عائشة الغزالي
أُرَاقِب من نافذتي الصغيرة الطُّرقات بكل ما فيها من بشر وكائنات تتحرك بهدف أو من دونه، أنظُرُ للسماء لأناجي الله وأبوح له بأسراري وبما أُخَبِّئهُ حتى عن أمي، أتمنى لو عُدتُ ثانية لسابق عهدي قبل أن أمر بما مررت به من أحداث ومصائب وأهوال، ما زلت أتذكرُ تلك الأيام الصعبة.. فهي سبب ما أصابني وحبسني بكرسي ثنائي العجلات لفترة لا بأس بها، لأتحرك بحساب وأغلق على ذاتي وأتقوقع.
أحداث حوَّلتني من طفلة مشاكسة عنيد تبلغ الرابعة عشرة، إلى أنثى في العشرين من عمرها هادئة كسول، لا هدف لها بالحياة، سنوات عجاف عشتُ منها سنتين وسط أجواء حرب أهلية، كنت بقمَّة بؤسي فيها، ثم ثلاث سنوات أخرى كل ما أفعله هو كتابة كل ما أتَذَكَّرهُ أو يمر بي من أحداث، أدوِّن ما أسمعه من أصدقائنا القدامى، الذين يأتون أحيانًا للاطمئنان على أحوالنا، ومن أقاويل الجيران القادمين للزيارة أو لتسلم ما حاكته أمي لهم من ملابس، أو لتبادل الأحاديث في جلسات نميمة معلنة مغلفة بدعوة لتناول كأس شاي.
أُتابع ثرثرتهن عبر غرفتي.. وكيف لا؟ فمنزلي ما هو إلا غرفة أقبع بها ليل نهار، ومطبخ ودورة مياه كل منهما لا يتجاوز المترين، وصالة واسعة تحيك أمي بها الملابس للجيران نهارًا، لتنام قتيلة جواري ليلًا، ثم تعاود دورانها في ساقية الحياة باليوم التالي لتستطيع إعالتنا.
بين ليلة وضحاها تبدَّل الحال، بعد أن كُنتُ «عائشة»، تلك المدللة من أبيها «عزيز» وأخيها الوحيد «جاسر» وأمها الحبيبة «حبيبة»، أعيش حياة رفاهية في عز والدي تاجر المفروشات يدوية الصنع، تحوَّلت بعد فراري مع أمي، من الأردن إلى لبنان، حيث يُقِيمُ عمي «نواف»، إلى فتاة تعيش عالة عليه وعلى مساعداته الشحيحة كل شهر أو شهرين، متعللًا بسوء الأحوال.
يسأل عنَّا باقتضاب وعن أحوالنا، كأنما يخاف أن نسأله شيئًا فعليًّا، ثم يذهب إلى حال سبيله، ولولا خوفه من تعليقات الجيران وأصدقائه لتركنا دون سؤال.
اكتشفت أنني مجرد إنسان يبحث عن الأمان وسط قلوب البشر فلم يجده، تحوَّلت إلى إنسان يرغب في لملمة شتات الروح، يريد نسيان ما مضى من أوجاع وآلام، لذا، اعتدتُ وضع آلامي بكفن وحنوط تحت أديم الأرض، أرويها بدموع خذلاني وإرهاقي، أغطيها بدعوات لربي القدير، أزورها بين الحين والآخر داخل طيَّات نسيان ذاكرتي، فأجد خالقي الأكرم والأرحم من عبيده بعبيده عوَّضني وبدَّلني عنها الخير الكثير، فيكفيني وجود أمي جواري.
هذه هي الحياة، وهذه هي الدنيا؛ يوم إحباط أسود كأديم الأرض قاتل للإحساس، ويوم ناصع النقاء كيوم النيروز يملؤك بطاقةٍ وحب، أحبك ربي ولديَّ ثقة الكون كله فيك، لكني متعبة.
أيلول الأسود وغيوم النهاية
لكم أشتاق لحياتي بالأردن.. يوم كُنا عائلة لا يفرقنا شيء، يجمعنا الحب والأمل، لم يُنَغِّص عيشَنا إلا تناحر الحركات الفلسطينية مع أفراد قوات الأمن الأردنية؟! والدي لبناني من أصول مصرية، لا يهتم كثيرًا بالسياسة ومجرياتها، ووالدتي فلسطينية المولد والجنسية، هاجرت للأردن منذ سنوات طوال بصحبة ذويها.
تعرَّف والداي بالأردن، وتزوَّجا زواجًا تقليديًّا كما تقول أمي، عرَّفه عليها أحد أصدقائه، أعجبته فتقدم لها، أحبها منذ النظرة الأولى، أما أمي، فتقول إنها انجذبت إليه لابتسامته الواثقة وروحه الخفيفة، شعرت أنه رجلها الأمين، من تثق في إيداع عمرها بين يديه دون خوف، من تتمنى منحه أولادًا يحملون اسميهما معًا، أطفالًا يرثون صفاتهما معًا بمزيج خاص، كانت تتفاخر أمام الأصدقاء دائمًا أنها ستنجب له أولادًا مميزين.
ورثتُ منها الشكل وتقسيمات الجسد، بعينين بنيتين مسحوبتَي الجانبين، برموش سوداء كثيفة، وجهي بيضاوي يناسب أنفي الصغير، وفمي المرسوم كما زخرفة آشورية بدقة فنان، ورث «جاسر» فلسطينيتها الأصيلة، ومن أبي الجسد الرياضي قوي البنية، كان ممن انضموا لإحدى الحركات الفلسطينية المتكونة دفاعًا عن قضية يرونها أمًّا وهدفًا وحياة.
أتذكر بدء حدوث اشتباكات مستمرة بين الطرفين (الفصائل وقوات الأمن الأردني)، وقلقنا والفزع المُتَمَكِّن دومًا من أمي عند سماع أي خبر؛ فمنذ عام 1968 وحتى أواخر العام التالي وهذه الاشتباكات مستمرة بعنف شديد، حاول أبي كثيرًا ثني عزم «جاسر» عن انضمامه للمقاومة، ليركِّز في دراسته الثانوية، حاول إقناعه أنه عن طريق التعليم يمكنه أيضًا خدمة وإفادة القضية، لكن «جاسر» لم يقتنع أبدًا، فقد كان مقتنعًا أن ما سُلب بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة ثانية.. أن التفاوض وهذه الأساليب الدبلوماسية ما هي إلا وسائل يتقوَّت عليها الضعفاء، وهو وإخوانه ليسوا بالضعفاء.
كانت أمي تهوِّن علينا الأمر وتطمئننا أنا وأبي، قائلة: إن الأمور ستكون على خير حال؛ فـ«جاسر» بطل ولا داعٍ لخوفنا عليه، هو رجل بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، علينا التفاخر بكوننا ذويه، على الرغم من أنني كثيرًا ما شاهدتها باكية تحتضن صورة «جاسر» جالسة على سريره، لم تكن تستطيع كبح جماح قلقها بعيدًا عنَّا.
