Horof

Share to Social Media

أنا حائر... يائس... مُحْبَط...
أليسَ معي الحقّ في أن أكونَ كذلك؟
سأحكي لكم حكايتي... قالوا لي: ادرسْ... درستُ... قالوا لي: تابعْ دراستَك... وتابعتُ دراستي حتّىٰ حصلتُ علىٰ الإجازة الجامعية في (علم النفس والتحليل النفسي)، بدرجة جيّد جداً... وذهبْتُ أطلب عملاً... ثلاث سنوات متتالية، وأنا أتقدّم إلىٰ اختبارات وامتحانات وفحوصات... ولم يحالفني التوفيق بأيّ قبول...
أنظر في جيوبي كلّها في كلّ صباح، فأراها خاوية، تنتظر درهماً يملؤها، ولكنّه يأبىٰ... أمّي تشتهي كثيراً من الأطعمة العاديّة... أشتهي لها ثوباً جديداً... وتكتفي منّي بأن أقولَ لها: عندما أعمل لن أحرمَكِ أيّاً ممّا تشتهين يا أمّي... فتُكثرُ من الدعاءِ لي... المهمّ أنّه لا شيءَ يأتيها منّي...
حبيبتي وشريكة مستقبلي الافتراضيّة، لم أعدْ أراها منذ أكثر من تسعةِ أشهر، فكيفَ أقابلُها وليسَ عندي أيّ بصيص أمل قابل للتحقيق في إمكانيّة بناء بيت الزوجيّة، فلا أساسَ لأيّ ركنٍ فيه... ويعلمُ الله حجم أشواقي إليها، ولكنْ... صحيح أنّها قالت لي في آخر لقاء إنّها مستعدّة أن تنتظرني طويلاً... بل طويلاً جدّاً، وتسكنُ معي في كوخٍ في الجبل، ولكنْ، لماذا أجعلُها تنتظر اللا شيء؟!
ماذا أفعلُ؟ الملل والضّجر يفعلان فعلهما في ساحة عمري الفارغة... أقتربُ من مكتبتي، أُمسكُ بالكتاب لأقرأَ منه صفحات، وبمجرّد قراءتي لكلماتٍ أنفر منه كأنّهُ عدوّي، وأعتبره هو السبب فيما وصلتُ إليه..
يا ليتَني تعلَّمْتُ نفخَ إطارات السيارات وتغييرها، لكنتُ الآن – علىٰ الأقلّ – لي دخل، ولي حُلُم... يا ليتني لم أدرسْ وتعلَّمْتُ صناعة طوب البناء، لكانَ ذلكَ لي أفضل... ربّاهُ! ماذا فَعَلَتْ بي الدراسة؟ وكيفَ أضاعتْ عمري بلا فائدة؟!
  
