من كان يصدّق أنّ ابني مراد هو مريدي مدى الحياتي؟! هو نديمي وخليلي وصديقي وابني الغالي.
أفكّر في مشروعه على مستوى الدولة كلّها، (الريّ بالتنقيط)، بل الزراعة كلّها والإنتاج الزراعيّ بالتنقيط.
في بدايات حديثه كنتُ أستهجن فكرتَهُ هذه، ثمّ بعد مدّة، وأثناء حواراتِنا المتواصلة اقتنعتُ قليلًا، ثمّ ازدادت قناعتي بتطبيقه لفكرة الريّ بالتنقيط على حديقة بيتنا الصغيرة، فقد استطاع أن يبهرنا ويبهر كلّ زائر لنا باخضرار المزروعات على نحوٍ رائع الجمال، وبالزهور الغزيرة، ثمّ بالثمار الكبيرة حجماً والشهيّة مذاقًا، فغيّرتُ فكرتي عن حقيقة المشروع، حتّى صار مشروعه مشروعي.
في دراسته كان يأتي ليسألني، ويقول لي: (لا أثق بمعلومات أحد غيركَ يا أبي). كانت تأتيني بعض نوبات من الغرور، ثمّ أنتبه إلى نفسي، فما أنا إلّا رجل بسيط، صحيح أنّني أتحرّى الدّقّة في معلوماتي، ولكن من يدري؟ فالعلوم والمعارف كلّ يوم تتطوّر، وكذلك الآداب وحتّى الذائقة الأدبيّة تتغيّر.
وعندما دخل المرحلة الثانويّة عبّرتُ له بكلّ صراحة عن انسحابي من تعليمه، وحوّلنا معًا طريقة التعليم من تلقين إلى نقاش وحوار، وكم كان يسعدني أن أقرأ وأتوسّع في كتب أخرى غير دراسيّة لنغني حواراتِنا.
كانت أمّه الغالية هي مبعث الطمأنينة لأهل البيت جميعًا، فعادل ابني البكر لم يكن عادلًا دومًا، بل كان يهرب من المواجهة في النقاشات في أيّ أمر من الأمور، وكان يشعرني – دونَ أن يدري – بأنّني ظالمٌ أو عنيد. وما كان قصدي سوى توجيهه نحوَ الصواب.
وكانت أميرتي تأتيني وتقول لي دائماً:
- يا أبا عادل، دعهُ، فالأيّام تعلّمه، وتجاربه في الحياة أكبر مدرسة له.
- هذا صحيح، ولكن...
- أنتَ انتبه لنفسك، ودعِ الخلقَ للخالق.
كنتُ أضحكُ من هذا المفهوم، فما هو دورنا نحن الآباء إذا لم نقم بتوجيه أولادنا؟! ثمّ أتذكّرُ أنّه قد تجاوز العشرين من العمر، ولم تعد تنفع معه النصائح، ولا التوجيهات، لا المباشرة ولا غير المباشرة.
ولكن ولدي (مراد) كان حقًّا إنسانًا آخر، فمنذ صغره كان له طبع آخر، فهو يتقبّل النصيحة منّي مهما كانت قاسية، بل يستمع إليَّ بإنصات شديد حتّى ولو كنتُ غير دقيق في كلامي، وبعد أن أنتهي من حديثي يأتي إليَّ ليقبّل يديَّ، ثمّ يعدني بالخير، ثمّ ينصرف.
هذا ما كنتُ أراهُ منه.
ولكنّه بعد أن حصل على شهادة الهندسة الزراعية، صار كثير الشرود، يجلس معي جسدًا، أمّا روحه وفكره فلا أدري أين هما.
تخرّجَ، وبدأ مشروعه الحُلُم، مشروع الريّ بالتنقيط، وكان يحدّثني عنه كثيرًا شفهيًّا، وأنا أعبّر له عن قناعتي بحلمه، ولكن كنتُ أقول له أيضاً:
- لا تضع أملًا كبيرًا في أن يستجيبوا لكَ ولحلمك.