جاء أبي يومًا واجمًا ليُخبرنا بِمَقتَل صديقه «مُصعب» بأحد هذه الاشتباكات، لتبدأ الأحوال تتبدل والخطط تتغير، ما أدى إلى أن يعيش «جاسر» صراعًا خاصًّا بين قضيته وحب أبي الخائف والملتاع على ولده؛ فهو ما زال يراه طفله الصغير، يجب أن يلهو ويعيش سنوات عمره بفرح، لا أن يحمل سلاحًا ويتنقَّل هنا وهناك، يستمر في الهرب من السلطات الأردنية التي تسعى خلفه هو وزملائه، يرى ساسةُ الأردن أن الفصائل تحاول فرض نفوذ وسيطرة داخل العمق الأردني، إلا أن «جاسر» ممن يرون أن القضية هي محاولة إقامة كيان آمن لمن يعيشون خارج أرض فلسطين، كي ينطلقوا بحرية لمحاربة هذا الكائن المُستَولي على أراضيهم وديارهم غصبًا وقوة.
ذهبتُ لغرفته يومًا لأتحدث معه، لعلِّي أستطيع إقناعه بعيش حياة هادئة كما كنا، فلم أكن من المهتمات وقتها بالقضية الفلسطينية ولم أستوعبها، كل ما كان يشغلني هو قراءة الروايات وسماع الأغاني وارتداء كل ما هو حديث في عالم الموضة.
«عائشة»: جهزت لك ملابس الغد، أتريد شيئًا آخر؟
«جاسر»: شكرًا جزيلًا أختاه.
«عائشة»: هل أجهز لك شيئًا تأكله؟ أوصتني أمي أن أهتم بطلباتك الليلة فهي مرهقة وذهبت للنوم باكرًا..
«جاسر»: أهي مريضة؟ ماذا بها؟ سأذهب لأطمئن عليها.
«عائشة»: لا داعٍ، كانت وليمة عرس «ليلى» جارتنا اليوم وأمي كانت تساعدهم منذ الأمس، لا شيء آخر، لا داعٍ للقلق.
«جاسر»: آه حسنًا..
«عائشة»: أمتأكد أنك لا تريد مني أي شيء؟
«جاسر»: لا، سلمتِ لي، اخلدي أنتِ للنوم.
لم أتحرك من مكاني وتصلبت، لكنني لم أدرِ ماذا أقول وكيف.. لمح «جاسر» في عينيَّ ما أريد قوله.
«جاسر»: حسنًا يا «عائشة»، أدرك ما تريدين قوله، لا أريدك أن تتفوهي به، أنا رجل ولست طفلًا صغيرًا، أنتِ أختي الصغرى، أنا من أخاف عليكِ وليس العكس.
«عائشة»: تعلم أن أمي وأبي قلقان عليك بشدة، أنا أيضًا، خاصة بعد تصاعد الأحداث الأخيرة.
«جاسر»: يا «عائشة»، خبَّأت براءتي وطفولتي داخلي، فلا مجال لهما الآن، وطني يناديني، وهذا ما لا يستوعبه أبي، سأخبركِ أمرًا آخر: لم أرتَح وأعلم أن ما أريد فعله حق حتى خرجت للعالم ورأيت كل شيء على حقيقته، بعيدًا عن دلال أبي وأمي لنا، صُدمت من أشياء كثيرة، لجأت لغيري لينصحني ويفهمني فتعلمت..
تعلمت كثيرًا جدًّا عن الدنيا والحياة «عائشة»، أُهنت وغُدر بي وابتُليت بأناسٍ وما زلت أُتعب نفسي لأني لا أريد أن أكون هامشًا في الحياة، كبرت وتغيرت كثيرًا عن ذاك الطفل المدلل، أخيرًا وجدتني ووجدت هدفي في الحياة ولن أتنازل عنه مهما حدث «عائشة».
«عائشة»: حسنًا، لكن عدني أن تكون دومًا بخير.
«جاسر»: تذكريني في صلاتك بدعوة حبيبتي.
«عائشة»: كم ستدفع؟! (قُلتها ضاحكة).
«جاسر»: قبلة على خدك الأيمن وأخرى على أخيه الأيسر (واقترب مقبلًا إياي في حنان).
«عائشة»: قبلت، تم الاتفاق، أريد الكثير منها مقدمًا، هيا زدني، هناك خمس صلوات يوميًّا (قُلتها باسمةً بدلال).
«جاسر»: ههه.. لكِ كل ما تريدين أيتها الشقية.
لم يستَوعِب أخي ولا أصدقاؤه، خاصة «مازن» صديقة الأشد قربًا لقلبه وقلبي - فهو حبي الصامت - أن أهدافهم تعارضت مع أهداف وإرادة الحكم، وبما أن «جاسر» لم يستطِع مقاومة طلبات والدي بالاهتمام بنا أكثر والتخلي عن أصدقائه، لكونه الوريث لثروته ورجلنا من بعده، فقد اتخذ قرارًا بالهروب من المنزل.. ذهب مع «مازن» ليقيما مع باقي أفراد المقاومة في أحد المخيمات، مناضلين لتحقيق أحلامهم، ابتعدَ عنا كي يعود لحربه مع زملائه بمنظمة تحرير فلسطين، لتمر الأيام ثقيلة على قلبي أمي وأبي خوفًا وفزعًا على ابنهما البكر.
حل صباح يوم 11 فبراير؛ ووقعت مصادمات بين قوات الأمن الأردني ومجموعة فصائل فلسطينية وتصادف مرور والدي من هناك، ليُقتَلَ وسط شوارع عَمَّان، ومعه 300 قتيل آخرين، عرفنا بعدها أن أغلبهم كان من المدنيين.. تساقطوا كما قطع الشطرنج دون جريرة سوى وجودهم بمكان لعبة حُبكت خيوطها لأهداف خاصة، غطَّى السواد حياتي مع أمي، وأظلمت دُنيانا بعد موت أبي وغياب أخي المُستمر، أُقيل وقتها وزير الداخلية علَّ ذلك يُطفئ فتيلًا مُشتعلًا بشوارع عَمَّان، لكن الأحوال ساءت أكثر، لنفاجَأ بـ«مازن» يومًا آتيًا يطالبنا بضرورة الانتقال للإقامة في مخيم البقعة، مثلنا مِثل الكثير، كي يطمئن «جاسر» علينا؛ كوننا وسط أناس يحموننا، رتَّب هو و«جاسر» كل شيء فذهبنا معه بعد حمل ما خفَّ وزنه، بالتأكيد لم أمانع، بل سعدت بالأمر، كنت أظن أنني هكذا ستُتاح لي فرص لقاء «مازن» أكثر، اعتقدت خطأً أنه يقيم هناك، ووافقت أمي لموافقتي.