تنقضي الأيّام والشهور، وألتقي بماجد، وهو زميل قديم للدراسة منذ السنة السابعة، يسألني عن أحوالي، فأتأفّف من أن أجيبه، فهو يعرف إجابتي، فلماذا السؤال؟
يضحك، يقول لي:
- لقد كنتُ مثلكَ تماماً يا حسن... ولكن الآن أعمل...
- وماذا تعمل؟
- لن أقولَ لك... ولكنّني سأرشدُكَ إلىٰ مَنْ نصحني بعملي... ولن أنسىٰ نصيحته وفعلَهُ معي..
- هل تعلم أنَّ نسبة القرف فيكَ كبيرة جداً؟ إنْ لم تقلْ لي مَنْ هوَ فلستَ بصديقي، ولن أعرفَكَ بعد اليوم... مَنْ هوَ؟
- هوِّنْ عليك... ما بِكَ... كنتُ أمازحك...
ثمّ تمالكَ نفسَهُ، وزفرَ زفرةً، وهو يقول:
- الحاج عارف النافع...
- ذاكَ الرجل السِّتينيّ؟
- نَعَمْ... هو...
- وماذا تعمل عندَهُ؟ أقصد: ما هو العمل الذي أمّنَهُ لك؟
- لن أقولَ لكَ...
- يا أخي قُلْ لي أرجوكَ ماذا تعمل؟
- أقول ولكن علىٰ شرط، ألاّ تستهزئ بي وتستحقرني..
- يعني هل هو عمل يثير استهزائي؟ أعِدُكَ، لن أستهزئ، كلّ عملٍ مقدّسٌ عندي ما دامَ يأتيني بدراهمَ حلال.
- عِدْني بذلك..
كِدْتُ أنفجرُ منهُ غضباً، وجهَّزْتُ كلتا يديَّ لأضرب بهما نفسي، رأسي، أيّ شيء منّي... ولكنّني سيطرتُ علىٰ انفعالاتي وقلتُ له:
- أعِدُكَ...
- أنا الآنَ أعتني بأكثر من خمسين رأساً من الأغنام... في القرية المجاورة لبلدتِنا... أربّيها وأعتني بها.
كدْتُ أصرخ في وجهه، لولا أنّني قد تذكّرْتُ أنّه قد أتمَّ دراسته الجامعية وحصل علىٰ إجازة في العلوم الجيولوجية... وأكثر من أربع سنوات وهو يجوب شوارع البلدة ماشياً، ماسحاً أبعادَها، باحثاً عمّن يستضيفه ويقدّم له كأساً من الشاي أو فنجاناً من القهوة، وبعدَ ساعات يُشبع شهوتَهُ في الحديث في موضوع، لا يمسُّ حياتَهُ لا من قريب ولا من بعيد..
ولكنّني علىٰ كلّ حال، تركتُ ماجد دون أن أودّعَهُ من هولِ المفاجأة.
  
كان الشتاء قاسياً عليّ، خصوصاً أنّ الوقودَ قد ارتفع ثمنه، والبرد قد اشتدَّ عليَّ وعلىٰ أسرتي، التي ليسَ لها معيلُ سوىٰ والدي، بعدَ اللهِ تعالى... وفي الريف يكون البردُ أشدّ، وأنا أعيشُ مع أسرتي في بلدة هي ليست بقرية ولا بمدينة، هي بينَ بين..
وبينما أنا أحتسي كأساً من الشاي الدافئ في أخريات أيّام الشتاء، تذكَّرْتُ العمّ عارف النافع... قلتُ في نفسي: غداً سأحاول أن أطرق بابه في موعد لأزوره ذات ليلة..
  
الحاج عارف هٰذا رجلٌ لم يحجّ إلىٰ بيتِ الله، ومع ذلك نناديه في كلّ البلدة بالعمّ عارف أو بالحاج عارف، فيبتسم، ويدعو الله قائلاً: (الله يطعمني الحجّ في العام القادم).
وجدتُهُ أمام منزله يرتّبُ المزروعات، وينحني إلىٰ الأرضِ، ثمّ يقوم ليتنفَّسَ بعمق، ثمّ بعد أكثر من عشر دقائق يعود إلىٰ الانغماس في التراب...
لم يلحظ الحاج عارف نظرتي إليه، التي طالت، فاقتربْتُ منه بسلامٍ حارّ، وإذا به يردُّ عليَّ بسلامٍ أكثر حرارة:
- ما أخبارُكَ يا رجل؟ لماذا لا نراكَ؟ أنتَ غالٍ عليَّ مثلَ أولادي... ووالدُكَ الحاج عمر من خيرة رجال البلدة... ما بِكَ؟ ما أحوالك؟ وكيف حال أبيك؟
أُصِبْتُ بالدهشة لسؤاله الحارّ عنّي وعن والدي، وقلتُ له بصوتٍ خفيض:
- الحمد لله... والدي بخير... بفضل من الله ونِعَم..
وضع يدهُ علىٰ ظهري وهو يقول:
- تعالَ... تعالَ... نشرب الشّاي في أرضِ الحوش...
  
