمجد وظهر جليًّا على صفحة وجهِه ليراها كلٌّ من أدهم ووالده.
- سمعت يا والدي أن لك قصة في بيت الألمان، احك لنا عن مغامرتِك.
قالها أدهم؛ ليخرج أمجد من شروده ودوَّامة الذِّكريات.
تلاشت ابتسامة أبي أدهم عند ذِكر ذلك البيت الملعون وتلك الذِّكرى المؤلمة له، ولكنه أخذ نفسًا عميقًا وحاول جاهدًا أن يتماسك حتى تخرج الكلمات قويَّة مترابطة .
- كما تعلمان، هناك الكثير من الحكايات والأساطير حول البيت والأرض المحيطة به، ولكن عليكما أن تعرفا أن الأساطير حكايات مغزولة من الواقع والخيال، الحقيقة بينهما واضحة وضوح الشمس في كبد السماء لمن يملك البصيرة. لقد كنت يومًا بطل إحدى تلك الحكايات لكني لست بطلًا شجاعًا كأبطال الأفلام لا يهابُ شيئًا، يفوز دائمًا بقلب البطلة ويهزم الأشرار. كنت بطلًا من نوعٍ آخر؛ النوع الذي تحرِّكه الأحداث وتلعب به الصُّدف كبيدق في لعبة شطرنج، والمرعب في الأمر أنِّي رأيت حقيقتي عارية في هذا البيت، رأيت ضعفي وخوفي وقلَّة حيلتي، ولتعلما أن الحكايات كانت تُروى عن الأرض والتُّرعة قبل بناء البيت بزمن طويل؛ فعندما كنت صغيرًا في بداية عملي بالحقل مع والدي وأبي وأعمامي كنَّا نعمل منذ الشُّروق حتى غروب الشمس، وبكل يوم عندما تقترب الشَّمس من الأفق ويتحوَّل لونها للَّون البرتقالي المميَّز يرتفع صوت جدي بالنِّداء بوجوب الرَّحيل، كان الكُلُّ ينصاع لأوامره الكبير قبل الصغير لكن في إحدى المرَّات كُنَّا نجني محصول الأرض لتسليمه للحكومة؛ فقد كانت الحكومة في تلك الفترة تأخذ (طرح الأرض) من الفلاحين بالإجبار، ولم ننته يومها من حصاد المحصول كلّه وقد أدركنا غروب الشمس ليأمرنا جدي بأن نترك ما بأيدينا ونعود لبيوتنا؛ فاعترضت على الرحيل لأنَّ ما تبقَّي ليس بالكثير وقد ننتهي منه في غضون ساعة زمن، إلا إنَّ والدي لم يمهلني للشرح، ولطمني على وجهي، كانت تلك المرة الأولى التي يلطم وجهي فيها، تمنَّيت وقتها أن تنشق الأرض وتبتلعني خجلًا.
بكيت كثيرًا فنهرني؛ لأن الرِّجال لا يبكون وأنه لم ينجب فتاة منتحبة، وعند عودتنا اخترتُ مكانًا قصيًّا بالبيت أجلس فيه وحيدًا حتى نادى عليَّ جدِّي، فخرجت وإياه في فناء البيت لنتكلم كما نفعل نحن الآن، وأخبرني وقتها أنَّنا لسنا سُكَّان الأرض الوحيدين فلنا شركاء ووقتهم يبدأ عند الغروب، وأنَّ من يخالف العُرف يُختطف ولا نراه مرَّة أخرى.
يتبع...