سأخبركم عن «مازن».. هو أصغر أخ لخمسة إخوة ذكور، ينتمون للفصائل الفلسطينية، وقد استُشهد اثنان داخل فلسطين بإحدى الهجمات، والثلاثة معه في حركة المقاومة بفلسطين، كان يتنقَّل بين فلسطين والأردن لعمله في التجارة مع عمه منذ صغره، ثم تركه منذ فترة ليتفرغ للإقامة في الأردن مع أصدقائه لجلب المساعدات لزملاء كفاحه في فلسطين، والده استُشهد في صغره، ووالدته قامت بتربيتهم جميعًا على أنهم شهداء منذ الصغر، كانت تخبرهم دومًا أنها أنجبتهم ليحرروها هي وفلسطين، لا ليعيشوا ضعفاء أو جبناء.
يملك عينين غارقتين في السواد، له نظرة ساحرة تلمع في الضوء كما الشمس، كلما رأيتها تورَّد وجهي خجلًا، لأبتسم غصبًا عني فرحًا برؤيته، يداه قويتان تضمان يدي بحنان عند سلامه المقتضب، كنت دومًا البادئة بسلام اليد لأحظى بفرصة مس كفه، يتحدَّث بلباقة شديدة وهدوء على الرغم من قوة صوته، ناظرًا إلى الأرض، وجهه شديد الاستدارة أسمر اللون، طويل القامة، مفتول العضلات كما نجوم السينما.
كثيرًا ما اعتقدت أنه يدرك إعجابي وهيامي به.. لكنه لا يُظهر أي رد فعل مما يُشككني في هذا الأمر، أعلم أني واهمة، كيف يدرك أمري وهو غارق حتى أذنيه مع أخي في صراعهما ضد الاحتلال الإسرائيلي؟!
لنعُد للأحداث السياسية، استمرت الأحداث في التصاعد بمحاولة اغتيال الملك حسين بمنطقة صويلح ثم نجاته من محاولة أخرى لتزيد المصادمات وقُتِل حوالي ألف شخص خلال عام 1970، ومع هذا استمرت منظمة التحرير في مهاجمة إسرائيل دون مراعاة لرفض الجيش الأردني تجاهل وجوده، ما أوغل صدور قادته عليهم، خاصة أن رد فعل هذه الهجمات يكون على المدن الأردنية ذاتها.
وصلتنا أقاويل وشائعات عن اشتراك «مازن» وأخي في محاولة الاغتيال، لكن لم تُتَح لنا فرصة التأكد، فلا هذا ولا ذاك يأتي لنعلم منهما صحة ما يُقال ويُشاع، لتزيد أمي من صلواتها ودعواتها ليلًا لـ«جاسر»، مقاومة البكاء خوفًا عليه، توشي بها شهقاتها التي تتوالى بضعف، فأين هذه الأم التي تتحمل إصابة ابنها بمكروه مهما كانت تراه بطلًا؟ نعم، هو بطلها على الرغم من كل هذا القلق والخوف، اللذين زادا أكثر عندما بدأت الاشتباكات تزداد عنفًا؛ فقد أصبحت أكثر ضراوة وتصاعدت أكثر في 6 سبتمبر 1970 حينما خطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ثلاث طائرات متجهة إلى نيويورك.
* * *
المختطفون أجبروا اثنتين من الطائرات المختطَفة على الاتجاه لمهبط في الأردن، والثالثة اتجهت للقاهرة ليفجروها عمدًا، ثم بعد ثلاثة أيام خطفوا طائرة أخرى وهبطت أيضًا في مهبط دوسون (قيعان خنا)، وذلك لمحاولة إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين بالسجون الأوروبية، رُفض طلبهم، فما كان منهم إلا أن أطلقوا سراح الركاب، وفجروا الطائرات الثلاث.. ثم أعلنوا إقامة سلطة وطنية فلسطينية داخل الأراضي الأردنية، لتبدأ رحلة نهاية وجودهم تُخَط وتُحدد.
أخبرني «مازن»، فيما بعد، أن صديقه «عيسى»، الذي كان مع المختطفين، قصَّ عليه مدى توترهم داخل إحدى الطائرات ما بين عدم رغبتهم في تفجير الطائرة وعدم إيذاء الرهائن، وبين قرار مواجهة السلطات الرافضة لمطالبهم ومحاولة إجبارهم على قبولها، وأن ذلك هو ما أوصلهم لهذه النقطة.. مرَّت عليهم ساعات عصيبة، حتى أعطاهم القائد أمرًا بالإفراج عن الرهائن وتفجير الطائرة، ما أدى إلى أن تُقرر القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية بعمان ضرورة توجيه ضربة استئصالية ضخمة إلى المنظمات الفلسطينية داخل المدن الأردنية.
بالتبعية شُكلت حكومة جديدة وكّل إليها أمر تحرير الرهائن بباقي الطائرات وتصفية وجود الفصائل الفلسطينية العسكري داخل المدن الأردنية، التي أصبحت تشكل عبئًا كبيرًا وسببًا للفوضى داخل الأردن، وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد، فقد باتت المطاردات بين الأمن والفصائل مُعلنة ومستمرة، أفراد الفصائل مطلوبون أمنيًّا، يتم القبض عليهم والتحقيق معهم عن أنشطتهم بكل السُبل، حياتهم أصبحت كابوسًا مرعبًا، تحولت حياتنا نحن أيضًا، المنحدرين من أصول فلسطينية وأهالي أفراد الفصائل، إلى مسلسل رعب، ما بين التقطع خوفًا على مَن مِنا ينتمون للفصائل، وبين رعب الحياة ذاتها وسط خضم هذه المطاردات الأمنية.
قامت الحكومات العربية بتهديد الحكومة الأردنية، وكان ضغط الشارع العربي يتزايد، إلا أن عملية الحشد حول عمان والزرقاء استمرت لمطاردة الفصائل، أرسلت الحكومة الأردنية مجموعة من الضباط إلى ياسر عرفات للمفاوضات، الذي رفض وأرسل محمود عباس للتفاوض عن الطرف الفلسطيني.
لم نكن نعلم وقتها أن الهدف من هذا التفاوض هو إعطاء الجيش الأردني الوقت الكافي لنصب المدافع في مواقع حساسة وإتمام عملية الحشد، بالإضافة إلى إعطاء صورة بعدم جدية الجيش الأردني في القيام بأعمال عسكرية؛ حيث سُربت أخبار فيما بعد عن أن تطمينات عربية كانت قد وصلت إلى عرفات تؤكد عدم جدية التحركات العسكرية الأردنية، لكن ما حدث في اليوم التالي هو أن الجيش بدأ بتنفيذ خطة «جوهر»؛ حيث بدأت الدبابات والمجنزرات الأردنية بالقصف المدفعي العنيف على مواقع المنظمات الفلسطينية.
قامت المجنزرات باقتحام مخيمات الوحدات والبقعة وسوف في عمان والزرقاء.. ما زالت أصوات الطائرات وسقوط القذائف من حولي تدوي في أذني كلما تذكرت هذه الفترة، مصحوبة بأصوات فزعة لجيراني، كانت الدماء تتناثر حولنا في كل مكان، كل شيء يطير، رائحة احتراق المخيمات تخنقني، الصراخ والعويل بكل اتجاه، بحث الجميع عن الجميع.