استقباله الحارّ هٰذا دفعني إلىٰ أن أشرح له وضعي بصراحة تامّة، بل أشكو له قهري وضيقي..
ولكنّني عجبْتُ منهُ لأنّ البسمةَ لم تفارق شفتيه... ثمّ وضع كأس الشّاي الفارغة، وقال لي بلسان ممطوط:
- إيه بسيطة... بسيطة جداً...
ثمّ تابع:
- وهل تظنُّهم قد افتتحوا الجامعات من أجل رخاء البلاد؟ لا يا ابني... لقد افتتحوها من أجل لغة الأرقام... والأرقامُ وحدها التي تعنيهم، لا الإنسان...
ثمّ زفرَ زفرةً تنمُّ عن معاناةٍ لا حدودَ لها، ثمّ خرجَ من همّ الوطن وعادَ إلىٰ حديثِنا وهو يقول:
- ما علينا... المهمّ أنّ همَّتَكَ عالية في العمل والنشاط، هٰذا ما أفهمه من شكواكَ أنّكَ بدون عمل.
بادئَ الأمرِ ظنَنْتُ أنّه سيفتحُ لي مدرسةً في بلدتنا... وذلكَ لِما وجدتُهُ من ودٍّ... مسحَ لحيتَهُ القصيرة ثمّ قال لي:
- هل عندَكَ استعداد لكي تشتغلَ بالأغنام أو الأبقار يا ولدي؟
أصابني الدّوار... أليسَ عندَ هٰذا الرجل سوىٰ ذاكَ الاقتراح؟
قلتُ له:
- ومن أينَ لي بالدّراهم لكي أشتريَ؟
قال لي بكلّ برود:
- لا تهتمّ... الأمر مُدبَّر... واللهُ المدبِّرُ، لا أنا..
ثمّ أكَّدَ عليَّ:
- قل لي، هل تشتغل بها أم لا بكلّ صراحةٍ ووضوح، فأنا لا أحبُّ الغموضَ في شيء... انظرْ إلىٰ المزروعات إنّها لا تنبتُ إلاّ في ضوء الشّمس... ونادرةٌ هي أنواعُ النباتات التي تنبت في الظلّ أو الظلام، وعلىٰ كلّ حال هي فطور أو متطفّلة لا أكثر. بينما المزروعات الأصيلة فهي تنبتُ في الضوء، وأمام الناس جميعاً..
أجبتُهُ، وقد تعلَّقْتُ بأملٍ كتعلّق الغريقِ بالقشّة:
- أشتغل... نعمْ أشتغل... وليسَ عندي مانع.
وضعَ يدهُ في يدي وقال:
- علىٰ بركةِ الله...
خلال أقلّ من شهر جمعَ لي من أصحابه ومعارفه مبلغاً يعادلُ ثمنَ أربع بقرات أو ثلاثين خروفاً، بالإضافة إلىٰ تأمين دار متطرّفة تصلح لتربية أحد النَّوعين من المواشي: الأغنام أو الأبقار، مع مكان لحفظ الأعلاف مدّة تزيد علىٰ خمسةَ عشر يوماً.
واشترطَ عليَّ أن أجهِّزَ شهادتي الجامعيّة في إطار، وأن أضعها في صدر الدّار... كما اشترط عليَّ أن أجهّز، وبحجم كبير، صورةً لأبقار وأغنام... علىٰ أن تسرّ الناظرين، وتسرّني أيضاً... أليست نِعَمُ الله ستأتي من هٰذه المخلوقات؟! وأنّ كثيراً من الناس يضعونَ صوراً في مكاتبهم وبيوتهم بل مدنهم، وتكونُ صورُهم لكائناتٍ لا يحبّونها...
صرتُ أتردّدُ علىٰ العمّ عارف النّافع يومياً، بل أحياناً في اليوم الواحد مرّتين، فداره غير بعيدة عن دارنا، والبلدة كلّها صغيرة، تقطعُها من أقصاها إلىٰ أقصاها بأقلّ من نصف ساعةٍ هرولةً، أو مشياً سريعاً.
ضغطَتْ عليَّ عواطفي كثيراً، إذْ وجدْتُ من الواجبِ عليَّ أن ألتقي ولو لمدّة دقائق بشريكة المستقبل، فذهبْتُ إليها، وأنا في وضعٍ مُلَفّح بالخجل. طبعاً هي عرفتْ بأنّني أجهّزُ نفسي لعملي الجديد، بادرتْني بابتسامة، ثمّ بضحكةٍ مشرقة... وقالت لي قبل أن تردَّ عليَّ السلام، ويبدو أنّها قد سمعتْ بمشروع عملي القادم:
- ألم أقلْ لكَ إنّني مستعدّة للعيشِ معكَ في كوخٍ بعيد؟ والآنَ أقولُ لكَ: أعيشُ معكَ ومعَ أغنامك، ويسعدني أن أعتني بها معك...
ليلتها لم أستطعْ أن أنام... هل أنا في حُلُمٍ أم عِلْم، كما يقولون؟ وقرصْتُ نفسي، كما كانت تفعلُ جدّتي، فآلمتْني القرصة، فقلتُ بصوتٍ عالٍ: أنا في علم، أنا في واقع، أمّاهُ أنا في الحقيقة...
جاءتْني أمّي علىٰ عجل، سألتْني ماذا حلّ بي؟ قلتُ لها خبر زهرة، وأنّني خلال أقلّ من خمسة أشهر سأطلب منكِ يا أمّي أن تذهبي لتخطبيها لي، وخلال أقلّ من سنة سيتزوّج ابنُكِ يا أمّي، وستصبحين جدّة.
ضحكتْ ضحكاً لم أَرَها تضحكُهُ منذ أمدٍ بعيد، ولم تستطع أن تمسحَ دموعَ الفرح، فكانت يدي أسرع إلىٰ وجهها، ألتقطُهُما، ثمّ رحتُ أقبِّلُ وَجْنَتَيها، فضمّتْني بحرارة لم أشعر بها منذ أن كنتُ طفلاً، أو هكذا ظننْتُ، وقلتُ لأمّي:
- أوّل قطعةٍ من الذهبِ من أتعابي ستكون لكِ يا أمّي قبلَ زهرة.
أجابتْني بودّ عجيب:
- أنتَ وزهرة أغلىٰ عندي من ذهبِ الدّنيا... لقد شبعْتُ ذهباً يا ابني... المهمّ أنْ أجدَكَ في سعادةٍ وراحة ورزقٍ وفير..
- أمّي... ما بِكِ؟
- أنا في فرحٍ لم أفرحْ بِهِ من قبل... ادعُ اللهَ أن يُعطينا خيرَ هٰذا الفرح، ويُبعِدَ عنّا شرّه.
  