- لماذا يا أبي؟
- لأنّهم يفكّرون بأنفسهم، بمصالحهم الشخصيّة، ولا يفكّرون بمصلحة الوطن. ومشروعكَ كبير وواسع، ولا فائدة لهم منه في شيء، لأنّه سيفيد أكثر من ثلاثين بالمئة من أبناء وطننا، وربّما وصلت الفائدة إلى تسعين بالمئة.
- يا أبي...
- تلك هي الحقيقة، ولو كانوا يفكّرون بِعُشْرِ ما تفكّر به أنتَ لكان وطننا بألف خير.
- إذنْ، لماذا درسوا؟
وأضحكُ من كلّ قلبي، وأجيبه بعد أن أرشف شيئًا من الماء أو القهوة أو الشاي:
- درسوا ليأخذوا شهادة يحكموننا بها.
- وهل الشهادة حُكْمٌ؟
- نعم، هي عندهم وسيلة يمتطونها للتسلّق إلى مناصب أعلى، هي شهادة إثبات أنّهم حصّلوا علمًا، وما هي بإثبات في شيء.
- ولكن وطننا بحاجة...
يشردُ ذهني، ويذهبُ بعيداً، ولا تصلني من مراد إلّا ذبذبة صوته وهو يتكلّم بهدوء، ثمّ أنتبهُ إلى نفسي، وأتظاهر بالعودة إلى كتاب أمامي على المنضدة، وأترك الحديث لمدّة قد تطول، وهو كعادته يبقى قربي، ثمّ أنفجرُ وأقول:
- آه يا ولدي! وما أحلى هذه العبارة عند بعضنا، وما أقساها عند بعضنا الآخر. (وطننا بحاجة لجهودنا)، هذا صحيح، ولكن مَنْ يفكّر في الوطن؟! لو كنّا نفكّر فيه لما آل مآلنا إلى ما نحن عليه الآن.
يخرج ابني من الغرفة وهو في حالة احتجاج، لستُ أدري على ماذا يحتجُّ، هل على وضع وطننا أم على عباراتي اليائسة التي كثرتْ في الأيّام الأخيرة؟!
ومن جميل فعله أنّه قد اقتنع بنصيحتي، وهي إعداد دراسة دقيقة ومطوّلة عن المشروع، لعلَّ الله يهدي من يهتمُّ بها من المسؤولين.
وقد أنهى منذ أكثر من سنتين دراسة مطوّلة تزيدُ على مئتي صفحة، مع عشرات الجداول الرقمية التي تثبتُ فوائد المشروع، مع كثير من الفيديوهات التي تصوّر سهولة العمل به. وقد قرأتُ أغلب هذا المشروع، ولا سيّما الجداول المتعلّقة بالأرقام والبيانات، وعرفتُ أنّه يوفّر أكثر من 75% من مياه الريّ والسقاية للمزروعات في كلّ الوطن، في وقت نحن نعاني منه من جفاف يزداد يومًا بعد يوم، وتصحّر زاحف، وندرة بالمياه اللازمة للريّ.
ثمّ هو يقدّم مع مشروعه فكرة أن يكون لكلّ شجرة أنبوبٌ من الموادّ التي تعين على التغذية، ويضع أرقامًا مدروسة بعناية شديدة، لكي لا تُتْخَم الشجرة بالمواد التي تفيض عن حاجتها، ولا تبقى في عوز لها.
وكذلك يقترح أن تُضاف موادّ أخرى تعين النباتات التي تحظى بأهمّيّة على مقاومة الأمراض والحشرات، وهذه الموادّ كلّها حيويّة لا كيماويّة.
ثمّ يقترحُ أن تُنقَل كميّات من فضلات المنازل، بعد فرزها ومعالجتها، وطحنها، لتوضع في مناطق شبه صحراويّة، فوق التربة أو الرمال، وتتمُّ زراعة بعض المزروعات المناسبة، مع الريّ الثلاثيّ: الماء، والغذاء، والدواء.
وفي بيانه أنّه لو تفاعل عشرة بالمئة من المواطنين مع فكرة عزل مخلّفات المنازل وفضلاتها، وأولينا هذه الأشياء الأهمّيّة التي تستحقّها، لحصلنا على نتائج مذهلة لم تكن في الحسبان.