ذكريات عنيفة
ما زلت أرى داخل طيات ذاكرتي مشاهد وصور جيراني من سكان مخيم البقعة وهم قتلى، تناثر أشلائهم من حولي، أتذكر سقوطي صارخة من ألم رهيب أصابني، عندما شاهدتني أمي أسقط أرضًا ما كان منها إلا أن صرخت بكل ما يعتمر قلبها من وجع.. شعرت في صرختها بالفزع المُطبق.. أتتني مهرولة لتحتضنني.. أغمضت عيني حاضنة صورة أمي بين جفوني..
أفقت بعدها لأجد أمي الباكية بجواري.. تقرأ القرآن، تهلل وجهها فرحًا بعودتي وإفاقتي.. نادتني: «عائشة».. «عائشة».. آه حبيبتي.. كنت أخشى موتك.. حبيبتي.. أنتِ كل من تبقى لي في هذه الحياة..
لأغمض عينيَّ وأعود لنوم طويل، أخبرتني أمي عندما أفقت أني نائمة منذ ثلاثة أيام، أفيق لأنام.. وهكذا.
ثم جاء وقت معرفتي بأسوأ ما حدث لي عندما أخبرتني الممرضة في اليوم الرابع بأني قد أُصبتُ بالشلل، وذلك عندما أخبرتها أنني لا أستطيع تحريك قدميَّ فتبرعت بمواجهتي بالحقيقة وبأني أصبحت طريحة الفراش، قعيدة لإصابتي بإحدى الشظايا في عمودي الفقري، دخلت أمي وهي تُخبرني وفزعت لكنها فوجئت أكثر ببرودة رد فعلي، لا أعلم لِمَ استقبلت هذا الخبر ببرود غريب، بل الأغرب هو معرفتي خبر مقتل «جاسر» في أثناء الاشتباكات، فلم تبكِ لي عين، أو يطرف لي رمش، أمري عجيب. لا أعرف لِمَ وهو الأخ الرحيم العطوف عليَّ.
هل قتلت الدماء ومناظر القتلى إنسانيتي ومشاعري؟! هل أصابني تبلد أحاسيس؟! لا أعلم!!
الآن أنا إنسان ميت.. مجرد بقايا إنسان، داخل جسد يتنفس ويأكل فقط لإرضاء أمي «حبيبة»، فقط لأجل أمي أعيش، جاءني الطبيب، تسبقه ممرضة، للاطمئنان على أحوالي، لفتت انتباهي نظرة الطمأنينة في عين الطبيب، كان يبدو شديد السماحة والطيبة، وكأنما هو ملاك نزل إلى الأرض ليطيب جراح مرضاه.
يبدو جادًّا بنظارته الطبية مستطيلة الشكل، ملامحه السمراء تأسر الأنظار لتنتبه له، يبتسم بهدوء ووقار، وعلى الرغم من توتره لكثرة المرضى، يبدو رزينًا، منمقًا، يتحدث بكل لباقة، بعث في كل أرجائي إحساسًا رهيبًا بالأمن والأمان، أعتقد أنه يبلغ الثلاثين أو يزيد قليلًا، طلب من ممرضته الشقراء، ذات القامة النحيفة القصيرة، أن تهدأ ولا تشاكس المرضى حولها؛ فهي تبدو فتاة صغيرة لا تتعدى العشرين عامًا، وطلب منها أن تعطيني مسكنًا كي أعود للنوم، خاطبني قائلًا: اسمك «عائشة»؟ أتعلمين معناه؟
قالها مبتسمًا بهدوء، أكمل: أعلم أنك غاضبة من كل ما حدث، خاصة إصابتك، لكنني أردت طمأنتك بوجود أمل في عملية جراحية تعيد حياتك لطبيعتها، أريد أن تعلمي أيضًا أن الاحتمال ضئيل، كما أنها عملية خطرة، ولا يمكننا إجراؤها هنا؛ لذا عليكما التوجه إلى مصر وسأعطيكما بيانات طبيب هناك تذهبان إليه، عليكِ التشبث بالأمل.. فعليه نعيش، ما حدث ليس بنهاية العالم «عائشة».. الأمل سر الحياة، فلا تفقديه صغيرتي الجميلة..
لم أهتم بما قال، فأين أنا والذهاب إلى مصر؟ خاصة بعد ضياع كل ما أريده في الحياة، ثم نمتُ من أثر المخدر، طالت إقامتنا بالمشفى، وكنا نتسمع الأخبار عمَّا يدور بالخارج من المريضات الأخريات، أخبرتني إحداهن أن ضرب قوات الأمن كان عنيفًا جدًّا وقُتل الكثير، وأصيب أكثر، ولقدري كانت تعرف «مازن» فأخبرتني أنها سمعت أنه أصيب بشدة، وهناك أقاويل بأنه قد مات، لأصرخ بصمت.. مات أبي، مات أخي، والآن مات حبيبي.
كي لا أُظهر لأمي جزعي حاولت التلهي عن حالي بتجميع أخبار كل ما حدث في أيلول الأسود، لأضيفه إلى ما بدأت أدونه في مذكراتي، كنت أخفيها عن أمي، على الرغم من علمها بتدويني لهذه الأشياء، لكني لم أشأ إعادة نبش جراحاتها من جديد، كتبت فيها وسَرَدْتُ كل ما حدث وما استطعت تجميعه من أخبار من الصحف وذوي زميلاتي المصابات، أو ممن يأتي لنا من العنابر الأخرى من الرجال ممن أُصيب في هذه الاشتباكات..
أخبرني أحدهم أن فرق المشاة اجتاحت شوارع مدن الزرقاء وعمان وإربد لتنقيتها من المسلحين؛ حيث حدثت معارك ضارية فيها، وكانت شدة المقاومة في مخيم الوحدات هي السبب في دفع القوات الأردنية إلى زيادة وتيرة القصف والضغط العسكري، هناك حيث قُتل «جاسر» و«مازن»، لا أريد تذكر تفاصيل مقتله، لم يصف كثيرًا ما حدث، إلا أنه قال إن الأمر كان شديد البشاعة، أخبرني أيضًا أن الانتقادات العربية للأردن زادت، لكن الأردن قابلتها بالتجاهل.
ألقى الجيشُ القبضَ على معظم قيادات المنظمات، وفرَّ ياسر عرفات متنكرًا بزي خليجي مع الوزير التونسي الباهي الأدغم، على الرغم من أن المخابرات الأردنية وصلها معلومات عن أن ياسر عرفات يحاول الفرار إلى خارج الأردن، فإن القيادة السياسية في الأردن طلبت تركه وشأنه، علَّ هروبه يُخفض من وتيرة المقاومة ويكسر شوكتها، سمعت أيضًا أن القوات الأردنية سيطرت على الأرض واستسلم أكثر من 7000 من المسلحين الفلسطينيين وقُتل الآلاف من الطرفين، بعد مؤتمر القاهرة الذي خرجت من خلاله المنظمات الفدائية من المدن الأردنية كاملة لتتجمع في مناطق أحراش جرش وأحراش عجلون مقابل عدم اعتراض الجيش لهم.