أمّي غير معتادة علىٰ الفرح المفاجئ... فمنذُ مدّةٍ ليست بالقصيرة وهي تعاني بالنيابة عن أولادها وبناتِها من همومهم، فهٰذا يدرس، وتلكَ تزوّجتْ، ولكنَّ زوجَ ابنتِها ليس علىٰ ما تتمنّاه لها، وهي تخاف من المستقبل... من عثرات المستقبل... ولكنّني قرأتُ في عينيها التفاؤل والرضا عن عملي الجديد، وإنْ كانت قد أخفتْ غصّةً في نفسِها بأنّني سأشتغل بغير ما درستُ... ولكن، علىٰ كلّ حال، كانت شديدة التفاؤل والرضا عن عملي الجديد.
  
في يوم الاثنين من شهر المحرّم ذهبنا أنا والعمّ عارف النافع إلىٰ دارٍ في أطرافِ المدينة، دار واسعة، ومجهّزة ببئر، فضلاً عن الكهرباء وتمديدات المياه. وفي الدّار ثلاث شجرات لا يقلّ عمرُ أصغرها عن خمسةَ عشرَ سنة.
هممتُ بوضعِ الحجر الثقيل فوق فوهةِ البئر، فصاح بي قائلاً:
- هٰذه البئر أهمّ ركن من أركان المشروع... فما تقدّمه شركة المياه عندنا غير مضمون، والخِراف لا تعرف الصبرَ علىٰ العطش. عندكَ مهمّة أن تنظّفه في كلّ سنة مرّتين علىٰ الأقلّ، ليحفظَ لكَ الماء لحين الحاجة. والدَّلو بانتظارِ عضلاتِك.
قلتُ في نفسي: ابتدأتِ الهموم والمشكلات. ولكنْ تذكّرْتُ من فوري كيفَ كنتُ بلا عمل لأكثر من ثلاث سنوات.
اشترينا العلف، وكان عدّةَ أنواع، منها للعَشاء الليلي للأغنام، ومنها للفاكهة الصباحيّة للأغنام، وهكذا...
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.