ولم ينسَ مخلّفات أسواقِ الخضار والفاكهة، من أوراق خضراء وبعض النفايات من النباتات. وهذه من النفايات المفروزة والجاهزة للعمل، بتخميرها، ثمّ معالجتها، ثمّ تجفيفها وتحويلها إلى أسمدة طبيعية تفيد معظم النباتات.
وكنتُ أدخل في حقول الأرقام لمشروعه، فأسبح في أجوائه ساعات، وأنا أقرأ ثمّ أتأمّل، ثمّ أفكّر... كَمْ أنتَ عظيم يا ابني يا مراد! يا ليتهم يفهمونك على حقيقتك.
هل تعلم؟ لن يفهمكَ على حقيقتك سوى شريكة عمرك. ابحثْ عن شريكة العمر، أرجوك... ألا يكفيكَ حياة العزوبيّة هذه؟! أنا لم تستقرّ حياتي إلّا بعد أن كانت لي أميرة، هي أمّكَ، وهي ما تزال تعيش معي، رغم رحيل جسدها عن عالمنا... رحمكِ الله يا أميرتي، فقد كنتِ الملجأ الحامي عندما تتعثّر بي سُبُلُ الحياة، كانت كلماتُكِ الناعمة الرحيمة تحيط بي وتملؤني عطفًا، فأشعر بأنّني طفل صغير بين يَدَي أمّ عظيمة، وكثيرًا ما كنتُ أحسَبُ نفسي أنّني ابنكِ مثلي مثل عادل ومراد وسعاد ومحسن. وأنا الذي فقدتُ حنان الأمّ منذ أن كنتُ في الخامسة من عمري، عندما توفّيت أمّي كنتُ إلى جانبها في الفراش، فراش مرضها وفراش طفولتي، ما زلتُ أذكر تلك الساعة وكأنّها تحدث اليوم، رغم مضيّ أربعة وستين عامًا على تلك الساعة.
تكلّمتُ مع أمّي، فلم تردّ عليَّ، عاودتُ التكلّم، فلم أجد جوابًا، أمسكتُ يدها فلم تحرّكها، حاولتُ أن أعضّها كي تردَّ عليَّ، لم تحرّك يدها، صحتُ:
- ماما... ماما...
وعلا صوتي أكثر:
- ماما... ردّي عليَّ أرجوكِ... لا تمزحي معي...
وانتبهتْ إلى صراخي أختي الكبرى، التي كانت في المطبخ تعدُّ الطعام، جاءت على عجل، قرّبَتْ وجهها من وجهِ أمّي، ثمّ قبّلتها، والدموع تغسل وجهها، ثمّ حملتني وقبّلتني، وغطّتْ وجه أمّي وطلبتْ منّي أن أغادر الفراش.
ومن يومها قالوا لي: أمّكَ ذهبتْ إلى الجنّة... رحمكِ الله يا أمّي، ما زال حنانُكِ مستقرًّا في فؤادي، ما زال حنانكِ كاملًا لم ينقص منه شيء، بل أنا متأكّد أنّه يزداد.
ولم يعوّضني عن حنان الوالدة سوى حنان أميرتي، أمّ عادل، تلك السيّدة العظيمة التي كانت تبتسم أمامنا ولا تفارقها الابتسامة، وتبكي – غالبًا – عندما تضع رأسَها على الوسادة. ولا أعرف إلّا القليل عن أسباب بكائها، وكنتُ أدعُها تُفْرِغُ ما في نفسِها من آلام، ففي البكاء غسيل للهموم، وفرج.
وفي حالات نادرة كنتُ أعترض على بكائها، فتخفيه عنّي بسرعة، وتبتسم، وتجاملني، وتقوم بسرعة تعدّ لنا الشاي أو القهوة، لتكمل بكاءَها في المطبخ، وتهدأُ تمامًا، ثمّ تعود إليَّ وهي باشّة مبتسمة، وتطلب منّي أن أحكي لها نكتة... أجل، نكتة... لأنّها تراني في أحسن حال وأنا أروي لها بعض طرائفي.