قررت أمي ترك البلاد والفرار لأبعد ما يكون، كانت تريد منا الذهاب إلى القاهرة للبحث عن علاج لحالتي، لكنني لم أجد داعيًا لذلك ولم أوافق، في النهاية أقنعتني بالسفر إلى لبنان للإقامة مع عمي «نواف»، استطعنا بمساعدة أصدقاء لأخي «جاسر» السفر، أو بالأحرى الفرار، إلى لبنان، وعلى الرغم من الصعوبات التي نالتنا في التنقل برًّا فإنه كان السبيل الوحيد، فلم يعد لنا بالأردن إلا ذكريات قاتلة بحلوها ومرها.
مجرد ذكريات، منها السعيد؛ حيث الأسرة الراضية القانعة بحياة سلسة اعتادوها، وذكريات مقابلة لأمي ولي يغلفها الدمار والأشلاء بكل اتجاه، ذكرى تركت أثرها على جسدي بهذه الإصابة التي قتلت فيَّ الروح قبل الجسد، لا أعلمُ ما ينتظرنا ببلد مثل لبنان، خاصة أنها تعاني الحرب أيضًا! وكيف سيستقبلنا عمي «نواف»؛ فهو لم يرَنا مُنذُ سنوات، لكنه يبقى أملنا الوحيد والسند الباقي على قيد الحياة، كانت أمي متفائلة جدًّا بسفرنا إليه، عقدت آمالًا كبيرة على وجوده في حياتنا، أقمنا بالجنوب اللبناني عند وصولنا، واستضافتنا إحدى العائلات شهرًا حتى رتبنا أمورنا، كانت العائلة مكونة من زوجين طاعنين في السن، يقيمان بمفردهما بعد أن تزوجت البنتان وسافرتا للإقامة والعمل في فرنسا، أما الابن الأصغر فقد سافر للعمل في أمريكا مع عمه؛ حيث تزوج هناك وأنجب طفلين، ثم انتقلنا للإقامة ببيت خاص بنا وفَّره أحد أصدقاء «جاسر»، وأخيرًا توصل أحد المعارف إلى مكان إقامة عمي؛ فقد بدَّل مكان إقامته المعروف لنا منذ زمن ولم نكن نعلم الجديد.
أرسلنا إلى عمي أحد الجيران، فجاء في اليوم التالي ليرحب بنا ووعدنا بالكثير، بعد أن سردت عليه أمي ملخص ما مررنا به، ثم شرحت له حالتي وما وصلت إليه من اكتئاب وتقوقع، داعية إياه لإقناعي بالسفر معها للقاهرة لإجراء العملية الجراحية، كانت تعتقد أنه سيضغط عليَّ ويمارس سلطاته كعم ووصي عليَّ لإجباري على السفر للقاهرة وإجراء العملية الجراحية، فوجئت به يتفق معي على عدم جدواها، وأنها مجرد هدر لأموال دون داعٍ، فلو كان منها فائدة لكان الطبيب أجراها بالأردن، لكنهم أرادوا طمأنتنا فقط.
سمعت أمي تجادله وأنا في حجرتي، كم وددت أن أخرج لإخبارها ألَّا تجادل فهو على صواب.. لكنني لم أجد لهذا بدًّا، لم أكن أريد رؤيته أو رؤية أي شخص.. نادت عليَّ أمي في النهاية لأسلم عليه، وعندما لم أخرج إليهما أحضرته هي إلي ليُسلِّم عليَّ داعيًا لي بالصحة والسلامة.
ذهب ويأتي على فترات متباعدة، متعللًا بحموله الكثيرة وصعوبة الحياة والظروف القاسية؛ فأولاده الخمسة ما زالوا صغارًا بمراحل التعليم الأساسية ويحتاجون لمصاريف تفوق طاقته.
* * *
قررت أمي البدء بحياكة الملابس، علَّها توفر القليل من الاحتياجات، وكنت أنا في المقابل أتقوقع أكثر، أقضي يومي بحجرتي مستمتعة بالكتابة في مذكراتي، لما أستخلصه من أقاويل وحكايات الجيران وزبائن أمي، بقي الحال كما هو والحياة تسير برتابة حتى جاءنا «عاصم»، صديق «جاسر»، ليطمئن على أحوالنا، سعدت بسماع صوته؛ فهو يذكرني بأخي و«مازن»، رحمهما الله، خرجت لأول مرة أستقبل شخصًا واستقبلته مع أمي، أخبرنا أنه استقر أيضًا هنا في الجنوب، مصطحبًا عائلته معه.
أثارني للجلوس معه حتى موعد انصرافه بما سرده من أحداث الأردن بعد فرارنا؛ فقد قال بأنه ما هي إلا شهور قليلة مرت على الاتفاقية وسرعان ما دب الصراع مجددًا، بعد أن ضاق سكان القرى في مناطق جرش وعجلون ذرعًا بتجاوزات الفدائيين هناك؛ فهم لم يعتادوا هذا الأمر سابقًا، أبلغوا عنهم السلطات وقدموا شكاوى لرفضهم وجودهم بينهم، استغلت السلطات الفرصة وانتهزتها؛ حيث اجتاحت قوات الجيش الأردني الأحراش وهاجمت رجال المقاومة، قضت على آخر معاقل منظمة التحرير الفلسطينية وباقي المنظمات وكسرت شوكتهم وأزالت وجودهم هناك إلى الأبد.
لكن ما زاد الطين بلة أنه في شتاء 1970، قامت سوريا بمحاولة التدخل للدفاع عن المقاتلين الفلسطينيين، كان التحرك السوري لحماية منظمة التحرير غير مخطط له ومعتمدًا على معلومات مصدرها قيادة منظمة التحرير ذاتها، وقد كانت معلومات غير مؤكدة بالمرة، بينما القوات الأردنية كانت على علم بتحرك القوات السورية، لذا فوجئَت القوات السورية بعنف رد القوات الأردنية التي نشرت قوات كثيفة سُميت قوات الحجاب، كبَّدت القوات السورية خسائر فادحة وانطلق سلاح الجو الأردني لتغطية الهجوم، بينما لم ينطلق سلاح الجو السوري، أُعلن فيما بعد أن القيادة العسكرية السورية قد انشقت، وأن الفريق حافظ الأسد كان محتجًّا على تدخل القوات السورية فيما يحدث، وأنه هو من رفض إطلاق سلاح الجو السوري، الأمر الذي دفع الجيش السوري للانسحاب مخلفًا وراءه خسائر فادحة.
ثم توسطت السعودية لدى الأردن للسماح للسوريين بإدخال شاحنات لسحب أنقاض قواتهم المنسحبة من شمال الأردن، بعد ذلك، قامت الحكومة الأردنية بطرد الفصائل الفلسطينية إلى لبنان، لتشتعل الحرب مجددًا هناك، فقد أسس ياسر عرفات ما سمَّاه البعض «جمهورية الفكهاني»، وهي منطقة خاضعة للسيطرة الكاملة للمنظمات الفلسطينية داخل بيروت، أخبرنا أيضًا أن «فتح» أسست منظمة أيلول الأسود، التي كان هدفها الرئيسي هو الانتقام من جميع الشخصيات التي أفشلت وجودها السياسي في الأردن، فقامت بعدة عمليات انتقامية على الساحة الأردنية.
لكن ما أعاد إليَّ بهجة الحياة والأمل في مستقبل أفضل نفي «عاصم» مقتل «مازن» عند سماعه أمي تدعو لـ«جاسر» و«مازن» بالرحمة وأن يوسع الله في قبريهما هما وزملائهما، ليقول لها: انتظري.. انتظري، ما زال «مازن» على قيد الحياة أطال الله في عمره، من أخبركما باستشهاده؟ ثم أخبرنا أنه أصيب بشدة ولكنه لم يُقتل، انقطعت الصلة الآن بعد كل الهرج والمرج اللذين حدثا، ولا يعرف أي أخبار عنه أو عن مكان وجوده. شعرت وقتها بالحياة وأن قلبي عاد لينبض من جديد، لأبتسم لأول مرة منذ شهور، وينشرح صدري أخيرًا قليلًا.
* * *
أخيرًا انتهت مأساة سبتمبر 1970 الدامية في الأردن بتصفية المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، استراح الملك قانعًا بثبات عرشه لمغادرة الفلسطينيين مملكته، الذين استراحوا كثيرًا من تهديد الفدائيين في جبهة حساسة، تعتبر امتدادًا جغرافيًّا للمقاومة في الضفة الغربية.
قالت لي أمي: إن الفلسطينيين لم يجدوا أرحب من قلوب أبناء الجنوب اللبناني؛ لذا أقاموا بينهم، وعايشوا معهم وطأة الاستغلال الطبقي والقهر الاجتماعي والسياسي، لكن مع ذلك فوصول الفدائيين الفلسطينيين سيؤثر حتمًا على مجريات الأمور.
انتهى فصل مهم في حياتي ليبدأ فصل آخر أشد أهمية في حياة لبنان كلها، سأخبركم عنه مع الأحداث، لا تتعجلوا هكذا.. فمع الأيام صدق حدس أمي وحدثت تحولات عميقة في كل مجريات الحياة في الجنوب، أثَّرت في الجميع، مواطنًا ولاجئًا.
أخبرتني مرة أنها تسمع تعليقات الجيران بأن الفدائيين يقيمون علاقات مع «العامليين»، أهل الجنوب، ضد العدو الإسرائيلي، ليُصبح الجنوب قاعدة انطلاق لتسللهم لضرب العدو داخل حدوده في تصعيد دائم لا يتوقف، ما سبَّب صداعًا مزمنًا لإسرائيل، تسانده الحكومة اللبنانية، فلقد أسست فتح حركة مقاومة منظمة (حركة أمل) ومع ذلك كانت الأيام تمر ببطء وحياتي في لبنان تسير بهدوء ورتابة.
* * *
اعترفت لأمي ذات ليلة بحبي لـ«مازن» عندما كانت تحاول إقناعي بالسفر إلى القاهرة لإجراء العملية، فقد ادخرت مبلغًا قد يكفي، لم تعقب بأية كلمة، قُلت لها بأني سأوافقها على إجراء العملية في حال عودة «مازن» فقط، أما إذا لم تُقدَّر لي رؤيته فلا أريد أي شيء ولا السير في دروبها أيًّا ما كانت المغريات.
أتعلمون؟ كثيرًا ما أستيقظ على صوتها مبتهلًا إلى الله أن يُنجِّي «مازن» من أي سوء وشر ويعيده إلينا سالمًا، كم أحب هذه المرأة، تحملت وتتحمل من أجلي الكثير.
رحلة مع نايف المصطفى
لم يخل الأمر هنا في بلدي الجديد من الاضطرابات ومنها ما لازلت لا أستوعبه، منها أن «نايف» جارنا المسكين.. جاسوس، المنطقة كلها تحاكت عن هذا الأمر لفترة طويلة، إلا أنني للآن أستغرب فعله، أتصدقين ذلك «حبيبة»؟ كيف فعل هذا؟ كان يبدو طيب القلب نقي السريرة كالأطفال، انتظري أمي، سأقرأ لكِ ما سجلته عن «نايف»، وقصته كاملة كما جمعتها من الجيران والجرائد، وكما جاء في اعترافاته بعدما قُبض عليه، جلل عائلته بالعار، لا سامحه الله، أذلهم وألبسهم شوك الهوان بفعلته تلك، قتل والدته بدم بارد، اتركي هذه الأقمشة وماكينتك العتيقة وركِّزي معي..
«عائشة».. اهدئي، لديَّ الكثير من العمل، سأنتهي وآتي إليكِ لتخبريني كل ما تريدين طيلة الليل.
«عائشة»: طيلة الليل تنامين كما فيل مقتول أمي، هيا تعالي وأسرعي..
«حبيبة»: يا ربي.. «عائشة»، لِمَ تبدلت شخصيتك وأصبحتِ متكلمة لحوحة؟! سأعقد معكِ اتفاقًا، سأتركك تأكلين أذني كل ليلة بعد انتهائي من عملي لمدة ساعة، على أن تعديني بمساعدتي عندما يزدحم المكان.
«عائشة»: لا أريد، لا أُحب أن أرى أحدًا.
«حبيبة»: إذًا أُلغي الاتفاق، سأذهب لأُكمل عملي.
أمي.. اصبري قليلًا، انتظري، أمي.. أفتقد الرغبة والقدرة على حسن استقبال الناس وأفضِّل كوني وحيدة.
نظرت إليَّ نظرة قاسية وتركتني، يا ربي.. تريد استغلال الفرصة لتجعلني أختلط بجيراني وبالبشر من جديد، لكنني لا أستطيع، لم تعد لديَّ هذه القدرة..
بعد صمت لنصف ساعة كامل، صرخت كانت هذه الوسيلة الوحيدة لتوافق أن أحكي لها ما كتبت
«عائشة»: حسنًا، سأساعدك ولكن بعد انصرافهم، سوف أنتحر يومًا بفضلك.
«حبيبة»: حسنًا، هي بداية، لا مانع، انتظريني ليلًا، ولمعلوماتك إذا انتحرتِ سيتزوج «مازن» أخرى
(آه منها، قالتها باسمة لتكيدني)، انفردتُ بعدها بدفاتري، أرتبها لأُحدد بما سأبدأ حكايتي، وأخيرًا هلت أمي ضاحكة، تطلب قصي حكاياتي، كانت سعيدة لأني أحضرت الشاي لجارتنا «زَينَب» حسب الاتفاق.
«حبيبة»: هيا ابدئي وراعي أني تعبة طيلة اليوم، وأتمنى فرد عظام جسدي المنهك على السرير لأخلد للنوم.
«عائشة»: حسنًا أمي، سأخبركِ بموجز عن حياته، من أبناء الجنوب.. فقير الحال، وُلد نايف حسين المصطفى بقرية البستان، على مقربة من الحدود اللبنانية - الإسرائيلية عام 1942، كان أبوه بائعًا جوالًا للملبوسات الرخيصة، يطوف بها عبر القرى المحيطة، يصطحبه «نايف»، أكبر أبنائه.
فشل في التعليم بعد الابتدائية، امتهن الكثير من المهن ولم يوفَّق؛ إذ كان لا طموح له، همه الأول والأخير السينما وأخبار الفن، وكثيرًا ما كان يهرب إلى مدينتي «صور» أو «صيدا» لإشباع هوايته تلك. عندما مات والده، وكان يبلغ الثامنة عشرة، توسط له البعض وحصل على وظيفة بمصلحة البريد.
يدفع بدراجته المتهالكة كل صباح حتى يصل إلى التلال والمدقات لإيصال بريده المعتاد.. سمعت أنه كان يحب في صغره ابنة عمه «زليخة»، لكنها تزوجت قريبًا آخر لها، توفي بعد فترة قصيرة فعادت إلى بيت أبيها، لكنها ظلت دومًا تصده، دومًا وجهه عابسًا، تعلوه تلك النظرة البائسة، كثيرًا ما رأيته يودِّع والدته بصوت عالٍ، كما لو كان يتمنى أن تهمَّ واقفة لاحتضانه وتقبيله قُبلة الوداع مصحوبة بدعاء صافٍ كدعائك حبيبتي «حبيبة».
لا يهم كل هذا الآن أمي.. صحيح؟! لقد نفذ قضاء الله وقدره معه، أتعلمين؟ طبيعة عمله أن يحمل البريد إلى الضياع والدور المتناثرة فوق السفوح، ليعود في المساء مرهقًا معفرًا، كان يبدو من هيئته أن الملل قد خنقه.. بدأت مأساته الأكبر يوم كان يوصل البريد لمنزل عدنان السامري، تاجر الحبوب، رأى ابنته فنفذ حبُّها إلى قلبِه على عجل، جلست وتربعت، كان يخرج ليلًا لتقوده قدماه إلى حيث يرى من بعيد منزل حبيبته الجديدة.
* * *
اعتاد «نايف» أن يسترجع في خياله لحظة اللقاء الأول، ورعشة الحب التي تشبه دبيب النمل بأوصاله، كان يسلِّمها رسالةً من عمها، ظلَّ يفكر فيها وفي سبل الفوز بها، ويبحث عن خطابات عمها ليذهب إليها لإيصالها ورؤيتها، قرر إعلان حبه لحظة استوقفته لتسأله عن البريد، وقتها هلل ورقص قلبه طربًا وكأن اليوم عيد، أخبرها بحبه بأن منحها وردة حمراء وخطابًا يفوح منه عطر اشتراه خصيصًا لهذا الأمر، جرت من أمامه فظن أن الحياة قد ابتسمت له وأنها وقعت فريسة حبال غرامه، صيدًا ثمينًا داخل شباك غرامه المثير.
دخلت «فاطمة» غرفتها وأحكمت إغلاقها، خبأت الوردة، فهي أول وردة تتلقاها من رجل، صحيح لا يعجبها شكله لكن تعجبها نظراته المتتبعة لها، محاولته التقرب منها، إصراره على الاقتراب منها.. فتحت الخطاب على مهل وكأنما هو قنبلة شديدة التفجير، كانت تشعر بالرعب أن يُفتح باب غرفتها فجأة على الرغم من إحكام غلقه..
* * *
أسرتها كلماته، لم تتخيل أن هذا المسخ يمكنه كتابة خطاب غرامي كهذا، صُعقت عندما أدركت أنها باتت تفكر فيه، لا.. لا يمكنها هذا، ماذا إذا عرف والدها؟ سيقتلها بالتأكيد، ستسخر منها صديقاتها، ستكون مثار المزح بين زملائها ومدرسيها، هل تحب هي الفاتنة البهية هذا البشع؟ لن تسمح لنفسها بهذا مهما أرسل إليها، لكن...
لا مانع من مشاغبته ومشاكسته قليلًا، بحدٍّ يترك لها مجالًا للفرار، حينما تريد؛ لذا تركت له الباب مواربًا، فاعتاد أن يذهب ليقف أمام مدرستها صباحًا وعند انتهاء اليوم الدراسي، كلما رأته تصنَّعت الوَجل والخجل فتنظر للأرض، فيقتنع أكثر أنها تُحِبهُ وذائبة في بحر عشقه.
مرَّ عامان وهو يراقبها ويسعى خلفها من بعيد، كانت رسائله إليها لا تنقطع، بمعدل رسالتين على الأقل شهريًّا حينما تسنح له فرصة الاقتراب مدعيًا وصول خطاب إلى أبيها من عمها المهاجر إلى أمريكا.
منحها يومًا خطابًا مفعمًا بالحب ظلت ساهرة طيلة الليل تُفكر فيه، وكيف لو كان من شخص آخر أكثر وسامة وإثارة، لو كان فقط يُشبه زميلها «باسل»؛ فهو فتى شديد الصلابة والوسامة، دومًا مهندم مبتسم الوجه وبشوش، يعيبه فقط عدم مراعاته لها وإعجابه بها، دومًا يتجاهلها كلما حاولت الاقتراب منه، تعشق لكنته الجنوبية ويثيرها سيره بشموخ وسط أصدقائه في المدرسة كما لو كان زعيم الفريق والمجموعة، تُحب مشاهدته يلعب الكرة معهم، تذهب مع صديقاتها يومي الأحد والأربعاء للباحة الخلفية للمدرسة لمشاهدة مباراتهم الدورية.
* * *
شاع الأمر بين صديقاتها، تحول لمادة سخريتها هي وصديقاتها، تأخذ منه الرسائل ليُقِمن حفلة شواء خاصة على شرف قلبه المحترق بعشقها، هي حفلة نميمة عن «نايف» المتيم وحبه الأزعر لـ«فاطمة»، تلك البتول الناعمة، عندما لم يجد أملًا في تلقي خطاب منها تعترف بحبه، تلمَّس لها العذر؛ فهي فتاة خجول تربَّت على أصول شرقية يمنعها حياؤها من تخطيها؛ لذا.. قرر أخيرًا اتخاذ خطوة شجاعة..
قرر الذهاب لطلب يدها من والدها، ولِمَ لا؟! فهو متأكد من حبها له كما يعشقها هو.. لكن عليه أولًا أن يُعلمها بالأمر كي لا تُفاجَأ عندما يخبرها والدها فتتلعثم، أو تُصدر تصرفًا يسيء والدها فهمه، لن يجازف؛ فهي شديدة الخجل وقد ترفض نظرًا لارتباكها.. ياللأسف.. كان شديد الثقة في حبها له، أرسل آخر خطاب حب ليُعلمها قراره؛ فهو لم يعد يحتمل بُعده عنها والاستمرار في حبها برسائل فقط.. يريد الاقتراب أكثر من نهر حبها المسكر.
* * *
ارتعبت «فاطمة» من الأمر، لكن طمأنَتْها صديقتها ونصحتها بإدعاء المفاجأة كي لا تُثير شكوك والدها، والتعلل - إذا شعرت أنه سيوافق - برغبتها في إكمال دراستها وعدم الزواج الآن، في حين اشترى «نايف» قميصًا وبنطالًا جديدين وقارورة عطر برائحة التفاح، ذهب مبكرًا إلى منزله ولم يخبر والدته بما ينويه، بعد أن صلى العصر على غير عادته تبركًا، بدأ الاستعداد لحدثه الأكبر وهو خطبة «فاطمة»، استحمَّ كما لو كان يومَ عيد، حلق شعره وذقنه، كما عريس ذاهب للقاء عروسه، «أنا فعلًا عريس»، هكذا قال لنفسه فرحًا، ارتدى ملابسه وذهب إلى المسجد القريب ليُخبر والد «فاطمة» أنه يريده في أمر مهم، سيقول له: دعنا نذهب إلى منزلك عمي، هي فرصة يريد انتهازها للقاء «فاطمة»، تم الأمر كما دبر له.
وافق الأب واصطحبه إلى منزله لمعرفة الأمر المهم، ولو أنه ظن أن «نايف» يريد أن يراسل أخيه بالخارج ليجد له فرصة عمل، لم يُرِد أن يصدمه مقدمًا باستحالة إيجاد عمل لفاشل مثله، قرر أنه سيماطله حتى ينسى الأمر، كانت ابتسامة الانتصار تملأ وجه «نايف»، فسيرتبط بحب عمره أخيرًا.
دخل «نايف» سارحًا في خياله إلى المنزل، ليجلس كديك منفوش واثق من حبه وحب «فاطمة»، طلب الحاج عدنان من أهل بيته الشاي للضيف، بدأ «نايف» يتوتر؛ لذا قرر أن يُشجع نفسه وألا ينتظر الشاي؛ فهو يريد شربات العرس فقال فجأة: عمي.. اطلب لنا «شربات»، فأنا لا أريد «شاي»، بل أريد الزواج من «فاطمة» ابنتك..
كان اللقاء عجيبًا يحكي ويتحاكى عنه كل الجيران، صُدِمَ والدها من طلب «نايف»، وما كان منه إلا أن طرده شر طردة.. صرخ والد «فاطمة»: يا لك من عريس وزوج ثقيل الظل.. أأزوِّج زهرتي وقرنفلتي اليانعة لك أنت يا بشع الخلقة، يا ضعيف الحال؟!
يا عمي.. أحبها، لينظر له الرجل شزرًا، مهددًا إياه بالكثير إذا لم يبتعد، طرده بعنف من بيته ليخرج وهو ينزف ألمًا وكراهية لفقره، ولوظيفته، ولوالد «فاطمة» الذي أهانه وطرده، قائلًا: ماذا تفعل أربعمائة ليرة – راتبه في مصلحة البريد – لك ولإخوتك الخمس ولابنتي؟! خرج ليجد الجيران تحلقوا يستمعون لإهانته، نظر إليهم «نايف» بضعف قائلًا لنفسه: أفهم هذه النظرة الحمقاء، تلك الابتسامة الخرقاء، لكني سأتعمد التغابي، كي لا ألوِّثَ روحي بآثامكم البغيضة.
ماذا تقول «نايف»؟ تعلم أن «عدنان» مُحق؛ فهو ينتظر ممن يتزوج «فاطمة» الكثير، ولا مجال لموافقته عليك أيها البائس، فكَّر بالسفر إلى الخليج وشاكسته آمال الهجرة، أحس بأنه ضعيف، قشة في مواجهة ريح عاتية، أحلامه طالت ليبقى في النهاية عاجزًا أمام فقره.. لا نجدة أمامه إلا أحلام اليقظة وأوهامه الخاصة بنجاته من هذا الفقر المُدقع، تساءل كثيرًا عن حال «فاطمة» بعد هذه الحادثة، هل علم والدها بأنها تُحبه؟! هل تبكي بكاء قلب قبل بكاء العين كما يفعل كل ليلة؟! لِمَ لَمْ تحاول السؤال عنه وعن أحواله؟ هل فتر حبها له؟!
أسئلة كثيرة تراوده، يخاف أن يذهب لرؤيتها؛ فقد كوَّن فكرة أن والدها رجل شرير، لكنه ممتلئ حتى النخاع بالشك في نسيانها له ويظن أنها خانت عهد حبه، قرر إرسال خطاب إليها.. يبثها عبره غرامه وعذابه بعد رفض والدها، تحيَّن فرصة ليقترب كما السارق؛ فقد خاف أن يراه شخص ويخبر والدها فيؤذيه كما هدده إذا حاول الاقتراب منها، رآها واقفة مع «باسل»، زميلها وجاره، تضحك ويبدو عليهما الانسجام الشديد، عندما أشار إليها وناداها لم تُعِره اهتمامًا، اقترب منها فأشارت بكل بساطة أن يتركها لشأنها، وعادت لتضحك من جديد مع «باسل»، ابتعد وجلس بالقرب من أسوار المدرسة يقرأ خطابه قبل أن يمزقه.
* * *
عاد إلى منزله يشعر بالخذلان، بعد فترة اكتئاب استمرت يومًا ونصف يوم ليمارس عمله؛ فمثله غير متاح له رفاهية الاكتئاب، ذهب علَّه ينسى ما أصابه، كان قد حفظ الدروب والمدقات الجبلية الوعرة بحكم عمله موزعًا للبريد، تلك التي تختصر المسافات بين القرى الجبلية في الجنوب، فقد اعتاد اختراقها بدراجته متجنبًا الأسلاك الحدودية والألغام المرشوقة المكتوبة بالعربية والعبرية، خلال رحلته اليومية لتوزيع البريد..
اعتاد التطلع إلى الأزهار والشجيرات الصغيرة التي يمر بها، الشجر الباسق وسط سفوح الجبال، أحيانًا يتخيَّل الأسلاك الشائكة تحدثه لتسأله عن أحواله مشفقة عليه وعلى حاله البائس في عالم البشر..
ظل الحال كما هو حتى أواخر 1970؛ حيث تبدلت حينها مشاهداته اليومية، وأدرك وجود مستجدات جديدة؛ حيث صادف في إحدى مأمورياته الصباحية مجموعة من الفلسطينيين يستطلعون تحركات الإسرائيليين على الحدود بنظارات الميدان، ويرسمون خرائط لنقاط المراقبة، فزعوا لرؤيته فاستوقفوه: يا أنت.. قف!!